إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



إبراهيم (خليل الله) عليه الصلاة والسلام

المبحث السابع عشر

نبي الله عيسى بن مريم u

هو عيسى بن مريم ابنة عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وهم من سبط لاوي من نسل نبي الله هارونu، أما آل عمران والد مريم فقال الله فيهم: }إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ (آل عمران: الآيتان 33، 34)، فالحق سبحانه وتعالى اصطفى هذه البيوت على سائر أهل الأرض، وآل عمران هم آل إبراهيم، أما المقصود بالذرية هنا هو ذرية الهداية والقيم. فهو آخر أنبياء الله ورسوله من بني إسرائيل كما أن آخر الأنبياء والرسل من بني الإنسان جميعا هو محمد رسول الله  صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. (اُنظر خريطة بعثة عيسى u)

ذكر اسمه في القران الكريم بلفظ المسيح[1] تارة، وهو لقب له 11مرة, وبلفظ عيسى وهو اسمه العلمي بالعبرية (يشوع) 25 مرة, وبكنيته (ابن مريم) 23 مرة تارة أخرى، في 33 آية.

وقد أمرنا الله بالسلام على نبيه عيسىu يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حياً. أرسله الله إلى بني إسرائيل فهو آخر أنبيائهم، ولأنهم قوم بُهت قتلوا أنبياءهم وكذبوا رسلهم، فأمورهم كلها مادية، ولا يؤمنون بالغيب لدرجة أنهم قالوا لموسىu }لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً{ (سورة البقرة: الآية55)، كما كان تصورهم للأشياء كلها حسياً، حتى الطعام الذي أراده الله تعالى لهم ليريحهم في الدنيا، فأرسل إليهم المن والسلوى غيباً من عنده سبحانه، ومع ذلك تمردوا على الغيب، مع أنه رزق ساقه الله تعالى إليهم، وقالوا لموسىu: }وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا{ (سورة البقرة: الآية 61)، وذلك كله لأنهم لا ثقة لهم في الغيب.

فكان ميلاد نبي الله عيسىu عجيب، حيث دخل الوجود بأمر عجيب، وخرج من الدنيا بأمر عجيب، وأعطاه الله من المعجزات ما هو أعجب، قال عنه سبحانه: }إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ (45) وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ{ (سورة آل عمران: الآيتان 45، 46) وآتاه الله الإنجيل.

وقد وصفه رسول اللهr بأنه }رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ{ (سنن أبي داود: 3766، أحمد: 8902)، وقال فيه أيضاً: }رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ{ (البخاري: 3182).

وقال رسول اللهr: }إِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ وَأَنَا حَيٌّ كَفَيْتُكُمُوهُ وَإِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ بَعْدِي فَإِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ فَيَنْزِلَ نَاحِيَتَهَا وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكَانِ فَيَخْرُجَ إِلَيْهِ شِرَارُ أَهْلِهَا حَتَّى الشَّامِ مَدِينَةٍ بِفِلَسْطِينَ بِبَابِ لُدٍّ وَقَالَ أَبُو داود مَرَّةً حَتَّى يَأْتِيَ فِلَسْطِينَ بَابَ لُدٍّ فَيَنْزِلَ عِيسَىu فَيَقْتُلَهُ ثُمَّ يَمْكُثَ عِيسَىu فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِمَامًا عَدْلاً وَحَكَمًا مُقْسِطًا{ (أحمد: 23327)، هكذا سوف ينزل عيسىu فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم من آل محمدr ويموت، ويدفنه المسلمون.

وهو من الآيات العشر التي ستظهر قبل قيام الساعة، }عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِيُّr عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ مَا تَذَاكَرُونَ قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ قَالَ إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَr وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ{ (مسلم: 5162، أبو داود: 3757)، وذلك لأن عيسى بن مريمu قد رفعه الله إليه حتى لا يقتله بنو إسرائيل، وسوف ينزل آخر الزمان كما قال رسول اللهr }وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ{ (البخاري: 2070، مسلم: 220، الترمذي: 2159، أحمد: 10522)، ثم يقول أبو هُريرة واقرأوا  إن شئتم }وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً{ (سورة النساء: الآية159).

أولاً: الحياة السياسية والدينية والفكرية قبل ظهور السيد المسيحu

دخلت فلسطين في حوزة الدولة الرومانية سنة 56 ق. م، ورغم ذلك لم يستقر الأمر لهذه الدولة للتنازع بين الرومان والفرس لمدة 20 سنة وانتصار كفة الرومان، وتعيينها ملكاً يُسمى هيرود على السامرة والجليل، الذي حاول التقريب بين الفئات من الروم والفرس، وقام ترميم الهيكل، إلا أنه مات مغضوباً عليه من أبنائه الثلاثة بعدما أحرق العديد من الشعب هو وأخته، وقُسمت البلاد بين أبنائه فكانت الجليل مكان ميلاد السيد المسيحu في ملك هيرود الثاني أنتيباس، الذي أصدر أمراً بالإحصاء العام لتحقيق السيادة القيصرية عليهم، واحتسابهم عبيداً لقيصر مع دفع الجزية له، (كان ذلك سبباً لتدبير مكيدة للسيد المسيح ليسألوه أمام جمهور الشعب عن أداء الجزية هل تجوز أو لا تجوز، فكان جوابه "أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله")، وبهذا كان اليهودي يؤدي ضريبتين إحداهما للهيكل والأخرى للدولة، فهو عبء شديد على الفقراء، بينما كان الجباة أو العشارون يأخذون لأنفسهم شيئاً غير الذي يسلمونه للملتزم، والملتزم يأخذ شيئاً غير الذي يسلمه لخزانة الدولة، ما جعل طائفة العشارين بغيضة إلى الشعب، وقد أنكر الشعب ذلك على السيد المسيح، لأنه كان يخاطب العشارين ويدخل بيوتهم.

كانت الطوائف اليهودية في عصر الميلاد: الصدوقيين، والفريسيين، والآسيين، والغلاة السامريين، والنذريين.

1. الصدوقيين كانوا يتولون الكهانة منذ عهد داود وسليمان عليهما السلام، فهم الأغنياء، وكتُبهُم لا تذكر البعث، بل كانوا أشد الناس عداوة للسيد المسيحu فهم لا يؤمنون بالروح أو الملائكة أو القيامة.

2. الفريسيون، أقوى من الصديقيين في العدد وشيوع المبادئ، وحسن السمعة، فهم يمثلون عامة الشعب، بل كانوا يثورون على السلطان والهيكل وعلى البدع الأجنبية، ثورتهم الأولى عام 168 ق. م، فهم متدينون مسامحون.

3. الآسيون أو الآسيتيون، تساوي الطوائف السابقة في العدد، ويعيشون في جنوب فلسطين، مستقلين عن الهيكل في شعائرهم وعبادتهم، فهم نباتيون لا يذبحون الحيوانات، وهم يتطهرون من الحدث، ويصلون عند الفجر، ولا يعملون يوم السبت، ويحترفون الزراعة والحرف اليدوية، وهم مؤمنون بالقيامة وينتظرون المسيح المُخلِّص، وغلاتهم كانوا في الجليل، بل لقد رفضوا الإحصاء من الحاكم السوري؛ حتى لا يكونوا عبيداً لقيصر عام 7 ق.م.

4. السامريين، خليط من اليهود والآشوريين، أغلبهم من سبايا بابل وعادوا لفلسطين، بنوا لهم هيكلاً خاصاً في بلدهم يتعبدون فيه ويحجون إليه، بخلاف هيكل بيت المقدس لمدة 200 سنة ق. م، ثم هدمه الكهان وبعدهم الرومان بعد ثورة السامريين في القرن الخامس الميلادي، وأقيم محله مدينة نابلس الحالية بفلسطين، ولهم شأن في فكرة الخلاص، وهم يُنسبون إلى يعقوب ويدعون أنهم، دون غيرهم، الجديرون باسم (الإسرائيلي).

هكذا بدأ عصر الميلاد وسلطان الهيكل يتداعى، وكانت وظائف الكهانة فيه موقوفة على سلالة هارون فقط، فكان منهم جماعة يسجلون الأسفار الدينية (جماعة الكتبة)، أو فقهاء الدين وهم من الفريسيين، بل كان الكثير من الكهان مشتركون في صناعة الكهانة، ولكنهم لا يعملون بالهيكل.

ولما ولد السيد المسيحu كانت وظائف الهيكل مصفاة في المجمع المقدس "السنهدريين" بعدد 71 عضواً ويرأسهم أحد الصدوقيين، يتألف المجلس المخصوص من 23 منهم، ويتصل أعضاؤه برجال الدولة، وهو في النهاية منفذ لقرارات الحاكم الروماني.

في هذا الوقت رُفعت القيصرية إلى مقام الربوبية والعبادة، فخلع على القيصر لقب إله، وقُرِّرت عبادته مع الإله.

ورغم هذا فلم تحقق الدولة الرومانية سيادة دينية كما جرى في أطوار التاريخ السابق، بل حدث النقيض، فلقد غلبت عقائد الشرق على روما وأتباعها، فكان الشرق يحظى بسحر عظيم في نفوسهم لأنه مهبط الرسالات، بل كان الكهنة في الغرب يحلقون رؤوسهم محاكاة للكهنة المصريين، وخرجت من مصر نحلة قوية هي نحلة المتنطسين على مقربة من الإسكندرية، ويُعَدّ شيوع هذه النحل علامة على طلب الاعتقاد الصحيح، وإحساس المخلصين المستعدين للإيمان بما يحيط بهم من الخواء في جو التقاليد والمعتقدات.

بل لقد بدأ في هذا العصر ترجمة التوراة العبرانية إلى اللغة اليونانية في القرن الثاني قبل الميلاد، ثم كانت في عصر الميلاد اللغة الآرامية هي اللغة التي بشر بها المسيحu تلاميذه. وكانت اللغة اليونانية هي لغة الأناجيل، والسريانية هي لغة التوراة والإنجيل معاً.

أما المذاهب الفكرية التي كانت مشهورة فهي الفيثاغورية، والأبيقورية، والرواقية، وكانت جميعها تتلاقى في غاية واحدة هي طلب السكينة والراحة، وقد نشأت جميع هذه المذاهب بين قبرص وآسيا الصغرى. بينما كانت الفيثاغورية تؤمن بتناسخ الأرواح، وقيل عنهم إنهم لهم أغراض سياسية، ومتآمرون على الدولة، كان المذهب الرواقي يعتمد الصبر على الشدائد والعفة عن الشهوات، لأنهم كانوا يؤمنون بأن الوجود كله له أصل واحد، ولذا تقاسم المذهب الرواقي والأبيقوري أفكار المُعدمين والعامة في فلسطين.

وكانت النتيجة لهذا الجو السيئ أن ساءت العلاقة بين طوائف الأمة، واتسم العصر كله بالعصبية بين الحاكم والمحكوم، وأصبح أبناء الأمة الواحدة طوائف تشيع فيها التهم، وتعمها البغضاء، فجاءت دعوة المسيحu في أوانها، شعارها تيسير التوبة للخاطئين، وتمهيد سبل الرجاء في الغفران، فهي رسالة قائمة على اجتناب التشريع، واجتناب التعرض له بالإبطال أو الإبدال، فكان همه هو الإصلاح النفسي، بتغيير البواعث لا تغيير المقادير. وقد مضى السيد المسيحu في دعوته زمناً ولم يذكر لتلاميذه أنه هو المسيح الموعود.

ثانياً: ميلاد المسيحu

رأينا سابقاً اللفتة الطيبة من مريم العذراء العابدة في بيت الله تعالى إلى زكرياu بقوله له: }إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاَءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { (آل عمران: الآية 37)، حينما كان الله يأتيها بالرزق غير الذي يجئ به زكرياu من غير أسباب، فكأن الله أراد للتجربة أن تكون من ذاتها لذاتها، لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة وبشرفها، فكان لابد أن تعلم مسبقاً أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وبدون أسباب، فإن جاءت بولد من غير أب، فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، واستفاد من ذلك زكرياu في طلبه أن يهبه الله ولداً، ووهبه الله غلاماً بدون أسباب من خصوبته في التلقيح ومن تلقي امرأته.

تركت السيدة مريم العذراء أهلها والناس، واتخذت حجاباًَ يسترها عمن يمر عليها في هذا المكان، حتى إنها عزلت نفسها عن دنيا الناس، واكتفت بأنسها بالحق سبحانه وتعالى تعبده في ذلك المكان من ناحية الشرق لبيت المقدس، مدينة بيت لحم لتفاؤل قومها بالنور حين يأتي من المشرق. فأرسل الله أمين الوحي جبريلu فتمثل لها في صورة إنسان كامل لأنه لا يمكن أن يلتقي الملك بملكيته مع البشر ببشريته، وذلك من أجل الإيناس لأن الناس لم يروا الملائكة، وليثبت الحق أن مريم طاهرة عفيفة شريفة، بدليل أنها لما رأت هذا الإنسان الوسيم السوي التجأت إلى الله سبحانه وتعالى مخافة أن يريدها هذا البشر لنفسه وأن يعتدي عليها وهي امرأة ضعيفة، فاستعاذت بالله، بل خوفته بالله عز وجل، فقالت له: إن كنت تقياً فابتعد عني، بل كان عندها الأمل أن تحفظها رحمة الله، وتقيها من هذا الرجل، فقال لها: أنا لست قادماً من تلقاء نفسي ولكني رسول من عند ربك ليعطيك (ليهب) غلاماً ذكياً طاهراً من الذنوب والمعاصي كثير البركات، وهو عيسىu، فقال في ذالك الواردي: إن جبريلu نفخ في جيب درعها الذي وصل إلى الفرج فحملت، وقد بين الله تعالى أن هذا النفخ في فرجها في قوله تعالى: }وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا { (التحريم: الآية 12).

ورغم علمها بأنه هبة من الله، وكان المفروض ألا تسأل عن الأسباب؛ إلا أنها استغربت؛ لأنها لم تتزوج، ولم يمسسها بشر بطريق الحلال، ولا بطريق الحرام، معاذ الله تعالى، والمقصود بكلمة (المس) إذا جاءت في القرآن فمعناها النكاح، فرد عليها الملك بأن الله خلق عيسىu من أم بدون أب، وهذا شيء هين على الخالق سبحانه، وأن الحق سبحانه يريد أن يجعل خلق عيسىu آية للناس، فالله تعالى خلق آدمu من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسىu فإنه أوجده من أنثى بدون ذكر. وذلك قوله تعالى: }وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ ءَايَةً{ (المؤمنون الآية 50). قوله تعالى: }إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{ (آل عمران: الآية 59)، وقد يكون الذكر والأنثى، ولا يحدث التكاثر لأن الأمر كله لله تعالى، فهو سبحانه يهب لمن يشاء، ويجعل من يشاء عقيماً،  فالكل تبع لإرادة الله سبحانه، وكل ذلك رحمة من الله عليكِ، بهذه الكرامة، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، فيهتدون بهديه، ويسترشدون بإرشاده، وهذا الأمر كله قُدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته. وذلك قوله تعالى: }وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً (16) فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً{ (مريم: الآيات 16-21).

لما شعرت السيدة مريم العذراء بالحمل في بطنها، خشيت أن يطلع أحد على سرها، فاتخذت مكاناً بعيداً عن قومها، ومع إحساسها ببداية المخاض ألجأها ألم الولادة إلى جذع النخلة، تستند إليها من شدة الألم، وكانت هذه النخلة معروفة، ومن خوفها الشديد أن يرى الناس الغلام، ويواجهونها بأقوالهم وتصرفاتهم المبيتة على سوء الظن، تمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يحدث هذا الأمر، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، على الرغم من نهي الله لنا عن هذا التمني، وهي تعلم أن الناس لا يحملون أمرها على السداد، فلحقها فرط الحياء، وخوف اللائمة إذا بهتوها، وهي تعلم براءة ساحتها.

فكأن مريم عليها السلام قالت: يا ليتني كنت شيئاً تافهاً، لا يعرفني أحد، ولا يذكرني أحد، وذلك قول الحق سبحانه: }فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَـَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً{ (مريم: الآيتان 22، 23).

فقال لنا الحق من رحمته بأحبائه في هذا }فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَـَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً{ (مريم: الآيات 24-26)، حيث ناداها وليدها الذي وضعته تحتها، قائلاً لها: لا تحزني، إن ربك قد جعل تحتكِ سريا، والسري هو النهر الذي يجري ماؤه زلالاً ويقول في ذلك ابن عباس: كان ذلك نهراً قد انقطع ماؤه، فأجراه الله تعالى لمريم، والطعام هو رُطب النخلة التي أمرها الله بهز جذعها، فكان ذلك تأكيداً للمعجزة العظيمة، أعطاها الله سبحانه الطعام والشراب؛ لأنه سبحانه هو المُقيت، فهو الذي يعطي كل شيء قوته.

ثم نرى الحق يعلمنا أن نأخذ بالأسباب دائماً، ثم نتوكل على رب الأسباب سبحانه، فقد أمرها بهز جذع النخلة، مع أنها في حالة مخاض ومتعبة ومتألمة، وجاءت إلى النخلة لتستتر بها، فكيف تهزها وهي في هذه الحالة من الضعف والألم، مع أن أقوى الرجال لا يقدر على ذلك، هكذا أعطى سبحانه وتعالى قوام الحياة المادية لمريم العذراء من طعام وشراب، وكان ذلك الطعام من الرطب الجني، الذي لم يجف ولم ييبس، ولا يبعد عن يد مجتنيه، وهو أفضل شيء للنفساء، ولكنها بقيت في حزنها، وتمنيها الموت لصعوبة هذا الموقف، وكيف ستواجه قومها بهذه الفضيحة في نظرهم؟.

قال لها الحق سبحانه قري عيناً، أي لا تحزني، ولتقر عينك بما أنت فيه، وبرؤية الولد النبي، فليس هناك أجمل من أن يصطفيكِ الله ويجعلك سيدة نساء العالمين. قال تعالى: }وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىَ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ{ (سورة آل عمران: الآيتان 42، 43)، فكان اصطفاء الله لها ليشيع اصطفاءه بين الناس، ولمصلحة الناس، وتنزيه لها من الله مما يقع على نظيره من الاختيارات، بل أمرها أن تشارك الناس في عباداتهم، وأن تركع معهم شكراً على هذا الاصطفاء، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: }حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ{ (الترمذي: 3813، أحمد: 11942)، وأراها الحق بأنها إذا رأت أحد من البشر وسألكِ عما أنتِ فيه، أن تقول إني نذرت للرحمن صوماً عن الكلام فلن أكلم أحداً، ومريم يمكنها أن تشير إلى من يسألها بما يفهم منه أنها صائمة عن الكلام.

لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات، وفرغت من نفاسها، أتت قومها ومعها وليدها في المكان الذي كانت به، وذلك لأن معها الحجة والبرهان والسلامة لموقفها، والثقة من تأييد الله تعالى لها. فلما رأوا الولد معها حزنوا لأنها من أهل بيت صالحين، فأنكروا عليها ذلك، وقالوا لها: يا مريم، لقد جئت أمراً غريباً جديداً لم تُسبقي إليه، فهم عرفوها عابدة قانتة فكيف يحدث ذلك منها؟ وهم يعلمون أنها غير متزوجة، وأن أباها لم يكن رجلاً سيئاً، ولا أمها كذلك، فمن أين جاءت بِهذا؟ فقابلتهم بوجه الواثقة من البراءة، وذلك لثقتها بنصر الله ومعونته، فلما كثرت الأسئلة عليها وكثر الاستنكار من القوم ماذا فعلت؟

قال تعالى: } فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً{ (سورة مريم: الآية 29)، فقد أشارت إلى وليدها، وكأنها تقول لهم: اسألوه، وهذا دليل لمعرفتها بأنه سيتكلم، لأنه سبق أن كلمها، فاطمأنت على أن تحمله إلى القوم، لأنه دليل براءتها، فلما أشارت إليه استغرب القوم وقالوا: } قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً{ (سورة مريم: الآية 29) وقالوا هل نحن مجانين حتى نكلم طفلاً رضيعاً؟! لكنَّهم انبهروا انبهاراً فتت قواهم، بل اختلت موازين حقدهم لهول المفاجأة عندما رأوا وسمعوا عيسى بن مريمu وهو طفل في المهد يتكلم }قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{ (سورة مريم: الآية 30).

فاليهود رغم أن الأمر كان بأيديهم فلقد رموها بالزنا، كما في قوله تعالي }وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىَ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً{(سورة النساء: الآية 156) وهو ما في التوراة بأن من يزني يجب أن يُرجم، فلماذا لم يُرجموها؟ لأن المفاجأة كانت شديدة عليهم حتى ألجمتهم.

أما النصارى فالأمر أغرب عندهم، لِما تراه من خلو الأناجيل التي بين أيدينا الآن من هذه الواقعة؟ لأن رضيعاً يتكلم في المهد معجزة بكل المقاييس، وأن هذه الكلمات لابد وأنها رائعة من طفل يتكلم، وعلى الرغم من حفظ جنود الله لهذه الكلمات منذ أن قالها عيسىu وحتى تقوم الساعة، لم تذكر الأناجيل ذلك حتى لا تسألهم ماذا قال؟ فيكون الرد بلا حرج }إِنّي عَبْدُ اللّهِ{ (سورة مريم: الآية 30) وهذا ينفي أنه إله كما يزعمون.

فوجئ القوم بما تحمل مريم، ثم استنكروا الكلام مع طفل رضيع، ثم نَطَق عيسىu قائلاً لهم: }قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً{ (سورة مريم: الآيات 30- 32)، فكأن المسيحu يقول لهم لا تتكلموا أنتم ولكن أنا الذي سأتكلم، واستهل قوله بعبوديته لله تعالى، دليل على أنه ليس إلهاً أو شريكاً للإله سبحانه، بل أضاف أن الله أعطاه الكتاب، وهو ما زال طفلاً في مهده؟ قالوا: كأن هذا أمراً ثابتاً مفروغاً منه، ومعنى ذلك أن الوليد أهل لأن يتحمل أمانة السماء والأرض، وجعله نبياً ذا سلوك قويم، بل جعله الله مباركاً أينما كان، فهذه الصفات هي أنه عبد الله، آتاه الله الكتاب، والكتاب لم يأت بعد، ولكنه سينزل في المستقبل، ولأنه لا يتكلم إلا عن الحق سبحانه وتعالى، فلا بد وأنها مُلقَّن من قِبل الله تعالى الذي سيعطيه هذه الأشياء.

هكذا وُلد السيد المسيحu بأرض الجليل المعروفة قديماً باسم "كنعان"، والتي أطلق عليها اليونان اسم "فينيقية" من لونها الأحمر، وقد امتازت قديماً بالموانئ الصالحة ووقوعها على طرق التجارة، وكان أهل الجليل ومعظمهم من العرب، أهل سماحة دينية، ويتكلمون باللغة الآرامية .

ثالثاً: صفات نبي الله عيسىu

1. صفاتهu في القرآن الكريم

قال الله تعالى: }قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً{ (سورة مريم: الآيات 30- 32) هكذا كان حديثهu، مبتدِئاً بتنزيه ربه تعالى، حيث برأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه وتبرئته لأمه مما نُسب إليها من الفاحشة، وقد أخبره الله ما هو كائن من أمره إلى أن يموت, ما أبينها لأهل القدر, وأمره ببر والدته، بعد طاعة ربه لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن الأمر بعبادته بِطاعة الوالدين، وقال إن الله لم يجعله جباراً، مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدته فيشقى بذلك.

وأن الله جعله مباركاً، وشرع له العبادات والشرائع من صلاة وزكاة... إلخ.

قال تعالى: }وَالسّلاَمُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدْتّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً{ (سورة مريم: الآية 33)، وهذا إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله، يحيا ويموت ويُبعث كسائر خلقه. ولكن له السلامة في هذه الأحوال، التي هي أشق ما يكون على العباد، وصلوات الله عليه وسلامه.

فيوم ميلادهu كان سلاماً ولم يؤذ قومه ووالدته، والسلام عليه يوم يموت، لأنهم سيأتون ليأخذوه بغية صلبه وقتله، وبعد ذلك يُشبه لهم أنهم صلبوه وقتلوه، لكنَّ الله تعالى نجاه منهم ومن كيدهم، ورفعه إليه سالماً من كل سوء، فهذه الآية فيها إثبات السلام والأمن له من الله في كل أحواله، بل وذكر السلام على نفسه يوم يُبعث حياً، وذلك لأنه الوحيد الذي سيسأله الله هذه الأسئلة وهي قوله تعالى: }وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَـَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{ (سورة المائدة: الآيتان 116، 117). فالحق سبحانه يعلم أن عيسىu لم يقل لهم إلا ما أمره الله عز وجل به، ولكن هذا تقريع لمن يزعمون أنهم أتباعه، وقد حرفوا رسالته وجعلوه إلها من دون الله بزعمهم.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: }ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ (34) مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ { (سورة مريم: الآيتان 34، 35).

هذه قصة عيسى بن مريمu يخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى، وهو يقول لنا: اتركوا هذه الأقاويل الباطلة وخذوا الكلام من الحق سبحانه لأن قول الحق هو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أي أن ذلك الموصوف بتلك الصفات هو عيسى بن مريمu من غير شك ولا مرية، بل قول الحق، وكلام الله الذي لا أصدق منه قيلاً، ولا أحسن منه حديثاً، فهذا الخبر اليقيني عن عيسى بن مريمu أو ما قيل فيه من شك ويمارون فيه بشكهم ويجادلون بتخرصهم، من قائل عنه أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن إفكهم وتقولهم علواً كبيراً، فقوله: }مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{ (سورة مريم: الآية 35) فلا يجوز أبداً أن يتخذ من عباده ومماليكه ولداً؟!!، فهو مُنزه عن ذلك، سبحانه، تنزه وتقدس عن الولد، والنقص من الأمور الصغار والكبائر، فلا يمتنع عليه ولا يستصعب أن يقول للشيء كُن فيكون، فإن قدرته ومشيئته نافذة في العالم فكيف يكون له ولد؟!! وكيف يستبعد أن يوجد عيسى بن مريمu من غير أب!! فسبحانه هو القوي، واتخاذ الولد قضية منفية بالنسبة لله سبحانه وتعالى، لأن الله حي لا يموت، والله لا يحتاج معونة أحد، لأنه الإله المُعين الذي يحتاج إليه كل أحد، ولا يحتاج هو إلى أحد. وهذا قوله تعالى: }مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{ (سورة مريم: الآية 35).

فالله تعالى مُنزه قبل أن يخلق الذين يسبحونه، وبعد أن خلق الخلق سبحوا لله، بل استمر تسبيحهم، فكل ما في الكون يُسبح لله تعالى، ولكنا لا نفهم تسبيحهم، والله إذا أراد شيئاً نُفذ في الحال، فإياك أن تتعجب أن يفعل الله سبحانه ذلك مع زكريا ويحيى عليهما السلام لعقر الزوجة، وإياك أن تتعجب من أن الطفل الذي تكلم في المهد كان صبياً، فكل هذا في إطار "سبحانه" لأنه إذا أراد شيئاً لا يعالجه بعلاج وعمل، وإنما قوله: }كُن فَيَكُونُ{ حيث يكون الشيء في الحال كما أراد الحق.

قال تعالى: }وَجِيهاً فِي الدّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ (45) وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ{ (سورة آل عمران: الآيتان 45، 46)، فالمسيح u سيواجه الناس بكلامه، لأن المسألة تعرض بعِرض أمه وعفتها وكرامتها، فجاءت الآية لتمحو العجب من الناس حيث يجدونها تلد بدون أب (رغم أن آية الكلام غير موجودة في الإنجيل) ولولا هذه الآية لأقام اليهود عليها الحد في حينها فهي حقيقة عجيبة، ولم يكن إغفال النصارى لهذه المعجزة في الإنجيل إلا لأن قوله يهدم اعتقادهم في عيسى u لأنه قال: }إِنّي عَبْدُ اللّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{ (سورة مريم: الآية 30).

وصفه الله سبحانه بأنه شريف ذو جاه وقدر، وصفه الله بهذا في الدنيا يوم مولده، لأنهم اتهموا أمه بالخيانة، وهي الطاهرة البتول، وأيضاً وُصف بهذا يوم يموت، لأنهم قالوا إنه ابن الله، وأنه صُلب وأنه يكلم الناس، ويدعوهم لعبادة الله لا شريك له في حال صغره، وهي معجزة وآية، وفي حال كبره عندما يصبح كهلاً عندما يُوحى إليه. وقد تكلم السيد المسيحu في المهد ليحفظ شرف أمه، ولكنه لم يتكلم في الكهولة، وهي سن الأربعين؛ لأن الله قد رفعه إليه قبل أن يكون كهلاً، ومن هنا فإنه لا بد وأن يأتي وقت يكلم الناس فيه وهو كهل، وفي كل هذه الأحوال من قول وعمل فهو صحيح وصالح، فقد وصفه الله بالصلاح رغم أنه نبيٌّ وتكلم في المهد، فتلك المعجزات التي أكرمه الله تعالى بها لا اختيار له فيها، أما كونه من الصالحين فهذا عمله هو، وحركته السلوكية لأداء الدعوة التي يحملها، وكان الأجدر ألا يفتتن الناس بعيسىu طالما أنه يتغير كما الناس من طفولة إلى كهولة، ويقولون عنه إله أو ابن إله.

2. صفاتهu في الحديث الشريف

وصفه رسول اللهr في أحاديث كثيرة، منها: }عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّr رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ{ (البخاري: 3183)، وقال ابن عمر أيضاً: }ذَكَرَ النَّبِيُّr يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلاَ إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلاً وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ{ (البخاري: 3184), }عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ قَالَ وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ{ (البخاري: 3182)، }عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِu: ...... فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ{ (مسلم: 5228).

رابعاً: زيارة عيسى وأمه عليهما السلام لمصر

لما خطط ملك الشام هيرودس لقتل عيسىu وأرسل رسله بالهدايا، علمت السيدة مريم العذراء بهدف هؤلاء الرُسل، فاحتملت وليدها وذهبت به إلى مصر، فأقامت بها حتى هلك هيرودس، وقد بلغ عمر عيسى اثنتي عشرة سنة. وظهرت عليه الكرامات والمعجزات في حال صغره خلال فترة وجوده بمصر.

خامساً: رسالة المسيحu

كانت دعوة عيسىu تتمثل في إصلاح ما أفسده اليهود من الديانة اليهودية فحسب، فهو لم يناد بديانة جديدة، بل كانت ديانة المسيح نفسهu هي اليهودية بعد تصحيحها, ولم تكون اليهودية – المسيحية سائدة في أورشاليم وفلسطين فقط طيلة القرن الأول من تاريخ المسيحية, بل كانت منتشرة في بلاد أخرى, كان الساحل السوري الفلسطيني من غزة إلى أنطاكيا يهودياً ـ مسيحياً, كما تشهد بذلك أعمال الرسل والكتابات الكلينتية، بل وقد وصل بعضهم إلى بلاد اليونان ومصر.

قال الله تعالى: }وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ{ (سورة آل عمران: الآيتان 48، 49)، فقد علم الله عيسىu الكتب السابقة، كما علمه الكتابة أيضاً. رُوي أن عيسىu كان يستظهر التوراة حتى قيل إنه لم يحفظها عن ظهر قلب غير موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام. كما ألهمه الله ووفقه بالهداية لتعلم الحكمة، وذلك سنن الأنبياء، وبما شرعه من الدين بالنبوة، وبالصدق في القول والعمل والعقل. أما التوراة فقد جاء المسيح ليكملها، ليكمل ما أنقصه اليهود منها. فالتوراة أصل من أصول التشريع طبقاً لقول الحق سبحانه: }وَرَسُولاً إِلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ{ (سورة آل عمران: الأية 49) }وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ{ (سورة آل عمران: الآية 50) هكذا يتضح أن ما جاء به المسيحu مطابق لما جاء في التوراة، فهو مقرر ومثبت لها. كما أن عيسىu نسخ بعض شريعة التوراة، فقد أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ، وكشف لهم عن الغطاء في ذلك لقوله تعالى: }وَلأُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ{ (سورة الزخرف: الآية 63)، أحل لهم عيسىu أكل الشحوم، وأكل كل ذي ظفر، فالمسيحu جاء ليرفع التحريم عن بعض المحرمات، التي حرمها الله تعالى على بني إسرائيل في السابق، كما قال تعالى: }وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ{ (سورة الأنعام: الآية 146)، ولله تعالى حكمة فيما يحرمه على الناس، وحكمة فيما يحله لهم، كما قال تعالى: }فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ{ (سورة النساء: الآية 160)، فهنا التحريم كان عقوبة لهم وليس لضرر، ثم يذكرهم المسيحu بأنه جاء من عند الله تعالى رسولاً لهم، وعليهم أن يلتفتوا إلى الله الذي أرسل عيسىu إليهم، والله هو الذي يفعل ما يشاء ويخرق النواميس، كما جاء الله بها على يدي فأنا وأنتم مشتركون في العبودية لله وحده.

هكذا كان منطق عيسىu عندما قال وهو في المهد }إِنّي عَبْدُ اللّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{ (سورة مريم: الآية 30)، فأكد أنه عبدالله، والمكلف بنقل شرع الله إلى خلق الله حتى تكون حياتهم على مقتضى ما أنزل الله. فكان يدعو قومه لعبادة الله وحده، كما قال تعالى: }إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ{ (سورة آل عمران: الآية 51)، أي أنا وأنتم على سواء في ربوبيتنا لله الواحد، وهذا هو الصراط المستقيم، الذي يشكل أقصر الطرق إلى عبادة الله تعالى وحده، حيث العبادة هي طاعة العبد لربه في كل شؤونه فتؤدي إلى سعادة الناس، وعمارة الكون كما يريد الله تعالى، فالعبادة هي الغاية التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ{ (سورة الذاريات: الآية 56).

سادساً: معجزات المسيحu

بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، وتكون معجزته من جنس ما نبغ فيه القوم، ولما كان قوم عيسىu مشهورين بالطب والحكمة كانت معجزاته من جنس الحكمة والطب، بل خرج من دائرة علاج الطبيب حتى تسامت معجزتهu فجعلته يحيي الموتى، فلقد أحيا الجماد وداوى الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد.

1. أنه يخلق من الطين كهيئة الطير

قال تعالى: }أَنِيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ{ (سورة آل عمران: الآية 49)، فكان عيسى u يأتي بقطعة الطين ويشكلها على هيئة الطير وينفخ فيه فتصير طيراً، وهذه هي المعجزة، وهي النفخة لأن عمل تمثال من الطين سهل يسير، أما النفخة فلا يستطيعها أحد إلا بإذن الله، عندما يسمح الله له بذلك. كما يبرز هذا أن خلق البشر من موجود لديه، أما خلق الله فهو من عدم، بل يعطيها الله الحياة فتكبر وتتكاثر، ولكن الأمر الغريب في هذه المعجزة هو فتنة بني إسرائيل بها وكان الأجدر أن يفتتنوا بإبراهيمu عندما قطع أربعة من الطير ثم دعاهن فجئنه سعياً، كما قال تعالى: }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَىَ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىَ وَلَـكِن لّيَطْمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ ثُمّ اجْعَلْ عَلَىَ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ (سورة البقرة: الآية 260).

2. أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص

لقوله تعالى: }وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ{ (سورة آل عمران: الآية 49) لأنهما من الأمراض المستعصية، فالأكمه هو الذي وُلد أعمى، والأبرص هو من به بقع بيضاء بجلده، هكذا جاء المسيح بشيء عجزوا عن علاجه، فكانu يبرئ بدعائه والمسح بيده لكل علة.

3. إحياء الموتى

قال تعالى: }وَأُحْيِـي الْمَوْتَىَ بِإِذْنِ اللّهِ{ (سورة آل عمران: الآية 49)، فكان عيسىu يحيي الموتى بإذن ربه، ولم يكن من يحيا بعد الموت يعيش طويلاً، لأنه عندما ظهر السيد المسيحu كان بنو إسرائيل ينقسمون إلى فرقتين رئيسيتين:

الأولى: الصدوقيون الذين يقول عنهم الإنجيل إنهم لا يؤمنون بالروح أو الملائكة أو القيامة.

الثانية: فهم الفرَّيسيون الذين يؤمنون بذلك.

وقد كان رئيس المجمع اليهودي (السنهدرين) من الصدوقيين، فاقتضت حكمة الله تعالى أن يأتي المسيحu بنفخة من "الروح" وعلى فعلها. ومن الذين أحياهم عاذر، وكان صديقاً له مات منذ أيام، وأحيا سام بن نوح من قبره فخرج حياً رغم توفيه منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، ومرَّ على ابن ميت لامرأة عجوز فدعا الله تعالى فعاد حياً. فكيف يفتتن النصارى بعيسىu ولم يفتتنوا بإبراهيمu وموسىu الذي جعل للعصا حياة وهي أصلاً ليس لها حياة (أصبحت العصا حية تسعى).

4. إخبارهu بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم

قال تعالى: }وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ{ (سورة آل عمران: الآية 49)، فكانت من معجزاتهu الإخبار عن الغيوب، حيث يخبرهم بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم من أنواع الطعام والمال، وهذه آية من آيات من يعلم مغيباً من الأمور؛ لأنها تثبت قوة قاهرة بما تعطيه هذه العجائب والآيات.

5. مائدة السماء

قال تعالى: }إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السّمَاءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ{ (سورة المائدة: الآية 112)، لقد سأل الحواريون عيسى بن مريمu مائدة يكون عليها طعام يأكلونه لا ينفذ قائلين، وهل يستجيب ربك لهذا الطلب (ليس لجهلهم بقدرة الله تعالى ولكن من منبع الحب لله)، فرد عليهم: أن اتقوا الله طالما أنكم مؤمنون، وحسبكم ما أعطاه الله لي من الآيات على صدق رسالتي، وعليكم أن تلتزموا بمنهج الله، ولكن الحواريون أجابوه بقولهم: }قَالُواْ نُرِيدُ أَن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ { (سورة المائدة: الآية 113)، فقد طلبوا مائدة من السماء وقدموا الرغبة في الأكل والطعام على ضرورة التصديق الإيماني الجازم. ويقول لنا الحق عن استجابة عيسىu لطلب الحواريين: }قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَءاَخِرِنَا وَءَايَةً مّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ{ (سورة المائدة: الآية 114)، فكان قول عيسىu لما سأل ربه هذه الآية بأن طلب أن تكون المائدة عيداً يفرح به الأولون والآخرون، وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويعترف بفضل ربوبية الرازق، ويعترف بامتنان أن الحق سبحانه خير الرازقين، وبالنظر إلى قول الحواريين وقول عيسىu يتضح لنا الفارق بين إيمان المبلِّغ عن الله وهو عيسىu وهو الإيمان القوي الناضج، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عنه وهم الحواريون، لأن إيمانهم لا يرقى إلى إيمان عيسى عليه السلام، وهذا يظهر لنا علو الرسل على المؤمنين ببلاغه، وقد ظهر ذلك في نداء عيسىu لربه }اللّهُمّ رَبّنَا{ (سورة المائدة: الآية 114)، وهو النداء الذي يقوم على حب العبد لمولاه، فقد ألزم عيسىu نفسه بنداء الألوهية أولاً معترفاً بالعبودية لله جل وعلا ملتزماً بالتكليف القادم منه. وكان رد ربه، قال الله تعالى: }إني منزلها عليكم{ (سورة المائدة: الآية 115)

وقد نزلت المائدة فعلاً فكانت آية من الله تعالى ـ آية توَّعد الله من يكفر بها أن يعذبه عذاباً لا يُعذبه أحداً من العالمين، ولما كُشف عن السفرة وُجد عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس في جوفها شوك، ويسيل السمن منها سيلاً، وقد تحلق حولها بقوِل من كل صنف، وعند رأسها خل وعند ذيلها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الثاني تمرات، وعلى الثالث نباتات، فأكلوا بسم الله، وحمدوا ربهم.


 



[1] المسيح، لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برئ بإذن الله تعالى، وبعض السلف يقولون سُمي مسيحاً لمسح الأرض وكثرة سياحته للدعوة بالدين.

[2] الحواري: مأخوذة من الحور، وهو البياض، فهم قوم أشرقت في وجوههم سيم الإيمان وذوو قلوب نقية وكان عددهم اثنا عشر حوارياً.

[3] تناول ومضغ وبلع قطعة من الخبز مع الاعتقاد بأنها جسد المسيح، وتناول وابتلاع كمية من الخمر مع الاعتقاد بأنها دم المسيح (لوقا 22: 19-24).

[4] ليس في الأناجيل الثلاثة السابقة في الظهور على إنجيل يوحنا جملة واحدة يقول فيها المسيح u "أنا إله" أو "أنا الله"، أو يقول فيها المسيح للناس "اعبدوني"، وعندما أراد أباطرة الرومان تأليه المسيح فيما يُعرف بالمذهب الملكاني، أفزعهم عدم وجود نص صريح بالأناجيل الثلاثة يفيد أُلوهية المسيح u، فكلفوا شخصاً يونانياً متعلماً بليغاً بكتابة إنجيل رابع يصرح فيه بألوهية المسيح u، مثل النص القائل "أنا والأب واحد".