إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / النساء في البيئة العربية









شُبُهات

أولاً: البنات بين المدح والذّم

اختلفت النظرة إلى البنات، في البيئة العربية، بين المدح والذم، وإن كان الوأد نصيب كثيرات في الجاهلية، إلاّ أنه لم يكن ظاهرة عامة. والدليل على ذلك أن بعض العرب رفض هذه الظاهرة، وفدى الكثيرات وأنقذهن من المصير المحتوم. أمّا في الإسلام فلنا في رسول الله r الأسوة الحسنة، فقد روي أنه لمّا بُشِّر بفاطمة قال: ريحانة أشمها، ورزقها على الله. وكانت محبته لبناته مضرب المثل. ويروي ابن عباس أن أوس بن ساعدة الأنصاري، دخل على الرسول r، فرأى الرسول في وجه أوسٍ الكراهية، فقال: يا ابن ساعدة، ما هذه الكراهية التي أراها  في وجهك؟ قال: يا رسول الله إن لي بنات، هن المُجْملات عند النعمة، والمنيعات عند المصيبة، ثقلهن على الأرض ورزقهن على الله.

ودخل عمرو بن العاص، على معاوية وبين يديه ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه تفاحة القلب؛ فقال: انبذها عنك: فوالله إنهن ليلِدَّن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورّثن الضغائن. فقال معاوية: لا تقل ذاك يا عمرو، فوالله ما مرّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلهن. ورب ابن أخت قد نفع خاله. فقال عمرو: ما أراك إلاّ حبّبتهن إليَّ.

وفي رقعة تهنئة للصاحب بن عباد بالبنت يقول: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون. ويقول الشاعر المتنبي يمدح أم سيف الدولة:

فلو كان النِّسَاءُ كَمَنْ وَجَدْنَا                           لَفُضِّلِتِ النِّسَاء على الرَّجِالِ

وما التَّأنيث لاسْم الشَّمْسَ عَيْب                       ولا التذكير فخر للهلال

فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها ويلهثون وراء نعيمها الزائل، والأرض مؤنثة ومنها خُلقت البرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحلّيت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، والجنة مؤنثة وبها وُعِد المتقون، وفيها ينعم المرسلون.

ونزعة الغضب على البنت، كثيراً ما تعتري الآباء لمواقف عارضة، وكل أب يُصْدِرُ مثل هذا الحكم الجائر، وكانت له بنت، فإن لها في قلبه نصيباً من الحب، إلاّ أن يكون الله قد نزع الرحمة من قلبه. وإن كان عمرو بن العاص ينعي على النساء أنهن يلدن الأعداء، فمن التي تلد الأنصار إذاً؟ في الواقع ليس في الذُرّية أحبُ من البنت؛ فهي الأم والأخت والزوجة والجَّدة والعمة والخالة، عطفاً وبرِّاً، وحناناً وخدمة، ورعاية وطاعة، ولا يعين على الحياة مثلها.

والذين يفضّلون البنت ويميلون إليها، يصدرون عن تجارب خاصة. قال أحدهم: كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة، فتبرز كفّاً كأنها طَلْعة، في ذراع كأنها جُمّارة (شحمة النخل)، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة، إلاّ خصَّتني بها. فزوّجتها وصُرت أُجلِسُ معي على المائدة ابناً لي، فيبرز كفّاً كأنّها كُرْنَافة في ذراع كأنها كَرَبة، فوالله، ما إن تسبق عيني إلى لقمة طيبة، إلاّ سبقتْ يَدُه إليها.

فهذه القصة على بساطة عباراتها، فإن مغزاها كيير، وفيها إشارة إلى بِرّ البنت، وحسن رعايتها، وتلك هي وظيفتها في الحياة، وهو مجال اختصاصها، الذي لا تُنافس فيه، وينبغي أن تهتم به، وأن تتفرغ له؛ سواء أكان ذلك للوالد، أو للإخوة أو لأبنائها وزوجها، في المستقبل؛ لذلك قال عليّ  إذا لم تكن في منزل المرء حرةٌ مدبّرة ضاعت مروءة داره.

وإذا كان العيال عموماً مَجْبَنَة، فالبنت أدخل في ذلك، وأَدْعَى لأن يكون أبوها شديد الخوف عليها. ومن هنا كثر اعتذارهم عن الضرب في أكناف الأرض، في طلب الرزق بسبب البنات. قال حطان بن المعلى الطائي، وهو شاعر إسلامي:

أَنْزَلنِي الدَّهرُ على حُكْمِهِ                        من شَاِمخٍ عالٍ إلى خَفْضِ

وغَالَني الدهر بِوَفْرِ الغِنَى                       فليس لي مالٌ سوى عِرْضِي

أبكانيَ الدهرُ ويا رُبّما                           أضحكني الدهرُ بما يُرْضي

لولا بُنَيَّات كزُغْبِ القَطَا                         حُمّلن من بعض إلى بَعْضِ

لكان لي مُضطرَبٌ واسع                        في الأرض ذات الطول والعَرْضِ

وإنمـا أولادنـا بيننـا                          أكبادُنا تَمْشِيِ على الأرض

لو هبَّتِ الريحُ على بعضهم                      لا امتنعت عَيْنَيَّ من الغمضِ

وأبو البنات يفكّر في مصيرهن ما عاش، حباً لهن وخوفاً عليهن، من المصير المظلم. وهو ما يؤيده قول الشاعر، وهو أبو خالد القناني:

لَقَدْ زَادَ الحَيَـــاَة إِليّ حُبّاً                       بَنَاتِـي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَاف

مخافة أنْ يَرَيْنَ البؤسَ بَعْدي                       وأن يَشْرَبْنَ رنقاً بعدّ صافٍ

وأن يَعْرَيْنَ إن كُسِي الجَوَاري                      فَتَنْبُو العينُ عن كَرَم عِجَافِ

ولولا ذَاكَ قد سَوَّمْتُ مُهْـري                      وفي الرَّحْمنِ للضُّعَفاءِ كَافِ

ومن جميل التعليل في حبّ البنات وإكرامهن، قول أحد الشعراء

أُحِبَّ البَناتَ فحُب البناتِ                           فرْضٌ على كل نفس كريمهْ

لأن شُعَيْباً لأجـل البناتِ                          أَخْدَمــَهُ اللهُ موسى كليمَهْ

وهذا تعليل لطيف لخبر ابنَتَي شعيب، اللتين سقى لهما موسى، ثم زوجّه أبوهما إحداهن على أن يخدمه موسى ثماني سنوات، على نحو ما ورد في القرآن الكريم.

وربما كان لبعض الرجال عناية بالبنات زائفة مغلّفة بالغرض، فهو يَحْبسهن ضَنّاً (بُخلاً) بهن، لا حُبّاً ولا كرامة، ولكن يريد من ورائهن ثروة باقية، ومالاً وفيراً، فيغالي في مهورهن ويبالغ في المطالب، وربما صرف ذلك الخطاب عنهن.

يروى أن مَعْنَ بن أوس، وهو علم من أعلام التابعين من سادات مُزَيْنة، كانت له ثماني بنات، وكان يقول: ما أُحب أن يكون لي بهن رجال. وفيهن قال:

رأيتُ رِجَالاً يَكْرَهُون بَنَاتِهِمْ                       وفِيهْنَّ لا كذباً نَسِاءٌ صوالحُ

وفيِهِنَّ والأَيَام يَعْثُرنَ بالفتى                        عوائــدُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ

فهذا الأب يريد بناته ذُخراً للأيام وجورها، وتَقَلُب حالها، لا يريدهن رأس مال، حتى إذا خطبهنّ الرجال أغلى مهورهن، وَبَغّض الناس فيهن فيعنّسن من جهة، ويساعد صنيعه ذلك في عزوف الشباب عن الزواج من جهة أخرى. فليست البنت تجارة، وإنما هي أمانة، متى حان الوقت لاستردادها ونقلها لآخر، وهو الزوج، كان على الوالد، إن كان منصفاً، أن يُهَيِّئَها لذلك بأقل مؤونة، فعواقب المغالاة والاعتساف وخيمة.

ولَبِنْتٌ مطيعةٌ أَحْسَنَ أبوها تربيتها، خير من غلامُ يُعَنِّي والديه بالعقوق والعصيان. والعرب يدركون ذلك بالتجربة والمشاهدة، لذلك قالوا في بعض حِكَمِهم: (خَبْأَةٌ خيرٌ من غلام سوء)، أي بنت لا تفارق دارها، خير من غُلاَمٍ سيِّئ النّشأة.

ولكنّ البنتَ لا تَجدُ مثل هذا الرضا دائماً، بين الناس كلّهم؛ ففيهم من يُبْغِضُها، ولا يرى فيها إلاّ باباً لجلب العار والهّم الثقيل. وهؤلاء النّفرُ هم الذين وجه لهم القرآن العتاب الشديد في قوله تعالى: ]وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ[(سورة النحل: الآيتان 58، 59) وقد رفض القرآن ذلك، لأنه موروث الجاهلية الجائر؛ ولأن خالق المرأة وخالق الرجل واحد. وإذا كَمُلَ إيمان المرء رضي بما يرزقه الله، فإن خاف الفقر وثقل الحمل، فرزقُها ورِزْقُه على الله، وإن خاف العار، فقد مكّنه الله من أساليب التربية الفاضلة. وإذا أراد أبو البنت أن ينظر إلى عظيم فضل الله عليه، فلينظر إلى من لم يرزق ذرية، لا ذكوراً ولا إناثاً! ولكن من شيم بعض الناس الطغيان. وهذه الطائفة الأخيرة، هي التي تذم البنت ولا تريدها، وكأنما الدُنيا خلقت من الذكور وحدهم.

قالوا، بُشّر أَعرابيٌ بمولودة، فقيل له: "نعم المولدة مولودتك" فقال: والله ما هي بنعم المولودة؛ نُصْرَتُها بكاء، وبِرُّها سرقة"، أراد أنها لا حيلة لها، ولاشيء تحت يدها، وليس لها سلاح في الشدائد سوى دموعها، وهي تسرق من بيت زوجها ـ إذا كان لئيماً ـ لتبرّ والديها. ولكن قد تستطيع البنت المعاصرة أن تَبِّرَ والديها من كسب يدها، وأن تنتصر بغير الدموع.

ومازال في أكثر الرجال جَزَعٌ من البنت، ومن النفقة عليها، ويرون أنها تُثقل الكاهل بمؤونة أكثر من الولد. وتحتاج مصروفاً على ثيابها وزينتها، أكثر مما يحتاجه الولد، وتجهيز زفافها على أبيها، بينما يتولى الولد ـ غالباً ـ أمر نفسه، وغير ذلك. وهذا الجزع قديم. قالوا رأى زياد بن أبيه على مائدته رجلاً قبيح الوجه، كثير الأكل، فقال: كم عيالك؟ قال تسع بنات. قال وأين هنّ منك؟ قال: أنا أجمل منهن وهنّ آكل مني. فقال له زياد: ما أحسن ما تلطَّفتَ في السؤال! وفرض له، وأعطاه.

وسُئل آخر: كم لك من الولد؟ فقال: قليل خبيث. قيل وكيف؟ فقال: لا أقل من واحد، ولا أخبث من بنت! يعني له بنت واحدة؛ فالقلة كونها واحدة، والخبث كونها أنثى!

وكان بعضهم يبالغ في الرغبة في التخلص من البنت، حتى إن أحدهم عزّى صاحباً له في ابنة له ماتت قائلاً:

وَلَمْ أَرَ نعْمَةً شَمَلَتْ كِريماً                          كنعمة عَوْرَةٍ سُتِرَتْ بَقْبْر

وكان عقيل بن علّفة المرّي، يُضْرب به المثل في الغيرة والخوف من العار، واختلاط الأعراق؛ ولمّا طلب عبدالملك بن مروان، الخليفة الأموي، إحدى بنات عقيل زوجة لأحد أولاده، قال عقيل: نعم يا أمير المؤمنين ولكن جَنِّبني هُجناء أبنائك. وهو الذي لمّا سمع ابنته تضحك ضحكة في آخرها شهيق، حمل عليها بالسيف، وهو يقول:

فَرِقْتُ، إني رجل فَرُوقُ                            من ضحكة آخرُها شهيقُ

فاستجارت البنت بإخوتها، فحالوا بينه وبينها.

وهو الذي يقول:

إني وإن سيق إليّ المَهْرُ                           ذَوْدٌ وعُبْدانٌ ومالٌ حُرُّ

                                            أحبُّ أصهاري إليّ القَبْرُ.

فَعَقيلٌ من وسوسته وخشيته على بناته، يرى الموت خيراً لهن من الزّواج، وأن القبر الذي يأوي بناته أحب أصهاره إلى قلبه، وهي نظرة جاهلية مُنْكَرةٌ.

وتُعد العربُ الزّواج سِتْراً، وتقول: "ليس للمرأة سترٌ إلاّ ستران: زوجها وقبرها". وهذا أشبه بقول الآخر:

لكل أبي بِنْتٍ إذا ما تَرَعْرَعَتْ                     ثَلاَثَةُ أصْهَارٍ إذا كَرُمَ الصِّهرُ

فزوجٌ يُرْاعيها وبيتٌ يُكِنُّها                         وقَبْرٌ يواريها، وخيرهم القبر

وأسوأ من ذلك قول الآخر:

جُعِلْتُ فداك من النَّائِباتِ                           ومُتِّعْتَ ماعِشْتَ بالطَّيْبَاتِ

سروران مَاَلهُمَا ثالثَّ                              حياةُ البِنينِ وُمْوُت البنات

وأصدقُ من ذَيْنِ قُوْلُ الحكيم                       دفنُ البناتِ من المُكْرَماتِ

وقصة أبي حمزة الذي كان لا ينجب إلاّ البنات، مشهورة في التراث العربي؛ فقد هجر بيته وأقام في دار مجاورة لأن زوجته لا تلد إلاّ البنات، حتى عاتبته زوجته وواجهته بالحقيقة في قولها:

ما لأبي حمزة لا يأتينا                             يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألاّ نَلِدَ البنين                              ونحن كالأرض لزارعينا

نُنْبِت ما قد زرعوه فينا

قيل فرجع ورضي بما قُسم الله له.

وقال بعضهم متذمراً:

لا يَزْجُرُ الدَّهْرُ عنّا المنونا                         يُبَقّي البناتَ ويُفْنِي البَنِيَنا

ولو تدبر هؤلاء النفر، ممن يُفُضِّلون البنين على البنات، سورة الشورى، لوجدوا الحكمة مجتمعة والعبرة ماثلة، في قوله تعالى: ]لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[ (سورة الشورى: الآيتان 49، 50).

فالإيمان بالله وحده، بقدرته وعلمه ومشيئته، هو الحلّ لقضية تفضيل الذكر على الأنثى، لأن الذرية هبة منه ـ تعالى شأنه ـ يعطيها من يشاء، بعلمه وقدرته، ويَحْرِم منها من يشاء، وسر ذلك عنده. وقد جمعت الآية جميع أنواع الذرية والعقب: هبة الذكور، أو هبة الإناث، أو المزاوجة بين الجنسين، أو فقد الجنسين مَعاً. وفي كل ما قدّر الله خير، حتى في القسم الرابع والأخير، لأنه ربما كان سابقاً في علم الله أن ذلك المحروم، لو رُزق ذرية لأصبحوا وبالاً عليه، لأن الله تعالى يقول: ]أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلأَدُكُمْ فِتْنَة[.(سورة الأنفال: الآية 28) فالسعيد من رضي بما قُسِم له، ثم عَمِلَ على إصلاحه.