إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / مقارنة الأديان









مقدمة

المبحث الأول

مفهوم الدين ومقارنة ودراسة الأديان في الفكر الإسلامي

أولاً: مفهوم الدين

كلمة الدين لها معانٍ متعددة، منها: الدين هو المُلك، وهو العز، وهو الإحسان، وهو العبادة، وهو القهر والسلطان، وهو التذلل والخضوع، وهو الإسلام والتوحيد… إلخ.

أما معنى الدين عند المسلمين فهو: "وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح والمآل". أو: "الدين وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات".

أما الغربيون فيعرفون الدين:

يقول شيشرون: "الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله". ويقول كانت: "إن الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية".

يطلق لفظ الدين على الاعتقادات الوثنية، كعبادة الأوثان، أو عبادة الحيوان والنبات، أو قوى الطبيعة، وحتى ديانات اليونان والرومان والمصريين القدماء والزرادشتية… إلخ؛.لأن القرآن سماها دينًا حيث يقول: ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 85)، وقوله تعالى: ]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[ (سورة الكافرون: الآية 6).

لكنها أديان غير إلهية وليست مؤيدة بالوحي؛ لذا كانت كاذبة كافرة بالله.

إن الإسلام في التعبير القرآني هو اسم للدين المشترك الذي هتف به جميع الأنبياء، وانتسب إليه كل أتباعهم.

فنوح ـ عليه السلام ـ يقول لقومه: ]وَأُمِرتُ أنْ أَكُوَن مِنَ المُسْلِمِينَ[ (سورة يونس: الآية 72).

ويقول يعقوب ـ عليه السلام ـ يوصي بنيه: ]فَلاَ تَمُوتُنّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ (سورة البقرة، الآية 132).

وموسى ـ عليه السلام ـ يقول لقومه: ]يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ[ (سورة يونس: الآية 84).

والحواريون يقولون لعيسى: ]ءامَنّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ (سورة آل عمران: الآية 52).

والإسلام هو التوجه إلى الله رب العالمين في خضوع خالص، لا يشوبه شرك، وفي إيمان واثق مطمئنّ بكل ما جاء من عنده، على أي لسان، وفي أي زمان أو مكان، دون تمرد على حكمه، ودون تمييز شخصي، أو طائفي، أو عنصري، بين كتاب وكتاب من كتبه، أو بين رسول ورسول من رسله. هكذا يقول القرآن: ]وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[ (سورة البيّنة: الآية 5). ويقول: ]ُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[ (سورة البقرة: الآية 136). غير أن الإسلام له مدلول آخر في عرف الناس جميعًا: فهو الدين الذي جاء به محمد r، كما تطلق اليهودية على شريعة موسى عليه السلام، والنصرانية على شريعة عيسى عليه السلام.

والذي لا ريب فيه هو أن الشرائع السماوية كلها صدق وعدل، وكلها يصدق بعضها بعضًا، وهناك شرائع ومبادئ مشتركة بين الأديان الثلاثة (الإسلام، والمسيحية، واليهودية). حيث إنها توافق بعضها بعضًا في التشريع والأخلاق والسلوك؛ ويمكن تمثيلها بالبناء الذي يتألّف من لبِنات متراصة بعضها فوق بعض. وقد عبّر عن هذا البناء الرسول الكريم r بقوله: ]إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3271).

وقضية التكميل في التشريع والأخلاق والسلوك في الأديان الثلاثة، لا يعني أن الشرائع المتأخرة لا تنقض بعض الأحكام في الشرائع المتقدمة. فقد جاء الإنجيل بنسخ بعض أحكام التوراة، إذ أعلن عيسى عليه السلام أنه جاء ليحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم ]وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[ (سورة آل عمران: الآية 50). وجاء القرآن بنسخ بعض أحكام الإنجيل والتوراة، فقد جاء محمد r ليحل للناس كل الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم  ]الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (سورة الأعراف: الآية 157).

أما العهد القديم الذي هو الكتاب المقدس لدى اليهود، ويعدونه منزّلاً من عند الله، يحتوي على 39 سفرًا، ويضم توراة موسى وداود عليهما السلام وأسفار الأنبياء وكتب سليمان وأيوب وسائر الكتب الأخرى. وكلمة توراة عبرانية ومعناها شريعة.

أما العهد الجديد، ويحتوي على 27 سِفرًا، وهي الأناجيل الأربعة وسِفر أعمال الرسل ورسائلهم وسِفر الكشف أو الرؤيا. وكلمة إنجيل يونانية معرّبة، ومعناها بشارة أو نور.

والمسلمون يؤمنون بالأنبياء جميعهم، قبل نبينا محمد r، ومنهم موسى وعيسى عليهما السلام، كما يؤمنون بما أنزل عليهما، وهي التوراة والإنجيل. ولكن الكتب الموجودة الآن، والمنسوبة إلى الديانتين اليهودية والنصرانية، ليست هي الكتب الصحيحة التي أنزلها الله، وإنما هي روايات كتبها كاتبوها، بعد المسيح بسنين عديدة، بلغتهم ولسانهم، وقد أضافوا إليها وحذفوا منها؛ لذلك توجد اختلافات كثيرة بين روايات الإنجيل. ففي إنجيل "متّى" أشياء تناقض ما في إنجيل "لوقا". وقد ثبت هذا التناقض لدى المحققين من كُتّاب الغرب والمسلمين، في كتب علمية محققة.

الأمور المشتركة بين الأديان الثلاثة

وهناك أمور مشتركة، على الرغم من تحريف الكتب المنزلة، وهي:

1. الإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب المنزّلة (اليهود والنصارى لا يؤمنون بنبوة محمد r).

2. الإيمان باليوم الآخر والحساب وثواب الصالحين وعذاب الطالحين.

3. مدح الفضائل وذم الرذائل.

4. وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والعبادة وهذا في الجملة وليس على وجه التفصيل.

5. التسامح والرحمة والإيثار والإحسان.

والقرآن الكريم يأمر المسلمين بالإيمان بجميع ما أنزل على رسل الله قائلاً: ]ُقُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[ (سورة البقرة: الآية 136). وكذلك يقول القرآن: ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[ (سورة المائدة: الآية 72)، ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ[ (سورة المائدة: الآيات 50- 52).

بعد الأمر بالإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء والرسل يبيّن القرآن أنه "مهيمن" على تلك الكتب، أي حارسًا أمينًا عليها، ومن ثم فهو ينكر ما زيد عليها من التحريف والتشويه، ويبرز ما خفي منها على يد الأحبار والرهبان. قال تعالى: ]يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ[ (سورة المائدة: الآية 15). ويتحدى القرآن وجود الزوائد التي يدعيها الأحبار بقوله: ]قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 93). وفي الوقت نفسه، يحافظ القرآن على الأسس الثابتة التي أرستها الشرائع السابقة، ثم يزيد ما شاء الله زيادته.

فشريعة التوراة مثلا قد عنيت بالمبادئ الأولية لقانون السلوك "لا تقتل" و "لا تسرق"… إلخ والطابع البارز فيها هو تحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة بينها. ثم تجيء بعدها شريعة الإنجيل فتقرر هذه المبادئ الأخلاقية وتؤكدها، ثم تترقى فتزيد عليها آدابًا مكملة: "لا تُراء الناس بفعل الخير، أحسن إلى من أساء إليك"، والطابع البارز فيها التسامح والرحمة والإيثار والإحسان. فاليهودية كانت شريعة عدل ومجازاة، بينما كانت النصرانية شريعة فضل وإحسان. وأخيرًا تجيء شريعة القرآن؛ لتقرر المبدأين كليهما في نسق واحد. قال تعالى: ]إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ[ (سورة النحل: الآية 90)، مقدرة لكل منهما درجة في ميزان القيم مميزة بين المفضول منهما والفاضل. قال تعالى: ]وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلهَا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللِه[ (سورة الشورى: الآية 40). وقال تعالى: ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين[ (سورة النحل: الآية 126). وأضاف القرآن فصولاً جديدة في الآداب ومناهج السلوك الكريم في المجتمعات، في التحية والاستئذان والمجالسة والمخاطبة، كما في سورة النور والحجرات والمجادلة. فضلاً عن الأحكام التي تنظم حياة الفرد في الجماعة المسلمة، وعلاقة الأمة بالأمم الأخرى، كالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وهكذا كانت الشرائع السماوية لبِنات في بناء الدين والأخلاق والاقتصاد والسياسة.. وحق للقرآن أن يعلن اكتمال هذا البناء للدين وتثبيت أركانه بقوله تعالى: ]اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا[ (سورة المائدة: الآية 3).

ثانياً: التعريف بعلم مقارنة الأديان

يقصد بمصطلح "مقارنة الأديان" أو "الدين المقارن" Comparative Religion عند علماء الغرب: "تاريخ الأديان"و "فلسفة الدين" و "علم الاجتماع الديني" و"علم النفس الديني". وإذا كان علم "مقارنة الأديان" يعني: أن تتخذ الأديان بعامة ـ كتابية ووضعية ـ والعقائد الدينية، أو الملل والنحل موضوعاً للدراسة العلمية بمناهج موضوعية لها أصولها وخصائصها وضوابطها التي اصطلح عليها أهل هذا الحقل، فإن الفكر الإسلامي منذ القرن الثاني للهجرة قد انفتح على أديان العالم وجعلها موضوعاً مستقلا للدراسة والبحث. ووضع العلماء لذلك مناهج علمية سديدة؛ فوصفوا أديان العالم وحللوها وقارنوا بينها، وأرخوا لها، وانتقدوا بعضها، وكانوا يستمدون تعريفاتهم، لكل ديانة، من مصادرها الموثوق بها، ويستقونها من منابعها الأولى، وهكذا أصبح علماً مستقلا، اتخذوا له منهجاً علمياً سليماً.

وقد أشاد العلامة هـ. بينارد دولا بولي H. Pinard de la bouilaye في كتابه "الدراسة المقارنة للأديان" بابن حزم الأندلسي باعتباره رائد لمقارنة الأديان، في الفكر الإنساني كله.

أما الأستاذ إيريك ج. شارب Eric J. Sharps فيرى أن شرف كتابة أول تاريخ للأديان في العالم يختص به الشهرستاني، الذي صنف أديان العالم العشرة المعروفة في العالم آنئذ، إلى حدود الصين، اعتماداً على منهج تاريخي وعلمي دقيق.

ويقول آدم متز Adam Metz: إن أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وأوربا، التي كانت كلها على النصرانية، في العصور الوسطى، وجود عدد كبير من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين، يتمتعون بنوع من التسامح لم يكن معروفا في أوروبا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم "مقارنة الأديان"؛ أي دراسة الملل والنحل على اختلافها والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم" ويقول فرانز روزنتال Franz Rossental إن الغرب يعترف اليوم صراحة بأن الدراسة المقارنة للأديان تعدُّ واحدة من الإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية، أسهمت في التقدم الفكري للإنسانية كلها، وأقرت بذلك دائرة المعارف البريطانية.

كان وراء نشأة هذا العلم في الفكر الإسلامي بواعث ودوافع كثيرة، تآزرت وتساندت في توجيه العلماء، وحثهم نحو وضع هذا الحقل العلمي الجديد وتنميته وتطويره موضوعاً ومنهجاً. ويجئ حديث القرآن الكريم وإشاراته المتكررة إلى الأديان والعقائد الأخرى في مقدمة هذه الدوافع. ومنها تسامح المسلمين وترحيبهم بالانفتاح والحوار والمناقشة والاحتكاك؛ كل ذلك في مناخ من الازدهار الحضاري الرائع الذي أوجد لدى المسلمين شعوراً عميقاً بالمسؤولية العامة تجاه الإنسانية كلها.

لم يظهر "علم مقارنة الأديان" في الفكر الإسلامي حقلاً علمياً مستقلا بذاته، مثل أصول الفقه أو الحديث أو التاريخ مثلا؛ فهو بطبيعته من العلوم البينية، التي تشتبك في الموضوع والقضايا مع غيرها، وإن استقل عنها في مناهج الدرس والمعالجة، ومن ثم يتميز عنها في الوظيفة والغاية.

ومن العلماء، الذين كتبوا في هذا الحقل، الجاحظ، والجبائي، وأبو عيسى الوراق، والطبري، والكندي الفيلسوف، والنوبختي، وابن جرير الطبري، والحسن بن أيوب، والقاضي عبد الجبار، وابن حزم الأندلسي، وأبو الوليد الباجي، وأبو الحسن الأشعري، والباقلاني، وأبو المعالي الحسيني العلوي، وأبو الحسن العامري، والبيروني، والجويني، والغزالي، والخزرجي، والقرطبي المفسر، والشهرستاني، وابن تيمية، والطوفي الفقيه، والسموءل بن يحيى المغربي، ونصر بن يحيى المتطبب، وعبد الله الترجماني، فضلا عن المسعودي واليعقوبي، والمقريزي، ورحمة الله الهندي، وكثيرون غيرهم.

يقول مؤرخ الأديان شاربي E. Sharpe "إن الانغلاق الصارم والتعصب كانا وراء الاعتقاد بأن أي دراسة للأديان الأخرى لن تقود إلا إلى تناقض حاد مع المسيحية.

لقد اشتمل الفكر الإسلامي، في دراسته للأديان الأخرى، على تقصٍّي التاريخ، والتحليل العلمي، والمقارنة الموضوعية، مما يعد من صميم علم الدين المقارن بأدق معانيه المعاصرة.

ثالثاً: مناهج دراسة الأديان في الفكر الإسلامي

1. منهج التاريخ والوصف

شغل تأريخ الأديان ووصفها مساحة واسعة من فكر المسلمين، ووضعوا لذلك أسساً وأصولاً أو قواعد منهجية غير مسبوقة، تميزت بالحيدة والنزاهة، حيث أصَّل علماء الإسلام هذا المنهج، ثم طبقوه بموضوعية ونزاهة على أديان العالم المختلفة،فكان لهم شرف كتابة تاريخ للأديان في الفكر الإنساني كله، قبل أوروبا بأكثر من عشرة قرون. وكان العالم منهم يكتب في الجدل والنقد كتاباً، ثم يكتب في التأريخ والوصف كتاباً آخر؛ مثل أبى عيسى الوراق (من مفكري القرن الثالث الهجري) الذي كتب في الجدل كتابه (الرد على فرق النصارى الثلاث)، وكتب في الوصف والتأريخ كتابه (مقالات الناس واختلافهم)، وهناك عدد من الكتب حمل عنوان "المقالات" لأبى القاسم البلخي وأبى الحسن الأشعري، والمسعودى مثلاً.

ثم كتب النوبختي كتابه (الآراء والديانات) وكتب أبو المعالي العلوي كتابه (بيان الأديان)، وصنف أبو العباس الإيرانشهرى والمسجى (درك البغية في الأديان والعبادات)، وكتب كثيرون كتباً بعنوان (الملل والنحل)، مثل البغدادي أبى منصور، والشهرستاني وغيرهم، وكتب بعضهم في (البرهان في معرفة الأديان).

2. منهج التحليل والمقارنة

لم تقف جهود علماء الإسلام عند المنهج التاريخي الوصفي لكنها تجاوزته إلى المنهج التحليلي المقارن، ومما تجدر الإشارة إليه، أن المقارنة عندهم لم تتخذ صورة واحدة أو شكلاً واحداً، وإنما اتسع مفهوم المقارنة لديهم وتمثل في صور متنوعة، منها على سبيل المثال: أن يدرس الباحث جانباً أو أكثر من ديانتين أو أكثر ثم يقارن بينهما، ومنها أن يتناول الدارس ديانة واحدة ويدرسها دراسة عميقة، من كل جوانبها، أو بعضها في خطوة منهجية تمهيدية لباحث آخر ويدرس ديانتين أو أكثر دراسة مقارنة. ومن صور المقارنة كذلك دراسة شخصية مؤسس الديانة، أو رسلها، مثل المقارنة بين المسيح عليه السلام، وشخص بوذا أو كرشنا، ومنها دراسة الأسفار التي يقدسها أصحاب الديانات، وعلماء الأديان الغربيون.

3. المنهج التحليلي النقدي

درس المسلمون الأديان، أو جوانب منها، دراسة نقدية في كثير من أعمالهم العلمية التي حللوا فيها جانباً معيناً أو جوانب في ديانة أخرى، تحليلاً نقدياً، ومن ذلك: دراسة ابن حزم الأندلسي لنص العهدين القديم والجديد، ودراسة أبي حامد الغزالي، وكذلك تحليل المسلمين النقدي لدعوى التثليث، والصلب، والقيامة، والخطيئة، والكفارة، في المسيحية، والتناسخ في أديان الهند، والنسخ في اليهودية، ولجوانب مهمة في الزرادشتية والمانوية إلخ.

4. منهج الحوار والرد والمجادلة

عرف الفكر الإسلامي شكل المناظرات الحية، التي كانت تتم في مجالس عامة، أو خاصة بين علماء مسلمين وغير مسلمين، من أصحاب الملل المختلفة، تطبيقا لقول الحق تبارك وتعالى: ]ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[ (سورة النحل: الآية 125).

وهناك، كذلك، المناظرات المدونة رسائل أو في كتب؛ منها رسالة راهب كلونى Cluny في جنوب فرنسا إلى أمير سرقسطة في الأندلس، وجواب القاضي أبي الوليد الباجي عليها.

وهناك، كذلك، الدراسات الجدلية المتعلقة بالرد على قضية، أو مسألة بعينها، أو أكثر مثل كتاب أبى عيس الوراق (الرد على فرق النصارى الثلاث)، ورسائل الجاحظ (المختار في الرد على النصارى).

ومن الكتابة الجدلية كذلك ما دونه الذين دخلوا في الإسلام من علماء اليهود والنصارى؛ مثل كتابَيْ علي بن ربن الطبري "الدين والدولة"، و"الرد على فِرَق النصارى"، والحسن بن أيوب، في رسالته إلى أخيه على بن أيوب.