إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / النساء في البيئة العربية









شُبُهات

سادسا: المرأة أُمّا وحَمَاةً وكَنَّة

1. المرأة أُمّاً

قال الشاعر أحمد شوقي:

الأمُّ مدرسةَّ إذا أَعْدَدْتَها                               أَعْدَدْتَ شَعْباً طَيِّبَ الأَعْراَقِ

بيت مُلهم، قاله شاعر ملهم، فأصبح مثلاً حوى عبر الماضي ودروس الحاضر، وبصائر المستقبل. والأم مدرسة الأجيال، وهي التي غذتهم من دمها، ثم أرضعتهم لبنها. وقد أنصفها الإسلام، ورفع خسيستها وأعلى شأنها. تطالع ذلك في آيات القرآن الباهرة ]وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير[ (سورة لقمان: الآية 14) فالخطاب التفت من العموم، وهو ذكر الوالدين، إلى الخصوص، وهو ذكر الأُم، إشارة إلى عظيم أثرها، وبليغ ما عانته في سبيل ابنها حملاً ووضعاً ورعاية. ثم قرن الله سبحانه شكره بشكرها، فالله يستحق الشّكر لنعمة الحياة، وكذلك يستحق الوالدان الشكر لأنهما أيضاً السّبب في ذلك.

ومن هنا كانت عناية الإسلام واهتمامه باختيار الزوجة، التي هي أم المستقبل، وكثرت في ذلك الأخبار والآثار؛ وأحاديث المرأة الصالحة، الودود الولود كثيرة في السنة. ومن هنا أيضاً، لحظ العرب القيمة الكامنة في نقاء العرق، لأن في ذلك صيانة لمكارم الأخلاق، وللِّسان وللأعراق. جاء في كتاب المرأة العربية: "وما رأينا أمراً أجمع عليه قَالَةُ العرب، ومن إليهم من أئمة اللغة، ورواة الأدب، وأعيان البيان، كإجماعهم على أن أول لوثة (فساد) أصابت اللغة العربية لم يقذف بها إلا ألسنة الهُجَناء، (أي من كان أبوه عربياً وأمه غير عربية). وذلك أن الأم تُلَقِن أبناءها لسان قومها، وتنشئهم وتشكلهم حسب بيئتها".

ولم يذهب حرص العرب على حسن اختيار الزوجة عبثاً، فما عُرف نجيب من العرب، إلاّ كان من بطن مُنْجِبة. وما أصدق شاعرهم حين قال:

ولو كُنْتُمْ لِمُكْيِسَةٍ لَكِسْتُم                               وَكيْسُ الأُمِّ يُعْرَفُ في البَنْينَا

والكَياسة رجاحة العقل والحلم والفضل والمرؤة، أي لو كانت أمكم ذات عقلٍ وحلم وفضل، لبلغتم الفضل من ذلك كله، لأن نجابة الأُم تظهر في الأبناء. والمُكْيِسَةُ هي التي تلد الكَيِّسين، أي الحلماء العقلاء.

ومن المنجبات قبل الإسلام، فاطمة بنت الخُرْشُب الأنماريَّة، أنجبت لزياد العبسي الكَمَلَة: ربيع الكامل، وقيس الحفاظ، وعمارة الوهّاب، وأنس الفوارس. وهي التي قيل لها أي بنيك أفضل؟ فقالت: هم كالحلقة المفرغة، لا يُدْرى أين طرفاها. ومنهن أم البنين ابنة عامر، أنجبت لمالك بن جعفر: ملاعب الأسنة، وطفيل الخيل، وربيع المُقْتِريَن، ومعوّذ الحكماء، ونزال المضيف.

ومنهن عاتكة السّلَميْة، أم هاشم، والمطلب، وعبد شمس، أرومة قريش وأصلها. وريحانة بنت معديكرب، أم دريد بن الصِّمة، وإخوانه عبدالله، وعبد يغوث، وقيس، وخالد. وكلهم أبطال عظماء وسادة كرماء.

أمّا في الإسلام فعلى رأس المنجبات آمنة بنت وهب، التي أنجبت خير البرية محمداً بن عبد الله r ثم فاطمة رضي الله عنها ابنته، أنجبت الحسنين سَيِّدَيْ شباب أهل الجنة، وفاطمة بنت أسد، أنجبت علياً بن أبي طالب t،. وصفية بنت عبدالمطلب أنجبت الزبير بن العوام t، الفارس الشّجاع، و أسماء بنت عميس أنجبت سيد الأجواد عبدالله بن جعفر، t. وهند بنت عتبة أنجبت حكيم العرب وداهيتها معاوية بن أبي سفيان t، وأسماء بنت أبي بكر أنجبت عبدالله بن الزبير t، وغيرهم وغيرهم.

فلا عجب بعد ذلك، إذا وجدنا العرب تفخر، بالأمهات وتَنْتّسِب إليهن. وكان يقال للحَسَنيَنْ أبناء علي: (ابنا الفواطم) وهن فاطمة بنت رسول الله r سيدة النساء، وفاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت عبدالله جَدَّة الرسول r.

وانتسب العرب إلى الأمهات كانتسابهم إلى الآباء، بل كانوا يعتزون بالأمهات اعتزازهم بالآباء ويمدحون الرجل بأنه: مُعِمَمٌ مُخْوِلُ: أي كريم الأعمام والأخوال، معتزاً بنسب أبيه وأُمه.

وكانت لبعض الأمهات تضحيات جليلة، في سبيل الأبناء، فما أكثر ما نسمع عن امرأة، ذات شباب وجمال، يموت عنها زوجها فيتزاحم الخطاب على بابها، فتردهم واحداً واحداً، مُفَضِّلة حياة الوحدة، تفرغاً لتربية الأبناء. فقد مات مالك بن النضر، وابنه أنس رضيع، وزوجته أم سليم شابة حدثة، فكثر خطابها فقالت: لا أتزوج حتى يأمرني أنس ـ أي حتى يكبر وَيْعقل ـ فوفَت بوعدها وبرّت. وكان ذلك مما أرضى رسول الله عنها.

2. المرأة حَمَاةً وكَنَّة

الحماة أم الزّوج وأم الزّوجة، وهي في بعض البيئات العربية مغضوبٌ عليها، مُشَهَّرٌ بها. وليس كل حَمَاة تستحق هذا الجحود والنكران. فقد تكون العلاقة أحياناً بين الحماة، وهي أم الزوج، وبين الكَنَّة، وهي زوجة الابن، كعلاقة (الضّرَّات)، بسبب التنافس بينهما على قلب الابن، خصوصاً إذا كانتا تعيشان في بيت واحد. فقد ترى الحماة، أن زوجة ابنها انتزعته منها، واستأثرت به من دونها، وهي التي حملته في بطنها ورَبَّتْه وتعبت عليه، فجاءت الكَنّة، لتحصد الثمار دون تعب. وترى الزوجة أن رَجُلها مِلْكُها، وَهَبَتْهُ نَفْسَها، وينبغي ألاّ يُنافسها أحدٌ على قلبه. ولو حُمِل الأمر على وجهه، لكان في كلْتيهما، الأم والزّوجة امتداد طبيعي للأخرى. فالزوجة تتولى بقية المشوار في العناية بالزوج، وتكون له أمّاً وزوجة، وتتولى أيضاً العناية بأم الزوج (الحماة) وتعطيها الجزء الذي افتقدته من عناية ابنها. وأم الزوج تصبح أُمّاً للطرفين، فتعوض زوجة ابنها ما افتقدته من عناية أهلها بها. أمّا الابن، فواجبه رعايتهما معاً، فتكتمل الرسالة على أحسن وجه، أو هكذا يقتضي حسن الظن، ومنطق العقل.

وكانت الملاحاة (الخصام) والمشاحنة، والتباغض، بين الحماة والكَّنة، مضرب المثل عند العرب، حتى قالوا: يَحْرُمُ على السامع تكذيب القائل إلاّ في ثلاث: صبر الجاهل على المصيبة، وعاقل أبغض من يُحْسن إليه، وحماة أحبّت كَنَّة.

وهذا الأمر في التراث العربي من الثوابت، وليس ما نراه الآن جديداً. قال شاعرهم:

إن الحماةَ أُوْلِعَت بالكَنَّهْ                               وأبت الكنة إلاّ الضّنة

أي صارت أمّ الزّوج مشغولة بزوجة ابنها، تُغْريه بها، وتتظلّم منها، بينما الزّوجة متمسكة بزوجها، لا تُفرط فيه. تَضِنَّ به، وتتّهم أمّه ولا تثق بها.

وما يقال عن أمّ الزوج، يمكن أن يقال عن أمّ الزّوجة، فالأخيرة تدفعها غيرتها على ابنتها إلى المطالبة ببعض الحقوق، أو التّدخل بطريقة أو أخرى بين ابنتها وزوجها. ولكن أمّ الزّوجة قد تبدو أضعف موقفاً من أمّ الزّوج، فالأخيرة بيدها القرار، وهي في موضع قوة، لأن ابنها إذا فارق هذه الزوجة فلن يصعب عليه الزواج بأخرى. أمّا أُم الزّوجة فيطاردها شبح الطلاق، وهي قطعاً يعزّ عليها خراب بيت ابنتها. لذلك، فالفارق بينهما، أن أم الزّوج يمكنها التّصرف في العلن، أمّا أم الزّوجة فليس أمامها سوى تحريض ابنتها. وهذا ما يجعل بعض الأزواج يبدو سعيداً إذا اختفت أم الزّوجة من حياتهما. وقد يتصاعد الأمر أحياناً حتَّى تنقلب الموازين، ويتفاقم الأمر، ويتعذّر التأليف بين الحماة والكَنَّة، ويصبح الجمع بينهما في عشّ واحدٍ مستحيلاً. فمن الحمق، وقلة العقل، ترجيح كفة إحداهما على الأخرى، لأن الزوج مسؤول عن كلتيهما. ولكنّ حق الأم ـ في الواقع ـ أكبر، فالزوج قد يستبدل بزوجته أخرى، إذا تأزمت الأمور، لكن لا بديل لأمه. وهذا لا ينقص أو يُقلِّل، قطعاً، من حق الزوجة، فهي الحبيبة، وشريكة الحياة، وأُمّ الولد. والعاقل هو الذي يستطيع تسيير زوجته وأُمه في خطين متوازيين، ويجتهد في حفظ المسافة بينهما، فتختفي بذلك نقاط التماس والالتماس.

ومن النماذج السّيئة حين يَنصْر الزوج زوجته على أُمه، ما قالته أم ثوّاب، وهي امرأة من بني هَزَّان، في ابن لها كان عاقاً:

رَبَّيْتُه، وَهْوَ مثلُ الفرْخِ أُطْعِمُهُ                        أمُّ الطَّعام تَرى في جلده زَغَباً

حتى إذا آضَ كالفُحّالِ شذُبة                          أَبَّارُهُ  ونَفَى عن مَتْنه الكَرَبَا

أمْسَى يُمَزِّقُ أثوابي يؤدِّبُني                           أبعد شَيْبيَ عِنْدِي يَبْتَغِي الأَدَبَا

قالت له عُرْسُه يوماً لتُسْمِعَني                         مهلاً فإن لنا في أمنا أَرَباَ

ولو رَأتني وفِيَّ النارُ مُسْعَرَةٌ                         ثم اسْتَطَاعَتْ لَزَادَتْ فَوْقَها حَطَبَا

فالأُمّ هنا تشكو صنيع ابنها، الذي ربته صغيراً وأطعمته أم الطعام (الحِنْطة)، أي أغلاه، حتى إذا كَبُرَ وعاد فتىً جلداً، لم تَجِد فيه إلاّ العقوق والضرب وتمزيق الثياب. تقول يريد تأديبي بعد شيبتي، بينما يطيع زوجته ويأتمر بأمرها.

وليس كل العرب تُغْرِي الكَنَّةَ بالحماة، فمن أمثالهم (لا تهدي إلى حماتك الكَتِف)، فتَحُضُّ هذه العربية الأصيلة ابنتها على ألا تُقَدِّم إلى أم زوجها سَيِّء الطعام، لأن الكتف تحتاج إلى عناية في أكلها؛ فقد كانوا أكثر أكلهم (المسلوق) والكتف بعد (السَّلق) تحتفظ ببعض المرق في تجاويفها، فإذا لم يكن الذي تقدم إليه حريصاً في تناولها سال المرق على ساعديه حتى يبلغ الكوع، وسال على ثيابه أيضاً، لذلك تقول العرب في أمثالها: (فلان يَعْرِفُ من أين تُؤْكَلُ الكتف)، إذا كان خبيراً بالأمور، بصيراً بمعالجتها.

وعلى كل حال، فالحموات أشْكال، وإذا حَسُنَ الظّنّ فالحماة أمٌّ ثانية، وسعيد الحظ، هو مَنْ يُرْزَق حماةً ينسى كثيراً أَنَّها أم زوجته، كناية عن رفع الكُلفة. وسعيدة الحال هي التي تُرْزَقُ حَمَاةً تكاد تُنْسيها أُمَّها.