إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / النساء في البيئة العربية









شُبُهات

رابعاً: المرأة والغيرة

الغَيْرَةُ من طبيعة الحياة الزوجية، ولكنها ينبغي أن تكون بمقدار الملح في الطعام؛ إذا نقصت بردت الحياة ومسخت، وإذا زادت كانت مفتاحاً للنكد والكدر ثم الطلاق. ومن وصية بعض الحكماء: لا تكثر الغيرة على زوجتك من غير ريبة، فَتُرْمَى بالسوء من أجلك وإن كانت بريئة. وللعرب في الغَيّرة دررٌ ونفائس. وكان الشاعر الأموي مسكين الدَّارمي، من أحسن الشعراء تعبيراً عن الغيرة والاحتياط، وفيها يقول:

ألاّ أيَّها الغائرُ المستشيـ                              ـطُ علام تُغَارُ إذا لم تُغَرْ

فما خيرُ عُرسٍ إذا خِفْتَهَا                             وما خيرُ بيتٍ إذا لم يُزَرْ

تَغَارُ على النَّاس أن يَنْظُرُوا                          وهل يفتنُ الصَّالحاتِ النظرْ

فإني سَأُخْلِي لها بَيْتَها                                 فتحفظُ لي نفسَهَا، أو تذَرْ

إذا اللهُ لم يُعْطِهِ وُدَّهَا                                 فَلَنْ يُعْطِيَ الوُدَّ سوطٌ مُمَرْ

أي إن لم يكن للمرأة خُلُقٌ ودين وعفاف يحفظها، مع حُب وتقدير للزوج، فلن يحفظها حبسٌ في البيت ولا إرهاب بالسوط؛ وهذه ثقة من الشاعر في امرأته لا تدانيها ثقة، اعتمد فيها على صلاح المرأة في نفسها، وذلك شيء إذا وجد وقف سدّاً منيعاً أمام كل تيّار. لذلك فهو يركّز على هذا المعنى في أشعاره، فيقول في قصيدة أخرى:

إذا هي لم تُحْصِن أَمام قِبَابِها                          فليس بِمُنْجِيها بِنائِي لها قَصْرا

وقال أيضاً:

ما أحسن الغيّرة في حينها                            وأقبح الغيّرة في كل حين

من لم يزلْ مُتّهما عُرْسَه                              مُتّبَعا فيها لرجم الظنون

أوشك أن يُغْرِيهـا بالذي                             يخاف، أو ينصبها للعيون

حَسْبُك من تَحْصِّينها ضمّها                           فيك إلى عرض نقي ودين

لا تَطْلَع منك على ريبةٍ                               فيتبع المقرون حبل القرين

ومسكين الدارمي، شاعر هذه الأبيات، من مشاهير الغيورين في التراث العربي، وهو القائل:

لا آخذ الصبيان ألثمهم                                والأمر قد يُغْرِي به الأمر

يعني إذا وجد إحدى نساء الحيّ يصحبها طفل فإنه، لا يحمل ذلك الطفل ويقبِّله؛ لأنه يرى في هذا التصرف إغراءً للأم، وهذه غاية الحيطة والصِّيانة. ونجد في قصيدته الرائية هذه كثيراً من المعاني السامية في حسن الجوار، حيث يقول:

ما ضر جاري إذ أُجاوره                             أَلاّ يكون لبيته سِتْرُ

أعمى إذا ما جارتي خرجت                          حتى يواري جارتي الخِدرُ

وقد ذمّت العرب الرجلَ الديّوث، وهو الذي لا يغار على حريمه، وقد ورد لَعْنه في الحديث الشريف: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: ]ثَلاَثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجَنَّةَ، مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ، الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخُبْث[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 5839). أمّا الغيرة على الحُرَمِ فمن صفات الرجولة، وهي صفة مُمَدّحة منذ القِدم.

والرِّجال أُشدُ غَيْرَة من النساء، ولكن احتكامهم إلى العقل يَكْبَح جِمَاح الاندفاع، ويقلل من الحدة. ومع ذلك فإن العرب يذمون الداعين إلى الاعتدال في الغيرة، حتى عابوا معاوية بن أبي سفيان لمّا قال: ثلاث خصال من السؤدد: الصلع واندماج البطن وترك الإفراط في الغيرة.

ومن فرط غيرة بعض الرجال على نسائهم، أنهم يوصون الزوجة، ويلحّون في الوصية، بألاّ تتزوّج بعده إذا توفي، وربما تعاهدا على ذلك. ولكن كثيراً ما يقع القدر، وسرعان ما ترى بَعْلاً مكان بَعْل، والحيُّ أبقى من الميت.

والمتتبع لأخبار الغيرة عند المرأة العربية لا يكاد يصل إلى حدّ، فإن قصصها في التراث غزيرة مستفيضة.

وقد تُصبح غيرة المرأة سلاحاً ذا حَدّين، فإذا رُزقت المرأة الحكمة وحسن التصرّف حفظت بيتها ودافعت عن كيانها؛ وإذا فقدت ذلك، كانت الغّيَّرةُ سبباً في هدم سعادتها. ولا يزيد في خراب البيوت سوى الغيرة الشديدة والوسوسة.

ربما دفعت الغَيْرَة الرّجل إلى الاعتداء على المرأة بالضّرب، وهو سلوك مهين، يأباه الشـرع  ـ إلاّ بحقـه ـ وتمّجه النفس. وقد روي عن الرسول r أنه قال: ]لاَ تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّه[ِ (رواه أبو داود، الحديث الرقم 1834). وقالت عائشة، رضي الله عنها، ما ضرب رسول الله r امرأة قط، ولا ضرب خادماً قط. وهو القائل: ]اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا[ (رواه ابن ماجه، الحديث الرقم 1841).

وعادة ضرب النّساء ـ الزّوجات ـ لا تَخُصّ أُمة دون غيرها، وهي عادة ذميمة قديمة. فقد حدّث جماعة من جلساء أمير المؤمنين، الخليفة المهدي العباسي، فيهم سعيد بن سلم الباهلِّي، وابن دأب، وعبدالله بن مسلم العزيزي ـ وكان جريئاً على الخليفة ـ قالوا: خرج علينا المهدي مَغِيظاً متغيّراً ، فسأله العزيزي عن خبره، فقال: لم أر كصاحب الدنيا أكثر آفات، ولا أدوم هموماً! قد عرفتم موضع لُبانة بنت جعفر بن أبي جعفر مني (زوجته)، وأَثَرَتَها (تفضيلها) عندي، وأنها أغلظت لي بإدلالها في شيء فلم أجد صبراً، فنِلْتُها بيدي (ضربتها) فَنَدِّمتُ على ذلك. قالوا فسكتنا خوفاً من تعنيفه، أو تصويب رأيه، فيبلغها ذلك، فقال ابن دأب: وما في ذلك يا أمير المؤمنين؟ هذا الزبير بن العوام، حواريُّ رسول الله r وابن عمته، ضرب امرأته أسماء بنت أبي بكر ـ وهي من أفضل نساء زمانها ـ حتى كسر يَدَها، وكان ذلك سبب مفارقته إياها؛ لأنه قال لها: أنت طالق إن حال عبدالله بيني وبينك ـ يعني عبدالله ابنه ـ فلم يخلّه عبدالله، وخلَّصه منها. وهذا عمر t يقول: لا يُسألُ الرجلُ فيم يضرب امرأته. وهذا كعب بن مالك الأنصاري عتب على امرأته ـ وهي من المهاجرات ـ في شيء فضربها حتى حال بنوها بينهما، فقال:

ولولا بنُوها حولَها لَخَبَطْتُها                           ولكنَّهم حالوا بمنعيَ دونَها

فمالت وفيها حائشٌ من عَبِيطِها                       إلى أن تُداني الموت غيرَ مُذَمَّمِ

فلا تَعْدَمِيهم بين ناهٍ ومُقْسِمِ                            كحاشيةِ البُرْدِ اليماني المُسَهَّمِ

فضحك المهدي وسُرّي عنه، وأمر بالطعام، وأمر لابن دأب بخمسين ألف درهم وخمسين ثوباً.

هؤلاء ثلاثة من الصحابة، وخليفتان من الخلفاء، ثبت عندهم هذا التصرف بالفعل أو بالإقرار، وهو أمر قبيح مُسْتَهْجَنٌ إلاّ بحق. وسببه في الغالب إدلال المرأة وتجاوزها الحد. والمرأة نفسها ـ وهي أدرى بطبائع أخواتها ـ تخشى عاقبة التَّدليل، فقد أوصت إحدى نساء العرب زوج ابنتها فقالت: والله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المُدلّلة، فإن رَابَك رَيْبٌ فعليك بالسَّوط. ومعلوم أن طبع المرأة الرّقة، فإن فارقتها فَقَدَتْ أهم أركان جاذبيتها. والحياة الزوجية قوامها الرفق بين الزوجين، فهو إِدامُ العُشْرة. وقد وضع أبو الدرداء، ميثاقاً للتعايش السِّلمي، حين قال لامرأته: إذا رأيتني غضبت فَتَرَضِّيِني، وإذا رأيتك غضبتِ تَرَضَّيْتُكِ، وإلاّ لم نَصْطَحب.

فالغيرة غريزة في الطرفين، ولو وجد الرجل سبيلاً إلى ألاّ تَرَى زوجته غيره لسلكه، ولو وجدته المرأة لكانت أسعد الناس بذلك. ألم يقل أبو تمام:

ولو أني قَدْرتُ طَمَسْتُ عنه                          عيونَ النّاسِ من حَذَرِي عَلَيْهِ

وقال آخر:

ولو أَنيّ خَبَأْتُكَ في عيوني                            إلى يوم القيامةِ ما كَفَاِني

ولكن لا سبيل إلى الخيال. قيل كان لأحد العرب جارية يحبها، فكان إذا خرج بها عَصَبَ عينيها بعِصابة، (لَفَّها بقطعة) حتى لا تنظر إلى غيره، فقيل له فإن الناس يرونها، فقال: إنما أخشى من نَظِرها إلى الناس!! وهذا الأعرابي أكثر واقعية من أبي تمام لأنه طمس ما يقدر عليه.

ولولا أن هذا ضَرْبٌ من الوسوسة، لقيل إن الرجل مُحِقّ، فقد ينظر إلى المرأة ألف رجل فلا يضيرونها ولا يأخذون منها شيئاً، ولكنها إذا نظرت أُعْجِبَتْ، وإذا أُعْجِبَتْ فُتَنِتْ ثم تقع الواقعة، ومن هنا كانت حكمة الإسلام في ستر المفاتن، وغضّ البصر، فتكون نقطة الانطلاق إذن من الدواخل، فهي التي إذا سَلِمَتْ، سَلِمَتْ الصِّلاتُ والعلائق، وإن كانت الثانية فعلى الدنيا السلام.

كان عقيل بن عُلّفة المُرِّي من أغير العرب، قيل له ألا تخاف على بناتك وقد عَنَّسْنَ، ولم تُزَوِّجْهُن؟ قال: كلا أُجَوِّعُهُنَّ فلا يَأْشَرْنَ (يبطرن)، وأعرِّيهن فلا يُنْظَرْنَ. وقد وافقت إحدى كلمتيه قول الرسول r ]الصَّوْمَ وَجَاءَ[،(رواه أبو داود، الحديث الرقم 427) والأخرى كلمة عمر بن الخطاب: (اضربوهنّ بالعُرْي).

وقصص الغيرة في التراث العربي كثيرة مستفيضة، ولكن أغربها التي تصل إلى درجة القتل. فقد حُكِيَ أن الشاعر العباسي دِيك الجِنّ (عبدالسلام بن رَغْبَان) قتل جاريته غَيْرةً، ثم تبيّن له عفافها بعد موتها، فما نفعته الحياة بعد ذلك.

وقيل، كانت لعبدالعزيز بن أبي دُلَف جارية، كان يرى الدنيا بعينيها، وكانت كل شيء في حياته، فدعا بها، فَضَرَب عنقها، فقيل له: لم صنعت هذا؟ قال: مخافةَ أن أموت من حُبِّها فتصير هي من بعدي لغيري.وهذا جنون وأنانية بغيضة، وليس من الغيرة في شيء.

وربما كان سبب الكدر الذي يقود إلى الضرب، بعض أمور المعيشة، وتَقَلُّب حالتَّي اليسر والعسر. وامرأة لا تُقدِّر هذا، ولا تعايشه وتعيشه مع زوجها، هي امرأة غير جديرة بكرامة الحياة الزوجية، ولكن النفس البشرية تضعُف أحياناً. وفي صحيح مسلم، عن جابر بن عبدالله قال: ]دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ فَأُذِنَ لأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ r جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ فَقَالَ لأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ r فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ r وَقَالَ هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا كِلاَهُمَا يَقُولُ تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ r مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَقُلْنَ وَاللَّهِ لاَ نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ r شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ حَتَّى بَلَغَ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا قَالَ فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لاَ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَلاَ عَلَيْهَا الآيَةَ قَالَتْ أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَأَسْأَلُكَ أَنْ لاَ تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ قَالَ لاَ تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا[ (رواه مسلم، الحديث الرقم 2703)

فالعبرة هنا غير خافية، والقدوة ماثلة لمن يتأمّل؛ وهل يحتاج رسول الله r تذكيراً بواجبه نحو أهل بيته، وهو أحسن الناس عشرة وحُبَّاً لأهل بيته؟! ولكن حكمة الله ماضية، في أن تقوم الأسوة في شخصه r، حتى لا نضيق إذا رأينا أو سمعنا برجل، تحبسه امرأته في الدار، تريد ثياباً أو نفقة أو زينة.

وكان معاوية بن أبي سفيان، على ما اشتهر به من دهاء وعقل، ربما اتُهم بسيطرة بعض نسائه عليه، حتى قال له صَعْصَعَةُ بن صَوْحَان: كيف نَنْسِبُك إلى العقل، وقد غلب عليك نصف إنسان؟ يريد غلبة امرأته (فاخِتَة) عليه. فقال معاوية: إنهن يَغْلِبْنَ، الكِرام ويغلبُهُنّ اللِّئام. وكما قالوا طاعة النساء ندامة، قالوا أيضاً: "شَاوِرُوهُنَّ وخالِفُوهن"، وليس هذا عبثاً ولا استهتاراً، ولكنه إقرار لمبدأ المشاورة وتطييب الخواطر. فإن صدرت المرأة عن رأي صواب فلا عيب في الأخذ به، وإن لم يكن في رأيها ما ينفع فقد أرضتها المشاورة. وقد أخذ الرسول rبرأي أم سلمة ـ وكانت عاقلة مدبرة ـ في نَحْرِ الهَدْي في صُلح الحديبية.

ولا ينبغي أن يؤخذ قول عمر، t "لا يُسْأَل الرجل فيم يَضْرِبُ امرأته" على إطلاقه، لأنه ليس رُخْصَةً شرعية في ذلك؛ فهو لا يريد بالرّجل كلّ الرّجاَل، فالرجال فيهم الجاهل والطّائش، والأحمق. ثم إن قول عمر هذا جزء من حديث شريف، قال عنه بعض أهل العلم: الحكمة في عدم السؤال لأنه قد يضرِبُها لأجل الفِراش، فإن أخبر بذلك استحيا، وإن أخبر بغيره كذب. ومع ذلك فإن عمر t هو القائل: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصّبيّ، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلاً. وهو صاحب العبارة الشهيرة الشجاعة (أصابت امرأة وأخطأ عمر)، وكان ذلك على المنبر وبين الملأ. وقد كان يضع ثقته بالنساء حتى وَلَّى إحداهن ـ وهي الشّفَّاء بنت عبدالله ـ حِسْبة أسواق المدينة، على كثرة الرجال فيها. وهو مع كل ذلك خبير بالنساء، فقد صنّفهن مرةً في قوله: النساء ثلاث: هيّنة، عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وثالثة غُلُّ قَمِل (قَيْدٌ محكم القفل) يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.

وعلى كل، فإن المرأة قد تحتمل الضَّرب وكل شيء، إلاّ الضُرَّة (أي الزوجة الثانية). والمرأة السوية السليمة الفطرة لا يسوؤها أن يكون زوجها قوياً حازماً في غير غلظة، فذلك يوفر لها الأمان والحماية، أمّا غير السّوية فهي التي تحب من الرّجال من كان دُمْيَةً أو أُلعوبة في يدها. هذا إذا توفر لها الاختيار، أما إذا كانت مضطرة فقد قالت العرب (زوج من عُود خيرٌ من القُعُود).

وقد تدرَّج الشرعُ في قضية الضرب هذه، بعد أن جعلها علاجاً في ذيل القائمة لحالات خاصة. يقول الله تعالى: ]وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا[ (سورة النساء: الآية 34) وهو تدرُّج منطقي، يبدأ بالمراجعة بالحسنى، ثم تجفيف الجو من الحنان، فلا يُبَايِتُها في فراش واحد، وأخيراً الضرب، وهو ضرب تخويف فقط، لأن الفقهاء اشترطوا ألا يكون مُبَرِّحاً، فلا يكسر ولا يجرح ويتجنب الوجه.

والنُّشُوز، الذي تُضْرَبُ عليه المرأة هو العصيان، وعدم اطمئنانها لزوجها بغير مُسَوِّغ، أو خروجها دون إذن منه، أو رفع الصوت في وجهه، واختلال الأدب معه، أو التَغافُل والرفض إذا دعاها، وما إلى ذلك. وربما ظّنَّ بعض الناس أن الضرب لا يكون إلا في أمور الشرف، وهذا وَهْمٌ مَحْضٌ؛ لأن الأمر إذا وصل إلى الشرف فعلاجه غير ذلك.

والرّجل العاقل الحازم يستطيع تقدير الأمور، وتسيير دَفَّة الحياة، وهو يستحق الولاية بالفّضْل لا بالقهر، وما أسوأ السطوة والجبروت، فربما ولّدت الكبت وهو وخيم العاقبة، وللسطوة أماكنها. وما أروع الرجل الذي يكون أَسَداً في الجِّد، فإذا عاد إلى حياته الخاصة رأيته حملاً، أو كالحمل في الوداعة والدُّعابة والدَّماثة ولين الجانب.