إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



قصة محمد

المبحث العشرون

من زواجه r حتى رحلة الإسراء والمعراج

أولاً: نزول الوحي على محمد r ثم فتوره

قبل نزول الوحي كان لمحمدr شأن عظيم في قومه، فقد كانت قريش تسميه"الأمين" لما عُرف عنه من أمانة وسمو خلق، وقد كان له مكانة سامية في نفوس أهل مكة، وكان يتمتع بتقدير القبائل جميعها لما عرفوه عنه من سمو النفس، ونزاهة القصد، وعدالة الحكم، ورجاحة الرأي عند المشورة، ولعل خير دليل على ذلك قصة تحكيم رسول اللهr في رفع الحجر الأسود، ووضعه في مكانه بالكعبة، بعد إعادة بنائها مرة أخرى، وذلك حين اشتد الخلاف بين القبائل في نيل هذا الشرف الكبير.

فحين بلغ رسول اللهr خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانت الكعبة في ذلك الوقت غير مسقوفة وكان ارتفاعها لا يتعدى فوق القامة، وكانت رضماً أي [الحجارة الموضوعة بعضها فوق بعض ومنضوضة دون ملاط]، فأرادوا رفعها ثم سقفها صيانة لكنوزها من اللصوص، وكان البحر قد رمى بسفينة لرجل من تجار الروم، فتحطمت في جدة، فأخذوا خشبها واعدوه لتسقيفها، وعاونهم في ذلك نجار من مكة يدعى"باقوم"، وكان الناس يهابون هدمها، حتى جاء الوليدة بن المغيرة فقال: (أنا أبدؤكم هدمها)، ثم قام بمعوله فهدم من ناحية الركنين (الأسود، واليمانى)، وتربص الناس تلك الليلة ليروا ما يحل بالوليد بن المغيرة، فلما أصبحوا ولم يحدُث شيء للوليد، قاموا معه فهدموها حتى الأساس، أي [أساس إبراهيمu] وتوقفوا عنده.

وجمعت القبائل الحجارة وأعادوا البناء، حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن، اختصمت القبائل واختلفت فيما بينها، كل قبيلة تريد أن تنال هذا الشرف العظيم، شرف وضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة، فكل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى لتنال هي هذا الشرف، وحدها دون غيرها، لقد بلغ حد الخلاف فيما بينهم على هذا الأمر أن أعدوا أنفسهم للقتال، ولقد بلغ من الأمر أن تحالف بنو عبد الدار وبنو عدى ليحوُلوُا بين أي قبيلة تحاول أن تنال هذا الشرف دونهم، وعقد الاثنان عهدا بذلك، وأحضرت بنو عبد الدار جفنة مملوءة بالدم، وأدخلوا أيديهم فيها، هم وبنو عدى توكيدا لهذا العهد الذي قطعوه بينهم، لذلك سُموا هذا العهد بعهد "لعقة الدم".

لما رأى "أبو أمية ابن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم" ما وصلت إليه القبائل من شر، اقترح حلا لحقن الدماء فيما بينهم، وكان أسن قريش كلها، وله مكانته فيهم، فقال: (يا معشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه)، فوافقوه على هذا الاقتراح.

فلما رأوا محمداًr هو أول من دخل عليهم من باب الصفا، قالوا: (هذا الأمين رضينا بحكمه)، فلما حضر محمدe قصوا قصتهم عليهr، وانتظروا ماذا عساه أن يقول لهم في هذا الموقف المعقد، فقام محمدr فأتى بثوب فنشره ووضع الحجر الأسود بيده الشريفة على هذا الثوب، ثم قال: ((ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب))، فحملوه جميعاً حتى حاذوا موضع الركن، فأخذه محمدr بيده ووضعه في موضعه، وتعجب الجميع من هذا الحل العبقري الذي حسم الخلاف بينهم، وفض الشر الذي كاد يعصف بالقبائل لو تقاتلوا بينهم على نيل هذا الشرف العظيم، كلٌ على حسب رأيه، وبعد أن وضع محمدr الحجر الأسود في مكانه بالكعبة، رفعت قريش بناء الكعبة، حتى بلغ ارتفاعها ثمانية عشر ذراعاً.

كان من عادة العرب التحنف والتحنث، وهو الانقطاع زمناً كل عام بعيداً عن الناس في خلوة يتقربون فيها إلى آلهتهم بالدعاء والزهد وانقطاع للعبادة، ينشدون السكينة والهدوء، ويلتمسون من الآلهة الخير والحكمة، وكان محمدr كثير التفكر وطويل التدبر والتأمل، وفى نفس الوقت كان قليل الإفضاء عما يجيش في صدره للآخرين، وقد وجدr في التحنث والانقطاع للعبادة بعيداً عن الناس طمأنينة في النفس، وشفاء للصدر مما يحدث من حوله من وثنية وعبادة غير منطقية؛ فهم يعبدون تماثيل وأحجار لا تنفع ولا تضر، كانr يتحنث في غار بجبل حراء شمال مكة، يتأمل هذا الكون، وينشد المعرفة والحقيقة الغائبة عن قريش.

كان محمدr يذهب كل سنة إلى هذا الجبل للتحنث في شهر رمضان، وكان يحمل معه قليلاً من الزاد، مركزاً همه كله في الإمعان والتأمل والتدبر والتفكر في هذا الملكوت العجيب، وفى خالق هذا الملكوت الواسع الشاسع الذي ليس له أول ولا آخر، كما كانr يفكر فيما يفعله الناس من حوله باحثاً عن الحقيقة الغائبة، ينظر إلى السماء بالليل، ويراقب كواكبها ونجومها، ويتساءل من الذي يسيرها بهذا النظام المحكم المبدع؟ ثم ينظر إلى السماء بالنهار فيرى شمساً حارقة بلهيبها، تدفئ الناس في الشتاء وتضئ الكون طوال النهار من حين شروقها وحتى غروبها، ثبات ونظام يبهر الأبصار، ويجعل العقول في حالة من الانبهار، ماذا لو لم تطلع هذه الشمس يوماً علينا وتواصل الليل بالنهار، وماذا لو حدث فجأة أن تغير اتجاه شروق الشمس فأشرقت من الغرب، وماذا لو جعل الله الليل سرمدا إلى يوم القيامة؟ فعاش الناس في ظلام دائم ومتواصل، كيف يَدُخل هذا الليل المظلم في هذا النهار المشرق المضئ؟ ثم كيف يَدُخل النهار في الليل في تعاقب دائم ومستمر؟.

لابد أن وراء هذا النظام المتقن الدقيق إله قادر، له مقاليد هذا الملكوت، فكيف والأمر كذلك يلجأ الناس من حوله إلى عبادة تلك التماثيل، وتلك الأصنام، يطلبون منها العون والمساعدة، وهي لا تتحرك ولا تبالي، كيف يتباركون بها قبل سفرهم، وعند عودتهم من السفر، ثم يجدون منها المصائب والكوارث بعد هذا التبارك وبعد تلك العبودية، هكذا كان يفكر رسول اللهr في منْ حوله، فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة(رضي الله عنها)، وهو متغير وفي نفسه شيء ما، لا يفصح عنه، حتى كانت خديجة تسأله عن حاله؛ لتطمئن عليه أنه مازال بخير وعافية، كلما عاد من حراء.

وكلما استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب محمدr إلى حراء، يلتمس هناك الإجابة على ما يدور بخاطره من أسئلة، حول ما يدور من حوله من وثنية وشرك، وظل سنوات على هذا الحال حتى نضجت الأفكار، وتجلت الحقائق أمامه، وحتى أصبح يرى في نومه الرؤيا الصادقة التي كانت تتحقق كفلق الصبح، قال ابن إسحاق عن عائشة (رضي الله عنها): (أول ما بدىء به رسول اللهr من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول اللهr رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح)، وقالت خديجة (رضي الله عنها): (حبب الله I إليه الخَلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده).

وفي يوم وبينما هو نائم بالغار، إذ جاءه ملك، وفي يده صحيفة، فقال لمحمدr: ((اقرأ)). فقال محمدr :((ما أنا بقارئ)) فقال له الملك: ((اقرأ)). قال محمدr: ((ما أنا بقارئ))، قال له الملك مرة ثالثة: ((اقرأ))، فأجاب محمدr متعجباً: ((ما أقرأ؟!))، قال الملك: ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[ (العلق : 1-5).

تلفت محمدr يميناً ويساراً فلم ير شيئاً، فأصابته رعدة وخوف، وانطلق هائماً في شعاب الجبال، فقد كان يرى من قبل الرؤية الصادقة فتتحقق كفلق الصبح، أما الآن فهو أمام حدث حقيقي جلل، ولقد زاد من فزعه وروعه أنه سمع صوتاً يناديه في الأفق، فرفع رأسه، فإذا بجبريل في آفاق السماء يتقدم ويتأخر فلا تنصرف صورته من أمامه، فلما اختفت صورة الملك من أمامه، رجع إلى خديجة، وهو ممتلئ بما أوحى إليه من سورة العلق، وكان قلبه في نفس الوقت يضطرب خوفاً وهلعاً، فلما دخل على خديجة وهو في هذه الحالة قائلاً: ((زملوني زملوني))، قامت إليه خديجة فزملته، وهو يرتعد، كأن حمى أصابته، فلما ذهب عنه الروع نظر إلى خديجة وسألها: ((مالي يا خديجة!؟))، فطمأنته، ثم أخذ يقص عليها ما حدث له في الغار، وأفضى إليها بمشاعره ومخاوفه، لقد كانت خديجة له بمنزلة ملك الرحمة، وملاذ السلام والأمان، أخذت تستمع إليه في حب وحنان، فلما انتهى قالت:

(ابشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ووالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، فلما سمع محمدe هذا الكلام العذب اطمأن وهدأ ونظر إلى خديجة نظرة شكر ومودة، فقد أصبح الآن يحمل رسالة من الله إلى الناس في جو معقد ملئ بالوثنية والجهل. (اُنظر شكل من مولد النبي e إلى إرهاصات النبوة)

ظلت خديجة تفكر في أمر محمدe، حيث هز قلبها ما يحدث له، وأثار هواجسها ما يشعر به ويحسه، ولم تطق خديجة البقاء تفكر في هذا الأمر وحدها، فذهبت إلى ابن عمها "ورقة بن نوفل" الذي تنصر، وعرف الإنجيل وقرأ ما فيه، فلما أخبرته بما سمعت من محمدr، صمت برهة ثم قال: (قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صَدقتِني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثْبُت)، وعادت خديجة إلى بيتها فوجدت محمداًr نائماً، فنظرت إليه، وحدقت فيه، وكلها إشفاق وأمل، وإذ هو كذلك إذا به يهتز جسده ويرتعش، ويثقل تنفسه ويُبَلل عرقاً حتى تصبب على جبينه، ثم يقوم من نومه فجأة على صوت جبريل يوحى إليه: )يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّر (4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُر(5)وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)( (المدثر: الآيات 1-7).

وأحست خديجة، وهي بجواره، بما يحدث له من تغير، وحاولت طمأنته، ودعته أن يستريح وينام في فراشه، فقال لهاr: )انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته، فمن ذا أدعو ومن ذا يستجيب؟[، وبذلت خديجة قصارى جهدها لتهون عليه من الأمر، ثم لم تلبث أن أعلنت إسلامها، فكانت هي أول من أسلم وآمن بنبوته.

طلبت خديجة من محمدe أن يبلغها بأمر الملك متى جاءه، وظل محمدe على هذا الحال حتى خرج يوماً للطواف بالكعبة، فلقيه ورقة بن نوفل، فقص محمدe عليه قصته، فقال ورقة: (والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتُكَذَّبن، ولَتُؤذَينَّ، ولتُخرَجَنَّ، ولتُقَاتَلنَّ، ولئن أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه)، ثم قَبَّل ورقة رأس محمدٍe، هنالك شعر محمدe بعظم ما ألقي عليه من الأمر، وأخذ يفكر كيف يدعو قومه؛ وهم أحرص ما يكونون على ما هم عليه من الضلال والشرك والوثنية.

وبدأ محمدe في دعوة قومه غلاظ القلوب، عبدة الحجارة والأصنام، أخذ يدعوهم إلى عبادة الله وحده، والسمو بقلوبهم وأرواحهم لتتصل بالله الذي خلقهم، والذين من قبلهم لعلهم يتقون، أخذ ينهاهم عن الربا، وأكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وترك الخمر والميسر، أخذ يهيب بهم أن ينظروا إلى آيات الله في الكون، أن ينظروا إلى ما في السماوات والأرض من آيات، فيعظموا بذلك خلق الله، ثم يعظموا خالق هذا الوجود كله الذي لا خالق سواه، لكنه كان يخاطب قلوباً قاسية، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لقد يبست قلوبهم، واعتادت على عبادة ما كان يعبد آباؤهم من قبل.

أيتركون دين أبائهم وأجدادهم؟، أيتركون عبادة الأصنام التي هي مصدر رزقهم وتجارتهم للحجيج [عُبَّاد الأصنام والأوثان] الذين يأتون إلى مكة للتجارة والحج كل عام، كيف تتطهر تلك القلوب من أوزارها وشهواتها، وبينما هو على هذا الحال من دعوته لقومه، إذ فتر الوحي فجأة!!، وإذا بجبريل يتوقف، ولا ينزل بوحي من السماء على محمدe كما كان يحدث من قبل، لقد قطع الوحي عنه حتى ظن أن ربه قد قلاه، وتملك محمدe الخوف وأخذ يذهب إلى حراء، وينقطع بها فترة ابتغاء أن يهبط عليه الوحي مرة أخرى، وإنه لكذلك تساوره المخاوف، إذ جاءه جبريل بوحي من الله ليوحيه إليه مرة أخرى بعد طول فتور، ونزل بقول الله عز وجل: )وَالضُّحَى (1) وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3)وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى(4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَأوى(6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاًّ فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ(10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)( (الضحى: الآيات 1-11).

زال الروع وزالت المخاوف عن محمدe مرة أخرى بعد طول غياب، وارتسمت البسمة على ثغره وظهرت علامات السرور والرضا على وجهه الشريفe، فلم يقلِهِ الله ولم يتركه، بل تولاه الله برحمته، فأضاء الحق بنوره روحهe من جديد بعد أن غاب عنه الوحي وفتر، حسبه أن الله وجده يتيماً فأواه، ووجده ضالا فهداه برسالته، ووجده فقيراً فأغناه بأمانته وتجارته مع زوجته خديجة، وعلَّم الله نبيه الصلاة، فكان يصلي، وتصلي خديجة معه في بيتها.

كان عليَّ بن أبى طالبt أيضاً يعيش مع رسول اللهe في بيته من قبل البعثة، فقد كان أبوه أبو طالب، كما ذكرنا من قبل كثير العيال، فلما أصابت قريش أزمة شديدة وقحط، ذهب محمدe إلى عمه العباس، الذي كان أكثر بني هاشم مالاًً، فقال له محمدe:)إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى، فانطلق بنا لنخفف من عياله، آخذ أنا من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما عنه[، ووافق العباس وكفل "جعفراً"، بينما كفل محمدe "علياً" وكان علىٌّ هو أول من أسلم بعد خديجة (رضي الله عنها).

ثانياً: أوائل من أسلموا من الصحابة

1. إسلام على بن أبى طالب t (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة)

هو علي بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي الهاشمي ابن عم رسول اللهe، كنيته أبو الحسن أخو رسول الله، صهر رسول اللهe، وأمه فاطمة بنت أسد، فهو أبو السبطين الحسن والحسين، زوج فاطمة بنت رسول اللهe، هو أول من أسلم بعد خديجة، أسلم بعدها بيومين، وهو في العاشرة من عمره (وهو قول مجاهد)، وتقول كتب السيرة إنه رأى خديجة t تصلي مع رسول اللهe فسأل محمداًe عن ذلك وقال: (ما هذا؟)، فقال محمدe: ((هذا دين الله الذي اصطفى، وبعث به رسله، وإني أدعوك إلى الله وعبادته، وأن تكفر باللات والعزى))، قال عليt: (هذا أمر لم أسمع به من قبل، ولست بقاض أمرا حتى أُحدِث أبا طالب)، فاستجاب له رسول الله e، وحذره من إفشاء هذا السر، خوفا عليه من قريش، وقال له e: ((يا عليَّ إن لم تُسلِم فاكتم))، فمكث عليَّt ليلة يفكر حتى وقع الإسلام في قلبه، فذهب إلى رسول اللهe في الصباح وقال له: (ماذا عرضت علىَّ يا محمد؟)، فقال رسول الله e: )تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتتبرأ من الأنداد[، فأسلم عليَّt على الفور، وكتم إسلامه عن الناس، وقد شهد جميع الغزوات مع رسول اللهe ما عدا غزوة تبوك، فقد استبقاه محمدe على أهله في هذه الغزوة.

2. إسلام أبى بكر t (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة)

هو أبو بكر عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر، يكنى والده بأبي قُحافة، ويكنى هو بأبي بكر وبابن أبي قحافة، ويلقب بالصديق وبعتيق، فقد قال له رسول اللهe: )أنت عتيق من النار[، أمه هي أم الخير" سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وهى بنت عم أبي قحافة، له ثلاثة أولاد هم: (عبدالله، وعبدالرحمن، ومحمد) وله ثلاث بنات هن: (أسماء والتي تلقب "بذات النطاقين"، عائشة، أم كلثوم".سمى بأبي بكر الصديق حين أسرى برسول اللهe فكذبه الناس، وارتد بعض من آمن به، لكن أبو بكر قال: (إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة)، فقد أظهر إسلامه دون تردد منذ اللحظة الأولي، لذا سُمي بأبي بكر الصديق، قال عنه رسول اللهe: )ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة [أي تأخير في الإجابة] ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ماعكم عنه حين ذكرته له وما تردد[، ولم يكتف بتصديق رسول اللهe، بل كان يدعو إلى الله ورسوله أيضاً، حتى أسلم بدعوته كل من:

أ. عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة).

ب. الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قصي بن كِلاب (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة).

ج. عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد ابن الحارث بن مُرة بن كِلاب (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة).

د. سعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن مُرة بن كِلاب (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة).

هـ. طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرة بن كعب بن لُؤَيٌ (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة).

لقد كان أبو بكر الصديق  رجلاً سهلاً، محبوباً، كان أنسب قرشي لقريش، وكان أعلم بقريش من قريش نفسها، وكان تاجراً ذا خلق، حسن المعاملة والمجالسة، يتنقل بتجارته على نطاق واسع خلال رحلتي الشتاء والصيف، بين اليمن والشام، كان صديقاً حميماً لمحمدe، لم يعهد عليه كذباً ولا زيفاً ولا انحرافاً قط.

3. إسلام عُمر بن الخطاب t  (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة)

هو: عمر بن الخطابt بن نفيل القرشي العدوي، كنيته أبو حفص، أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن نفيل، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، هو من أشراف قريش وسفيرهم، فإذا وقعت حرب بين قريش وغيرها من القبائل بعثوا بعمر بن الخطاب إليهم سفيراً لهم.

كان عمر بن الخطابt أبيض أمهق تعلوه حمرة، طوالا أصلع أجلح، شديد حمرة العين في عارضه خفة، استخلفه أبو بكر حين مرض وأملى عثمان بن عفان وقال له في هذه الخلافة: (اكتب باسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، أنني استخلفت عليكم من بعدي عمر بن الخطابt، فاسمعوا له وأطيعوا، وأني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وليعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته). ثم ختم كتابه هذا، ونادى عثمان بن عفان في الناس وقال: (أيها الناس أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟) قالوا: (نعم)، وقال بعضهم: (قد علمنا به) أي علموا أن من بالكتاب هو عمر بن الخطاب، فأقروا به جميعاً وبايعوه.

هو أول من أُطلِق عليه لفظ "أمير المؤمنين"، وهو صاحب القلب النقي والعقل المتأمل، وفي الوقت نفسه كان رضوان الله عليه يتسم بالعنف، وكانt إذا اقتنع بشيء حارب من أجله، تقول بعض كتب السيرة أنه أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، وقيل هو الذي أتم المسلمين الأربعين، وقد أسلم في مكة بعد الهجرة إلى الحبشة، وقبل الهجرة إلى المدينة، قال رسول اللهe: )اللهم أعز الإسلام بأحب العُمرَين إليك عمر بن الخطاب، وعمرو بن هشام[، وهو الذي سماه الرسولe (الفاروق)، قال رسول اللهe: )إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق، فرق الله به بين الحق والباطل[.

قال عُمر بن الخطاب عن إسلامه: (خرجت أتعرض لرسول اللهe فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فتوقفت خلفه أراقبه فاستفتح بسورة "الحاقة" فتعجبت من هذا القرآن، فقلت: والله إنه لشاعر كما قالت قريش)، فقرأ رسول اللهe: )إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ(41)( (الحاقة: الآيتان 40، 41)، فقال عمرt: (إنه لكاهن) فقرأ رسول الله e: )وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(42)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَأويلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)( (الحاقة: الآيات 42-47).

هكذا وقع الإسلام في قلبه حين سمع كلام الله، لكنه لم يسلم على الفور، فلما علم أن أخته "فاطمة" وزوجها "سعيد بن زيد" (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة) قد أسلما، ذهب إليهما حتى إذا اقترب من دارهما سمع قرآناً يتلى، وكان يقرئهما خباب بن الأرت، فلما أحسوا باقترابه إليهم اختفى القارئ، وأخفت فاطمة الصحيفة، فلما دخل عمر على أخته قال: (لقد علمت أنكما تابعتما محمداً على دينه)، ثم بطش بزوجها، فلما قامت لتحمي زوجها ضربها ضربة على رأسها فشجها، ولما سألهما عن حقيقة إسلامهما هي وزوجها، قالا: (نعم لقد أسلمنا فافعل ما تريد)، فنظر لأخته والدماء تسيل على وجهها فغلبه العطف عليها، وأمرها أن تناوله الصحيفة، فلما ناولته الصحيفة وقرأ منها بعض الآيات تغير وجهه وأحس بالندم، واهتز قلبه لما يقرأ من قرآن وخرج من عندها وقد لان قلبه، واطمأنت نفسه، ثم قصد محمداً e وكان في جمع من الصحابة بدار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، فاستأذنه عمر وأعلن إسلامه أمامهم، لقد عزز إسلام عمر المسلمين أمام قريش، فغيرت من موقفها في إيذاء المسلمين، فلم تعد تبطش بهم كما كانت تفعل من قبل.

4. إسلام عثمان بن عفانt  (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة)

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف، هو قرشي أموي، يكنى (أبا عبدالله)، فقد كان عبدالله ابنه من "رقية" بنت رسول اللهe والتي تزوجها في الإسلام، وأمه هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلم عثمان قبل دخول رسول اللهe دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكان يقول: (إني لرابع أربعة في الإسلام)، فقد دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، ولقد هاجر عثمان إلى الحبشة مرتين، وهاجر إلى المدينة أيضاً – وهو الذي كتب المصحف بدعوة من "حذيفة بن اليمان"، حيث قال: (يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)، ففزع عثمانt وأرسل إلى "حفصة" أم المؤمنين، لترسل له جميع الصحف التي لديها كي يجمعها في كتاب واحد، ثم جمع عثمانt "زيد بن ثابت الأنصاري، وعبدالله بن الزبير بن العوام، وسعيد بن العاص بن أمية، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام"، ثم أمرهم بكتابة القرآن نسخاً، فإذا اختلفوا في موضع منه رجعوا إلى عثمان بن عفانt، وهكذا جُمع القرآن في عهد عثمان ليكون شاهدا له يوم القيامة (اُنظر صورة مصحف عثمان).

5. إسلام حمزة بن عبد المطلب t

هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أمه "هالة بنت عم آمنة بنت وهب أم النبيe، وحمزةt هو أخو النبيe في الرضاعة، وأكبر منه بسنتين، وفى قول آخر أربع سنوات، أسلم في السنة الثانية من البعثة، هو سيد الشهداء، استشهد في أُحُد، في شوال من السنة الثالثة من الهجرة وكان عمره سبعاً وخمسين وقيل تسعاً وخمسين وقيل أربعاً وخمسين سنة، له ولدان أكبرهما يسمى "يعلى" وكان يكنى به، والأصغر "عامر" ومات وهو صغير، وكان له بنت اسمها "أُمامة"، وكان حمزةt فتىًً قوياً شجاعاً، كان مولعاً بالصيد، ويُخشى بأسه.

مر أبو جهل بمحمدe يوماً فسبه وآذاه، فأعرض محمدe عنه وانصرف، فلما عاد حمزة من الصيد ورأته مولاة لعبد الله بن جدعان استوقفته وقالت: (هّلاَّ رأيت ما حدث لابن أخيك محمداً e آنفا من أبي الحكم بن هشام؟، لقد وجده هنا جالساً فآذاه، وبلغه منه ما يكره، سبه في نفسه ودينه فلم يرد عليهe، ثم انصرف عنه وذهب إلى بيته)، فلما سمع حمزة ذلك ثارت الدماء في رأسه، ونفرت الدماء في عروقه حين سمع ذلك، فكيف يسيء أبو جهل إلى ابن أخيه، وهو الذي لم يسئ لأحد قط من قبل، وانطلق حمزة إلى الكعبة، فوجد أبا جهل جالساً، يضحك مع رجال من بني مخزوم، فترجل عن فرسه، وأخذ قوسه وهوى به على رأس أبي الحكم (أبي جهل) فشج رأسه شجة منكرة وقال له: (ما شأنك بمحمدِ؟، ولماذا تؤذيه يا أبا الحكم؟)، فلما قام بعض رجال من بني مخزوم لنصرة أبي الحكم، قال لهم أبو الحكم محاولا تهدئته من ثورته منعاً للشر وخوفاً من استفحاله: (نعم لقد سببت محمداً سباً قبيحاً)، وقال حمزة: (ماذا تعيبون على محمدٍ؟ وهو لا يقول منكراً، وأنا على دينه، أقول ما يقول)، وهنا تجمدت أوصالهم، وتوقف الكلام في حلقهم، ولما جاء الصباح ذهب حمزة إلى محمدٍe وقال له:(يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وأني قد اشتهيت يا بن أخي أن تحدثني، [لأنه قال أمام جمع من بني مخزوم أنا على دين محمدe]، وهو في الحقيقة لا يعلم عن الإسلام شيئاً، وأراد أن يعرف من محمدe شيئاً عن هذا الدين، فأقبل رسول اللهe على حمزة، وذكره ووعظه، وخوفه وبشره، فألقى الله في قلبه الإيمان، وضرب رسول اللهe على كتف حمزة في حنو بالغ وقبله، وسالت دموعهما حمداً وشكراً لله على نعمة الإسلام التي منَّ الله بها على حمزة، فبإسلام حمزةt أعز الله الإسلام، وعرفت قريش أن رسول اللهe قد عَزَّ، فكفت قريش بعضاً من أذاها عن الرسولe من بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب الملقب (بأسد الله).

6. إسلام زيد بن حارثةt

هو زيد بن حارثة بن شُرحبيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي مولى رسول اللهe، كان حكيم بن حزام بن خُويلد قد جاء برقيق من الشام وكان منهم "زيد" فدخلت عليهم عمته "خديجة بنت خويلد" فقال لها: (اختاري يا عمتي غلاماً من هؤلاء، فمن تختارين منهم فهو لك)، فاختارت زيداً من بينهم، فرآه رسول اللهe عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقهe وتبناه قبل أن يأتيه الوحي، ثم قال له رسول اللهe:)إن شئت فأقم عندي، وأن شئت فانطلق مع أبيك[، فقال: (بل أقيم عندك)، فلم يزل زيد بن حارثة عند رسول الله e حتى بعثه الله فصدقه وأسلم، وصلى معه.

وجدير بالذكر أن ممن أسلموا أيضاً: النجاشي ملك الحبشة فقد أسلم وصلى عليه رسول اللهe لما مات، فقد اجتمعت الحبشة حين رأوا النجاشي يعامل المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده معاملة حسنة وقالوا له: (إنك قد فارقت ديننا) وخرجوا عليه، فلما رأى النجاشي منهم ذلك، هيأ سفناً لجعفر وأصحابه وقال لهم: (اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا)، ثم كتب كتاباً فيه: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم)، ثم وضع هذا الكتاب في قبائه عند المنكب الأيمن، فلما صفوا له قال لهم: (يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟)، قالوا: (نعم)، قال: (فكيف رأيتم سيرتي؟)، قالوا: (خير سيرة)، قال: (فما بالكم؟) قالوا: (فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبدالله)، قال: (فما تقولون أنتم في عيسى؟)، قالوا نقول: (هو ابن الله)، فقال النجاشي، وقد وضع يده على صدره على قبائه: (أشهد بأنه عيسى بن مريم)، ولم يزد على ذلك شيئاً، فانصرفوا جميعاً، وبلغ ذلك النبيe، فلما مات النجاشي صلى عليه محمدe، واستغفر له.

ثالثاً: إيذاء قريش للمسلمين

بدأت دعوة رسول اللهe سراً حتى أمره الله بإظهار دينه بعد ما يقرب من ثلاث سنوات، وكان الرسولe والذين معه يذهبون إلى الصلاة في الشعاب مستخفين من قومهم، وبينما كان "سعد بن أبي وقاص" يصلي مع نفر من أصحاب رسول اللهe في الشعاب بمكة، إذ تعرض لهم نفر من المشركين عابوهم وقاتلوهم وهم يصلون، فضرب "سعد بن أبي وقاص" رجلاً منهم فشجه، وكان ذلك أول دم هُريق في الإسلام.

لما بدأ الإسلام يفشو في بيوت الناس من الرجال والنساء، ولما أخذوا يتحدثون به في كل مكان، وبدأ الرسول يعيب آلهتهم، ازدادت عداوتهم له وللصحابة، غير أن عمه أبا طالب كان يدافع عنه ويحميه، فذهب إليه أشراف من قريش وهم: "عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأبى سفيان بن حرب بن أمية (صخر)، والعاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى (أبو البختري)، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزى، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة (أبو الحكم)، والوليد بن المغيرة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة، والعاص بن وائل" فقالوا: (يا أبا طالب)، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آبناءنا، فإما أن تكفه عنا، وأما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافة، فسنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقاً، وردهم ردا جميلاً.

لم يتوقف رسول اللهe يوما واحداً عن الجهر بدعوته حتى استشرى الأمر بينهم، وأكثرت قريش ذكر رسول اللهe، حتى حرض بعضهم بعضاً على رسول اللهe، وعاد وفد من قريش مرة أخرى إلى أبي طالب فقالوا: (يا أبا طالب، إن لك فينا سناً وشرفاً ومنزلة، وإنا قد استنهيناك ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب ألهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين)، ثم انصرفوا عنه، فعز عليه فراق قومه له، ولكنه لم يطب نفساً بتسليم رسول اللهe لهم ولا خذلانه، فبعث إلى رسول اللهe وقال له: (يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فابق علىَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق)، فقال رسول اللهe له:)يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه[، فبكى أبو طالب وقام رسول اللهe، فلما ولى عنه، ناداه أبو طالب وقال: (أقبل يا بن أخي)، فأقبل رسول اللهe فقال أبو طالب: (أذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً).

كان لهذه النصرة تأثيرها على قريش، لما علمت قريش بنصرة أبى طالب لرسول اللهe، وأنه لن يخذله ولن يسلمه إليهم أبداً، عرضوا عليه "عمارة بن الوليد بن المغيرة" على أن يسلمهم بدلاً منه محمداًe فقال لهم أبو طالب:

(والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنى تقتلونه؟! هذا والله مالا يكون أبداً، والله ما أنصفتموني، ولكنكم قد أجمعتم على خذلاني، ومظاهرة القوم علىّ، فاصنعوا ما بدا لكم)، أو كما قال.

بدأت قريش تظهر عداوتها للمسلمين، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، يفتنونهم، ويعذبونهم، وتصدى لهم عمه أبو طالب، حين رأى ما تصنعه قريش في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم أن يمتنعوا عن رسول اللهe وشدد عليهم فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا أن أبا لهب الملعون لم يستجيب لما دعاه إليه أبو طالب، واجتمع نفر من قريش بالوليد بن المغيرة وكان أسنهم فقال لهم:

(يا معشر قريش، ستقدم عليكم وفود العرب في هذا الموسم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضُكم بعضاً)، فقالوا: (أقم لنا رأياً نقول به)، قال: (بل أنتم)، قالوا: (نقول كاهن)، قال: (لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهَّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه)، قالوا: (نقول مجنون)، قال: (ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته)، قالوا: (نقول شاعر)، قال: (ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر)، قالوا: (نقول ساحر)، قال: (ما هو بساحر، لقد رأينا السُحّاَر وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم)، قالوا: (فماذا نقول؟)، قال: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما انتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وأقرب القول أن تقولوا جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وعشيرته)، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم يحذرونهم منهe، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة هذه الآيات مخاطباً محمداًeً: )ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)( (المدثر: الآيات 11-16).

بلغ تعذيب المسلمين مداه على يد قريش، حتى لقد ألقى أمية بن خلف بلالاً العبد الحبشي على الرمل تحت الشمس المحرقة، ووضع حجراً على صدره، وتركه حتى يلاقي الموت، لا لشيء سوى أنه أصر على الإسلام، وكان بلال يتحمل هذا الأذى وهو يقول ويكرر:(أحدُ أحدُ)، فلما رآه أبو بكر اشتراه واعتقه، واشترى أيضا كثيراً ممن كانوا يعَذَّبُون، وكان من بين هؤلاء جارية لعمر بن الخطاب اشتراها منه قبل الإسلام، كما عُذبت امرأة حتى الموت لأنها تمسكت بالإسلام، ولم ترض الرجوع إلى دين آبائها، وكان القرشيون يضربون المسلمين يسومونهم أشد أنواع العذاب والمهانة.

لم يسلم محمداًe من الأذى برغم منعة بني هاشم وعبد المطلب له، كانت "أم جميل" زوج أبي لهب تلقي النجس أمام بيته، وكان أبو جهل يلقي رحم الشاة المذبوحة عليه e وهو يصلي، هذا بخلاف السب والقول الفاحش، وقد أنزل الله هذه الآيات للتسرية عن الرسول e في قوله تعالى: )قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِِى الْمُرْسَلِينَ(34)( (الأنعام: الآيتان 33، 34).

تعاقدت قريش على حصار محمد e وأصحابه، وسجّل هذا التعاقد في صحيفة علقت في جوف الكعبة، وظلوا يحاصرون المسلمين ثلاث سنوات متتابعة، احتمى محمدe وأهله وأصحابه خلال هذه السنوات في شِعاب الجبال بمكة، وظلوا يعانون ألوان الحرمان، سواء من قلة الطعام والشراب، أو من عدم رؤية الأهل والأصحاب، أو من السعي للتجارة أو غير ذلك من ضروريات العيش، فلم يكن يسمح لهم بالاختلاط بالناس إلا في الأشهر الحرم فقط، حين يفد الناس من كل مكان إلى مكة للحجيج في كل عام، ففي الأشهر الحرم لا مكان للتعذيب ولا للاعتداء ولا للانتقام، وخلال ذلك كان محمدe يدعو الناس إلى الله، وترك عبادة الأوثان، غير أن طول فترة الحصار والتعذيب وما أصاب المسلمين من عنت قريش، جعل بعض القلوب القاسية تلين وتعطف على المسلمين، فكانوا يحملون إليهم الطعام والشراب في الشعاب، وكان أبرز الناس عطفاً على المسلمين "هشام بن عمرو"، فقد كان يأتي بالبعير محملاً بالطعام ويسير به في جوف الليل ليوصل الطعام إلى المسلمين هناك في الشعاب، ولما ضاق هشام بما يعانيه محمدe وأصحابه ذهب إلى "الزهير بن أبى أمية" وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: (يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبث الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم، ولا ينكحون ولا يُنكح إليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً)، وتعاهدا على نقض الصحيفة في ذلك اليوم، وانضم إليهم" المطعم بن عَدِى، وأبو البَختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، هؤلاء الخمسة تعاهدوا على نقض الصحيفة التي تنص على حصار المسلمين وتجويعهم.

وطاف الزهير بالبيت ثم نادى في الناس وقال:(يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟ لايبتاعون ولا يبتاع منهم!، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة)، فلما سمعه أبو جهل قال: (كذبت والله لاتُشقَّ)، وصاح "المطعم، وأبو البختري، وزمعة، وهشام" يكذبون أبا جهل، ويؤيدون زهيراً، وأدرك أبو جهل أن الأمر قد خرج عنه، وأن الأمر قد دبر ليلاً، فتراجع وأوجس خيفة منهم، ثم قام" المطعم" لشق الصحيفة، فوجدها قد هلكت إلا فاتحتها"باسمك اللهم"، وبذلك بطلت الصحيفة، واستطاع محمدe وأصحابه العودة إلى مكة مرة أخرى، يبتاعون من قريش، وتبتاع قريش منهم، برغم تحفز كل فريق إلى الآخر.

رابعاً: هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة

كانت الهجرة إلى الحبشة هي أول هجرة للمسلمين في الإسلام، وذلك لما زاد أذى قريش على المسلمين من تعذيب، وقتل، وتمثيل، فقد رأى محمدe أن يتفرق المسلمون في الأرض، خشية عليهم من شدة الأذى الذي يلاقونه في مكة، ونصحهم أن يذهبوا إلى الحبشة، لأن فيها ملكاً لا يظلم أحداً، والحبشة أرض صدق، وقال لهمe: )اذهبوا إلى هناك حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه[، فخرج فريق من المسلمين في هجرتين:

1. الهجرة الأولي: هاجر فيها أحد عشر رجلاً وأربع نساء، ظلوا هناك حتى علموا أن المسلمين في مكة قد أصبحوا في مأمن فعادوا إليها.

2. الهجرة الثانية: حين رأى المسلمون أن عنت قريش وأذاهم أصبح أكبر من ذي قبل، فعادوا مرة أخرى إلى الحبشة، لكنهم كانوا في هذه المرة أكثر عددا من الهجرة الأولي، فقد هاجر ثمانون رجلاً مع نسائهم وأطفالهم، وظلوا فيها حتى بعد هجرة الرسولe وصحابته إلى يثرب.

وقصة هاتين الهجرتين تبدأ حين هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة بإذن الرسولe فلم يسترح أهل مكة لهذه الهجرة، فبعثوا برجلين إلى النجاشي ملك الحبشة، وهما "عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة"، وأخذوا معهم الهدايا النفيسة ليحاولوا بها إقناع النجاشي برد المسلمين المهاجرين معهم إلى مكة، وقالوا: (أيها الملك إنه قد ضوى [أي أتى] إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، ولقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه)، فلما سمع النجاشي هذا القول أبى أن يردهم إليهم، قبل أن يسمع من المهاجرين ما يقولون في هذا الأمر.

لما حضر المسلمون المهاجرون إلى النجاشي سألهم: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟)، فرد جعفر بن أبى طالب t وقال: (أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسِيءَ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وإباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدَّد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حُرم علينا، وأحللنا ما أحل الله لنا، فعدا علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبدة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك)، فلما سمع النجاشي هذا القول قال:

(وهل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه على ؟)، قال جعفر:(نعم!) وتلا عليه سورة مريم من أولها إلى قوله تعالى: )فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29)قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءاَتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31) وبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)( (مريم: من الآية 29- 33).

لقد أيد البطارقة قول جعفر وقالوا :(إن هذا الكلام يصدر من نبع واحد، هو الذي أتى به سيدنا يسوع المسيح، وقال النجاشي: (إن الذي سمعته والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة)، ورفض تسليم المسلمين المهاجرين إلى ابن العاص، وأراد ابن العاص إثناء النجاشي عن هذا القرار، فأشار إلى النجاشي بأن يسألهم عما يقول الإسلام في عيسىu، فلما أجاب جعفر ابن أبى طالب، وأخبره عما يقوله الإسلام في عيسىu سُرَّ سرورا كبيراً من ذلك، ورسم خطاً وقال :(ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط)، وهكذا عاد "عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة" إلى مكة خالِيين الوفاض دون المهاجرين الذين ظلوا في حماية النجاشي ملك الحبشة، إلى أن سمعوا أن الأمور قد هدأت في مكة فرجعوا إليها، فلما وجدوا أن قريش قد عادت لعداوتهم وإلحاق الأذى بهم، عادوا مرة أخرى إلى الحبشة، في ثمانين رجلاً غير نسائهم وأولادهم.

خامساً: موت خديجة وأبي طالب

لم تمض شهور على نقض الصحيفة التي بسببها حوصر المسلمون ثلاث سنوات في شعاب مكة، حتى حدثت فاجعتان لمحمدr الأولى: موت عمه أبي طالب، حيث مات، والأمر بين محمدr وقريش أشد مما كان عليه من قبل، وهو الذي كان الحِمى والملاذ لمحمدr عند خصومة أعدائه، والثانية: موت خديجة (رضي الله عنها) التي كانت ملك الرحمة، وسنداً له في المحن والشدائد، طاهرة القلب قوية الإيمان، كانت تهون عليه كل شدة، وتزيل من نفسه الخشية والغمة، ولقد تركت تلكما الفاجعتان أثراً بليغاً في نفس محمدr بعد أن فقد هذين النصيرين، وأصبحe في أسى وحزن على فراقهما حتى كان يقولr: )والله مانالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب[.

إن هاتان الفاجعتان اللتان أصابتا محمدr جعلتاه عرضه للسفهاء من قريش، فكانوا يلقون التراب على رأسه، وكانت ابنته فاطمة تزيل عنه التراب كلما ألقوه عليه، وهى تبكي، وكان رسول اللهr يتأثر ببكائها فيخفف عنها ويقول: )لا تبكي يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك[، فلما زاد أذى قريش لرسول اللهr خرج إلى الطائف[1] وحيداً يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة، وفى الوقت نفسه كان يرجو إسلامهم، لكنه لم يجد ما كان يرجو منهم، ولقي منهم ما لم يكن يحتسبه، لقد أبوا أن ينصروه، وسلطوا عليه سفهاءهم يسبونه ويؤذونه، فلما أيس منهم رجاهم ألا يذكروا لأحد لجوءه إليهم، واستنصاره بهم؛ كي لا يشمت به الأعداء؛ لكنهم أبوا عليه.

لقد توقع r منهم الخير!!!، فلاقوه بالشر، وبالإهانة والاستخفاف، فلما وجد منهم ما يكره، لجأ إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، احتمى به هناك حتى يرجع عنه السفهاء، واستظل رسول اللهe بظل شجرة، ورفع يده إلى السماء يتضرع إلى الله ويشكو همه إليه ويقول: )اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو تحل علىّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك[.

تحركت عاطفة ابني ربيعة فأرسلوا إلى محمدr غلاماً نصرانياً يسمى "عداساً" ومعه قطف من عنب ليعطيه إياه، فلما قال محمدe: )بسم الله[ قبل أن يأكل قال عداس: (هذا ليس بكلام أهل هذه البلاد!)، فسأله محمدr عن بلده ودينه فقال: (أنا نصراني من "نينوى")، قالr: )أمِن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟[ قال: (نعم. وما يدريك ما يونس بن متى؟)، قال محمدr: )ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي[، فأخذ عداس يقبل رأس رسول اللهr ويقبل يديه وقدميه، ولما شاهد ابنا ربيعة ذلك تعجبا مما رأياه، ومع ذلك فقد أخذا يحذران عداس من محمدr ويقولان: (لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه).

لم يثن محمداًr إيذاء قريش له، ولا خروجه إلى الطائف، فأخذ يعرض نفسه على القبائل في المواسم، ويذهب إلى القبائل في منازلهم، يخبرهم بأنه نبي مرسل من عند الله، ويدعوهم إلى دين الله، وكان عمه أبو لهب وهو "عبد العُزى بن عبد المطلب" يراقبه، ويحرض الناس عليه ليكذبوه، وكانت القبائل تصر على عنادها وعتوها، مما زاد من عزلة محمدr، وزادت قريش من أذاها لأصحابه أيضاً، وفكر محمدr في الزواج لعله يجد ما يضمد جراحه، كما كانت تضمده خديجة من قبل، فذهب إلى أبي بكر فخطب ابنته "عائشة" (اُنظر ملحق زوجات الرسول r) فعقد عليها وهى في السابعة من عمرها، وتزوجها بعد ذلك وهى في التاسعة من عمرها. (اُنظر شكل نسب الرسول r)

سادساً: رحلة الإسراء والمعراج[2]

قالت "هند" وهى "أم هانئ بنت أبى طالب" رضى الله عنها عن رحلة الإسراء: (أسري برسول اللهr وهو في بيتها، ونام عندها بعد أن صلى العشاء)، وقبيل الفجر أيقظوا رسول اللهr من نومه، فلما صلى الصبح قال:((يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين))، فلما قام ليخرج أخذت بطرف ردائه وقالت: (يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك)، قالr:((والله لأحدثنهموه))، فقالت لجارية حبشية لها: (اتبعي رسول اللهr حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له).

فلما خرج رسول اللهr وأخبر الناس، عجبوا وقالوا: (ما آية ذلك يا محمد فإنا لم نسمع بمثل هذا قط، قالr: ((آية ذلك أنى مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حسّ الدابة، فندّ لهم بعير، فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضنجان وهو (جبل يبعد عن مكة حوالي 40 كم)، مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوب أي [ينزل] من البيضاء: ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان: إحداهما سوداء والأخرى برقاء))، ثم قالت هند: (بادر القوم إلى الثنية فلم يلقهم أول من الجمل[3] كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءاً ماءً ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء)، وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا: (صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وندّ لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه).

قال ابن إسحاق في رحلة المعراج، عن أبي سعيد الخُدْريّ، قال: سمعت رسول اللهr يقول: ((لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أُتي بالمعراج، ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة يقال له إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك))، قال: يقول رسول اللهr حين حدّث بهذا الحديث:((وما يعلم جنود ربك إلا هو))، فلما دخل بي قال: (من هذا يا جبريل؟) قال: (محمد)، قال: (أو قد بُعث؟) قال : (نعم)، قال : (فدعا لي بخير)).

وقال ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم، عمن حدثه عن رسول اللهr أنه قال: ((تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكاً مستبشراً، يقول خيراً ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به إلا انه لم يضحك، ولم أر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت من غيره؟ قال: فقال لي جبريل: أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك، لضحك إليك ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار، فقال رسول اللهr: فقلت لجبريل وهو من الله تعالى بالمكان الذي وصف لكم ]مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [(التَّكوير:21) ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال بلى، يا مالك، أر محمداً النار. قال: فكشف عنها غطاءها، فقال ففارت وارتفعت، حتى ظننت لتأخذن ما أرى. قال: فقلت لجبريل: يا جبريل، مره فليردها إلى مكانها.قال : فأمره فقال لها: اخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل. حتى إذا دخلت من حيث خرجت ردّ عليها غطاءها)).

وقال أبو سعيد الخُدْريّ: أن رسول اللهr قال: ((لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلاً جالساً تُعرض عليه أرواح بني آدم، فيقول لبعضها إذا عُرضت عليه خيراً ويُسَرّ به، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه: أُفّ، ويعبس بوجهه ويقول: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث. قال : قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا أبوك آدم، تُعرض عليه أرواح ذريته، فإذا مرت به روح المؤمن منهم سُر بها وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب، وإذا مرت به روح الكافر منهم أنِف منها وكرهها، وساءه ذلك، وقال: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث. قال: ثم رأيت رجالاً لهم مشا فر كمشا فر الإبل، في يديهم قطع من نار كالأفهار يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً. قال: ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة [أي العطاش] حين يعرضون على النار، يطؤونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك. قال: قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. قال ثم رأيت رجالاً بين أيديهم لحم ثمين طيب، إلى جنبه لحم غث مُنتِن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب، قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن.قال: ثم رأيت نساء معلقات بثديهنّ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم)).

قالr: ((ثم أصعدني إلى السماء الثانية، فإذا بها ابنا الخالة: عيسى بن مريم، ويحي بن زكريا، قال: ثم أصعدني إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر، قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب. قال: ثم أصعدني إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته: من هو؟ قال: هذا إدريس، قال: يقول رسول اللهr ورفعناه مكاناً علياً، قال : ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العثنون (أي اللحية) لم أر كهلاً أجمل منه، قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران. قال: ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم [أي أسود] طويل اقني[أي مرتفع قصبة الأنف] كأنه من رجال شَنُوءة؛ فقلت له:من هذا يا جبريل؟ قال هذا أخوك موسى بن عمران، ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فإذا فيها كهل جالس على كرسى إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة، لم أر رجلاً أشبه بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه؛ قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال هذا أبوك إبراهيم. قال: ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء [أي لها حُمرة في شفتيها تضرب إلى السواد] فسألتها: لمن أنت؟ وقد أعجبتني حين رأيتها؛ فقالت لزيد بن حارثة، فبشر بها رسول اللهr زيد بن حارثة)). والإجماع على أن رسول اللهr أسرى به بالروح والجسد معاً وليس بالروح وحدها.

 



[1] سنة 628 م .

[2] سنة 621 م.

[3] أي كان الجمل المذكور أول ما لقيهم.