إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



إبراهيم (خليل الله) عليه الصلاة والسلام

المبحث السادس عشر

أنبياء الله من إشعيا إلى يحيى عليهم السلام

أولاً:إشعيا بن أمصيا u

لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل، تملك عليهم وعلى بلاد بيت المقدس في ذلك الزمان ملك يُسمى حزقيا، وكان ما يميز هذا الملك أنه كان مطيعاً لنبي الله إشعيا بن أمصيا u الذي كان مبعوثاً إليهم في هذا الوقت، وبينما الملك مريض بقرحة في قدمه، إذ تصل الأخبار بقدوم ملك بابل، سنحاريب في ستمائة ألف من رجاله، ما أفزع الناس فزعاً شديداً، وعندئذ قال الملك حزقيا للنبي إشعيا u: ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده؟ فقال: لم يوح إلي فيهم شئ بعد، ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك حزقيا بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء، فإنه قد اقترب أجله، فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى، وسبح ودعا ربه، وقال وهو يبكي: اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا رحمن يا رحيم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك فأنت أعلم به من نفسي وسري وعلانيتي لك.

فاستجاب الله له ورحمه، وأوحى الله إلى إشعيا بن أمصياu أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه وأخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب، وعندئذ اختفت أوجاعه وانقطع عنه الشَّر والحزن وخر ساجداً لله قائلاً: اللهم أنت تعطي الملك من تشاء، وتنزعه من تشاء، وتعز من تشاء، عالم الغيب والشهادة، فأنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت رحيم وتستجيب دعوة المضطرين، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى إشعياu أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ففعل ذلك فشفي.

وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت، فأصبحوا وقد هلكوا كلهم، سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه، منهم بختنصر، فأحضرهم الملك لمجلسه، وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال، وأمر الملك بالطواف بهم في البلاد بهدف التنكيل بهم والإهانة لهم، واستمر على ذلك سبعين يوماً مع التقتير عليهم في الطعام وتعذيبهم، ثم أودعهم السجن، وأوحى الله إلى إشعياu أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم، فلما بلغوا بلادهم جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما حدث له، ومكث بعدها سبع سنوات ثم مات.

أما بنو إسرائيل فقد مات ملكهم حزقيا، فتفرق أمرهم، واختلطت أحداثهم، وكثر شرهم؛ فأوحى الله إلى إشعياu فقام فيهم فوعظهم، وذكرهم، وأخبرهم عن الله بما هو أهله، وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه، فلما فرغ من مقالته عدوا عليه وطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم فمر بشجرة، فانفلقت له فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بطرف ثوبه فأبرزه، فلما رأوا ذلك، جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها، ونشروه معها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقال محمد بن إسحاق[1]: إشعيا بن أمصيا ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام.

ثانياً: أرميا بن حلقيا u

بعث الله تعالى نبيه أرميا بن حلقياu إلى بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي، وتعاظمت الأحداث، وقتلوا الأنبياء، فأوحى الله إلى أرمياu إني مُهلك بني إسرائيل، ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحيي، فقام أرمياu حزيناً لأن الله جعله آخر أنبياء بني إسرائيل، وسوف يكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجله، فأوحى الله إليه أن لا تحزن ولا تبك عليهم، فسأل ربه من سيسلط عليهم؟ فقال: عبدة النيران لا يخافون عقابي، ولا يرجون ثوابي، وأمره الحق سبحانه وتعالى بأن يقوم مع الملك ليرشده ويعينه، حتى عظمت الأحداث ونسي بنو إسرائيل ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده، ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا فيها إلا معصية وتمادياً في الشر، وأوحى الله إلى أرمياu: أن ذكر بني إسرائيل بنعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم، فقال أرمياu: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني، فقال الله تعالى: أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن الخلق والأمر كله لي، وإني معك ولن يصلوا إليك أبداً، وإني أبعثك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالتي، فيكون لك أجر من اتبعك ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، انطلق إلى قومك وذكرهم بأنه استبقاكم لصلاح آبائكم يا معشر أبناء الأنبياء، ولكن أحباركم ورهبانكم اتخذوا عبادي خَولاً يتعبدونهم، ويعملون فيهم بغير كتابي، حتى أنسوهم ذكري وسنتي، وقراؤهم وفقهاؤهم يتدرسون ما يتخيرون، وينقادون للملوك فيتابعوهم على البدع التي يبتدعونها في ديني، ويطيعونهم في معصيتي، وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون يخوضون مع الخائصين، ومع ذلك صفحت عنهم، ومددت لهم في العمر، وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون، وأمطرت عليهم السماء وأنبت الأرض.

فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحليم، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتياً، ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة، له عساكر مثل قطع السحاب يعيدون العمران خراباً والقربى وحشاً، ويعيثون في الأرض فساداً قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يحمون، فوعزتي لأعطلن بيوتهم في كتبي وقدسي، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير الدين، ولأبدلن ملوكها بالعز الذل، وبالأمن الخوف، وبالغنى الفقر، ثم لأسومنهم بأنواع العذاب.

إني إنما أكرم من أكرمني فيها، وأهين من هان عليه أمري، ثم لآمرن فلا سماء تمطر، ولا أرض تنبت، وأنزع منهم البركة، ولا أجيبهم إذا دعوني، ولا أعظهم إذا سألوني، ولا أرحمهم إن بكوا.

فقال أرمياu: يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت، أتهلك هذه القرية وما حولها، وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك، يا رب سبحانك تباركت وتعاليت لمقتل هذه الأمة وعذابك إياهم وهم من ولد خليلك، وأمة موسى نجيك، وقوم داود صفيك، فتسلط عليهم عبدة النيران.

قال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يتذكر نعمتي، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين، إلا أن أتداركهم برحمتي. فلما بلغ أرمياu رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وأخذوه فقيدوه وسجنوه، فعند ذلك بعث الله عليهم بختنصر، فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم، كما قال تعالى: )فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً( (الإسراء: الآية 5) واقتحمهم وحكم فيهم بِحكم الجاهلية، وبطش الجبارين، فقتل منهم الثلث وسبى الثلث وترك الشيوخ والعجائز، ثم وطئهم بالخيل، وهدم بيت المقدس، وخرب الحصون والمساجد، وحرق التوراة، وسأل عن دانيال، الذي كان قد كتب له الكتاب فوجده قد مات، وأخرج أهله، بيته الكتاب إليه وكان فيهم دانيال بن حزقيل خلفاً من دانيال الأكبر.

ودخل بختنصر بجنوده بيت المقدس، ووطئ الشام كلها، وقاتل بني إسرائيل حتى أفناهم، ثم عاد لبلاده أرض بابل ومعه من الأموال والسبايا الكثير، فلما فعل ما فعل، قيل له كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم ويصفك وخبرك لهم، فكذبوه وضربوه وحبسوه، فأمر بختنصر بإخراج أرمياu من السجن، وتأكد مما سمعه عنه، وسأله من أين علمه هذا؟ قال أرمياu: أرسلني الله إليهم فكذبوني، فرد بختنصر بأنهم بئس القوم قوم، كذبوا نبيهم، وكذبوا رسالة ربهم، وسأله أن يلحق به فيكرمه ويواسيه لما أصابه، وإن شاء أن يبقى في بلاده فيعطيه الأمان بذلك، فرد أرمياu بأنه لم يزل في أمان الله منذ خُلق ولم يخرج من هذا الأمان، ولأن من بني إسرائيل خرجوا من أمان ربهم فكان ضعفهم وقدرتك عليهم، فتركه بختنصر، واستقر أرمياu مكانه بأرض إيليا. واجتمع إلى أرمياu من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، وقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى الله عز وجل مما صنعناه، فادع الله أن يقبل توبتنا، فدعا أرمياu ربه، فأوحى إليه إنه غير فاعل، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك في هذه البلدة، فأخبرهم بما أمره الله تعالى فأبوا أن يقيموا. وقد تفرقت بني إسرائيل في البلاد، فنزلت طائفة منهم الحجاز، وطائفة يثرب وادي العزى، وذهب شرذمة منهم إلى مصر، فكتب بختنصر إلى ملكها يطلب منه رد هذه الشرذمة، فأبى عليه، فركب في جيشه فقاتله وقهره، وغلبه، وسبى ذراريهم، ثم ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى هذه الناحية، ثم انصرف بسبي كثير من أرض العرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والأردن وفي السبي دانيال.

وعن سعيد بن المسيب أن بختنصر لما قدم دمشق وجد بها دماً يغلي على قمامة، فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا وكلما وضع عليه القمامة ظهر، فقال: نقتل على ذلك سبعين ألفاً من بني إسرائيل وغيرهم فسكن، وهذا دم نبي سابق لهذه الفترة أو دم لبعض الصالحين.

ثالثاً: دانيال u

دانيالu نبي من أنبياء بني إسرائيل، كان شاباً عندما أخذه بختنصر ضمن آلاف الأسرى الذين أخذهم من بني إسرائيل إلى بابل، ووضعهم في سجونه، ولكن صاحب السجن أحب دانيال u وأُعجب به لحسن سمته وهدايته، وفي تلك الفترة رأى بختنصر رؤيا عجيبة أفزعته، فسأل عنها السحرة والكهنة فعجزوا عن تفسيرها، وبلغ ذلك دانيالu فطلب من صاحب السجن أن يدل بختنصر عليه لكي يعبرها له، فلما علم بختنصر بذلك أمر بإحضاره، وكعادة القوم في حينها ألا يقف أحد بين يدي بختنصر إلا سجد له، فأتوا بدانيال u فقام بين يديه ولم يسجد له، فقال له ما الذي منعك من السجود لي؟ فقال له بأن لي رباً آتاني العلم والحكمة، وأمرني ألا أسجد إلا له، فخشيت إن سجدت لغيره أن ينزع مني العلم الذي آتاني ويهلكني، فأُعجب به وقال: نِعم ما فعلت، وقد أحسنت حيث وفيت بعهده وأجللت له، وسأله عن الرؤيا، وهل لك في تعبيرها، قال: نعم، ثم قص الرؤيا على بختنصر وفسرها له، وكان ذلك في زمن وجود النبي أرمياu في بني إسرائيل، وذلك لأن بختنصر إنما غشي بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم إشعيا بن أمصياu وفي عهد أرمياu وهي الواقعة الأولى التي قال الله تعالى فيها: )فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ( (الإسراء: الآية 5)، وهي تعني بختنصر وجنوده.

فلما عبر دانيالu لبختنصر رؤياه وأخبره بها أكرمه وأكرم أصحابه، وجعله مستشاره في أموره حتى كان أكرم الناس إليه وأحبهم إليه، فحسده المجوس على ذلك، ووشوا به وبأصحابه إلى بختنصر بأنه وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك، فدعاهم وسألهم، فقالو: أجل إن لنا رباً نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، فألقاهم جميعاً في جُب كان به أسدان جائعان، وكانت المفاجأة أنه علم أن السباع لم تأكلهم بل تفترش ذراعيها لدانيالu وتلحسه، فأخرجه بختنصر وأكرمه، وعظم قدره عنده، ولما مات بختنصر، استخلف ابنه فلسطاس على عرشه الذي بدأ في الانهيار بعد والده.

ولما فتح الله قستر على يد أبي موسى الأشعري في خلافة عمر بن الخطابt، قتل أبو موسى ملكها سابور وأخذ المدينة، وغنم بما فيها من أموال السابور ملكها، وبينما هو يبحث في إحدى خزائنها إذ وجد حوضاً كبيراً (تابوتاً) فيه رجل ميت، وقد كُفن بأكفان قيمة، ورأسه مكشوف وعنده مصحف، وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فتعجب أبو موسى من طوله، وكل من كان معه، فسأل أبو موسى أهل المدينة عن هذا الرجل، فقالوا إنه كان بالعراق، وكان أهل العراق إذا حُبس عنهم المطر استسقوا به فيسقون، فأصابنا من قحط المطر ما كان يصيب أهل العراق، فأرسلنا إليهم فسألناهم أن يدفعوه إلينا حتى نستسقي فأبوا علينا، فرهنا عندهم خمسين رجلاً وحملناه إلى بلدنا هذا ثم استسقينا به فسقينا، فرأينا من الحكمة ألا نرده إليهم، فلم يزل مقيماً عندنا إلى أن أدركه الموت منذ ثمانمائة سنة تقريباً وهذه قصته وحاله.

كتب أبو موسى الأشعري إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطابt يخبره بما فتح الله عليه من مدينة السوس وما حولها، وبين له في كتابه أمر ذلك الرجل الميت، وأن الذي وجده يُقال له حرقوص. فلما علم عمرt بما في الكتاب، دعا أكابر أصحاب رسولr وسألهم عن ذلك، فقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إن هذا الرجل هو دانيال الحكيم، وهو نبي غير مرسل، كان في قديم الزمان مع بختنصر ومن كان بعده من الملوك، وجعل يحدث عمر عن قصة دانيالu من أولها إلى أخرها حتى وفاته. وعن حديث رسول اللهu الذي قال فيه: )إن دانيال دعا ربه عز وجل أن تدفنه أمة محمد( وحديثه أيضاً الذي قال فيه: )من دل على دانيال فبشره بالجنة(، فكتب إليه عمر أن ادفنه في مكان لا يعلمه أحد، وابعث إلينا المصحف، وأما الودك[2] فابعث إلينا منه، ومر من قبلك المسلمين يستشفون به، وأقسم الدراهم فيهم، وأما الخاتم فقد نلفلناكه[3].

ولما وصل خطاب عمر t إلى أبي موسى، وعرف أنه دانيالu نبي الله عانقه وقبله، وبشر حرقوص بالجنة. ثم أمر أهل السوس بأن يكنوا نهرهم إلى موقع آخر، ثم أمر بدانيالu فكُفن من جديد، ثم صلى عليه وجميع من كان معه من المسلمين، ثم أمر بقبر حفره في وسط النهر، ثم دفنه، وأجرى عليه النهر، وهو ما عليه الآن.

وروى ابن أبي الدنيا عن عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: رأيت في يد ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري خاتماً نقش فصه أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل، قال أبو بردة: وهذا خاتم ذلك الرجل الميت الذي ترحم أهل البلد، إنه دانيالu، أخذه أبو موسى يوم دفنه. قال أبو بردة: فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم، فقالوا: إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه لما أسقطه في الأجمة، وبها الأسد ولبؤته وجدهما يلحسانه ولم يضراه، وبذلك نجاه الله حتى بلغ ما بلغ، فنقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتم لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.

رابعاً: نبي الله العزير u

هو عزير بن جروه بن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عرى بن تقى بن أسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران، ويُقال له عزير بن سروخا من أنبياء بني إسرائيل.

عن ابن عباس أن عزيراً كان ممن سباه بختنصر، وهو غلام حدث، إلى بابل ولكنه نجا بعد ذلك، وارتحل إلى بيت المقدس، فلما بلغ أربعين سنة أعطاه الله الحكمة فلم يكن أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه.

قال تعالى: }أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىَ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىَ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إِلَىَ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ (سورة البقرة: الآية 259).

كان عزيرu يحفظ التوراة بل هو رابع الأربعة الذين يحفظون التوراة، وهم موسى، ويوشع بن نون، والعزير، وعيسى عليهم السلام.

والقصة كما نرى في النص القرآني أن عزيراً خرج ذات يوم إلى ضيعة يتعهدها، فلما انصرف إلى مكان مُقفر حين كانت الظهيرة وأصابه الحر، ودخل المكان بحماره ومتاعه، وجلس في ظل هذا المكان واعتصر بعض العنب الذي كان معه في قصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه، فألقاه في تلك القصعة؛ ليبتل فيأكله، ثم استلقى على ظهره مستنداً رجليه إلى الحائط، وبينما هو كذلك إذ رأى سقف تلك البيوت، ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها ورأى عظاماً بالية، فقال: }أَنّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا{ (سورة البقرة: الآية 259)، فهو لم يشك في قدرة الله على إحيائها، ولكنه يتعجب ويتساءل عن كيفية ذلك الإحياء.

ولما أراد الله أن يجعل الدليل إيمانياً جعله في ذات السائل نفسه وليس في القرية، قال تعالى: } فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ{ (سورة البقرة: الآية 259)، فقد دار حوار الحق سبحانه وتعالى وبين العزير، وكان في رد العزير أنه لبث يوماً أو بعض يوم، وهو صادق لأنه لم ير شيئاً قد تغير وخاصة طعامه وشرابه لم يتغير طعمه ليحكم بمقدار التغير، ولكن الحق سبحانه أخبره بأنه مكث مائة عام، وقال له }وَانْظُرْ إِلَىَ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنّاسِ{ (سورة البقرة: الآية 259).

وهنا يبين الحق له أن هناك شيئاً عجيباً قد حدث إنه الآية (والآية تعني شيئاً عجيباً)، حيث أراد الله له أن ينظر العزير إلى الحمار فأن يجد عظامه مبعثرة، وهذا يتطلب فترة زمنية طويلة لا يتسع لها إلا مائة عام، فكأن نظرة العزير إلى الحمار تجعله يصدق أنه لبث مائة عام، ونظرته إلى الطعام تجعله يصدق أنه لبث يوماً أو بعض يوم.

وبهذا يبين الحق لنا أنه هو القابض الباسط، فهو سبحانه الذي يقبض الزمن في حق شيء، ويبسطه في شيء آخر، والشيئان متناظران معاً، وهذا القبض والبسط معاً في آن، لا يقدر عليه إلا الله الخالق سبحانه، وهذا تفسير لقوله: }وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنّاسِ {(سورة البقرة: 259)، فعزيرu أصبح معجزة حية على صدق البعث وقيامة الأموات. فأراه الله العظام كيف ينشزها بقدرته جل وعلا، ثم يكسوها لحماً، فهو قد رأى بعينيه عملية الإحياء، فوجد العزيرu الحياة في نفسه ورآها في الحمار.

وبعد هذه الواقعة تذكر العزيرu قريته التي خرج منها، وأراد أن يعود إليها. فلما عاد إلى القرية وجد أمرها قد تغير تغيراً يتناسب مع مرور مائة عام، حيث أنكره الناس وأنكر الناس، وأنكر منزله فانطلق على وهم منه حتى أتِى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له، وقد خرج عنهم العزيرu وهي بنت عشرين سنة، كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر، وذهب بصرها، وأصبحت قعيدة، فلما دخل العزيرu عليها وقال: أنا العزير، قالت الأمة: ذهب العزير من مائة عام، ولا ندري أين ذهب، ولم يعد، فكرر عليها القول: أنا العزير، قالت الأمة إن للعزير علامة وهي أنه كان مستجاب الدعوة، فإن كنت حقاً العزير فادع الله أن يرد بصري، وأن يخرجني من قعودي هذا، فالأمة لا تنسى نفسها, والعزير أراد أن يؤكد لها أنه هو، فدعا الله برد بصرها وشفائها من القعود فبرئت. فلما نظرت إليه وجدته هو العزير، فهبت إلى قومها مُعلنة أن العزير قد عاد.

دُهش الناس وظنوا أنها قد جُنت، ثم اجتمع مجلس الحكماء والعلماء، وكان فيهم ابن العزير، وقد بلغ من العمر مائة عام وثمانية عشر عاماً، وبني بنيه شيوخ، وحضر العزير وقص قصته عليهم، وبينما هو يحكي قصته تذكر ابنه أن أباه كان له علامة وهي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فلما انتهى العزير من حديثه طلب منه ابنه رؤية كتفه، فلما وجدها علم أنه أباه. هكذا عاد العزيرu إلى قريته وأولاده، ووجدهم شيوخاً وعجائز، فيما هو أسود اللحية والرأس. قال له الحكماء: أن العزير كان نبياً، وكان يحفظ التوراة في صدره، وقد ضاعت التوراة في حرب بختنصر بعدما أحرقها، وقتل العلماء والقراء فلم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال، فلو كنت تحفظ التوراة لصدقنا أنك العزير.

وهنا أدرك العزيرu أنه لم يبق من بني إسرائيل من يحفظ التوراة وأن تواتر التوراة انقطع، وكان عزيرu يعرف أين خُبئت التوراة حماية لها من الأعداء. فجلس العزيرu ونسخ لهم التوراة كما يحفظها، ثم خرج معهم إلى مكان التوراة التي دُفنت فأخرجوها ليضاهِئوها بما كتبه لهم، وفعلاً لم يجدوا أي اختلاف بينهما. بل كان استخراج التوراة وقد عَفِن ورقها وتحلل علامة أخرى للعزير على أنه مكث الأعوام المائة التي أماته الله فيها ثم بعثه.

لما فشت أخبار معجزة عزير في بني إسرائيل، وحملت المعجزة معها الفتنة الشديدة لقومه، ادعى بنو إسرائيل أن عزيراً ابن لله، وذلك قوله تعالى: }وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ{ (سورة التوبة: الآية 30)، مقارنين بذلك بين عزير وموسى عليهما السلام، متعللين بأن عزيراً جاء بالتوراة محفوظة من غير كتاب، بينما أتى موسىu بالتوراة في الألواح. هكذا تتوالى أخطاء اليهود على مر الزمان منذ نبيهم الأول موسىu عندما تركهم لملاقاة ربه، فعبدوا العجل، واليوم نسبوا نبيهم العزير ابناً لله عز وجل، سبحانه وتعالى علواً كبيراً على ذلك. قال تعالى: }مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ{ (سورة مريم: الآية 35).

خامساً: نبي الله زكرياu

هو زكريا بن برخيا بن دام بن مُسلم بن صدوق بن بحسان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديق بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن إيتا بن رحبعم بن سليمان بن داود، أبو يحيىu، والذي كان معاصراً لماثان جد مريم عليها السلام. كما كان أباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء، فكان مثلهم في الكرامة التي أكرمهم بها من النبوة والوحي. قال تعالى: }وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ{ ( سورة الأنعام: الآية 85), وقد ورد ذكر زكرياu 6 مرات في القرآن الكريم في 4 صور.(اُنظر خريطة بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام)

كان ذكريا u نجاراًُ يعمل بيده ويأكل من كسبها، كما كان داودu يأكل من كسب يده. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r }كان زكريا نجاراً{ (أخرجه مُسلم في الفضائل 169، وأحمد 296، وابن ماجة 2151)، كما كان زكرياu من التمهيد الرباني لإعداد مريم طبقاً لقول الحق }إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاَءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ (آل عمران: الآية 37)، حيث عرف طلاقة قدرة الله.

وقصة مريم عليها السلام أن زكريا وعمران بن ماثان كانا متزوجين بأختين إحداهما إيشاع بنت فاقود زوجة زكرياu، والأخرى حنة زوجة عمران، وكانت حنة قد أمسك عنها الولد حتى آيست وعجزت، رغم أنهم أهل بيت من الله بمكان، وبينما هي في ظل شجرة إذ نظرت طائراً يطعم فرخه، فتحركت عند ذلك شهوتها للولد، فدعت الله تعالى ونذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً لبيت المقدس، أي خالصاً لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، فهي تريده محرراً وأن يكون ذكراً لأن خدم البيت كانوا من الذكور، ويُعَدّ نذرها هذا زيادة قربى لله تعالى، وذلك قوله تعالى }رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ{ (آل عمران: الآية 35).

حملت بمريم عليها السلام وهي لا تعلم ما في بطنها، رغم نذرها بذلك لله تعالى بأن يكون خادماً لله ولبيته. وكانت تعني بالمحرر هو من ينذر للمعبد حيث يقوم عليه ويخدمه ولا يبرحه، حتى يبلغ الحُلم، فإذا بلغ خُير بين أن يقيم وبين أن يذهب حيث يشاء، ولم يكن التحرير إلا للغلمان فقط، ثم توفي زوجها عمران وهي حامل.

وعمران هذا كرمه الله تعالى بأن اصطفاه هو وآله مع آدم ونوح وآل إبراهيم لعلم الله الأزلي بأنهم سيكونون أخياراً حتى يكلفون وذلك لقوله تعالى }إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم{ (آل عمران: الآيتان 33،34) وهذا تكريم من الله تعالى لهم على سائر أهل الأرض فجعلها ذرية الهداية والقيم والتي منها سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمدr، فهذا هو عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود وأبو مريم البتول أم عيسىu.

فلما وضعت حنة زوجة عمران وليدها، وجدتها أنثى، فاعتذرت لربها قائلة }رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىَ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالأُنْثَىَ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ{ (آل عمران: الآية 36)، فهي تتحسر هنا لأن الغاية من نذرها لم تتحقق لأن المولود جاء أنثى، فقد لا تصلح لما نذرته حسب علمها، ولكن كرم الله كان واسعاً وعظيماً، إذ جعل هذه المولودة وابنها آية للعالمين، فأعطاها ما هو أكبر من خدمة البيت وهو خدمة العقيدة، بل وجعل فيها آية ليست موجودة في غيرها وهي آية طلاقة القدرة الإلهية. بل وسمتها مريم وهي تعني العابدة أو الخادمة، رجاءً وتفاؤلاً أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها، كما طلبت من الله أن يحصنها ويمنعها هي وذريتها من الشيطان الرجيم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ }مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلاَّ مَرْيَمَ{ (البخاري: 4184) (مسلم: 4363)، فلما ولدت أنبتها الله نباتاً حسناً، بل وتنافس الأحبار في من يكفلها لأنها بنت إمامهم، ففاز بها زكريا u لأن ذلك من التمهيد الرباني لإعداد مريم طبقاً لقول الحق }إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاَءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ (آل عمران: الآية 37)، حيث عرفت طلاقة قدرة الله، ثم هي عرفت بمكانة زكريا ويحيى عليهما السلام، وتأكيد الحق سبحانه لمريم بالاصطفاء لها على نساء العالمين، وما في ذلك من إيناس لها، قال تعالى: }وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىَ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ {(آل عمران: الآية 42).

بدأت الفرصة بعدما تسابق القوم على كفالة مريم ابنة عمران وقيامهم على خدمتها، وكانوا تسعة عشر رجلاً، حيث انطلقوا إلى نهر الأردن، وألقوا بأقلامهم، وكان اختيار الله تعالى زكريا u لهذه المهمة في قوله تعالى }وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا{ (آل عمران: الآية 37)، فاستمر قلمه طافياً، وهو في الوقت نفسه رأس الأحبار ورئيسهم وزوج خالتها، وذلك لقوله تعالى: }وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ{(آل عمران: الآية 44).

ضم زكرياu مريم إلى خالتها، واسترضع لها حتى إذا نشأت، وبلغت مبلغ النساء، بنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسط المحراب، لا يرقى إليها إلا بسُلم، فلم يصعد إليها أحد غيره. فلما كان يدخل ليأتيها بالطعام كان يجد عندها رزقاً لم يأت هو به، فكانت فاكهة في غير موسمها، ومن غير المكان الذي هي به، فيتعجب ويسألها من أين لك هذا الرزق؟ فتخبره بأنه من عند الله، كما قال الله تعالى: }كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَامَرْيَمُ أَنّىَ لَكِ هَـَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاَءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ (آل عمران: الآية 37)، فكانت هذه الإشارة مدعاة للتأمل والتساؤل من زكرياu، وكيف أنه تغافل هذا الأمر، وأن الله يرزق من دون سبب لأنه سبحانه وتعالى مسبب الأسباب، وأيقظت فيه هذه القضية الإيمانية، بل طلب من ربه أن يرزقه بما يرجوه لنفسه، قال تعالى: } هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ{ (آل عمران: الآية 38)، وكان ذلك لتصديق زكرياu لمريم في قولها، لأنه رأى الأشياء التي عندها ليست من بيئته أو زمانه وأنها كثيرة، ولهذا طلب من الله ذرية طيبة، لخوفه من تصرف بني إسرائيل بعده بما لا يوافق شرع الله، وحتى تكون وعاءً لإرث النبوة والمناهج والقيم، أي تكون سليمة في الخلق وفي الدين، كما قال تعالى: } يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً{ (مريم: الآية 6)، طلب هذه الهبة من الله رغم علمه بكبر سنه 120 سنة، وأن امرأته عاقر بنت 98 سنة، ولكن علمه وإيمانه بقدرة الله هي التي شجعته، فجاءه الرد من السماء في حينها بالبشرى بيحيى، فكان الحمل حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته, قال تعالى: } فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَـىَ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ{ (آل عمران: الآية 39)، فبشره الحق بأنه سيعطيه ولداً، وسماه، وحدد مهمته، وأنه سيكون مصدقاً بكلمة من الله، لأنه أول من آمن بالمسيح وحدد صفاته، وأنه سيكون سيداً وممنوعاً من كل ما حرم الله (قمة الغرائز وهي الشهوة)، وسيكون نبياً، وأسوة لغيره في اتباع منهج الرسول الذي في عصره.

والأمر الغريب أن زكرياu طلب من الله، وأجابه الحق، فتعجب زكرياu من هذه البشرى بأنه كيف يكون له غلام وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر، وهذا دليل على تغلب النفس البشرية وأيضاً لتجسيد طلاقة القدرة لله عند من يستمع للقصة، قال تعالى: }قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاَءُ{(آل عمران: الآية40)، أي هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.

حينما بشر الله زكرياu بالولد، وسماه، وأبلغه بصفاته، تحركت في داخله طبيعة الشكر لله على هذه النعمة منذ أول لحظة لحدوثها، لأن العلم في هذه الأمور لا يكون إلا لله، فسأل زكرياu ربه } َالَ رَبّ اجْعَلْ لّيَ ءَايَةً { (آل عمران: الآية 41)، أي علامة على تمام الأمر، وأن المولود وُجد في الرحم فعلاً، فهو يريد أن يعيش في نطاق الشكر لله من أول الإخصاب، وهنا قال الله تعالى له: }قَالَ ءَايَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَاذْكُر رّبّكَ كَثِيراً وَسَبّحْ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ{(آل عمران: الآية 41)، والمقصود بعدم الكلام للناس هو أن يجد نفسه عاجزاً عن الكلام مع الناس في شؤونهم فهنا يعلم أن الحمل قد بدأ بالفعل، ومن ثَم، يكلم الناس بالرمز (الإشارة) ويشكر الله ما يشاء لأن الله أقدره على التسبيح باللسان ومنعه من الكلام، وبهذا جعله الحق يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شاكراً، بل وجعل كل وقته ذكراً، ولم يشغله بكلام الناس (جعله قادراً على الذكر وغير قادر على كلام الناس).

وقد قتل اليهود زكريا بن برخياu بين الهيكل والمذبح بعد ذلك بفترة.

سادساً: نبي الله يحيى u

هو يحيى بن زكريا بن برخيا بن دام بن مُسلم بن صدوق بسحان بن داود بن سليمان بن صديق بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن إيتا بن رحبعم بن سليمان بن داود، من سبط لاوي.

فهو يحيىu الذي لم يجعل الله له من قبل شبيهاً ولا مثيلاً لقوله تعالى: } يَازَكَرِيّا إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىَ لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً{ (سورة مريم: الآية 7)، وقد ذُكر اسمه في القرآن الكريم خمس مرات في أربع سور، كما كان له أسماء أخرى عندهم، وهي (يوحنا المعمدان في الأناجيل، ويحيى المغتسل). (اُنظر خريطة بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام)

وُلِد يحيى u قبل الميلاد، وهو يكبر عيسىu بست شهور، وكان يحيىu مثالاً للناسك الصارم الذي لا يحابي ولا يتردد، فينذر كثيراً ويبشر قليلاً، بعدما وُلد لشيخين كبيرين، وبعد يأس وكلاهما من سلالة الكهانة أبناء هارونu، وهما زكرياu وإيشاع بنت فاقود، فكان عطاء الله لهما يحيىu وأنه سيخرج ممتلئاً بالروح القدس، ويرد بني إسرائيل إلى إلههم، قال تعالى: } أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَـىَ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ{ (سورة آل عمران: الآية 39)، ولهذا نشأ الطفل منذراً للبتولة كما وصفه القرآن بالحصور. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللهr }الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام{ (أحمد: 3/3، والترمذي: 5/3868، وأبو يعلي: 1/1166). (اُنظر صورة مقام يحيى u)

قيل في تسمية يحيىu أقوال كثيرة، أبرزها هو أنه استشهد، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، كما أسماه الله بالسيد، وهو الفقيه العالم الذي يطيع ربه، ذو الخلق الحسن، أما الحصور، فهو الذي يقدر، ولكنه يحصر نفسه عن النساء (الشهوات)، وهو الذي أعطاه الله حناناً من لدنه، وحتى أنه كان يحب كل الكائنات ويرحمها، فكان نموذجاً عظيماً في النسك والزهد والتعبد.

ومن نعم الله عليه أنه رزقه الإقبال على معرفة الشريعة التي علمها من أبويه، ولهذا كان كثير العزلة شديداً على نفسه في تهجده ونُسكه، قال تعالى: } يَايَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ (12) وَحَنَاناً مّن لّدُنّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً { (سورة مريم: الآيتان 12، 13)، فقد درس الكُتب بإحكام، وتمكن من القضاء بين الناس وهو صبي، فكان أعلم الناس، وأشدهم كلمة في زمانه. وكان من صفاته تحنثه على الناس، ولا سيما أبويه وهو محبتهما والشفقة عليهما وبرهما، وطهارة خلقه وسلامته من النقائص والرذائل، وبره بوالديه، وطاعتهما، وترك عقوقهما، قال تعالى: }وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً {(سورة مريم: الآية 14)، ولهذا كان فضل الله عليه عظيماً عندما حدد الحق السلام عليه من الله في ثلاثة أوقات في حياة الإنسان، حيث ينتقل في كل منها من عالم إلى آخر، فقال تعالى: }وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً {(سورة مريم: الآية 15). كما أنه كان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، ويغسلهم في نهر الأردن ليغسلوا أنفسهم بعدها بالتوبة، ثم يدعو الله لهم. فكان محبوباً من الجميع، وأكرمه الله بالنبوة قبل الثلاثين لقوله تعالى: }وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً {(سورة مريم: الآية 12).

ومن صفاته الجسميةu أنه كان حسن الوجه والصورة، لين الجناح قليل الشعر، قصير الأصابع، طويل الأنف، مقرون الحاجبين، رقيق الصوت، كثير الغيرة، قوياً في طاعة الله، فقد ساد الناس في عبادة الله وطاعته.

كان يحيىu لا ينتسب للطوائف اليهودية التي كانت في عصر الميلاد من الصدوقيين، والفريسيين، والآسيين، والغلاة السامريين، فهو من الناس الذين يئسوا من جميع الطوائف والنحل، واعتزلوا الدنيا وعاشوا في الصوامع بمعزل عن العمران، وهم يتطهرون بالماء ويتزكون بالرياضة والتلاوة، فكانت هذه الطائفة تُسمي نفسها "النذريين" أو "المنذورين" الذين وهبوا أنفسهم، هم وأهلوهم، لحياة القداسة والتبشير باليوم الموعود، فكانوا منفردين لا ينتسبون لجماعة واحدة، بل هم يحرمون شرب الخمر، ويطلقون شعورهم، وهم يكسبون ثقة الشعب، ولا يغضبون سلطان الدولة، وقد تكاثروا كثيراً قبل مولد السيد المسيحu لأنهم كانوا ينتظرونه.

هكذا كان يحيىu على رأس هذه الطائفة وعلماً من أعلامها الموعودين، بل لقد تعمد السيد المسيحu على يديه وأخذ العهد منه، فكانوا ذا بال وقوة في عصر الميلاد، ويعتبرون أنفسهم رواد للدعوة إلى المسيح الموعود. ومن أعمال هذه الطائفة في فلسطين التي شهدت هذا العصر أنها تُطيب المرضى بالعلاج الروحاني، وتعتمد على نور الإيمان، وطهارة المعيشة في التطبيب والعلاج. فكان يحيىu من أقوى هؤلاء الرواد، جعل من الاغتسال بالماء رمزاً للتطهر، كما أثار حملة شعواء على بؤر الفساد في زمنه. ولهذا خرج من الميدان شهيداً يجر وراءه جثة ميت بقيد الحياة، بينما أكل الدود جثة هيرودوس الثاني الذي أمر بقتله قبل دفنه.

كان لقاء يحيىu بنهر الأردن عند جاره عيسىu من الجليل، مفرق الطريقين في سيرة المسيح، حيث عمد يحيىu عيسىu، وكان يحيىu أول من آمن بعيسى u وصدقه. عن قتادة أن الحسن قال: (إن يحيى وعيسى التقيا، فقال له عيسى استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر استغفر لي أنت خير مني، فقال له عيسى أنت خير مني، سلمت على نفسي، وسلم الله عليك فُعرف والله فضلهما) (عبدالرازق: 2/6742، أحمد في الزهد: 96، كان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة، فبينما كان يحيى يلبس الوبر كان عيسى يلبس الصوف.). وقد قُتل يحيىu قبل أن يُرفع عيسىu.

لما بعث الله تعالى نبيه يحيىu إلى بني إسرائيل، أمره أن يأمرهم بخمس خصال، وهي أن يعبدوا الله لا شريك له، وأن يخشعوا في صلاتهم، وأن يصوموا لله تقرباً، وأن يتصدقوا على الفقراء، وأن يذكروا الله في كل الأوقات.

عَنِ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ r قَالَ: }إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلام بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ فَقَالَ لَهُ عِيسَى إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ فَقَالَ يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي قَالَ فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَآمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ، وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ{ (أحمد: 16542، الترمذي: 2790).

لم يكن يحيىu يتقي حرجاً من ذي خطيئة أو دنس، فراح ينعي بهذا الصوت القوي الصراخ على الملك هيرودوس الثاني[4] الذي كانت له ابنة أخ بارعة في الجمال، وأراد الملك أن يتزوج منها، كما كانت هذه الرغبة للبنت وأمها، غير أن يحيىu لم يرض عن هذا الزواج لأنه مُحرم، وقد روى ذلك سعيد بن جبير بن عباس فحقدت أمها على يحيىu وعمدت إلى ابنتها حين جلس الملك إلى شرابه، وألبستها ثياباً رقاقاً، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وتتعرض له، فإذا راودها عن نفسها أبت حتى يعطيها ما تسأله، فإذا أعطاها ذلك، سألته أن يأتيها برأس يحيىu في طبق، ففعلت ذلك وجعلت تسقيه وتتعرض له، فلما أخذ منه الشراب مأخذه راودها عن نفسها، فردته حتى يعطيها ما تسأله وهو رأس يحيى u، قال الملك: ويحك اسأليني غير هذا. قالت: ما أسألك إلا هذا، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه على طبق حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم ويقول: لا تحلُ لك، فلما أصبح ورأى الدم يغلي أمر بتراب فأُلقي عليه، ولكن الدم استمر يغلي حتى بعث الله عز وجل بختنصر عليهم عندما قدم الشام، ووجد الدم يغلي فسأل عنه، فجاءته عجوز من بني إسرائيل، وأخبرته بقصة الدم، فألقى الله في قلبه أن يقتل على ذلك الدم ما شاء من بني إسرائيل حتى يسكن.



[1] ابن كثير القرشي، "قصص الأنبياء"، ص 477.

[2] الودك: الدسم، أو دسم اللحم ودهنه الذي يُستخرج منه.

[3] النفل: الهبة.

[4] حاكم فلسطين في هذا العصر.