إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / مبادئ الدين الإسلامي









المبحث الثالث

سابعاً: الخداع والحيل في الحرب

1. الخداع في الحرب

ذكر النووي، في شرح مسلم، "أن العلماء، اتفقوا على جواز خداع الكفار، في الحرب، كيف أمكن الخداع، إلاَّ أن يكون فيه نقض عهد أو أمان، فلا يحل"؛ لقول رسول الله r، ]عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ سَمَّى النَّبِيُّ r الْحَرْبَ خَدْعَةً[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2804).

وحرم ما كان فيه غدر؛ لقوله كذلك ]لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6451).

قال النووي: وقد صح في الحديث جواز الكذب، في ثلاثة أشياء، أحدها في الحرب.

وذكر ابن خلدون، في مقدمته، أن أكثر ما تقع الهزائم به، ويحقق النصر الحربي، هو استعمال وسائل خفية، وأسباب نفسية، من الحيل والخداع، أو أمور سماوية، من الرعب والخذلان الإلهي. وهو معنى قول النبي الكريم r ]َنُصِرْتُ ‏‏بِالرُّعْبِ‏ ‏مَسِيرَةَ شَهْرٍ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 20463). ]أَنَّ النَّبِيَّ r كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً، وَرَّى غَيْرَهَا[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2267). وكانت توريته، أنه إذا قصد جهة، سأل عن طريق جهة أخرى، إيهاماً أنه يريدها. وكان يفعل ذلك؛ لأنه أتم في ما يريده من إصابة العدو.

2. الكمون

الكمون خدعة جائزة في الإسلام، لأنه ليس فيه غدر.

وقد أقر الرسول r ما فعله عبدالله بن ابي حدرد وصاحباه، في سريتهم لقتل رفاعة بن قيس الجشمي، إذ كمنوا في موضع، ليلاً، وانتظروه حتى قدم، فأخذوه بسيفه، فشدوا عليه، وقتلوه.

ويوم حنين، تضعضع المسلمون، على كثرتهم، بسبب المكامن، التي نشرتها هوازن في شعاب الوادي وجوانبه؛ ثم شدت الكتائب على المسلمين شدة رجل واحد، فولوا مدبرين.

3. الألغام

الألغام الحديثة، البرية منها والبحرية، حكم استعمالها الجواز، ما لم تضر المسالمين للإسلام والمسلمين، ولم تكن في البحار العامة، الخارجة عن مياه العدو. وقد تمثلت جدات الألغام في حفائر مظللة بطبقة ترابية أو بعض العيدان الخشبية؛ ليسقط فيها العدو.

4. الكيد

ومنه حرب الأعصاب، وهو ما فعله نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني، بأمر من رسول الله r. فقد جاء إليه، معلناً إسلامه، فقال: يا رسول الله r، إني قد أسلمت. وإن قومي، لم يعلموا بإسلامي. فمرني بما شئت. فقال رسول الله r: "إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة". فأتى إلى بني قريظة، وكان لهم نديماً، في الجاهلية، فأوعز إليهم أن يطلبوا من قريش وغطفان، رهائن من أشرافهم؛ ليستوثقوا من خوض الحرب مع النبي r وأصحابه.

ثم أتى إلى قريش وقومه غطفان، وحذرهم من طلب يهود بني قريظة. وأقنعهم بأن اليهود يريدون أخذ رهائن، لقتلهم؛ وأنهم قد عاهدوا محمداً على استئصال قريش ومن معهم.

وقد أمر رسول الله r معبد بن أبي معبد الخزاعي، الذي أسلم يوم أحد، أن يلحق بأبي سفيان، فيخذله. فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال أبو سفيان: ما وراءك، يا معبد؟ فقال: محمد r وأصحابه، قد تحرقوا عليكم. وخرجوا في جمع، لم يخرجوا في مثله؛ وندم من كان تخلف عنهم من أصحابه. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل، حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فرجع أبو سفيان وجيشه على أعقابهم، إلى مكة.

وفي غزوة مؤتة، حينما تسلم خالد بن الوليد قيادة الجيش الإسلامي، بعد مقتل القادة الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة؛ وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف، والروم مائة ألف ـ غيَّر خالد ترتيب الجيش، فجعل المقدمة مؤخرة، والميمنة ميسرة؛ فانخدع الروم، وظنوا أنه قد جاء مدد للمسلمين فرعبوا، وانهزموا؛ فانسحب خالد بالمسلمين.

فهذه مكيدة حربية، وحرب أعصاب، عدها رسول الله r نصراً للمسلمين. وفي عام الفتح، أمر رسول الله r بإيقاد نيران عظيمة، في مر الظهران، على الجبال، حينما نزل بها ليلاً؛ ليوهم قريشاً بكثرة عدد جيش المسلمين. فأوقدت عشرة آلاف نار، حتى قال أبو سفيان. ما رأيت، كالليلة، نيراناً قط، ولا عسكراً.

ثامناً: الاستخبارات

من أول ما ينبغي التنبيه له، في سياسة الحرب، تسقط أخبار العدو، وتعرف أحواله: عدده، وقوته، ومخططاته؛ حتى يمكن مواجهته بالقوة نفسها. واستعمال الوسائل اللازمة، للحصول على معلومات في ميدان القتال وقبله وبعده ـ عمل مشروع في الإسلام، بل مستحب. قال ابن القيم: إن الإمام، ينبغي له أن يبعث العيون، ومن يدخل بين عدوه، ليأتيه بخبرهم.

وقد كان النبي r يبعث العيون والطلائع، في حروبه مع أعداء الدعوة الإسلامية؛ لاستطلاع أخبار العدو. وفي غزوة بدر، وجد رسول الله r، ومعه أبو بكر t، شيخاً من العرب، على ماء؛ فسأله النبي r عن قريش ومحمد، وما بلغه عنهما. فقال الشيخ: لا أخبركما، حتى تخبراني ممن أنتما. فقال رسول الله r: "إذا أخبرتنا أخبرناك" قال: أَوَ ذاك بذاك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداًr  وأصحابه، خرجوا يوم كذا وكذا. فإن كان صدق، الذي أخبرني، فهم، اليوم، بمكان كذا وكذا (المكان الذي به رسول الله r). وبلغني أن قريشاً، خرجوا يوم كذا وكذا. فإن كان الذي أخبرني صدقني، فهم، اليوم، بمكان كذا وكذا، (المكان الذي به قريش). فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله r نحن من ماء. فانصرف الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ ثم رجع رسول الله r إلى أصحابه. فلما أمسى، بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، ليستطلعوا الأخبار، ويلتمسوا الخبر له، ويعرفوا شيئاً عن مصير قافلة أبي سفيان. فقبضوا على اثنين من سقاة قريش، فأتوا بهما إلى رسول الله r، وهو قائم يصلي. وسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما. فلما بالغوا في ضربهما، قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله r، وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؛ صدقا، والله، إنهما لقريش. أخبراني عن قريش، قالا: هم والله وراء هذا الكثيب، الذي تراه بالعدوة القصوى. فقال رسول الله r: "كم القوم؟" قالا: كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون، كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً، فقال رسول الله r: القوم فيما بين التسعمائة والألف.

وبعث النبي r، عبدالله بن أنيس، بعد وقعة أحد، ليطلع على حقيقة خبر خالد بن سفيان الهذلي، لما بلغه أنه أقام بعرنة، يجمع الناس؛ لمحاربة رسول الله r. فتمكن عبدالله منه وقتله.

وفي غزوة الخندق أيضاً، بعث النبي r حذيفة بن اليمان، في ظلمة الليل، ليتجسس على الأحزاب، وينظر ما فعل القوم، ويأتي بخبرهم. فلما دخل فيهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، لينظر كل امرئ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل، الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.

ولما بلغ رسول الله r، بعد أن فتح الله عليه مكة، أن مالك بن عوف النصري، جمع هوازن وثقيفاً، لمحاربته، بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد، ليتجسس على أخبارهم، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم، حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم. فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، حتى سمع وعلم ما قد جمعوا لحرب رسول الله r، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه. ثم أقبل حتى أتى رسول الله r، فأخبره الخبر.

وقد كان للنبي r عيون في مكة، بعد الهجرة وقبل الفتح، تستطلع له أخبارها، بوسائل لا تنافي الخلق والشرع. وكان هؤلاء العيون يعملون في سرية تامة. ومن أعمالهم:

·   الإشراف على المؤمنين، سراً، في مكة.

·   بث الدعوة، سراً.

·   القيام بمهمة المراسلة والتبليغ، بين المهاجرين في المدينة وأهليهم في مكة؛ وبين النبي والمؤمنين الأخفياء، الذين لا يستطيعون الهجرة.

·   جمع الأخبار الصادقة عن قريش، وتبليغها إلى رسول الله.

تاسعاً: نتائج الحروب في الإسلام

1. حقوق القتلى والجرحى، وحماية الكرامة الإنسانية

يلتزم الإسلام جانب التمسك بالفضيلة والرفق والسماحة، في تعامله مع الناس جميعاً، في حالي الحرب والسلم على السواء. فهو يأمر أتباعه بالتقيد بالقيود الخلقية، والفضيلة في التعامل مع العدو؛ فإذا كان العدو ينتهك أعراض النساء، فلا يجوز لجيش الإسلام أن يفعل ذلك، ولا يجاري عدوه في سلوكه؛ لأن جيش الإسلام مقيد بالخلق الكريم.

أ. إخلاء الجرحى والقتلى

المسلمون، في حروبهم، يحترمون الميت احترامهم الحي. لذلك، كانوا يقومون بإخلاء الموتى والجرحى. وكان بعض النسوة المؤمنات، يقمن بإسعاف الجرحى، بتقديم الإسعافات الأولية؛ ومنهن من يقمن بنقل الموتى، على الإبل.

عن الربيع بنت معوذ، قالت ]كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ r فَنَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2670).

وعن أم عطية، قالت:  غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِr  ]سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَأَصْنَعُ لَهُمْ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 3380).

وكان المسلمون يدفنون قتلاهم، حول أماكن القتال أو قريباً منها. وذكر ابن القيم، في زاد المعاد، "أن قوماً نقلوا قتلاهم، يوم أحد، إلى المدينة؛ فجاءهم رجل، ينادي قائلاً: ألا إن رسول الله r، يأمركم أن ترجعوا بالقتلى، فتدفنوها في مصارعها، حيث قتلت".

ب. قتلى العدو

كان المسلمون، في حروبهم، يتركون الكفار ينقلون جثث قتلاهم، ليدفنوها حسب طريقتهم في الدفن. فقد قام المشركون، يوم أحد، بدفن قتلاهم. وتارة، يقوم المسلمون أنفسهم بدفن قتلى عدوهم؛ كما فعلوا في غزوة بدر، حيث قاموا بسحب جثث قتلى عدوهم ودفنها. كما فعلوا ذلك أيضاً في غزوة بني قريظة.

وقد سبق الإسلام الأنظمة الدولية الحديثة، التي تدعو إلى الرأفة، في الحروب، وإغاثة الجرحى الموجودين في ميدان القتال، والعمل على إخلاء الجرحى والقتلى، ونقلهم إلى أماكن خاصة.

ج. حكم المَثْل

المُثلة: فعل من الأفعال الشنيعة، التي تصيب الأجسام، كقطع الأنف والأذن، أو قطع الأطراف أو رض الرأس؛ وكل ذلك محرم في الإسلام. وقد جاء النهي عن المثلة في حديث ]نَهَى النَّبِيُّ r عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2294). وجاء أيضاً في حديث صفوان بن عسال: ]عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ r فِي سَرِيَّةٍ، فَقَالَ: سِيرُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا[ (سنن ابن ماجة، الحديث الرقم 2848).

وفي حديث عمران بن حصين، قال]كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةَِ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2293).

وفي غزوة أحد، لما قُتل من الأنصار أربعة وستون رجلاً؛ ومن المهاجرين ستة رجال، منهم حمزة، ومثل بهم المشركون؛ قال النبي r: ]أما والله! لأمثلن بسبعين منهم[. فأنزل الله ـ تعالى: ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[ (سورة النحل: الآية  126).

وكان النبي r، بعد نزول هذه الآية، ينهى عن المَثْل بجثث المشركين أشد النهي. ولم يحصل، بعد نهيه، مَثْل من أحد من المسلمين بجثث. كما لم يُسمع أن أحداً من قادة المسلمين أمر بتعذيب الأسرى والمَثْل بجثث القتلى، أو بالجرحى من العدو، لا في عهد النبي r، ولا من بعده.

وأما حرق الجثث بالنار، أو التعذيب بالنار حتى الموت، فهو محرم في الإسلام. فقد نهى النبي r عن ذلك أشد النهي؛ وقال r ]إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا، فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ. فَوَلَّيْتُ، فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا، فَاقْتُلُوهُ، وَلا تُحْرِقُوهُ؛ فَإِنَّهُ لا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّار[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2299).

وعن أبي هريرة t، قال ]‏بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ r‏ ‏فِي ‏بَعْثٍ ‏ ‏فَقَالَ إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِرَجُلَيْنِ مِنْ ‏قُرَيْشٍ ‏ ‏فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r‏ ‏حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ ‏‏وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1496).

2. حقوق الأسرى

كان للأسرى في حروب الأمم، التي قبل الإسلام، أحكام خاصة؛ فمنهم من يذبح أسراه جميعاً. ومنهم من يقدمهم قرابين للآلهة، ثم صاروا يستعبدونهم، ويتخذونهم رقيقاً، للبيع والشراء، ومعاملتهم بقسوة، لا هوادة فيها؛ فكانوا ضحية التنكيل والتعذيب والقتل والصلب. وكذلك كان الفرس والإغريق يفعلون بأسراهم، ومن تأثر بهم من جيرانهم.

وأما موقف الإسلام من أسرى العدو، ومعاملته لهم، فقد اتسم بالرفق والرحمة والتكريم والبر والإحسان. وكان هذا المبدأ واقعاً عملياً، مطبقاً في جميع الحروب الإسلامية.

عن أبي عزيز بن عمير بن هشام بن عبد مناف، وكان من أسرى بدر، وهو أخ لمصعب بن عمير، قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال له: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع. قال: وكنت في رهط من الأنصار، حين أقبلوا بي من بدر. فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم، خصوني بالخبز، وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله r إياهم بنا. ما يقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلاَّ نفحني بها، فأستحي، فأردها على أحدهم، فيردها علي، ما يمسها.

وقال تعالى في مدح الذين يكرمون الأسرى ويطعمونهم ]وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا[ (سورة الإنسان: الآيتان 8، 9).

ومن هنا، قال العلماء: لا يجوز تعذيب الأسير، بالجوع والعطش، وغيرهما من أنواع التعذيب.

وقد روى أن رسول الله r قال في بني قريظة، بعد ما احترق النهار، في يوم صائف: ]لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم، وحر السلاح. قيلوهم حتى يبردوا[.

وقد استمر المسلمون، في حروبهم، على هذا المبدأ، من المعاملة الحسنة للأسرى، والإحسان إليهم، على مر العصور؛ عملاً بوصية نبيهم بالإحسان إلى الأسرى. وكان بعض الأسرى، في صدر الإسلام، يربط في المسجد، ويقدم له الطعام والشراب والكسوة والعلاج. ولا يكره الأسير على الإدلاء بالأسرار، ويترك مكرماً حتى يتقرر مصيره، إما باعتناق الإسلام، أو بالمفاداة، أو بالمن عليه، من دون مقابل؛ كما فعل النبي r بثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، حين أوتي به أسيراً، ورُبط في المسجد؛ إذ أطلقه. ثم أسلم، بعد إطلاقه؛ لما رآه من حسن المعاملة.

من الأدلة على رفق الإسلام بالأسرى، والإحسان إليهم، ما وصلت إليه معاملة الأسرى، في الحروب الصليبية، من قبل القائد المسلم، صلاح الدين الأيوبي رحمة الله عليه فقد ضرب مثلاً أعلى للتسامح والترفع والسمو، والإنسانية والرحمة والشفقة الحقيقية بالأسرى. من ذلك: 

أ. توسل إليه رهط من نساء أسرى النصارى، وناشدنه أن يطلق أزواجهن وأولادهن. فأمر برد الأسرى إلى ذويهم، ووزع الصدقات على اليتامى والأرامل، وعمل على إسعاف الجرحى، ومعالجة المرضى من حجاج المسيحيين.

ب. روي أن صلاح الدين، أسر عدداً ضخماً من الجيوش الصليبية؛ فلم يجد عنده من الطعام ما يكفيهم. وفبدل أن يميتهم جوعاً، أمر بإطلاقهم، فخرجوا، وتكاتفوا، وعادوا جيشاً يقاتلونه. فلم يندم، بل فضل أن يقتلهم في الميدان، محاربين له، على أن يقتلهم في الأسر، جائعين. وكان هذا العمل يختلف عما فعله عدوه، ريتشارد قلب الأسد، الإنجليزي، قائد الفرنجة، حينما استسلم له ثلاثة آلاف من المسلمين، بشرط ألا يقتلهم، فقبل الشرط؛ ثم قتلهم جميعاً، أمام بيت المقدس.

وقد قتل الصليبيون، في الحملة الصليبية الأولى، من الأهالي، ما يزيد على سبعين ألف مسلم. وقد قارن الفيلسوف الفرنسي، جوستاف لوبون، في كتابه "حضارة العرب"، بين عمل صلاح الدين وعمل قائد الفرنجة، فقال: كان أول ما بدأ به ريتشارد أنه قتل، أمام معسكر المسلمين، صبراً، ثلاثة آلاف أسير مسلم، سلموا أنفسهم إليه، بعد أن أعطاهم عهداً بحقن دمائهم؛ ثم أطلق لنفسه العنان، باقتراف هذا القتل والسلب. وليس من السهل، أن يتمثل المرء درجة تأثير هذه الكبائر في صلاح الدين، النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأزواد، في أثناء مرضهما.

فقد أبصر الهوة السحيقة، بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته.

وأما قتل الأسير، فإن المسلمين لم يلجأوا إليه، إلاَّ في أحوال نادرة، محددة. وكان قتله إما قصاصاً، أو لظروف خاصة، أملتها ضرورة العداوة، والإمعان في الأذى من قبله، أو العهد المتكرر، أو الاستخفاف بالمسلمين؛ فيقتل حسماً لمادة الفساد، واستئصالاً لجذور الشر وشرايين الفتنة. أما في غير ذلك من الأحوال النادرة، فلا يبيح الإسلام قتل الأسير، بل يكرمه ويطعمه الطعام، ويقدمه له قبل تقديمه للمسلم نفسه؛ كما مر توضيح ذلك في أسرى بدر.

3. حماية السفراء

الإسلام يقر بوجود علاقات بغير المسلمين، في حال الحرب؛ لسماع كلام الله والدعوة، ومعرفة الإسلام، والحاجة إلى التجارة؛ وفي حال السلم، لأجل المفاوضات وعقد الصلح، من طريق تبادل الرسل والسفراء، الذين أمر الإسلام بحمايتهم. وأجاز الفقهاء دخولهم إلى وطن المسلمين، من دون عقد أمان، هم وصحبهم وأمتعتهم.

وللعلاقات الدبلوماسية أغراض وأهداف نبيلة، في الإسلام. فمن أغراض الدبلوماسية، في عصر النبي وخلفائه الراشدين والعصر الأموي:

أ. فتح باب الدعوة إلى الدين الجديد، وتعريف الناس به.

ب. إعلان الحرب، دفاعاً عن ذمار الدين، والتمكين له، بعقد المعاهدات مع ممثلي الأمصار والمدن المفتوحة.

ج. تبادل الأسرى، والفداء.

أما في العصر العباسي، فقد ازدادت أغراض التمثيل الدبلوماسي، فشملت:

أ. تسهيل التبادل الودي بين الأمم.

ب. توثيق الصلات التجارية، وتدعيم الروابط الثقافية بالبلاد المجاورة، وتبادل الأسرى، وفض المنازعات، وعقد المعاهدات.

ج. تدعيم المجاملات، بالتهنئة والعزاء ونحوهما؛ تعبيراً عن الود والسلم بين الدول.

4. مشروعية السفراء

ضرب الإسلام أروع الأمثلة في حماية الرسل وصيانتهم، وكفل لهم حصانة سياسية كاملة، وحرية تامة، مع التقدير والاحترام.

والإسلام يعطي الأمان لمن يطلبه، في وقت الحرب، ويفرض له الحماية والرعاية، حتى يؤدي مهمته ويسمع كلام الله. ونظام الأمان في الإسلام، يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية، المعروفة حديثاً، للشخص الأجنبي وما له في بلاد المسلمين، لعقد الصلات السليمة أو لقصد سماع كلام الله. وكانت فكرة الأمان من الأسس المهمة، لتدعيم السلام، وقيام المعاملات الدولية بين الأمم. والأصل في مشروعية الأمان، في الإسلام، قوله تعالى ]وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ[ (سورة التوبة: الآية 6).

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار السلام، في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب؛ وطلب من الإمام أو نائبه أماناً، أعطي أماناً، ما دام متردداً في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى داره ومأمنه ووطنه".

أما تأمين الرسل والسفراء، في الإسلام، فإن الدين الإسلامي، يعطي التمثيل السياسي أهمية كبرى؛ لأنه يحقق الأغراض والأهداف، التي يصبو إليها الإسلام، من إمداد الناس كلهم بما يحتاجون إليه من المعلومات عن الدعوة الإسلامية. كما أن التمثيل الدبلوماسي، يحقق تدعيم العلاقات السلمية بين مختلف الشعوب؛ فيسهل تبادل المنافع الاقتصادية، وتحقيق المقاصد الاجتماعية. لهذا، كفل الإسلام للرسل والسفراء مختلف أنواع الحماية والرعاية والحصانة والتكريم، حتى إن أساءوا إلى المسلمين والإسلام؛ ليتمكنوا من أداء مهمتهم. وهذا ثابت بنص القرآن والسنة، القولية. والفعلية ومن الأدلة على حماية شخص السفير واحترامه وإكرامه، ما يلي:

أ. الآية السابقة من سورة التوبة.

ب. عن ابن مسعود، قال ]جَاءَ ‏‏ابْنُ النَّوَّاحَةِ ‏‏وَابْنُ أُثَالٍ ‏‏رَسُولَا ‏‏مُسَيْلِمَةَ ‏‏إِلَى النَّبِيِّ r‏ ‏فَقَالَ لَهُمَا ‏أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ ‏‏مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ ‏r‏ ‏آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا قَالَ ‏عَبْدُ اللَّهِ‏ ‏قَالَ فَمَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 3573).

فهذا الحديث دليل، قولي وعملي، على أن الرسل آمنون، حتى يبلغوا الرسالة، ويعودوا إلى بلادهم. كما أنه دليل واضح على عصمة دم الرسول، وصيانة شخصه من الأذى. ولو اختلفت وجهات النظر في المفاوضة، وتكلم المبعوث بما لا يتفق مع احترام عقائد المسلمين؛ مما يوجب قتله؛ أو فشل في القيام بمهمته السياسية، فإنه لا يفقد حق التمتع بالحماية والحصانة، حتى يعود إلى بلاده.

عن أبي رافع، مولى رسول الله r قَالَ ]بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ r. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ r وَقَعَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ. قَالَ: إِنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلا أَخِيسُ الْبِرَّ؛ وَارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الآنَ فَارْجِعْ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 22737).

هذا الحديث دليل على أنه يجب الوفاء بالعهد للكفار، كما يجب للمسلمين؛ لأن الرسالة تقتضي جواباً، يصل على يد الرسول؛ فكان ذلك بمنزلة عقد العهد.

وقد أكرم الرسول r مبعوث المقوقس، عظيم القبط، وقبل هداياه. وأكرم رسول هرقل. وكان بعض الرسل يؤمنون، فوراً، بالإسلام؛ لما يرونه من حسن معاملة النبي لهم. وقد سار المسلمون على نهج إكرام الرسل بحفاوة، رافقها كثير من الجلال والعظمة؛ ما يدل على التسامح. كما أتاح الإسلام للمبعوث السياسي، أن يدخل بلاد المسلمين، من دون حاجة إلى عقد أمان. كما أجاز بعضهم عقد الأمان بمدة مطلقة؛ مما يدل على جواز التمثيل السياسي الدائم، في الإسلام.

5. حصانة السفراء

أما الحصانة، الشخصية والمالية، فإن الإسلام يقرها، بمقتضى الأمن والأمان. ويمنع التعرض لشخص الرسول السياسي وماله وأسرته وأتباعه وحاجاته، فالإسلام يقضي بتحريم كل تعرض أو اعتداء عليه، أو على ما يتعلق به. وقد تقدم توضيح ذلك.

وأما الحصانة القضائية، فإن علماء الإسلام، يقررون مسؤولية المستأمن، والرسول السياسي، عما يرتكبه من الأعمال الجنائية، في بلاد الإسلام؛ لأن المستأمن ملزم بأحكام الشريعة؛ بطلبه الأمان، وإقامته في دار الإسلام؛ فيعاقب دفعاً للفساد. ودفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين، ولو مؤقتاً؛ ولا يصلح المجرم لأداء وظيفته، ولا يستحق الحماية والرعاية والتكريم. ويستثنى من الجرائم، التي يعاقب المستأمن عليها: ارتكاب ما يعتقدون إباحته، في دينهم، كشرب الخمر ونحوه، فلا يعاقب المستأمن والرسول السياسيان من غير المسلمين عليها.