إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



قصة محمد

المبحث الحادي والعشرون

الهجرة إلى المدينة وبناء الدولة الإسلامية

أولاً: بيعتا العقبة الأولي والثانية

خرج رسول اللهr يعرض نفسه على القبائل في الموسم، فلقيه رهط من الخزرج عند العقبة، قال ابن إسحاق هؤلاء الرهط هم:" تيم الله" من بني النجار، و"أسعد بن زُرارة، وعوف بن الحارث " من بني مالك، و"رافع بن مالك بن العجلان" من بني زُريق، و"قطبة بن عامر بن حَديدة" من بني سلمة، و"عُقبة بن عامر بن نابي بن زيد" من بني حرام، و"جابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان" من بني عبيد. فلما عادوا إلى المدينة ذكروا لهم رسول اللهr ودعوا قومهم إلى الإسلام، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول اللهr.

1. بيعة العقبة الأولي

حين جاء العام التالي لقي اثنا عشر رجلاً من الأنصار محمداًr في العقبة، فبايعوه قبل أن تفترض عليهم الحرب، وكان منهم رهط من الخزرج من الذين لقوا رسول اللهr في العام السابق عند العقبة، وكلهم بايعوا رسول اللهr، وعن عُبادة بن الصامت أحد الذين بايعوا رسول اللهr في العقبة الأولي، قال: ( بايعنا رسول اللهr على ما نصت عليه البيعة: أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفينا فلنا الجنة، وإن غشينا من ذلك شيئاً فأمرنا إلى الله عز وجل، إن شاء عذبنا وإن شاء غفر لنا).

ولما انصرفوا إلى المدينة أرسل رسول اللهr معهم "مصعب بن عمير" وأمره أن يقرئهم القرآن، وأن يعلمهم الإسلام، وأن يفقههم في الدين، فكانوا يسمون مصعب بن عمير مقرئ المدينة، وكان يصلي بهم في المدينة دون أحد من الأوس أو الخزرج، لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤم أحدهم الأخر، وازداد الإسلام بعد هذه البيعة بيثرب، وكان مصعب بن عمير مسرورا لازدياد الأنصار فى المدينة، وظهور كلمة الحق ودين الله هناك، فلما جاءت الأشهر الحرم عاد مصعب إلى مكة، وقص على رسول اللهr خبر المسلمين بالمدينة، وما أصبحوا عليه من قوة، كما أخبره أنهم سيأتون إلى مكة هذا العام في موسم الحج، وهم أكثر عدداً وأعظم إيماناً.

لما سمع محمدr تلك الأخبار عن المسلمين في المدينة، ورأى أن أتباعه بالمدينة يزداد عددهم يوماً بعد يوم، وأن يثرب أكثر رخاء من مكة، بينما المسلمون في مكة يلاقون الأذى والفتنة من قريش، وأنه لا يستطيع مواجهة هذا الأذى؛ إذ المسلمون هم الطرف الأضعف في هذه المعادلة في ذلك الوقت، لذا فكر محمدr في الهجرة إلى المدينة حلاً لتلك المعادلة، وكيف لا ؟، وقد هاجر المسلمون من قبل إلى الحبشة، حين اشتد الأذى عليهم من قريش، فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب ليلتقوا بأصحابهم من المسلمين هناك، ويتآزروا معاً لنجاح الدعوة، بعيداً عن هذا الشر الذي يلاقونه كل يوم في مكة، لكن رسول اللهr قرر ألا يأمر المسلمين بالهجرة إلا في الوقت المناسب.

2. بيعة العقبة الثانية(الكبرى)

بعد عودة "مصعب بن عمير" إلى مكة في هذا العام 622م قادماً من المدينة، أتى خلفه من يثرب كثيرون إلى مكة للحج، وكان بينهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان؛ وفكر محمدr في بيعة ثانية، لا تقف عند الدعوة إلى الإسلام دون الدفاع عن أنفسهم، متحملين الأذى من قريش ثلاث عشرة سنة متتالية، كان المسلمون خلالها يحتملون أشد صنوف العذاب في صبر وتضحية، وأراد محمدr أن تكون البيعة هذه المرة على أساس القوة ودفع الأذى بالأذى ورد العدوان بالعدوان، وفى البداية قرر محمدr مواعدة أهل البيعة سراً عند العقبة، ليلتقوا في جوف الليل في أوسط أيام التشريق، فلما مضى ثلث الليل خرجوا متسللين إلى العقبة، مستخفين من الناس، حتى لا ينكشف سرهم، وجاء محمدr ومعه عمه "العباس" الذي كان مازال على دين قومه، لكنه أتى للدفاع عن محمدr.

كان العباس هو أول من تكلم في هذا الجمع من المسلمين، فقال: (يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه).

قالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فقال محمدr: ((أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم))، ومد "البَرَاءُ بن معرور" يده إلى رسول الله وقال: (بايعناك يا رسول الله! فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورِثناها كابراً عن كابر)، وكان "البراء" سيد قومه وكبيرهم، أسلم بعد العقبة الأولي، لكنه كان يتخذ الكعبة قبلة له، واختلف مع قومه لاتخاذهم المسجد الأقصى قبلة لهم في صلواتهم، فلما احتكموا لرسول اللهr رده عن الصلاة في اتجاه الكعبة، لذا مد يده لمبايعة الرسولr ليؤكد له السمع والطاعة، غير أن "أبا الهيثم بن التيهان" اعترض "البراء" قائلا: (يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال [ يعنى اليهود] حبالاً [أي عهوداً] نحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم رسول اللهr وقال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم[1]، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).

واعترض" العباس بن عبادة" قائلا: (يا معشر الخزرج! أتعلمون عَلام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكت أموالكم مُصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن فدعوه، فهو والله إن فعلتم خِزْيُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة)، فرد القوم: (إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟)، فرد رسول اللهr قائلاً: ((الجنة))، فلما بايعوه قال لهم رسول اللهr: ((أخرجوا لي منكم أثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء))، فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال رسول اللهr للنقباء: ((أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي))، وقال أهل البيعة الثانية لرسول اللهr: (بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومه لائم).

علمت قريش من أحد القرشيين الذين تجسسوا على محمدr ومن معه في تلك الليلة أن أصحاب البيعة الثانية بيتوا لحرب قريش، ولما عرف محمدr والذين بايعوه بتلك الوشاية أوثق الأوس والخزرج عهدهم مع رسول اللهr، وقال "العباس بن عبادة" لمحمدr: (والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل مِنى غداً بأسيافنا)، فقال محمدr: ((لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم))، فرجعوا إلى رحالهم.

ذهبت قريش إلى منازل الخزرج يعاتبونهم على هذه البيعة فالتزم المبايعون الصمت، وأيدهم في ذلك المشركون من الخزرج الذين حلفوا بالله ما كان من هذا شيء [أي البيعة]، وصدَّقت قريش شركاءها من مشركي الخزرج، وعادت لا تؤكد خبر المبايعة ولا تنفيه، وحمل أهل يثرب رحالهم ومضوا قاصدين المدينة، ولما تأكدت قريش بعد ذلك من أن خبر البيعة صحيح، حاولت اللحاق بهم، لكنها لم تستطع اللحاق بهم إلا واحداً منهم، هو "سعد بن عبادة" فأخذوه إلى مكة وعذبوه، حتى أجاره كل من: "جُبير بن مُطعم بن عدي"، و"الحارث بن أمية" فقد كان "سعد بن عبادة" من قبل يجير لهم من يخرجون في التجارة إلى الشام حين يمرون عليه بيثرب.

ثانياً: الهجرة إلى المدينة وبناء الدولة الإسلامية

1. إن تاريخ الهجرة من أهم الأحداث عند المسلمين، ففي هذا التاريخ تحول الإسلام من الضعف إلى القوة، ومن الدفاع إلى الهجوم، إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحسبون ويسجلون تاريخهم معتمدين هذا التاريخ الذي يسمى عند المسلمين بالتاريخ الهجري، كما أن المسلمين يَحسِبون السنين بناء على تاريخ أول هجرة للمسلمين إلى المدينة بعد  بيعتَي العقبة الأولي والثانية، فحساب السنين عند المسلمين مقاس بالسنة الهجرية، محسوباً منذ هذه الهجرة التي تُعَدّ من أهم الأحداث عند المسلمين حتى الآن، وستظل كذلك دوماً، لقد نصر الأوس والخزرج محمداًr في بيعة العقبة الثانية (الكبرى)، ورأت قريش أنها في موقف حرج، فقد انفتح أمام محمدr والذين معه أبواب الدعوة إلى دين الله بحرية، وفُتحت أيضاً أبواب الطعن فى عبادة الأصنام.

2. رأت قريش أنها إن لم تقض على هذه الحركة في مهدها فلن تستطيع إيقافها إذا انتشرت بعد ذلك، واستفحلت في قبائل الجزيرة العربية، لقد أصبحت المعركة بين محمدr وقريش أشد ما يمكن منذ بعثته، إن الموقف الآن يحتاج من محمدr إلى حنكة وسياسة وقيادة حكيمة، لذا فقد أمر أصحابه باللحاق بالأنصار في يثرب، وأن يهاجروا إلى هناك فرادى أو في جماعات قليلة، ومتفرقين غير مجتمعين، ولا مثيرين ثائرة قريش ضدهم.

3. علمت قريش بما نوى عليه مسلمو مكة، فحاولت رد من استطاعت أن ترده منهم إلى مكة مرة أخرى، مع إلحاق أشد صنوف العذاب بهم لفتنتهم عن دينهم، حتى بلغ من الأمر أن قريشاً كانت تحول بين الزوج وزوجته، فتحبسها عنه محاولة تقليل عدد المهاجرين من المسلمين.

4. وتتابعت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، ولم تعلم قريش بنية محمدr في الهجرة!!، هل سيهاجر مع الذين هاجروا أم سيبقى في مكة ؟، لكن لم يساورهم شك في أنه قد يبقى في مكة ولا يهاجر، فهم يعلمون أن محمداًr قد مكث في مكة من قبل حين هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين، ولم يهاجر معهم في ذلك الوقت بل مكث في مكة، ولما استأذن أبو بكرr رسول اللهr في الهجرة قال له رسول اللهr:((لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً))، ولم يزد على ذلك، وكأنه أراد أن يكون أبو بكرy هو صاحبهr في رحلة الهجرة إلى يثرب، حين يقرر الهجرة إلى هناك.

5. لقد حسبت قريش لهجرة النبيr ألف حساب، فالمسلمون في يثرب يتزايد عددهم يوماً بعد يوم، ويزدادون قوة، فماذا لو هاجر إليهم رسول اللهr؟، لاشك أن ذلك سيكون خطراً عليهم، وعلى قوافلهم التجارية التي تمر بهم عندما يذهبون بها فى طريقهم إلى الشام، كما أن بقاء محمدr أيضاً في مكة سيجعلهم في خطر من جانب اليثربيين الذين سيدافعون عن نبيهم ورسولهمr إذا تعرض للخطر هناك، فهم في ريبهم يترددون؛ أيقتلونه ليستريحوا منه، أم يتركونه على دعوته للناس بمكة، فيزداد بذلك عدد المسلمين بها، ويكونوا خطراً علي قريش.

6. اجتمعت قريش بدار الندوة يفكرون في قرار صائب يريحهم من هذا الهم الواصب[2]، واتفقوا على أن يأخذوا شاباً قوياً من كل قبيلة، وأن يعطوا لكل واحد منهم سيفاً صارماً، فيضربوه جميعاً ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا يستطيع بنو عبد مناف قتالهم بعدها فيقبلوا فيه الدية، وبذلك تستريح قريش بعده، فهو الذي شتت شملهم وفرق جمعهم.

7. بات أمر التخلص من محمدr وقتله أمراً وشيكاً، وعلم محمدr بما تبيته قريش له، فكتم أمره حتى على صاحبه أبي بكر الصديِّقy، وأخذ ينتظر أمر ربه، ولما أذِن الله له بالهجرة وأوحى إليه هذا الأمر، ذهب إلى أبو بكر الصديِّقy وأخبره بأن اللهI قد أمره بالهجرة، وطلب منه أن يعد نفسه لصحبته في هجرته، وكان أبو بكر الصديِّقy قد أعد راحلتين، دفعهما إلى "عبدالله بن أريقط"، ليرعاهما حتى يحين هذا الموعد الذي كان يرتقبه.

8.  كان محمدr يعلم أن قريش ستتبعه، وتحاول القضاء عليه، فقرر أن يسلك طريقاً آخر، وأن يخرج مهاجراً في موعد غير مألوف لديهم، وكان شباب قريش المكلفون بالقضاء عليه، يحيطون بداره ليلاً، ويحاصرونه بسيوفهم، خشية أن يفر منهم، وأسّر محمدr في تلك الليلة إلى "عليّ"y أن يتسجى ببُرده الحضرَميَّ ذات اللون الأخضر، وأن ينام على فراشهr  في تلك الليلة، ثم يبقى بعدها في مكة، حتى يؤدي عن رسول اللهr الودائع التي كانت عنده للناس.

9. كان الفتية المتربصون بمحمدr كلما نظروا من طرف خفي، يظنون أنه مازال نائماً في فراشه، فيطمئنون بذلك لوجوده، حتى إذا جاء الثلث الأخير من الليل خرج محمدr إلى بيت أبى بكرy في غفلة من هؤلاء المتربصين لقتله، وخرجا معاً من مكة، متوجهين جنوباً نحو غار ثور (اُنظر صورة غار ثور) قاصدين المدينة، ولم يكن يعلم بمكانهما غير "عبدالله" ابن أبي بكر، الذي كان يقضى النهار بين قريش، يتقصى أخبارهم ومؤامراتهم على محمدr وأبيه، ثم يذهب إليهما بالليل في الغار ليقص عليهما ما سمع، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام إذا أمست بما يصلحهما، وكان مولاهم "عامر بن فهيرة" يرعى غنم أبي بكر، فإذا جاء المساء حلب، وذهب إليهما باللبن، وإذا عاد "عبدالله بن أبي بكر" من عندهما، تبعه بالغنم؛ ليمحو أثر قدمه حتى لا تقص قريش أثره. أقام محمدr وأبو بكر بالغار ثلاثة أيام، ومحمد r لا يفتر عن ذكر الله، وأبو بكرt  يركز كل همه لمعرفة شيء عمن يحاولون أن يقتفوا أثرهما.

10. تحركت قريش بكل وسائلها لمحاولة العثور على محمدr وصاحبه أبي بكر الصِديق، فهم يعلمون أن الخطر سيحدق بهم [أي بقريش] إن لم يلحقوا بمحمدr ليحولوا بينه وبين يثرب، وقد جعلوا (جائزة) مائة ناقة لمن يرشد عن محمدr وأبي بكر، إمعاناً في محاولة إحباط هجرته إلى يثرب، وظلت قريش تبحث عن محمدr بإصرار وعناد حتى اقتربوا من الغار، وهناك سألوا راعياً قريباً من الغار عما إذا كان قد رأى محمداًr وصاحبهt، فأجاب قائلاً: ( قد يكونان في الغار، وإن كنت لم أر أحداً منهما)، وسمع أبو بكر ما قاله الراعي، فخشي أن تقتحم قريش عليهما الغار.

11. صعد بعض فتيان قريش ومعهم سيوفهم نحو الغار، لكنهم عادوا أدراجهم حين لم يجدوا أية علامة على وجود محمدr وصاحبه هناك، ولما رجعوا إلى أصحابهم المترقبين عودتهم وسماع أخبارهم، سألهم أصحابهم لماذا عدتم دون أن تبحثوا في الغار، قالوا: (رأينا على باب الغار عنكبوت من قبل أن يولد محمد، ورأينا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفنا أن ليس به أحد).

12. وازداد محمدr من صلاته، بينما ازداد خوف أبي بكرt حتى أنه همس في أذن النبيr وقال: (لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا)، فقال رسول اللهr وهو يطمئنه: ((يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا))، ولما اشتد خوف أبي بكر على النبيr  قال له محمدr: ((يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما!))، ولقد أنزل الله عز وجل فب القرآن الكريم هذا المشهد الرائع في سورة التوبة يصف حالهما وهما في الغار، والمشاعر والأحاسيس التي كان عليها رسول اللهr وأبو بكر الصديق وهما في الغار، قال تعالى: )إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (التوبة: الآية40).

13. اقتنع القرشيون بأن محمداًr ليس في الغار، وأنه لادعي للدخول للبحث عنهما في هذا الغار، خاصة بعد أن شاهدوا هذه العلامات التي تشير إلى استحالة وجود أي أثر لبشر في هذا الغار منذ زمن بعيد، وبناء على ذلك قرروا العودة من حيث أتوا، ولما تأكد أبو بكرt بأنهم قد ضلوا طريقهم إليهم، وبدأوا في العودة بعيداً عن الغار، فرح فرحاً عظيماً بنصر الله، وازداد إيمانا بالله وبرسولهr، ولما رأى محمدr هذا التأييد الإلهي له ولصاحبه على قريش نادي:  ]الحمد لله، الله أكبر[.

14. في اليوم الثالث وبعد أن اطمأن محمدr أن قريش يئست من البحث عنهما، جاء صاحبهما "عبدالله بن أريقط"  ببعيريهما، وجاءت أسماء بنت أبي بكر بطعام لهما، فلما لم تجد ما تعلق به الماء والطعام في رحالهما شقت نطاقها نصفين، وعلقت الطعام والماء في نصفه، وانتطقت بالنصف الآخر ولذلك سميت (بذات النطاقين)، وكان مع أبي بكر خمسة آلاف درهم حين ركب هو ومحمدr رحالهما.

15. قرر محمدr أن يسلك وأبا بكر طريقاً آخر إلى يثرب، خشية متابعة قريش لهما، وكان دليلهما إلى يثرب "عبدالله بن أريقط" الذي اتجه بهما إلى الجنوب أسفل مكة، ثم توجه بهما إلى تهامة بعد ذلك، وهي على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، ثم أخذ شمالا مبتعدا عن الساحل؛ حتى لا يتعرضوا لقوافل التجار، فقد كانت قوافل التجارة تسلك الطريق القريب من الساحل نفسه. (اُنظر خريطة هجرة الرسول e)

16. أقبل رجل على قريش وأخبرهم بأنه رأى ركباً من ثلاثة، يعتقد أنه محمد وبعض أصحابه، فلما سمع" سراقة بن مالك بن جُعٌشم" ما قاله هذا الرجل، فكر في أن تكون له الجائزة التي خصصتها قريش لمن يرشد عن الرسولr ، فلما سأل ركب من قريش سراقة عن رؤيته لركب الرسولr  ضللهم عن الاتجاه الذي ذكره الرجل لهم، ونفى أن يكون محمد هو الذي رآه هذا الرجل، لم يكن ذلك محاولة من سراقة لإنقاذ محمداًr من قريش، بل كان طمعاً في أخذ المكافأة من قريش إذا أرشدهم هو على الطريق الذي سلكه محمدr، وبعد أن نجح في تضليلهم خرج بفرسه ومعه سلاحه، وراح يسرع بفرسه للحاق بمحمدr وأصحابه، فلما اقترب من الركب كبا فرسه كبوتين شديدتين، لكنه لم يبالي وقام وواصل سيره لمتابعته لمحمدr وأبي بكر، حتى إذا أصبح وشيك اللحاق بهم وإدراكهم، إذ بفرسه يكبو كبوة ثالثة جعلت سراقة يطير في الهواء ويتدحرج على الرمال، وهو مذهول مما يحدث له، وشعر سراقة أن الآلهة تلاحقه وتمنعه من الإمساك بهم، وأنه إذا حاول اللحاق بهم مرة رابعة فسوف يعرض نفسه إلى خطر محقق، هناك وقف ونادى رسول اللهr وقال: (أنا سُراقة بن مالك بن جُعْشُم. انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم منى بشيء تكرهونه، أريد كتاباً يكون آية بيني وبينكم).

17. كتب أبو بكر بأمر النبيr كتاباً، أخذه سراقة وعاد ليضلل قومه حتى لا يلحقوا بمحمدr ، ضللهم بدلاً من أن يرشدهم عنهr ، فقد أخذ عهداً أن يكون وسيلة لتضليل قريش بدلا من أن يكون وسيلة لتسليمهr إليهم، وتحول سراقة في لحظة من عدو لمحمدr يريد أن يسلمه لقريش أو يدلهم عليه لينال جائزتهم، إلى صديق حميم يدافع عنهr في غيبته ويحميه من لحاق قريش به.

18. انطلق محمدr وأبو بكر في شدة الحر يقطعان بطون تهامة سبعة أيام متتالية، يوصلان الليل بالنهار، لا يجدان ملجأ يحتميان به من هذا القيظ المحرق نهارا،ً ولا هذا الليل البارد المظلم أيضاً، تحملا ذلك صابرين واثقين من أن الله معهما، فلما أصبح قاب قوسين أو أدنى من يثرب جاءهم "بُريدة" وهو شيخ قبيلة بني سهم يحييهما، وهنا زالت مخاوفهما واطمأن قلبهما لنصر الله وبلوغ هدفهما، هدف الوصول إلى يثرب، التي وصلت أخبار هجرة رسول اللهr إليها (اُنظر خريطة هجرة الرسول e)، وكان المهاجرون والأنصار في المدينة ينتظرون وصولهr، فقد كان الكثيرون من أهل المدينة يحلمون برؤية رسول اللهr من قبل، وفي شوق إليهr لذا كانوا جميعاً يترقبون وصوله.

19. انتشر الإسلام في المدينة، وأصبح المشرك يخرج من بيته مشركاً، فيعود مسلماً في جلسة واحدة من جلسات مصعب بن عمير، ومن أمثلة ذلك أن "سعد بن معاذ"، و"أسيد بن حُضير" حين شاهدا مُصٌعَب بن عُمَيٌر، وأسعد بن زُرارة، في بني ظفر يُعَلِمان المسلمين القرآن والإسلام اغتاظ "سعد بن معاذ" وأرسل "أسيد بن حُضير" لزجرهما عن ذلك، فلما ذهب أسيد إلى "مصعب" ليزجره قال له "مصعب بن عمير": (أو تجلس لتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُف عنك ما تكره)، قال أسيد: (أنصفت)، وجلس أسيد ليستمع إلى "مصعب" فأعجب بما يقول، ولم يقم من مجلسه حتى أسلم.

20. وعاد "أسيد بن حُضير" إلى "سعد بن معاذ" مختلفاً تماماً عما كان عليه قبل ذهابه إليهما، فاغتاظ "سعد بن معاذ" من ذلك، وذهب بنفسه إلى "مصعب بن عمير" لكنه عاد كصاحبه الذي أرسله إليه من قبل، عاد مسلماً بعد أن استمع إلى كلام مصعب وإلى قراءته، ولم يلبث أن ذهب "سعد بن معاذ" على أثر ذلك إلى قومه وقال: (يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟) قالوا: (سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأياً)، قال: (فإن كلام نسائكم ورجالكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله)، ونتيجة ذلك أسلم بنو عبد الأشهل كلهم جميعاً رجالا ونساءً .

21. لقد كان المسلمون ينقلبون على الأصنام التي كانوا يعبدونها من قبل، وينقلبون على التي مازال يعبدها آخرون منهم، فقد كان "لعمرو بن الجموح" صنم من خشب يسمى "مناة"، فلما أسلم فتيان من قومه قضوا عليه حاجتهم، فقام عمرو بتطهيره ووضعه في مكانه، وكانوا يكررون تلك الأفعال مع "مناة" هذا الصنم الذي لا يعقل ولا يفكر ولا يضر ولا ينفع، وكانت تلك الأفعال تغضب "عمرو بن الجموح" فكيف يُفعل ذلك بإلهه، وهو سيد من سادات بني سلمة، وشريف من أشرافهم؟ وكلما أصبح عمرو وذهب إلى صنمه لم يجده، فبحث عنه حتى وجده في مكان بعيد مقضياً عليه الحاجة، فاغتاظ لذلك، وأخذه وطهره وأعاده إلى مكانه مستشيطاً غضباً، ولما ضاق ذرعاً بما يحدث لصنمه علق سيفه على  الصنم وهو يقول للصنم: (إن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك)، فلما أصبح لم يجده مرة أخرى، بل لم يجد سيفه أيضاً، أخذ يبحث عنه في كل مكان، حتى وجده في بئر مقروناً إلى كلب ميت ولم يجد سيفه هناك، فلما رأى بعينه أن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع، ولا يستطيع حتى أن يدافع عن نفسه بالسيف الذي كان معه، فكر كثيراً وعاد إلى نفسه، ثم لم يلبث أن كلمه المسلمون من قومه في أمور الإسلام حتى تأثر بقولهم وأسلم، هكذا عن قناعة رأى بنفسه ما في الشرك من ضلال وشرك وظلام.

22. تحرق أهل يثرب شوقاً لمقدم رسول اللهr، فكانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصبح، يلتمسون مجيئه حتى تغيب الشمس، فلما بلغ رسول اللهr قباء، وأصبح على مسافة فرسخين من المدينة، مكث في قباء أربعة أيام أسس خلالها مسجداً، ولحق به هناك "عليّ بن أبي طالب" بعد أن رد ودائع الناس بمكة تنفيذاً لأوامر الرسولr له قبل أن يهاجر، وكان عليُّ بن أبي طالب يعاني الكثير من المشاق قبل أن يبلغ قباء، فكان يسير بالليل ويستخفي بالنهار وهو سائر على قدميه لمدة أسبوعين كاملين.

23. وتأكد قدوم رسول اللهr لأهل المدينة حين صاح يهودي قائلاً: (يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء)، وصلى محمدr صلاة الجمعة بالمدينة وأقبل عليه مسلمو المدينة حين كان فى مسجد ببطن وادي رانُونا، أقبلوا عليه يحاولون رؤيتهr، وبلغ من حب أهل المدينة وشوقهم لرسول اللهr أن عرض سادة المدينة عليه أن يقيم عندهم، فاعتذر لهم، وامتطى ناقته، حيث انطلقت به في طرقات يثرب، وسط حشود من مسلمي أهل المدينة واليهود والمشركين، الكل يريد مشاهدة ورؤية رسول اللهr الذي اجتمعت عليه الأوس والخزرج بعد أن كانوا أعداءً يقاتل بعضهم بعضاً، ومرت الناقة تحمل رسول اللهr حتى إذا كانت عند مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، هما "سهل وسهيل ابني عمرو" بركت الناقة هناك ونزل عنها رسول اللهr، ورجا "معاذ بن عفراء" رسول اللهr أن يتخذ هذا المربد مسجدا فقبل رسول اللهr، وأمر أن يبنى مسجده ودارهr في هذا المكان بعد أن اشتراه من الغلامين.

24. اشترك المسلمون من المهاجرين والأنصار في بناء المسجد وأيضاً مساكن رسول اللهr، وكانr يشاركهم البناء بيديه، كان بناء المسجد بسيطاً للغاية، كان عبارة عن فناء فسيح جدرانه من الآجر والتراب، وسقفه من سعف النخيل، خصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء، وكان المسجد لا يضاء نوره إلا في صلاة العشاء، وظل المسجد على هذا الحال تسع سنوات متتالية، حتى شدت له مصابيح، علقت على جذوع النخل للإضاءة، ولم يكن بيت النبيr أكثر ترفاً من المسجد، وخلال فترة البناء أقام رسول اللهr في دار "أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري" حتى اكتمل البناء، ولما اكتمل البناء تحول رسول اللهr إلى مسكنه؛ ليبدأ عهداً جديداً في بناء آخر، من نوع آخر، هو بناء الدولة الإسلامية، كان أول همهr هو توفير الطمأنينة والحرية للمسلمين واليهود والنصارى على السواء، ليقضي بذلك على جيوش الظلم، التي تحارب هذه الحرية، وتلك المساواة بين السادة والعبيد، وبين الأبيض والأسود.

25. الأذان للصلاة: عندما قدم المسلمون إلى المدينة كان رسول اللهr يقيم الصلاة، أول أمره، بغير أذان، وفكر أن يدعو إلى الصلاة عن طريق استخدام البوق للإعلان عن موعد الصلاة، كما كان يفعل اليهود، لكنه كره ذلك!!، ثم أمر بالناقوس، كما كان يفعل النصارى، لكنه عدل عن ذلك أيضاً!!، ثم إن عبدالله بن زيد بن ثعلبة رأى في المنام من يقول له: لا تجعلوا الناقوس أذانا للصلاة، بل أذنوا لها، فذهب إلى النبيr ليخبره بذلك فوجده قد أوحِى إليه من الله عز وجل بالأذان، حينئذ قال له رسول اللهr: ((قم مع بلال فألقها عليه، [أي صيغة الأذان] فليؤذن بها فإنه أندى صوتاً منك))، وكان بلال من قبل أن يُبَلّغَ بهذا الأمر، يعلو بيت امرأة من بني النجار، يؤذن من فوقه لصلاة الفجر على الصيغة التالية: (اللهم أني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا على دينك)، فلما أبلغه "عبدالله بن زيد" بالصيغة الجديدة للأذان، أخذ يؤذن بها ويسمعه أهل يثرب جميعاً فيقومون بعدها إلى صلاتهم، أخذ بلال يؤذن لكل صلاة: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله)، بهذا الأذان. وبهذه الصيغة الموحاة إلى محمدr توحد المسلمون في المدينة أكثر مما كانوا عليه من قبل، ليظل هذا الأذان، هو أذان المسلمين في كل بقاع الأرض حتى قيام الساعة.

26. انفسح المجال أمام محمدr ليعلن تعاليم الإسلام السمحة على الناس، ولتكون هذه التعاليم هي أساس الحضارة الإسلامية (اُنظر شكل من البعثة إلى الهجرة)؛ فحين سأل رجل رسول اللهr: أي الإسلام خير؟ قالr: (( تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))، وظل محمدr يواصل دعوته، وينشر تعاليم الإسلام من خلال خطبه التي كان يلقيها في المدينة، يذكر المؤرخون أن أول خطبه بالمدينة قال فيهاr: ((من استطاع أن يقي وجهه من النار، ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تُجزى الحسنةُ عشر أمثالها))، وفي خطبته الثانية قالr: ((اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاه، واصدقوا الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن يُنكثَ عهده)).

27. كان رسول اللهr يخطب في الناس في مسجده، وهو متكئ على جذع نخلة، وظل كذلك حتى أمر بصنع منبر له من ثلاث درجات، يخطب خطبته على الدرجة الأولي ثم، يجلس على الثانية، وكانr يأبى أن يظهر بمظاهر المُلك أو الثراء، فقد كان r يكره الإطراء حتى قال لأصحابه: ((لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله))، وكان حين يسير، ويقومون له توقيراً واحتراماً، يقولr: ((لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً)).

ثالثاً: المهاجرون والأنصار والأوس والخزرج واليهود

1. المهاجرون هم المسلمون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والأنصار هم أهل المدينة الذين أسلموا في بيعتي العقبة الأولي والثانية وما بعدها، وقد ناصر أهل المدينة المهاجرين، واستضافوهم في بيوتهم وديارهم، وذللوا لهم كل الصعاب، وهيؤوا لهم كل سبل الحياة، حتى استقرت بهم الأمور، كانوا كرماء في تعاملهم مع المهاجرين، كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فقد ألف الدين الجديد بينهم بروابط وثيقة، ولم تكن تلك الروابط القوية معروفة بتلك الحرارة قبل الإسلام أو قبل الهجرة.

2. وكان في المدينة مشركون من الأوس والخزرج (اُنظر خريطة شبه الجزيرة العربية) تنتشر بينهم العداوة الدائمة والبغضاء، ولم يحدث أن تصالحوا فيما بينهم ولو مرة واحدة إلا حين دخل الإسلام يثرب، فقد وجدوا أنفسهم ضعفاء بين المسلمين واليهود، أنهكتهم حروب الماضي، أما اليهود فكانوا يقيمون في أماكن شتى من المدينة، يهود (بني قينقاع) كانوا في داخل المدينة، ويهود (بني قريظة) كانوا يقيمون في ضواحي المدينة، ويهود (بني النضير) كانوا على مقربة منهم، أما يهود (خيبر) فكانوا في شمال المدينة.

3. في البداية حاول اليهود استمالة رسول اللهr إليهم، ظناً منهم أنهم بذلك يمكنهم من الوقوف في وجه النصارى ، لذا فقد استقبلوا رسول اللهr استقبالا حسناً حين أقبل إلى المدينة، وأراد رسول اللهr في هذا الجو المليء بفئات شتى من مسلمين ومهاجرين وأنصار ونصارى ويهود بالإضافة إلى مشركي الأوس والخزرج، أراد أن يوحدهم سياسياً ونظامياً، بتنظيم صفوف المسلمين أولا، ثم التسوية بينهم، ولتحقيق ذلك دعا المسلمين ليتآخوا في الله أخوين آخوين .

4. كان محمدr وعليّ بن أبي طالب أخوين في الإسلام ـ وكان حمزة بن عبد المطلب ومولاه زيد أخوين في الإسلام ـ وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين في الإسلام ـ وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين في الإسلام - وكان عمر بن الخطاب وعِتبان بن مالك الخزرجى أخوين في الإسلام ـ وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين في الإسلام ـ وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين في الإسلام ـ وعبدالرحمن بن عوف  وسعد بن الربيع أخوين في الإسلام ـ والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين في الإسلام ـ وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين في الإسلام ـ ومصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين في الإسلام ـ وبلال مؤذن الرسولr وأبو رويحة عبدالله بن عبدالرحمن الخثعمى أخوين في الإسلام 000الخ، وهكذا وبوا ووكذلك فعل المهاجرين فيما بينهم، وقد أظهر الأنصار كرم الضيافة للمهاجرين منذ اللحظة الأولي التي وصلوا فيها إلى يثرب، فهم يعلمون أن إخوانهم من المهاجرين قد ضحوا بكل شيء في سبيل الوصول إلى المدينة، والالتقاء بإخوانهم من الأنصار هناك، والحقيقة أن المهاجرين تركوا وراءهم كل شيء في مكة، ولم يبالوا بالمشقة والعناء والجوع والعطش الذي تعرضوا إليه في رحلة الهجرة، حتى إن كثيراً منهم لم يجد قوتاً يقتات به حين بلغ المدينة.

5. لقد بلغ كرم الأنصار ذروته مع المهاجرين!، حتى كان بعض الأنصار يعرضون نصف أموالهم على ضيوفهم من المهاجرين، فقد عرض "سعد بن الربيع" من الأنصار ماله على"عبد الرحمن بن عوف" وهو من المهاجرين ليقتسمه معه، فأبى"عبد الرحمن بن عوف" وأخذ يتاجر في الأسواق حتى كثرت ثروته نتيجة خبرته في التجارة وهو في مكة وأصبح له قوافل للتجارة بالمدينة، وفعل ذلك كثير من المهاجرين أيضاً فقد كان معظمهم تجاراً محترفين لهم دراية بهذا المجال، أما الذين لم يعملوا بالتجارة في مكة من قبل فقد اشتغلوا بالزراعة في أراضي الأنصار، وكان هناك أيضاً فئة من المهاجرين لم يكن لهم أي عمل بالمدينة وكانوا في حالة من العوز، لذا فقد أفرد لهم محمدr مكاناً مسقوفاً في المسجد يأوون إليه، وجعل لهم نصيباً في مال المسلمين، وهؤلاء كانوا يعرفون "بأهل الصُّفَّة" نظراً لوجودهم في صُفة المسجد أي [المكان المسقوف منه].

6. لم يتوقف المنافقون عن محاولات الوقيعة بين المسلمين من الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، لكن رسول اللهr فوت عليهم كل الفرص، فقد وضع نظاماً سياسياً قوياً ومتيناً يربط الجميع برباط المودة والأخوة، كانr  على صله وثيقة باليهود حتى كان يصوم في يوم صومهم، كما كان يبر البائس والفقير والمحروم منهم والآخرين على اختلاف ديانتهم، مؤكداً أن الإسلام دين يكفل حرية العقيدة، وقد ألف رسول اللهr بين المهاجرين والأنصار واليهود فكتب لهم معاهدة فيما بينهم تقر بدينهم وأموالهم أنظر (اُنظر ملحق عهد المهاجرين والأنصار واليهود) هذه الوثيقة ذات الطابع السياسي التي تقرر حرية العقيدة والرأي، وحرمة البلد، وحرمة الحياة، وتحرم الجريمة، تُعَدّ فتحاً جديداً من فتوحات الرسولr في الحياة السياسية وبناء الدولة الإسلامية بالمدينة .

7. استقر الدين الإسلامي في المدينة، وأصبح المسلمون يقيمون الفرائض دون خوف من بطش أو تعذيب كما كان يحدث لهم من قبل في مكة، تزوج رسول اللهr "عائشة بنت أبى بكر" وهى في التاسعة من عمرها، وكان قد عقد عليها وهو بمكة، وانتقلت معه إلى مسكنها بجوار المسجد بجانب مسكن "سَودة" التي تزوجها النبيr في مكة بعد موت خديجة، وكان زوجها قد توفى وهو من المهاجرين الذين عادوا من الحبشة إلى مكة (اُنظر ملحق زوجات الرسول r) و(شكل نسب الرسول e وفى تلك الفترة فرضت الزكاة، وفرض الصيام، وقامت الحدود.

8. كان أحبار اليهود يكتمون عداوتهم لرسول اللهr وللمسلمين بالمدينة بغياً وحسداً، لما خص الله به هذا الدين، وهذا الرسولr، كانوا يتمنون أن تكون الديانة اليهودية هي آخر الديانات، وأن يكون موسىu هو خاتم المرسلين، وانضم إلى اليهود في هذا العداء المنافقون من الأوس والخزرج، فقد كانوا على دين آبائهم من شرك وتكذيب، لكنهم في حقيقة الأمر لم يسلموا إلا جُنة [ وقاية لهم ] من القتل، كان اليهود والمنافقون من الأوس والخزرج يسألون رسول اللهr بتعنت ليلبسوا له الحق بالباطل، وكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه؛ ليكشف نواياهم أمام المسلمين، غير أن هناك من اليهود ـ رغم قلتهم ـ من كانت لهم مواقف صدق وإيمان، كان الرجل منهم إذا دخل في دين الله مع المسلمين، دخل دون وجل أو تردد، ومن أمثلة هؤلاء "عبدالله بن سلام، ومخيريق".

9. كان عبد الله بن سلام: حبراً وعالماً من علماء اليهود، وكان يحكى قصة إسلامه كما ذكرها ابن إسحاق، حيث قال عبد الله بن سلام: (لما سمعت برسول اللهr عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوقف له [أي نتوقع]، فكنت مسروراً لذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول اللهr إلى المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل إلىَّ وأخبرنى بقدومهr وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي "خالدة بنت الحارث" تحتي جالسة، فلما سَمِعتُ بقدوم رسول اللهr كبَّرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت، قال: فقلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعث بما بُعث به، فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نُخبر أنه يُبعث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم0قال: فقالت: فذاك إذا، قال: ثم خرجت إلى رسول اللهr فأسلمتُ، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا0 وقال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول اللهr فقلت له:يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني- قال: فأدخلني رسول اللهr في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وسألوه، ثم قالr لهم: أي رجل الحُصٌين بن سلام فيكم؟ قالوا سيدنا وابن سيدنا، وحَبرنا وعالمنا)، قال عبدالله بن سلام: (فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول اللهr، وأؤمن به وأصدقه وأعرفه)، فقالوا: (كذبت)، ثم وقعوا بي، قال عبدالله: فقلت لرسول اللهr: (ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بُهتُ، أهل غدر وكذب وفجور!) قال: (فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمتَ عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها) .

10. أمّا مخيريق فقد كان عالماً وحَبراًً غنياً كثير الأموال، كان يعرف رسول اللهr بصفته لِما كان له من علم بهذا في التوراة، لكنه كتم ذلك، وظل على دينه حين هاجر رسول الله إلى المدينة، فلما كانت غزوة أحد وكانت في يوم سبت، فقال مخيرق: (يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق [يعنى بذلك ما عاهدهم عليه رسول اللهr في المدينة]، قالوا: (إن اليوم يوم السبت)، قال: (لا سبت لكم)، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول اللهr بأُحد، وعهِد إلى من ورائه من قومه: (إن قُتلت هذا اليوم، فأموالي لمحمدr يصنع فيها ما أراه الله)، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قُتل، فكان رسول اللهr يقول:((مُخيريق خير يهود))، وقبض رسول اللهr أموال مخيريق، ووضعها مع صدقات المسلمين بالمدينة.

11. لم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار ولا بين الأوس والخزرج فحسب، بل حاولوا فتنة رسول اللهr نفسه، فقد ذهب أحبارُهم وأشرافُهم إليه وقالوا: (إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وأنا إن اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وأنا بيننا وبين بعض قومنا خصومة، فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك)، فنزل فيهم قول الله عز وجل: ]وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَتَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)[ (المائدة: الآيتان49، 50).

رابعاً: تحويل القبلة

صرفت القبلة في شعبان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول اللهr إلى المدينة، في البداية فكر اليهود أن يمكروا برسول اللهr كعادتهم، وأرادوا بحيلة دنيئة أن يجلوا رسول اللهr عن المدينة كما فعلت قريش بهم في مكة ،وذلك حين جعلتهم يفكرون في الهجرة من مكة والخروج منها؛ فذكروا له أن قبلة الرسل مِن قبله كانت بيت المقدس، وأنهم ذهبوا جميعاً إليها، وعليه أن يحذوا حذوهم بأن يعد المدينة محطة متوسطة بين مكة والمسجد الأقصى، لكن الله أحبط لهم مكرهم، وأوحى إلى عبده ورسولهr: ]قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ[ (البقرة: الآية144).

تلك الآيات هي التي حسمت القضية، لكن اليهود أنكروا عليه ذلك، وحاولوا أن يفتنوه مرة أخرى فقالوا: (نتبعك إذا عدت إلى القبلة التي كنت عليها)، يريدون مخالفة ما أمره الله به من تحويل قبلته من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في مكة، فأنزل الله قوله تعالى ليفضحهم: ]سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143) [(البقرة: 142 ، 143).

أراد النصارى استغلال عداوة اليهود لمحمدr ليشعلوا نار الخلاف بين اليهود ومحمدr، ومن ثَمَّ يستريحون من دسائس اليهود وعدوان العرب، لذا جاء وفد من نجران مكون من ستين رجلاً، واجتمع اليهود مع المسلمين والنصارى، وكانت ملحمة كلامية بينهم، أو يمكن القول بين اليهودية والمسيحية والإسلام، كلُ يريد إقناع الآخر بصحة عقيدته، خاصة فيما يتعلق بالإله الذي يعبدونه، قال المسيحيون بعقيدة التثليث وألوهية عيسى، بينما زعم اليهود أن العزير بن الله، أما الإسلام فهو يدعو إلى توحيد اللهr وعدم الشرك به، ونتج عن هذا المؤتمر بين الأديان الثلاثة الذي عقد في يثرب، نتج عنه إعلان المبادئ الروحية في صياغة العبودية الصحيحة لله رب العالمين بين جميع الأديان، فالإله واحد، ليس له شريك ولا ولد، وفى هذا الشأن أمر الله محمداًr أن يقول هذا القول الفصل: ]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ولاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ (آل عمران: الآية 64).

دَعا محمدr اليهود والنصارى بهذه الدعوة، فإما أن يستجيبوا وأما أن يلاعنهم، فأما اليهود فكان بينهr وبينهم عهد الموا دعة، أما النصارى الذين جاءوا من نجران على رأس وفد مكون من ستين رجلاً فقد رأوا ألا يلاعنوه، وأن يتركوه هو وأصحابه على دينهم، ويرجعوا هم أيضا إلى دينهم، لكنهم حين رأوا عدل محمدr، وحرصه على الحق، ومدى صدقه، وطلبوا أن يبعث معهم رجلاً يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، فبعثr معهم "أبا عبيدة بن الجراح" ليقضي بينهم فيما كانوا فيه مختلفون.

خامساً: غزوات الرسولr من بدر حتى صلح الحديبية

لما هاجر رسول اللهr من مكة إلى المدينة، واستقر به المقام هناك، استمر في نشر الدعوة بكل الوسائل السلمية لمدة سنة كاملة؛ ليتم بذلك أربع عشرة سنة، كانت دعوته دون حرب، ودون أن يمتشق فيها حساماً، ولقد رحب المسلمون بهr في يثرب والتفوا حوله، حتى أصبح الرسولr أحب إليهم من فلذات أكبادهم، لكن قريش لم تكن لتخفي عداوتها، والرسولr يلاقى هذا التأييد من المسلمين، لم يكن لها أن تتوقف عن عداوة الرسولr، والإسلام يزداد انتشاراً، ويقوى يوماً بعد يوم، وسعت قريش بكل الوسائل والسبل أن توقف هذا التيار الديني الجديد، الذي يدعو إلى ترك آلهتهم التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم من قبل، فقامت قريش بضم بعض القبائل إليها، وتعاهدت سراً مع يهود المدينة بهدف التصدي للدعوة، ومحاولتهم أيضاً النيل من رسول اللهr والقضاء على المسلمين، لكن محمداًr بوحي من الله تأهب لهم، وأسرع إليهم في عقر دارهم، فقضى عليهم وكسر شوكتهم في معارك كثيرة، عُرفت بالغزوات والسرايا، وكان الرسول يقود  الغزوات بنفسه، بينما السرايا كان يقودها أحد قادة المسلمين، بأمر من رسول اللهr.

1. كانت غزوة بدر الأولى (سفوان) في جمادى الآخرة سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، وكان هدفها مطاردة المشركين، وتخليص الغنم والإبل المستولى عليها من المدينة بقيادة" كُرز بن جابر الفهرى".

2. وقد سبقتها غزوة ودَّان (الأبواء) في صفر سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، وكان هدفها تهديد طريق تجارة قريش الواصل بين مكة والشام، والعمل على إقامة تحالف بين المسلمين والقبائل المسيطرة على هذا الطريق.

3. غزوة (بواط) في ربيع الأول سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها تهديد طريق التجارة لقريش.

4. غزوة بدر الكبرى رمضان سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها انتظار عودة قافلة أبى سفيان للاستيلاء عليها، بعد أن أفلتت القافلة من المسلمين في غزوة "العشيرة"، وفى تلك الغزوة انتصر المسلمون على مشركي قريش.

5. وقد أعقب غزوة بدر الكبرى غزوات أخرى لرسول اللهr بداية من غزوة (بني قينقاع) شوال سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، التي كان هدفها القضاء على اليهود لأنهم كانوا يقومون بالتجسس على المسلمين لصالح المشركين من ناحية، ومن ناحية أخرى كان اليهود قد تعرضوا لامرأة مسلمة في سوق قينقاع، وقتلوا أحد المسلمين حين قام بالدفاع عنها.

6. غزوة (بني سليم) شوال سنة 2 هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها القضاء على بني سليم وغطفان الواقعتان على طريق التجارة الحيوي بين مكة والشام، وكانت القبيلتان قد اعتزما الاعتداء على المسلمين اتفاقاً بينهما.

7. غزوة (السويق) ذو الحجة سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها ردع أبى سفيان؛ لمحاولته القيام بإغارة على المدينة.

8. غزوة (ذي إمر)، محرم سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها ردع بني ثعلبة، وقبيلة محارب اللتان تآمرتا على المسلمين وحاولتا الإغارة على أطراف المدينة.

9. غزوة (بحران) ربيع الأول سنة 2هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها إحباط استعدادات قبيلة بني سليم التي كانت تتهيأ لقتال المسلمين.

10. غزوة (أحد) شوال سنة 3هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها الاستعداد لصد هجوم قريش المتوقع على المدينة.

11. غزوة (بني النضير) ربيع الأول سنة 4هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها تأديب اليهود، بعد أن تأمروا على رسول اللهr، محاولين قتله بإلقاء حجر فوق رأسه من فوق الدار التي كان يجلس تحتها.

12. غزوة (ذات الرقاع) جمادى الأولى سنة 4هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها القضاء على بني ثعلبة، وبني محارب اللذان كانا يستعدان لحشد قوات لغزو المدينة، بالإضافة لعزم المسلمين الأخذ بالثأر للذين استشهدوا في بئر معونة.

13. غزوة (بدر الآخرة) شعبان سنة 4هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها قتال قريش بعد مرور عام كامل على تهديد أبى سفيان ووعيده عقب غزوة "أُحد" حين قال أبو سفيان: (يوم بيوم بدر، والموعد العام المقبل).

14. أعقب تلك الغزوات غزوة (دومة الجندل) ربيع الأول سنة 5هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها منع القبائل الموجودة في دومة الجندل، من التعرض للمسلمين، والقضاء على الحشود التي أعدتها لمهاجمة المدينة.

15. غزوة (بني المصطلق) جمادى الأولى سنة 5هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها تأديب بني المصطلق الذين تجرؤوا على المسلمين بعد غزوة أحد، وبسبب تهيؤهم للهجوم على المدينة.

16. غزوة (الخندق) شوال سنة 5هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان سببها تحريض اليهود لقريش وقبائل العرب على غزو المدينة.

17. غزوة (بني قريظة) شوال سنة 5هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، والتي كان هدفها القضاء على بني قريظة واستئصالهم، نظراً لنقضهم العهد ومناصرتهم المشركين، للفتك بالمسلمين، لولا أن الله أنعم على المسلمين بهزيمة الأحزاب في الغزوة المعروفة بغزوة الخندق.

18. غزوة (بني لحيان) جمادى الأولى سنة 6هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها الانتقام من بني لحيان؛ لقتلهم أصحاب "خُبيب بن عدي" عند ماء الرجيع.

19. غزوة (ذي قرد) جمادى الأولى سنة 6هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، كان هدفها تأديب "عُيينة بن حصن"؛ لإغارته على أطراف المدينة، وقتل رجل وخطف امرأته والاستيلاء على إبله.

20. ثم كان (صلح الحديبية) الذي أبرم بين المسلمين وقريش في ذي القعدة سنة 6هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، والذي كان سببه محاولة قريش منع المسلمين من دخول المسجد الحرام لأداء فريضة الحج، هذا الصلح الذي حقق نصراً للمسلمين على المشركين دون إراقة دماء، فبرغم أن قريش منعت الرسولr والمسلمين من أداء العمرة ودخول مكة في هذا العام، إلا أن المعاهدة تُعَدّ اعترافاً من قريش بالمسلمين لأول مرة على أنهم طرف مساو لهم، كما سمحت المعاهدة للمسلمين بزيارة البيت الحرام في العام التالي والتمتع بأمان تام مدة عشر سنوات، بعد أن كانوا مهددين من قريش في السابق؛ وحققت معاهدة صلح الحديبية للمسلمين لأول مرة تفرغاً كاملاً لنشر الدعوة الإسلامية بدلا من القتال المستمر بين المسلمين وقريش، خاصة وأن قريش كانت أشد القبائل بأساً، ما جعل المسلمين يتوقفون عن الدعوة لبعض الوقت.

21. وتُعَدّ المعاهدة أهم النتائج التي توصل إليها المسلمون مع قريش سلماً دون قتال، برغم ما كان يبدو للوهلة الأولي من أن هذه المعاهدة مجحفة لحقوق المسلمين، الأمر الذي جعل "عمر بن الخطاب" يتشاور مع "أبي بكر الصّديق" ويذهب إلى رسول اللهr يحدثه وهو مغتاظاً مما فعله"سهيل بن عمرو" حين تشدد مع رسول اللهr في بعض نصوص المعاهدة  بينما كان الرسولr يتساهل معه في قبولها، ما جعل رسول اللهr يُطمئن عمر بن الخطاب ويقول له: ]أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعنى[.

سادساً: حادثة الإفك

وقعت حادثة الإفك الذي تعرضت له عائشة أم المؤمنين، أثناء عودتها من غزوة بني المصطلق، فقد كانت التقاليد في هذا الوقت تقضي بأن تذهب النساء والأطفال مع الرجال في الغزوات، وكان الغرض من ذلك تشجيع المحاربين، وتضميد جراحهم، وإعداد الطعام والشراب لهم، فلما انتصر المسلمون في غزوة بني المصطلق، وعادوا بالأسرى والغنائم، تخلفت عائشة عن الركب، كان ذلك حين نزلت من هودجها لتقضي بعض حاجتها خلال فترة راحة الركب، ففقدت عقداً لأختها، كانت قد استعارته منها، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون الهودج، فظنوها فيه، فحملوه، ولم ينتبهوا لخفته، لأنها(رضي الله عنها) كانت فتية لم يغشها اللحم الذي يثقلها فارتحلوا، فرجعت عائشة وقد أصابت العقد إلى محل الركب، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت تنتظر رجوعهم إليها.

وتصادف في هذا الوقت مرور أحد الصحابة وهو "صفوان بن المعطل السلمي" فتوقف عندها حين عرفها، وقال مندهشاً لها حين رآها: (إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول اللهr! ماخلفك رحمك الله؟) فلم تجبه، فتأخر عنها وقدم لها راحلته، وسار بها حتى دخل أدرك الجيش في الظهيرة، وعائشة (رضي الله عنها) على ظهر بعيره.

ولم يخطر ببال أحد آن يُحِدثَ في أمر عائشة قولاً، ولا يجول بخاطر رسول اللهr أيضاً ظِنَّة واحدة  بعائشة بنت أبي بكر الصدَّيق، ولا حتى في صفوان الشاب المؤمن الحسن السيرة والخُلق.

كان الرسولr والمسلمون ينتظرون عودة عائشة بعد أن اكتشفوا تخلفها عن الركب، فلما جاء صفوان وعائشة (رضي الله عنها) معه، وهي لا تدري أن الناس سوف يتحدثون عنها وعن صفوان، ولم يخطر ببالها أن تنسج حولهما خيوط من الشائعات، ووجد الخبيث "ابن أبي" متنفساً لحقده وعداوته، فأشاع حديث الأفك، وجعل يفيض فيه لما قدموا المدينة، وكان أصحابه يتقربون به إليه، وانتظر المسلمون توزيع الغنائم والأسلاب والسبايا التي غنموها في غزوة بني المصطلق، وفى تلك الأثناء كانت "جويرية بنت الحارث" وهى من سبايا بني المصطلق قد وقعت في سهم أحد الأنصار، فأرادت أن تفدي نفسها منه، فذهبت إلى رسول اللهr وهو في بيت عائشة فقالت: (أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي).

قال رسول اللهr: ]فهل لك في خير من ذلك؟[، قالت :(وما هو؟)، قالr: ]أقضي كتابتك وأتزوجك[، فلما بلغ الناس خبر زواج محمداًr أطلقوا ما في أيديهم من أسرى، إكراماً لصهر رسول الله إياهم، ولقد أحبتها عائشة حتى أنها قالت عنها: (ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها).

وهناك روايات تقول: إن أباها جاء رسول اللهr ليفتدي ابنته، وأنه أسلم!، وأنها أسلمت كما أسلم أبوها!، ثم عرض على رسول اللهr أن يتزوجها، ورواية أخرى تقول: إن أباها لم يكن راغباً في زواجها من محمدr، وأن أحد أقاربها هو الذي زوجها إياهr، وأصدقها محمدr أربعمائة درهم، وبنى لها منزلاً جانب منازل نسائه، وبينما هو في شغل بهذا الزواج كان القوم يتهامسون فيما بينهم عن عائشة وصفوان، وعن عودتهما معاً بعد تخلفها عن الركب.

وبدأت "حمنة" أخت "زينب بنت جحش زوج رسول اللهr" تذيع ما يهمس به الناس عن عائشة، ووجد "عبدالله بن أبي" في هذا الحديث مرتعاً خصباً لينفث فيه عن حقده، فأخذ ينشر ويذيع تلك الإشاعات ويعظم منها، غير أن جماعة من الأوس تصدوا له، وكادت تحدث فتنة في المدينة، وبلغ الأمر إلى رسول اللهr وتأذى منه ولم يفصح عما في صدره لعائشة، وظل في حيرته هذه وعدم تصديقه لكل ما يشاع عن عائشة، فهو يعرف خلقها وعفافها وطهارتها، لكنه لما كثر الحديث تألم كثيراً من هذا الإفك الذي يقال عن عائشة، وبتلك الإشاعات المغرضة التي تنال منه، حتى لقد بلغ من تأثر الرسولr بهذا الحدث أن انعكس ذلك في معاملته مع عائشة، وكانت عائشة لا تدري شيئاً عما يقال عنها، فلم يخبرها أحد بما يحدث خارج بيتها من إشاعات، حتى أمها وأبوها.

مرضت عائشة مرضاً شديداً بعد عودتها، عانت منه شهراً، لكنها لم تعرف من الرسولr اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، حتى ظنت أن الرسول أحب "جويرية" بدلاً منها، فكان الرسولr إذا دخل عليها وهى مريضة يقصر في كلامه حين يسأل عن حالها ويقول: ]كيف تيكم؟[ ولا يزيد على ذلك شيئاً، ما كان له أثر سلبي على نفس عائشة، ورأت أن تستأذن رسول اللهr في أن تُمرض في بيت أمها، لما لاقته من جفائه، فوافق الرسولr، وهي مندهشة من هذا التفريط في أمرها، ما زاد من آلامها، وظلت في مرضها بضعة وعشرين يوماً حتى تعافت منه، وخلال هذه المدة لم تكن تدري ما يقال عنها في الخارج، ولما بلغ الأذى برسول اللهr من تلك الإشاعات مبلغه، لم يبق أمامه إلا مواجهة الناس، فقام يخطب فيهم ويقول: ]أيها الناس! ما بال رجال يأذونني في أهلي ويقولون عنى غير الحق! والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا معي[، فقام "أسيد بن حضيرا" فقال: (يا رسول الله إن كانوا من الأوس كفيناكهم، وإن كانوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تُضرب أعناقهم)، وردَّ "سعد بن عبادة" قائلاً: (لقد قال ذلك لعلمه بأنهم من الخزرج، ولو كانوا من الأوس ما قالها)، وكادت الفتنة تقع بين المسلمين، وتعصف بنصرهم على بني المصطلق، لولا حكمة رسول اللهr التي أوقفت تلك الفتنة بين المسلمين من الأوس والخزرج.

وأخيراً وصل خبر الإفك إلى عائشة (رضي الله عنها) فأغشي عليها من هول ما سمعت، وقالت لأمها: (يغفر الله لك يا أماه! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي شيئاً!)، فأرادت أمها أن تخفف عنها فقالت: (أي بُنية، خُفي عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن، وكثر الناس عليها).

لم يكن هذا الحديث يؤذي عائشة وحدها ولا أمها ولا أبا بكر نفسه ولا المسلمين، بل كان هذا الحديث يؤذي رسول اللهr أشد الأذى، أخيراً قرر رسول اللهr أن يستشير خلصاءه فيما يحدث وما عليه أن يفعل؟، فذهب إلى بيت أبي بكرt ودعا إليه علياً وأسامة بن زيد ليستشيرهما في هذا الأمر، فأما أسامة فقد نفى كل ما أشيع عن عائشة، وقال بأن هذا الحديث عن عائشة أفك وكذب وباطل، وأما علىَّt فقال: (يا رسول الله، إن النساء لكثير)، وذهب الرسولr إلى عائشة في بيت أبيها وقال لها:

]يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله إن كنت قارفت سوءاً مما يقولون، فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده[، فبكت عائشة بكاءً شديداً وقالت: (والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً! إني لأعلم لئن أقررت بما يقوله الناس، والله يعلم أنى بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت لا تصدقوني، إنما أقول كما قال أبو يوسفu: "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)، وعمَّ الصمت بعد هذا الحديث كل الحاضرين في بيت أبي بكر، وتغش رسول الله مكان يتغشاه حين نزل الوحي، حتى إنه ليتصبب عرقاً، ثم قالت عائشة: (أما والله ما فزعت ولا باليت حين رأيت من ذلك ما رأيت، فقد عرفت أنى بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فما سُرّى عن رسول اللهr حتى ظننت لتخرجن نفساهما فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس)، ثم سري عن رسول اللهr، فأخذ يمسح جبينه ويقول لعائشة: ]أبشرى يا عائشة! قد أنزل الله براءتك[، قالت عائشة: (الحمد لله!)، وخرج محمدr إلى المسجد وتلى على المسلمين تلك الآيات) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ{11} لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ{12} لَوْلاَ جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ{13} وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ{14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ{15} وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ{16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{18} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءاَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{19} وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَءُوفٌ رَحِيمٌ{20}( (النور: الآيات 11- 20).

كما نزلت أيضاً في هذه المناسبة آيات تحدد عقوبة رمي المحصنات في قوله تعالى: )وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( (النور: الآية 4)

وتنفيذا لحكم القرآن الكريم فقد طبق رسول اللهr عقوبة رمي المحصنات، فأتي "بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش"، وضُرب كل منهم ثمانين جلدة، وعادت "عائشة" إلى بيتها وإلى قلب محمدr من جديد كريمة معززة، أنزل الله براءتها في كتابه الكريم، وبرأها مما قالوا عنها من إفك، لتبقى الآيات شاهدا على براءتها إلى يوم الدين، وشاهدا أيضاً على ما نال أفاكيها من خزي وعار وعقاب على ما اقترفوه من إثم في حق أم المؤمنين.

 



[1] أي أن من طلب دمكم فقد طلب دمي، ومن أهدر دمكم فقد أهدر دمي، لاستحكام الألفة بينهr وبينهم. وهو قول معروف عند العرب عند المعاهدة والنصرة .

[2] هذا الهم الدائم الموجع.