إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / النساء في البيئة العربية









شُبُهات

سابعاً: مقومات شخصية المرأة

المرأة بطبيعتها وأصل تكوينها، تجد راحة وسكوناً في ركونها إلى الرجل، زوجاً كان أو وليّاً. وهذه طبيعة الأنوثة الفطرية في البشر، ومع ذلك كانت للمرأة مواقف، برزت فيها مواهبها، وتبلورت شخصيتها المستقلة في حدود تكوينها؛ فاشتُهرت نساء كثيرات، بوفورة العقل والشجاعة والجرأة في الحق، والحلم وضبط النفس. وتقدمن في العلم حتى فَضَلَتْ كثيرات منهن على كثير من الرجال. وتفوقت بعض النساء كثيراً في عدد من الصفات، سواء صفة فطرية أو مكتسبة، كالوفاء والصبر. وتجاوز بعضهن الصورة المرسومة في ذهن العربي للمرأة، بلطفها وحنانها، فّعَرِفت بعض النساء السطوة وحب السيطرة، وذهبت طائفة منهن إلى أبعد من ذلك وقمن بأدوار يتقاعس عنها كثير من الرجال. وكل أمر تجاوز القوام وحدّ الاعتدال فسد. والقصص والأخبار التالية، تحدثنا عن أحوال المرأة العربية الدالة على شخصيتها، سلباً أو إيجاباً.

1. العقل

لا يشك منصف، في قدرة المرأة العقلية، وجودة ذهنها، ومقدار ذكائها. وما يقال من حديث العاطفة، التي تشوب عقل الأنثى بشيء من الرقة، دلت الوقائع على أنه ليس أمراً عاماً، ولا هو حاجز لعقل المرأة عن مضاهاة عقل الرجل. وفي المأثور من أدب العرب وثقافتهم شواهد كثيرة تدل على الحكمة، والحنكة، وما اكتسبه عقل المرأة العربية من ركام التجارب. ينعكس ذلك في الوصايا والأقوال الخالدة، التي صدرت عن عددٍ من النساء. فهذه زوجة عوف بن محلّم الشِّيباني، حين خطب الملك عمرو بن حِجر بنتها، خلت بها ليلة زواجها، ولقّتنها كلمات هنَّ العقل كله، وميثاق التعايش، الذي لو اتبعته المرأة في كل زمان، سعدت وأسعدت. قالت لها: "أي بنيّة، إنك فارقت بيتك الذي فيه خَرَجْتِ، وعُشّك الذي فيه دَرَجْتِ، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه فكوني له أّمَةً، يكن لك عَبْدا. واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً: أمّا الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع والطاعة، وأمّا الثالثة والرابعة: فالتفقُّد لموضع عينه وأنفه؛ فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلاّ أطيب ريح. وأمّا الخامسة والسادسة فالتفقُّد لوقت منامه وطعامه، فإنَّ تَوَاتُرَ الجوعِ مَلْهَبَةٌ وتنغيصَ النّوَمِ مَغْضَبَةٌ. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله والإرعاء على حَشَمهِ وعياله، وملاك الأمر في المال، حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير، وأمّا التاسعة والعاشرة: فلا تَعْصِينَ له أمراً، ولا تُفْشِينَ له سرّا. فإنك إن خالفت أمره، أوْغَرْتِ صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إيّاك والفرح بين يديه، إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فَرِحاً .

فهذه الوصايا العشر لا مزيد عليها، ومهما اجتهدت مدارس التربية الحديثة في إيجاد ما يفوقها فستبقى عاجزة عن ذلك.

وما كانت العرب لتستهين بعقل المرأة، ولا تُجّهل رأيها، وقد أُثر عن الرسول r أنه أخذ برأي أم هانئ في حادثة العمرة، ونَحَر الهدي يوم الحديبية. وكان كثيراً ما يَصْدُر عن رأي خديجة، رضي الله عنها. وكانت لعمر بن الخطاب،  مواقف مع النساء، على الرغم مما عُرف عنه من الشدة في الحق. وقد صدر عبدالله بن الزبير عن رأي أمه أسماء. وكان الوليد بن عبدالملك يصدر عن رأي زوجته أم البنين؛ وكان السفّاح يصدر عن رأي زوجته أم سلمة، وكان هارون الرشيد يصدر عن رأي زوجته زبيدة؛ وأمثالهن كثيرات.

أمّا المأثور من قول العرب: (طاعة النساء ندامة)، و(شاوروهن وخالفوهن)، فالمقصود به حدوث الندامة عند طاعة النساء في كل شيء، بالحق أو بالباطل؛ أمّا الطاعة في الحق فمُقَدّرة ومقبولة، لأن الحق مطاع حين يصدر عن كائن من كان. وأمّا المشاورة والمخالفة فليس هذا عبثاً واستهتاراً ولكنه إقرار  لمبدأ المشاورة، وتطييب الخاطر. فإن صدر عن المرأة رأي صواب، فلا عيب في الأخذ به، وإن لم يكن في رأيها ما ينفع، فقد أرضتها المشاورة، وهذه غاية الإنصاف.

وإن كان قد ورد في الحديث الصحيح: ]‏مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ ‏ ‏لِلُبِّ ‏ ‏الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا[ (أخرجه البخاري، الحديث الرقم 293) فإن نقص العقل أو الدين محدّدان بظروف خاصة، وهما ليس نقصاً على إطلاقه يقلل من مكانة المرأة.

فنقص العقل، أن شهادتها لا تقبل إلا إذا آزرتها أخرى وذلك أن المرأة تتميز بعاطفة قوية وبإرادة أقل قوة. ولذا، تجد فيها سرعة التقليد والانجذاب والانبهار، بما يصدر عن غيرها، وهذا يؤثر في بعض أحكامها العقلية قطعاً. أما نقص الدين، فقد قال العلماء: أن المرأة إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي وهذا مما أمر الله به. وليس النقص الفطري عيباً تؤاخذ به المرأة، ولكنه نقص من حيث أنها لم تؤمر بالعبادة، في هذه الحالة، وعبادة الرجل كاملة، لأنه لم يؤمر بتركها على حال. فدل هذا على أن من أُمر بطاعة يفعلها، كان أفضل ممن لم يؤمر بها، وإن لم يكن عاصياً. فهذا، أفضل ديناً وإيماناً وهذا المفضول ليس بمعاقب ولا مذموم. ومع ذلك، فالمرأة على نقص تكاليفها، ربما أتت بالعبادة على وجه أكمل، مما يأتي به كثير من الرجال. ولكن، اعتبار القاعدة يكون بالعموم لا بالخصوص.

وبسبب عقل المرأة، يقولون (وراء كل عظيم امرأة)، وربما كانت كثيرات من النساء، سبباً في تقدم الأزواج أو الأبناء في مراتب المجد والشرف. فأيّ رجل يسمع كلام هذه الأعرابية، التي تُغْري زوجها بالمغامرة، ونبذ التقاعس، ولا تتحرك همته وتقوى عزيمته. قال أحدهم معبّراً عن عزيمة زوجته:

قالت تماضر إذْ رأتْ مالي خَوَى                      وجَفَا الأقاربُ فالفؤاد قَرِيـحُ

مالي رأيتُك في النَّدِيّ مُنكِّساً                           وَصِباً كأنك في النَّدِيِّ طريحُ

خاطر بنفسك كي تُصِيبَ غنيمةً                        إن القُعُودَ مع العيال قبيــحُ

وأي امرأة ترى ابنها مقبلاً على الموت المحقق، فتدفعه إليه دفعاً، كما فعلت أسماء بنت أبي بكر الصديق، حين دخل عليها ابنها عبدالله بن الزبير، وقال لها: يا أمّه، خذلني الناس، حتى أهلي وولدي.. فقالت له: الله الله يا بني، إن كنت تعلم أنك على حق فامض عليه .

وقالت أم البراء بنت صفوان في زوجها:

يا ليتني أصبحتُ لستُ بِعَوْرةٍ                         فَأَذُبّ عنهُ عساكرَ الفُجّار

فأي عُلُوِّ همّة أكبر من أن تتمنى امرأةٌ أن تصبح رجلاً، لتتمكن من الدفاع عن زوجها.

2. العلم

زاحمت المرأة الرجل منذ القدم، في حقول العلم والمعرفة المختلفة، حسب الأزمنة والأمكنة، وما كان شأنها فيه قليلاً، ولا كان تحصيلها منه ضئيلاً. فالمرأة إذا خاضت في ميدان الجد، عن رضا وقناعة، وأعانتها رقة الإحساس، ونبل العواطف، أتت بالعجب. قال الإمام الذهبي في راويات الحديث والمشتغلات به، بعد أن اتّهم أربعة آلاف محدّث: "وما علمت من النساء من اتُّهِمَتْ أو تركوها".  فهذه شهادة كبيرة من عالم ناقد، للمرأة حين تَصْدُق وتجدّ في الطلب.

والعلم أحد أسلحة المرأة في هذا العصر. وقد كَفَلَ الإسلام للمرأة حق التّعلّم، والفرص أمامها واسعة، والمجالات مفتوحة. وفي الساحة، الآن، آلاف النساء، من ذوات القلم الرشيق، والعلم الوثيق، والبحث الأنيق. والذي يريده الإسلام من المرأة، هو تعلّم العلم الذي يناسب طبيعتها. وأول ذلك، أن تتعلم أحكام دينها، وأركانه، وواجباته، وعباداته، من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وغيرها. فذلك ما تحتاجه في بيتها، وهو مكانها الأول، فتستعين بذلك على تربية أولادها، وتدبير شؤون بيتها. فأولاد الأم المُتّعلمة يُتَوَخّى أن يتوفّر فيهم الذكاء، والصحة، ومكارم الأخلاق، لأنهم يعيشون مع أُمّ تستطيع أن تعطيهم كل ذلك وأكثر. ثم إنها تستطيع إدارة شؤون بيتها، بوعي وإدراك، فتوفر للرجل الجو الصالح لمزاولة عمله، والتفرغ له. وتتكامل بذلك حلقات الأسرة السليمة، وهي النواة لكل مجتمع سليم.

وبعد أن تُعطي المرأة بيتها ـ وهو الكيان المهم ـ ذلك القدر من العناية، فلا مانع من استغلال تعليمها فيما ينفع بنات جنسها والمجتمع، ويملأ بعض وقتها، ويعود عليها بعائد اقتصادي نافع، كأن تعمل في مجال الطّب النسائي، وطب الأطفال، والتَّعليم النسوي، وإدارته، والتّمريض، والتوليد، فتؤدي بذلك خدمة إنسانية، ووظائف نافعة اجتماعياً واقتصادياً.

وقد طلبت المرأة العلم منذ القدم، وكان نساء الصحابة، يتعلّمن أمور الدين من الرسول r أو من أزواجهن، أو مثيلاتهن، ممن تَصَدَّيْنَ لذلك، كالسيدة عائشة رضي الله عنها. فقد كانت مُعلّمة، للنساء والرجال، معاً، فكم قصدها الصحابة، في أمور وقضايا شائكة، لا يجدون جوابها إلاّ عندها، سواء في الدين، أو في الأدب، أو في التاريخ. وكذلك كانت بقية أمهات المؤمنين، وبعض نساء الصحابة. وفي كتاب الطبقات، يذكر ابن سعد، أكثر من سبعمائة امرأة، روت الحديث عن رسول الله.

ومارست المرأة دور المعلمة في البيئة العربية، بجدارة ومهارة. ولم يكنّ معلمات للنساء فقط، بل كُنَّ معلمات للرجال أيضاً. ونظرة سريعة في تراجم علماء الأمة، تكشف عدداً، لا يحصى، ممن كان بعض أساتذته من النساء. فهذا الحافظ بن عساكر (ت 571هـ) ـ حافظ الأمة كما كان يلقّب ـ عدّ له صاحب طبقات الشافعية، نحواً من ثمانين امرأة من شيوخه.

وحدثوا أن عائشة بنت طلحة ـ وكانت سيدة نساء عصرها، جمالاً وعلماً، وأدباً وحسباً ـ وفدت على هشام بن عبدالملك، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت حَبَسَتِ السماءُ المطرَ، ومَنَعَ السلطان الحق. قال إني سأعرف حقّك. ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال: إن عائشة عندي الليلة، فحضروا، فما ذكروا شيئاً من أخبار العرب، وأشعارها، وأيامها إلاّ أفاضت معهم فيه. وما طلع نجم، ولا أغار، إلاّ سَمَّتْهُ. فقال لها هشام: أمّا الأول فلا أنكره (يعني حديثها في الأدب والشعر والتاريخ)، وأمّا النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي، عائشة. فأمر لها بمائة ألف درهم، وردّها إلى المدينة.

3. الصَّبر

يُعرف الصَّبر عند وقوع الابتلاء، وأَشّدّ الابتلاء بالموت، وهو مَحَكُ اختبار الصّابرين. والنّساء، عموماً، يِغْلِب علَيهن الجزع عند الموت، والفزع من الفقد. وقد عُرِف ذلك عن نساء العرب إلاّ قلة. أمّا بعد الإسلام، فقد صقل الإيمان النّفوس، وردها عن كثير مما كانت تعتقده، وتخشاه. فبلغت المرأة، بعد ذلك، مدى بعيداً في جلال الصَّبر، وقوة الإيمان؛ فالخنساء مثلاً، قضت شطراً كبيراً من حياتها ترثي أخاها صخراً حتى سارت الركبان بأشعارها، وكانت حينذاك في قوتها وعنفوان شبابها. ولمّا جاء الإسلام، أدركته على ضعف وكبر، فآمنت وحسن إيمانها. وعِندما استشهد أبناؤها الأربعة، في يوم واحد، ووافاها الناعون بخبرهم، ما زادت على أن قالت: الحمد الله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

فالفرق واضح بين حالتيها، في الجاهلية والإسلام، وبين موقفها من موت الأخ على صغر العمر، وموت الأبناء مع تقدم العمر. ولكن للإيمان عمله في النفوس.

وقد نقل ابن سعد، صاحب الطبقات الكبرى، حادثة تدلّ على عظيم صبر المرأة، وقوة إيمانها. حَدّث أنس بن مالك، عن أمه، أم سليم بنت ملحان الأنصارية، زوج أبي طلحة زيد بن سهل، قال: مرض أخٌ لي من أبي طلحة، يُدعى أبا عُمَيْر. فبينما أبو طلحة في المسجد، مات الصّبي. فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه. فرجع من المسجد، وقد تطيبت له، وتصنّعت. فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان. وقدمت له عشاءه. فتعشَّى هو وأصحابه الذين قدموا معه. ثم أتمَّا ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون الزوجان. فلمّا كان آخر الليل، قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية، فتمتعوا بها، فلمّا طُلبت إليهم، شقَّ عليهم؟ قال: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله، فقبضه إليه.. فاسْتَرْجَعَ وحَمِدَ الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح غدا إلى رسول الله r. فلمّا رآه قال: بارك الله لكما في ليلتكما. فاشتملت (أي حَمِلت) منذ تلك الليلة، وولدت عبدالله بن أبي طلحة. ولم يمت عبدالله، حتى رزق عشرة بنين كلهم حَفِظَ القرآن وأبلى في سبيل الله.

وقصة أسماء بنت أبي بكر، مع ابنها عبدالله بن الزبير، أصبحت مثلاً في الصبر والاحتساب، وتقبّل البلاء، واجتياز الاختبار بالنجاح الباهر. ذلك أن عبدالله لبث على إمرة المؤمنين، ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني سنين، ثم أخذ عبدالملك بن مروان يقارعه، فانتقص منه العراق، ورماه بعد ذلك بالحجاج بن يوسف، فأخذ يطوي بلاده عنه، حتى انتهى إلى مكة فَطَوَّقَها، ونصب المجانيق على الكعبة وأهوى بالحجارة عليها، وفي الكعبة يومئذ أسماء بنت أبي بكر. وكان عبدالله يقاتل جند الحجاج مُسْنداً ظهره إلى الكعبة، فيعيث فيهم ويروع أبطالهم، وليس حوله إلاّ القوم الأقلون عدداً، والحجاج بين ذلك كله يرسل إليه، يُمَنِّيه الخير، ويَعِدَه بالإمارة في ظل بني أمية، لو أغمد سيفه وبسط للبيعة يده.

دخل عبدالله، على أثر ذلك على أمه، فقال: يا أمَّه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي. ولم يبق معي إلاّ اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: اللهَ اللهَ يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه، فامض عليه، ولا تُمَكِّنْ من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك. وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك ومن معك. وأن قلت إِني كنتُ على حق، فلمّا وهن أصحابي ضعفتُ نيتي، فليس هذا فعل الأحرار، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير. والله لضربة بالسيف في عِزٍّ أحب إليَّ من ضربة السوط في ذُلّ. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يُمَثّلوا، بي ويَصّلبوني، قالت: يا بُني، إن الشاة لا يَضُرّها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله، فقبَّل رأسها وقال لها: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى الله. والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل، أن تُهتك محارمه، ولكني أحببت أن أطّلع على رأيك، فيزيدني قوة وبصيرة، مع قوتي وبصيرتي؛ والله ما تعمدت إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم أَجُرْ في حكم، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي حَيْفٌ فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم يكن شيء عندي آثر من رضاء ربي. اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزيةً لأمي، لِتَسْلُوَ عني. فقالت، والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا، إن تقدمتني احتسبتُك، وإن ظفرتَ سُرِرِتُ بظفرك، أخرج حتى اُنظر إلامَ يصير أمرك. ثم قالت: اللهمّ ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبِرَه بأمه، اللهم إني قد سلّمتُ فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في عبداالله ثواب الشاكرين. قال: يا أُمَّه لا تَدَعي الدعاء لي قبل قتلي، ولا بَعْده. فقالت: لن أدعه. فمن قُتل على باطلٍ، فقد قُتلت على حق. فتناول يدها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تُبْعِد. فقال لها جئت مودِّعاً، لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا، قالت: امض على بصيرتك، وادن مني حتى أودعك. فدنا منها فعانقته وقبلته، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبستها إلاّ لأشد متنك، قالت إنها لا تشد متني، فنزعها، ثم درج لُمَّته، وشد قمصيه وجبته، وخرج. ولمّا مرت به وهو مصلوب، قالت قولتها المشهورة، (أمّا آن لهذا الفارس أن يترجَّل؟!). وعندما أمر الحجاج بإنزاله بعد مدة، غَسَّلَتْه وصلت عليه ثم دفنته، وهي أًبر ما تكون!!.

4. ضبط النفس

على الرغم من أن طبيعة المرأة، عموماً،  سرعة الانفعال وجيشان العاطفة، أكثر من العقل والتروي، إلاّ أن نساء العرب الأوليات، كانت فيهن أناة، وحسن إتيان للأمور بصورة تندر، أحياناً، عند الرجال. والعجيب أن يقع ذلك في الأمور، التي تثير المرأة عادة، ولها تأثير على نفسها، كأمور الزّواج والطّلاق، والتّعدد، وغيره. قالوا: أمر الحجاج بن يوسف ابن القَرِّية ـ وكان فصيحاً بليغاً يُضرب به المثل ـ أن يأتي هنداً بنت أسماء ـ زوجة الحجاج ـ فيطلقها بكلمتين، ويمتّعها بعشرة آلاف درهم، فأتاها فقال ابن القرِّية لها: إن الحجاج يقول لك: كُنْتِ فبنتِ (أي بَعُدت)، وهذه عشرة آلاف درهم متعةً لك. فقالت: قل له كنّا فما حمدنا وبنّا فما ندمنا، وهذه العشرة آلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي. لقد تقبلت الخبر برحابة صدر وردت ببلاغة نادرة. وكان المتوقع أن تثور وتغضب، أو ترسل الدمع وتنكسر، فذلك مثال على قوة شخصية المرأة التي انطبع في أذهان الناس أنها ضعيفة، لا تحتمل الصدمات.

بل إن فارعة الثقفية، أم الحجاج نفسه، ضربت مثلاً رائعاً في ضبط النفس؛ فقد دخل عليها زوجها المغيرة بن شعبة ـ وكان مِزْواجاً مبالغاً في ذلك ـ فوجدها تتخلل (تنظف أسنانها)، حين فرغت من صلاة الغداة، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام اليوم، إنك لجشعة، وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لبشعة، كنتِ فبنتِ (أي طُلِّقت). فقالت: والله ما اغتبطنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بِنّا، وما هو لشيء مما ذكرت، ولكني اسَتَكْتُ فتخللت للسِّواك. فخرج المغيرة نادماً على ما كان منه. فلقيه يوسف بن أبي عقيل الثقفي (والد الحجاج) فقال له: إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف، فتزوجْها فإنها ستنجب؛ فتزوجها فولدت له الحجاج.

5. الوفاء

الوفاء من الصفات الأثيرة عند العرب، عرفوا قيمتها، وذاقوا حلاوتها، فتمثلوها في حياتهم وتأملوها حتى في الطيور والحيوان. فالكلب على نجاسته مضرب المثل في الوفاء عندهم، خبروا ذلك بالتجربة. ومن أمثالهم: (فلانة أوفى من قُمْرِية)، وذلك أنها إذا مات ذكرها لم تقرب ذكراً طيلة حياتها، ومع صعوبة ملاحظة ذلك في الطائر، إلاّ أنهم بخبرتهم الطويلة عرفوا ذلك، وتتبّعوه، حتى بانت لهم حقيقته. فإذا كانت هذه الصفة تُعْجِبهم في الطير وفي الحيوان، فهي في الإنسان أعجب لهم، وأحب إلى نفوسهم. وهي في المرأة خصوصاً عالية القيمة عندهم، لا سيما وهم أهل حروب، وغارات، وأسفار، وغياب قد يطول في كثير من الأحيان. فإذا توافرت هذه الصفة، كانت مبعث الأمان، والاطمئنان في نفوسهم، فتفرغوا لمهامهم، لا يشغلهم أمر ما خلفوه وراء ظهورهم، من أهل ومال. فكان أحدهم يغيب بسبب القحط، وشح الموارد، أو بسبب الأسر، فيمكث زماناً لا يُعرَفُ له أثر، ولا يُسْمّعُ له خبر، ثم يؤوب فيجد امرأته على حالها، لم تتبدل به حليلاً ولا خليلاً. وربما يموت زوج إحداهن فتُحرّم على نفسها الرجال من بعده. وقد عقد ابن الجوزي في كتابه (أخبار النساء) فصلاً صالحاً، جمع فيه أخباراً من وفاء النساء.

لمّا قَتَلَ عبدالملك بن مروان عبدالله بن الزبير، طمع في زوجته، وكانت جميلة بارعة، وكان ثغرها (أي فمها). أجمل ما فيها، فلما عَرِفت بِنِيَّتِهِ، هَتَمَتْ أسنانها الأمامية حتى تقطع طمعه فيها. عندما بلغه أمرها قال: إنما أردتها لحسن ثغرها، الذي قيل لي، وأما الآن فلا حاجة لي فيها.

ومنهن زوجة هُدْبَة بن الخشرم العذري، أخذ عليها زوجها، وهو يُقاد إلى القتل، ألاّ تتزوج بعده أحمق أو لئيماً، فعمدت إلى سكين فقطعت أنفها وقالت: أفيّ مطمع لما تقول بعد ذلك؟ فقال: الآن طاب ورود الموت.

وممن عرفن بالوفاء، وحسن العشرة في حياة الزوج، وبعد موته، نائلة بنت الفرافصة الكلبية، زوجة عثمان بن عفان t يقول ابن عبد ربه، في كتاب العقد الفريد: قالت تماضر، امرأة عبدالرحمن بن عوف، لعثمان بن عفان: هل لك في ابنة عم لي بِكْرٌ، جميلة ممتلئة الخلق، أسيلة الخد، أصيلة الرأي، تتزوجها؟ قال: نعم. فذكرت له نائلة بنت الفرافصة الكلبية، فتزوجها، وهي نصرانية فتحنفت، وحُملت إليه من بلاد كلب، فلما دخلت عليه، قال لها: لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكّهْل. قال: إني قد جزت الكهول، وأنا شيخ، قالت: أذهبت شبابك مع رسول الله في خير ما ذهبت فيه الأعمار. قال: أتقومين إلينا، أم نقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك أرض السَّماوة وأريد أن أنثني إلى عرض البيت، وقامت إليه.

قالوا: فلم تزل نائلة عند عثمان حتى قُتل، فلما دُخِلَ إِليه وَقَتْهُ بيدها، فجُذِمَتْ أناملها، فأرسل إليها معاوية بعد حين يخطبها، فأرسلت إليه: ما ترجو من امرأة جذماء؟ وقيل: إنها قالت لمّا قُتل عثمان: إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وقد خشيت أن يبلى حُزْن عثمان من قلبي، فدعت بفهر (حجر) فهتمت فاها، وقالت: والله لا قَعَدَ أحدٌ مني مقعد عثمان أبدا.

تلك نماذج من صفحات الوفاء المشرَّقة، التي فيها من العبر ما لا يخفى. ولم يُحَرِّم الإسلام على المرأة أن تتزوج بعد زوجها فقد تزوجت بعض النساء أكثر من خمسة أزواج، إذا مات زوج كان زوج مكانه. ومن حق المرأة أن تأوي إلى ركن تستند إليه في الحياة، يعينها على العيش، وعلى تربية الأبناء. ولا تقف دورة الحياة بموت الزوج الأول، ولكن المُرتجى، أن يبقى الأمر في حدود العُرف بما لا يثير المشاعر أو يستثير الأحاسيس، ولا يكون استهتاراً وتلذذاً من باب:

إذا ماتَ بَعْلٌّ كان بَعْلٌّ مَكَانَهٌ                          فَلاَبُدَّ من آتٍ وآخَرُ ذاهِبُ

6. الشجاعة والجرأة

كانت البيئة العربية ممهِّدة للشجاعة، مُعينة عليها، لِما فيها من جفاء العيش، وقسوة الطبيعة، وغياب النّظام الشامل. ثم جاء الإسلام، فجعل الكرم والشجاعة مكملين للدين. فأصبحت الشجاعة في العرب فِطْرة وتديَّناً. وبيئة تكون على هذه الصفة، يصعب أن نتصور الشّجاعة في رجالها، دون نسائها. فقد كانت المرأة لا تخشى العدو الغادر، ولا سباع الفلاة وهوامها، وهذه هي الشجاعة الحسية، وقد كان للمرأة فيها نصيب لا ينكر، كما كان لها نصيبها من شجاعة المواقف، وإبداء الرأي والجهر به.

فلم يمنع الحياء الصحابيات من سؤال الرسول rعن أدق أمور الدين. فقد كانت لديهن الشّجاعة، التي لا تشوبها الجرأة، أو سوء الأدب، في الاستفسار عن جهادهن وأجرهن وفضلهن وحقوقهن، حتى تقدمت أسماء بنت عميس، على أربعة وثمانين رجلاً ممن هاجر إلى الحبشة تسأل رسول الله عن هجرة الحبشة حين غمز بعض الناس في هجرتهم، فطمأنها الرسول r بـأن لهم هجرتين لا هجرة واحدة.

وهذه الخنساء بنت حذيم الأنصارية، قالت للنبي r إن أبي زوّجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته (أي هوانة وحقارته)، ومالي رغبة فيما صنع أبي، فقال الرسول r اذهبي فلا نكاح له، أنكحي من شئت. فقالت: أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء.

وكانت للنساء شجاعة أدبية نادرة، وأخبارهن مع الخلفاء والقواد، وردودهن المُسْكتة، لا تكاد تُحْصر. فهذه دارمية الحجونية، لمّا استدعاها معاوية بن أبي سفيان، وهو أمير المؤمنين، كان مما قالت له: وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى. فقال لها ـ وكانت كثيرة اللحم ـ فكذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك، فقالت: يا هذا، بهند والله كان يُضْرب المثل في ذلك، وليس بي.، تعني هند بنت عتبة، أم معاوية، فتراجع معاوية بدهائه وحنكته وسكَّن ثورتها.

وكانت للمرأة مواقف، يأتي الرجال معها في ذيل قائمة الشجاعة. فتلك نُسَيْبة بنت كعب، خرجت في جيش المسلمين يوم أُحد، تسقي المقاتلين  وتأسو الجرحى، فلما نالت سيوف المشركين قومها، انتضت سيفها، واحتملت قوسها وغدت تصول وتجول، بين يدي رسول الله r حتى خرجت من تلك المعركة بثلاثة عشر جرحاً، غار أحدها في عاتقها، حتى كاد يقضي عليها. فلما رأى الرسول r صنيعها، دعا لها ولآلها، قائلاً: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.

وذَكَرَ الرواة أخبار نسوة لا يُحْصَيْنَ، كانت لهن في الشجاعة مواقف مشهودة، منهن خولة بنت الأزور، واستبسالها في وقعة أجنادين، وقد أُسر أخوها ضرار بن الأزور. فتزيت بزي الفرسان، وشقت صفوف العدو، حتى أذهلت المسلمين قبل الروم، وظلت تناضل حتى استُنْقِذَ أخوها من الأسر.

وممن وصفن بالشجاعة من النساء، غَزَالة الحرورية، وكانت من الخوارج، وقد دوخت الحجاج بن يوسف، وملأت قلوب أتباعه خوفاً، وهي على ذلك كانت شاعرة.

وبلغ من جَسَارتها أنها أقسمت، لتُصَلِّيَنْ في مسجد الكوفة ـ معقل الحجاج ـ ركعتين تقرأ في الأولى سورة البقرة، وفي الثانية آل عمران. وقد بَرَّت غزالة بقسمها، ودخلت مسجد الكوفة هي وزوجها ولبثت تصلي ركعتين تستنفدان نصف النهار، ولمّا علم الحجاج بها تحصّن في قصره واستوثق من رتاج داره.

وعلى الرغم مما أوقعه الخوارج في قلب الحجاج، من الرعب والفزع، إلاّ أنه كان متى استمكن منهم، استأصل شأفتهم، ولم تكن تأخذه بهم رحمة. فعندما أُسِرَتْ أم علقمة الخارجية، وأُتِيَ بها إلى الحجاج، قِيل لها وافقيه في المذهب، حتى تَسْلَمي فقالت: قد ضَلَلْتُ إذن، وما أنا من المهتدين. فقال لها الحجاج: قد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء. فقالت: لقد خِفْتُ الله خوفاً صيّرك في عيني أصغر من ذباب ـ وكانت منكّسة رأسها ـ فقال: ارفعي رأسك وانظري إليّ، فقالت أكره أن اُنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فقتلها.

وقد بلغت بعض النساء في الشجاعة حداً بعيداً. فمنهن من عُذِّبن بقطع أطرافهن عضواً عضواً، كما فعل عبيد الله بن زياد بالبلجاء، (وهي امرأة خارجية من بني تميم، كانت تثير الخوارج في العراق). فعندما  ظفر بها عُبيدالله، قطع يديها، ورجليها، وأمر بإلقائها جُثةً في السوق، فلبثت ما شاء الله لها أن تلبث، لم تُسْمع لها آهة ولا أنّة، إلاّ أن تذكر الله وتشكره.

وقد ساق الجاحظ من أخبارهن ما يذهل العقول، ويُظْهِر أثر الإسلام واحتكامه في نفوس النساء، حتى كانت هذه الاستهانة النادرة بالدم والروح في سبيله.

7. السطوة والنفوذ

عرف التاريخ العربي في الإسلام، وقبله، نسوة كانت لهن أدوار أعظم من أدوار الرجال. واشتهرت ملكات عظيمات، مثل الزّباء، وبلقيس، وغيرهن. ولئن تخلفت المرأة عن اعتلاء دست الملك علناً، بعد الإسلام، إلاّ أن ذلك ما كان يمنع أن تكون هي صاحبة القرار، ولو من وراء حجاب، سواء أكان ذلك بحسن التدبير، وصواب الرأي، أم بالتأثير والسيطرة. وقد برزت أسماء نساء كثيرات، كانت لهن إحدى الصفتين، منهن أم سلمة زوجة السفّاح، التي استطاعت بنفوذها وقوة شخصيتها، أن تدير كثيراً من شؤون المُلْك، ولم يتزوج السفاح قبلها ولا عليها، في زمان كان الإكثار فيه من النساء، يُعد من مظاهر الأبهة والسلطان. وزبيدة زوجة الرشيد، التي كان لها تأثير كبير عليه، ولمّا رأت جلال الرشيد، وعظم دولته لم تتضاءل أمامه، بل بادرت بأعمال ما تزال آثارها باقية. فقد أجرت العيون بمكة في طريق الحج، وشيّدت المساجد، وأقامت الملاجئ للغرباء، وأحسنت إلى أهل العلم والأدب، حتى كان قصرها دولة داخل دولة. وأم البنين، زوجة الوليد بن عبدالملك، وست الملك، أخت الحاكم بأمر الله، وغيرهن من الحرائر والمحررات، من أمثال الخيزران زوجة المهدي، وأم الرشيد التي كان لها نفوذ وثراء عريضان. وقد تصل السطوة والسيطرة أحياناً، إلى حدّ الهيمنة، حتى عدّوا ذلك مغمزاً على الرجل.

وخبر الشاعر الأموي الفرزدق مع زوجته النوار، وخصومتهما عند ابن الزبير، ودور زوجته بنت منظور بن ذبّان، يُظهر تأثير المرأة وغلبة رأيها أحياناً. وكانت النَّوار بنت عبدالله، قد خطبها رجل رضيته، وكان وليّها غائباً. وكان الفرزدق وليّها، إلاّ أنه أبعد من الغائب، فجلعت أمرها إلى الفرزدق، وأشهدت له بالتفويض إليه. فلما توثق منها بالشهود أشهدهم أنه قد زوجها من نفسه، فأبت منه، ونافرته إلى عبدالله بن الزبير، فنزل الفرزدق على حمزة بن عبدالله بن الزبير، ونزلت النوار على زوجة عبدالله بن الزبير، وهي بنت منظور بن زبّان. فكان كلما أصلح حمزة من شأن الفرزدق نهاراً، أفسدته المرأة ليلاً، حتى غلبت المرأة وقضى ابن الزبير على الفرزدق. فقال:

أمّا البنون فلم تقبل شفاعتهم                          وشُفِّعَتْ بنت منظور بن زبّانا

ليس الشّفيع الذي يأتيك مؤتزراً                       مثل الشّفيع الذي يأتيك عُرْيَانَا

أي أن شفاعة الابن (حمزة) لم تُقبل عند أبيه عبدالله، ولكن عبدالله قبل شفاعة زوجته بنت منظور. وقال الفرزدق في مجلس ابن الزبير:

وما خَاصَمَ الأقوامُ من ذي خصومة                   كَوَرْهَاَء مَشْنُوءٌّ إليها خِليلُها

فَدُوَنَكَهَا يا بـن الزبـير فإنـهـا                    مُلَعَّنَةٌ يُوهِي الحجارةَ قيلُها

فقال ابن الزبير للنّوار: إن هذا شاعر وسيهجوني، فإن شئت ضربت عنقه، وإن كرهت ذلك فاختاري نكاحه وقري. فقرَّت واختارت نكاحه، ومكثت عنده زمانا. ثم طلقها وندم على طلاقها.

وبهذه المنظومة الأخلاقية، وبغيرها من الصفات، التي حلَّت جيد المرأة العربية قديماً وحديثاً، أخذت النساء مواقعهن في النفوس، وفي القلوب، وفي المجتمع. فشاركن في بناء الكيان العربي الإسلامي، الكبير، وهن في الأصل أساسه، وقاعدته التي يقوم عليها. ومتى ما تمثلت المرأة أدوار الصالحات من النساء بقيت محافظة على مكانتها، وفرضت وجودها، وبرهنت على أنها النّصف الذي لا غنىً عنه.