إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / القرى والمدن في القرآن الكريم




مدائن صالح
مدينة الحجر
مساكن الثموديين
معبد الكرنك
الأهرامات وأبو الهول
البحر الميت
البحر الميت من الفضاء
بيوت ثمودية
بيت المقدس
جبال تم نحتها بموقع العلا
خط بارليف
قبة الصخرة





المبحث الثاني

المبحث الثاني

قرى ذات خصوصية عالية

أولاً: قرية العزير u

قال تعالى: ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (البقرة: الآية259).

اختلف المفسرون في تعيين هذه القرية، قال بعضهم هي بيت المقدس، وقال آخرون هي (دير هرقل) على شاطئ دجلة بالعراق، وقيل هي (المؤتفكة)، ومنهم من قال أنها القرية التي خرج أهلها وهم ألوف حذر الموت، وقال آخرون هي قرية (العنب) على بعد ستة أميال من بيت المقدس، والمشهور أن القرية هي (بيت المقدس)، والمشهور أيضاً أن الذي مر عليها هو العزير u، وكان العزير u نبياً من أنبياء بنى إسرائيل، مر على هذه القرية بعد أن خربها بختنصر وقتل أهلها، وأصبحت خاوية على عروشها، فلم يكن فيها أحياء، وكانت سقوفها وجدرانها ساقطة ومخربة.

وقف العزير u وكان معه حماره متأملاً ومتعجباً من أمر هذه القرية، فكيف أصبحت القرية خربة هكذا بعد أن كانت عامرة، وتساءل في نفسه قائلاً:)أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا(، قالها تعجباً ودهشة !!.. ولم يقلها شكاً في قدرة الله على إحياء الشيء بعد موته، فهو يعلم الله ويقدره حق قدره.

فأماته الله مائة عام ثم بعثه، ثم سأله: ) كَمْ لَبِثْتَ(، فأجاب العزيرu بما أحس به وشعر في تلك اللحظة، قال: ) لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ(، فقال الله I: ) بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ(، فتعجب العزير u تعجباً كبيراً!!، وظهرت عليه الحيرة وعلامات الدهشة حين وجد حماره ميتاً، وطعامه وشرابه لم يتسنه!!، لكن الله I لم يتركه في حيرته هذه طويلاً، وسط علامات الاستفهام الكثيرة التي تدور في رأسه، فأحيا له حماره، ثم جمع عظامه شيئاً فشيئاً أمامه، ثم أراه  كيف يكسى عظام الحمار لحماً، فلما رأى العزيرu ذلك، وتبين له جواب ما كان يسأل عنه ويندهش منه؟!، لم يتملك أمام ذلك الإعجاز، إلا أن يقول: ) أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (البقرة: من الآية 259).

هذه القرية هي قرية من القرى ذات الخصوصية العالية، ففي هذه القرية حدث حدث خاص بها وحدها، ولم يحدث مثله في أي قرية أخرى قبلها أو بعدها. فالحدث في ذاته يعد معجزة من معجزات الله، انفردت به هذه القرية في القرآن الكريم، وإن تشابهت أحداثه مع أحداث أصحاب الكهف، في كيفية إحياء الله للموتى، إلا أنها اختلفت في الفترة الزمنية، التي مكث فيها أصحابها في الكهف، قبل أن يبعثهم الله من الموت أو الرقود.

ففي السؤال عن الفترة الزمنية التي مكثها العزير u هو وحماره، وبين أصحاب الكهف الذين ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، يتبين وجه التشابه في الحدث، وبرغم تشابه هذا الحدث وهو (الموت أو النوم) ثم البعث، إلا أن هناك اختلافا بينهما في الزمن الذي مكثه كل منهم (100 عام ـ 309 سنة)، والمكان الذي ماتوا فيه أو أنامهم الله فيه (قرية ـ كهف)، والحديث هنا عن القرية التي مر بها العزيرu وهى خاوية على عروشها، وليس عن أهل الكهف، إذ إن موضوع البحث، عن القرى، وليس عن الكهوف.

ثانياً: قرية يونس u

قال تعالى: )فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ((يونس: الآية 98).

هذا هو المثال الثاني من أمثلة القرى ذات الخصوصية العالية، تفردت بها قرية يونس u عن سائر القرى الواردة في القرآن الكريم، لم تحظ بها قرية أخرى من قبل، فهي القرية التي نفعها إيمان أهلها في عهد يونس u، حينما آمنوا قبل نزول عقاب الله عليهم.

 وهى القرية التي خرج منها رسولها مغاضباً، فأوقف الله نزول العقاب على أهلها لحين عودته إليهم، وهى أيضاً القرية التي سلط الله حوتاً عظيماً ابتلع رسولها، حين ذهب مغاضباً من أهلها، وهى أيضاً القرية التي بسببها تعلم البشر، كيف ينجي الله المؤمنين، من حالة الغم التي قد تصيبهم في حياتهم. 

قيل أن أهل هذه القرية هم أهل "نينوي"، كانوا يعبدون الأصنام، ونينوى هي مدينة آشورية قديمة أسسها سين - أههى - إريبا، المسمى فالتناخ سنحاريب (704 – 681 ق.م)، وتقع نينوى في الجزء الشمالي الغربي من العراق، على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وشرقي جنوب مدينة الموصل، تحدها سورية من الغرب، وتبلغ مساحتها 32.308 كم2، وقد بُنيت هذه القرية على شكل قلعتين، على تلين طبيعيين، التل الشمالي يسمى  قونيج، والجنوبي يسمى تل النبي يونس، ويحتمل أن القرية على هذا الوصف، قد بنيت بعد عهد يونس u، حيث إن أحد التلين اللذين بنى عليهما قرية نينوى، يحمل اسم يونس u، ما يؤكد احتمال أن تسمية هذا التل قد جاءت بعد موت يونس u.

ويوجد في نينوى أيضاً قصر لـ اشور ـ أههى ـ يدّينا المسمى فالتناخ أسرحدون، شُيد في الفترة من 680 - 669 ق.م، وقصر آشور بانيبال ومكتبته، شيدا في الفترة من 668 - 631 ق.م، كما يوجد فيها أيضاُ معبد الإلهة عشتار التي كان الآشوريين يقدسونها، فهي إلهة الحب والنار عندهم. وفى سنة 612 ق.م، دُمرت نينوى تدميراً تاماً دمرها البابليون والميديون، ولا تزال أطلالها ماثلة شرقي الموصل حتى الآن.

ونينوى ذات تاريخ عريق، يرجع إلى الألف الخامس قبل الميلاد، فقد كانت قرية زراعية سكنها الإنسان القديم، ثم سكنها الآشورون، والآشوريون هم القبائل العربية الوافدة من الجزيرة العربية، التي كانت تقوم بدور مهم في تسيير القوافل التجارية، بين الشام والعراق، وأصبحت نينوى بعد ذلك عاصمة لهم، في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وتلقب نينوى كذلك (بالحدباء وأم الربيعين، وربيعة)، نسبة إلى انتشار بنى ربيعه بها، كما ترجع التسمية أيضاً (بأم الربيعين)، نظراً لتمتعها بظروف مناخية ممتازة، حيث تنفرد من بين محافظات العراق، بطول فصل الربيع فيها حتى سميت (بأم الربيعين).

وهى الآن محافظة في شمال العراق، ومركزها الموصل، التي تعد ثاني أكبر مدن العراق وتبعد 402 كم عن بغداد، ويبلغ عدد سكان محافظة نينوى حاليا حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، يقطن نصفهم تقريباً في مدينة الموصل، بينما يتوزع الآخرون على ضفتي نهر دجلة، أما توابعها من الأقضية فهي (الموصل، وتل عفر، وسنجار، والشيخان، والشرقاط، والحمدانية، وتكليف، والبعاج)، وقد حررها العرب المسلمون، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب t من سيطرة الفرس الساسانيين، وتعد نينوى موطنا للأنبياء.

وتتوافر في نينوى أماكن سياحية وترفيهية وأثرية ودينية الآن، ويقام فيها كل عام "مهرجان الربيع"، في 21 مارس، تيمناً بمقدم فصل الربيع. ويخترق نهر دجلة المحافظة من الشمال إلى الجنوب بشكل متموج، ويقسمها إلى قسمين متساويين تقريباً، وتقسم تضاريسها إلى ثلاثة أقسام: المنطقة الجبلية والتلال، والمنطقة المتموجة، والهضاب، ويختلف مناخ المحافظة باختلاف تضاريسها السطحية، حيث تراوح درجات الحرارة في فصل الشتاء عموماً بين (6° م – 3° م)، وفي الصيف بين (30° م – 35° م). ومن معالمها البارزة: جامع النبي يونس u، والجامع النوري الكبير الذي بُني عام 568 م، وجامع قبر النبي شيت u الذي اكتُشف عام 1057 هـ، وكنيسة مارتوما، والكثير من الكنائس الأثرية.

وتتصف نينوى بالزراعة الديمية، ونظراً لوجود مساحات واسعة صالحة للزراعة فيها، فقد تم تخصيص الجزء الأكبر منها في زراعة محاصيل (الحنطة والشعير)، وكذلك (القطن، والشلب، والذرة الصفراء، وعباد الشمس، والخضروات، والبقوليات والبذور الزيتية، والأعلاف). وبعد افتتاح المشاريع الإروائية، أخذت المساحات المزروعة في الأتساع، وتعد نينوى من المحافظات الأولى في إنتاج (الحبوب) في العراق.

وقد كشف التنقيب، الذي بدأ في القرن التاسع عشر، عن مدينة طولها حوالي خمسة كيلومترات، وتعد المباني والنقوش التي وجدت فيها، مصدراً مهماً لمعرفة التاريخ الآشوري.

وقد أرسل الله إليهم يونس u رسولاً إليهم، وكان عدد من في القرية مائة ألف أو يزيدون. ظل يونس u يدعوهم لعبادة الله I وحده لعدة أعوام (قيل تسع سنين)، فكذبوه وتمردوا عليه بكفرهم وعنادهم، فلما طال عليه أمرهم، خرج من بين أظهرهم، ووعدهم بحلول العذاب بعد ثلاث!!.

قال ابن مسعود، ومجاهد وسعيد، بن جبير، وقتادة: أنه لما خرج يونس u من بين ظهرانيهم، وتحققوا أن العذاب نازل بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم مع نبيهم u، ورجعوا إلى ربهم وتضرعوا إليه. والعجيب في أمر هذه القرية ليس فقط هو قصة نبيهم يونس u حين ابتلعه الحوت، إنما العجيب أيضاً في أمر هذه القرية، أن الله كشف عنهم العذاب الذي عاينوه معاينة، لا مخايلة، حين ذهب يونس u من بينهم مغاضباً.

روى ابن عباس، أن العذاب كان على بعد ثلثي ميل منهم، وقيل ميل، وأنهم قد غشيتهم ظُلة فيها حُمرَة، لم تزل تدنو منهم، حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. وقال ابن جبير: "غشيهم العذاب كما يغشى الثوب الجسد، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب". وقال القرطبي: "أن الله خص قوم يونس u من بين سائر الأمم، بأن تاب عليهم بعد معاينتهم العذاب".

إن هذه القرية على وجه الخصوص، تختلف عن باقي القرى التي أهلكها الله من قبل، ذلك لأنه حينما يأتي عذاب الله إلى قرية ظالمة، فلا رجعة فيه، حيث لا ينفع إيمان قوم لم يؤمنوا من قبل مجيء عقاب الله  إليهم!، إلا قوم يونس الذين انفردوا بتلك الخصوصية التي لم ينلها قوم من قبلهم!!.. إنها القرية التي لما آمن أصحابها، كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ومتعهم إلى حين.

قال تعالى: ) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ((يونس: الآية 98).

ومن الأماكن التي يجب معرفتها ومما له صلة بقرية يونس u، هو المكان الذي أخرج الله يونس u فيه من بطن الحوت، وذلك لقوله تعالى: ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ(146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)( (الصافات: الآيات 145- 148). والأرض التي قذف الحوت فيها يونس u، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، هي شاطئ قرب نينوى، من شواطئ دجلة في ناحية الموصل بالعراق.

ثالثاً: قرية البخلاء

هذه القرية ذات خصوصية عالية أيضاً، حيث امتازت هذه القرية بالبخل، دون أي قرية أخرى ورد ذكرها في القرآن الكريم، قال تعالى: ) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ((الكهف: الآية 77). وهذا هو المثال الثالث من أمثلة القرى ذات الخصوصية العالية.

اختلف العلماء في تعريف هذه القرية، فمنهم من قال هي (أيلة)، وهو قول قتادة ومحمد بن سيرين، وقيل هي (أنطاكية) لأن القرية التي استطعما أهلها كانوا من ألئم الناس وأبخلهم، يشبهون إلى حد كبير أهل أنطاكية في اللؤم والبخل والقسوة والغلظة، وقيل هي قرية بجزيرة الأندلس، وقيل هي (باجوران) بناحية أذربيجان، ومنهم من قال هي (ناصرة)، واليها ينسب النصارى، ومنهم من قال هي (برقة)، والأرجح أنها (أيلة)، والمعروف أن أيلة هي مدينة على ساحل رأس خليج العقبة.

قال ابن حجر: أيلة: بفتح الهمزة وسكون التحتية بعدها لام، هي بلدة معروفة في طريق الشام بين المدينة ومصر على ساحل القلزم، وكان رُزَّيق أميراً عليها من قبل "عمر بن عبد العزيز" t، والأرض التي كان يزرعها من أعمال أيلة، وأيلة كانت مدينة كبيرة ذات قلعة، وهى الآن خراب، ينزل بها الحجاج المصريون وبعض أثارها ظاهرة.

قال ياقوت: أيلة بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام، وعن أبى زيد: (أيلة) مدينة صغيرة عامرة، بها زرع يسير، وهى مدينة اليهود الذين حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، وبها في يد اليهود عهد عند رسول الله e، وقال أبو المنذر: سميت بأيلة بنت مدين بن إيراهيم u.

وفى القاموس الإسلامي (أيلة) ميناء صغيرة، كما ذكرنا، على رأس خليج العقبة، تعرف في الآرامية باسم (إيلون)، وبالعبرية (إيلات)، كانت منذ القدم مركزاً تجارياً متوسطاً، بين مصر وفلسطين والجزيرة العربية. دخلت في حوزة الرومان، ثم استولى عليها المسلمون صلحاً، من عاملها "يوحنا بن رؤبة"، في العام الثامن للهجرة/ سنة 630 م، بعد غزوة تبوك، وازدهرت تجارتها إبان العصر الإسلامي.

وفى القرن الثالث الهجري، بنى أحمد ابن طولون طريقاً بها محصناً، عُرف بعقبة أيلة، ثم أُطلق على المكان اسم (العقبة) مجازاً، وهى اليوم ميناء عربية في الأردن، وقد تنازع المسلمون والصليبيون أيلة، نظراً لمركزها الإستراتيجي، حتى ضمها القائد صلاح الدين بصفة نهائية، عام 567 هـ/ 1171 م.

قال أبو عبيدة: أيلة مدينة على شاطئ بحر القلزم في بلاد الشام. وقال محمد بن الحسن المهلبي وهو يرسم طريق الحج من الفسطاط إلى مدينة أيلة "من الفسطاط إلى جب عميرة ستة أميال، ثم أربعون ميلاً إلى منزل يقال له عجرود، وفيه بئر ملحة، ثم خمسة وثلاثون ميلاً إلى مدينة القلزم، ثم مسيرة يومان إلى ماء يعرف بثجر، ثم مرحلة إلى ماء يعرف بالكرسي فيه بئر رواء، ثم مرحلة إلى رأس عقبة أيلة، ثم مرحلة إلى مدينة أيلة".

وقال: "ومدينة أيلة جليلة على لسان من البحر الملح، بها مجتمع حج الفسطاط والشام، وبها قوم يذكرون أنهم من موالى عثمان بن عفان t وأقاربه وغيرهم". ولأيلة ذكر في عهد صلاح الدين بحصاره لقلعتها، ثم فتحها في سنة 566هـ، غير أن أيلة لها شهرة عظيمة بكونها أحد منازل طريق الحج المصري، فُذكرت في كثير من كتب الرحلات، أما القلعة الباقية فهي من آثار القرن الثامن الهجري.

وفى تقويم البلدان، أن أيلة كانت مدينة صغيرة، وكان بها زرع يسير، وهى مدينة اليهود الذين جعل الله منهم القردة والخنازير، وهي على ساحل بحر القلزم، وعليها طريق حجاج مصر، وهي في زماننا برج وبه والٍ من مصر، وليس بها مزدرع، وكان لها قليعة في البحر، فأبطلت ونقل الوالي إلى البرج في الساحل.

والقلزم وأيلة على ذراعين أو لسانين من البحر، قد طلعا في البر الشمالي، وصار بين اللسانين المذكورين للبر، دخلة إلى الجنوب في البحر، وفى تلك الدخلة الطور، حيث الطول نحو طول أيلة، وعلى طرف اللسان الشرقي أيلة، وعلى طرف اللسان الغربي القلزم، فأيلة شرق القلزم، وفيما بين أيلة والقلزم الطور، وهو جنوب القلزم، وأيلة على رأس الدخلة في البحر، فبين الطور وبين بر مصر بحر، وهو اللسان الذي على طرفه أيلة، فمن الطور إلى كل من البرين قريب، وأما في البر ففيه بُعد، لأنه يحتاج أن يستدير على القلزم إن قصد ديار مصر.

وعموماً لا يهمنا معرفة هذه القرية على وجه التحديد، بل المهم هو العبرة من قصة أهله تلك القرية مع موسى u والخضر، فهي أبخل القرى وأبعدها من السماء، ذلك لأنهما أي موسى u والخضر استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فاستحق أهلها أن يُذموا في القرآن الكريم، وأن يُنسب إليهم هذه الصفة القبيحة البعيدة عن المروءة والكرم، ومع ذلك فقد أقاما جداراً كان آيلاً للسقوط في هذه القرية، وبدون آجر!!.

رابعاً: قرية بيت المقدس

وهذا هو المثال الرابع من أمثلة القرى ذات الخصوصية العالية، هذه القرية تفردت عن غيرها من القرى، بأن الله I أمر بنى إسرائيل بدخولها بطريقة محددة وبعبارة محددة، دون أي قرية أخرى ورد ذكرها في القرآن الكريم.

قال تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ((البقرة: الآية 58)، الموضع هنا هو القرية، وعند جمهور المفسرين أن هذه القرية هي (بيت المقدس)، وتُسمى حالياً (القُدْس) بضم الكاف وسكون الدال، يقول تعالى لائماً لهم على نكوثهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة، لما قدموا من برد مصر بصحبة موسى u، فأمروا بدخول الأرض المقدسة، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكثوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي ( بيت المقدس)، كما نص على ذلك السدي، والربيع بن أنس، وقتادة، وأبو مسلم الأصفهاني، وغير واحد.

وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسىu ، )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ((المائدة: الآية 21)، وقال آخرون: هي (أريحا)، ويُحكى عن ابن عباس، وعبدالرحمن بن زيد: هذا بعيد لأنها ليست على طريقهم، وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا. وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنه (بيت المقدس)، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون u وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أقروا أن يدخلوا الباب باب البلد "سجداً"، أي شكر الله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال.

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس إنه كان يقول في قوله تعالى ) وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا((البقرة: من الآية 58)، أي رُكعاً، وقال ابن جرير:  حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ) وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا(، قال: رُكعاً من باب صغير، رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان، وهو الثوري به، وزاد فدخلوا من قبل استاههم وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده الرازي وحكى عن بعضهم أن المراد ههنا في السجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته.

وقال الخصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك، هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم: أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن عبد الله بن مسعود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا.

وقوله تعالى )وَقُولُوا حِطَّةٌ(، قال الثوري: عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس )وَقُولُوا حِطَّةٌ ( قال: مغفرة استغفروا، وروى عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه، وقال الضحاك عن ابن عباس )وَقُولُوا حِطَّةٌ( قال: قولوا هذا الأمر حقاً كما قيل لكم، وقال عكرمة قولوا "لا إله إلا الله"، وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى ) وَقُولُوا حِطَّةٌ(، فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا)نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(. وقال هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات.

 وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك فهو من المحبب عند الله تعالى، ولهذا كان e يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما رُوي أنه كان يوم الفتح، فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا، وانه لخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله، شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، وقال بعضهم هذه صلاة الضحى، وقال آخرون بل هي صلاة الفتح.

فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله، كما فعل سعد بن أبي وقاص t لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات. والصحيح أنه يُفصل بين كل ركعتي بتسليم، وقيل يصليها كلها بتسليم واحد والله أعلم .

لقد أمر الله I بنى إسرائيل بدخول هذه القرية، وأمرهم أن يأكلوا منها بوفرة حيث يشاءون، وأمرهم بأمرين اثنين كي يغفر لهم خطاياهم ويزيد ثواب المحسنين:

·   أن يدخلوا باب هذه القرية وهم سجود. 

·   أن يقولوا كلمة )حِطَّةٌ( أثناء الدخول[1].

لكن ما هي هذه القرية، وماذا فعل بنو إسرائيل مع هذه الأوامر الإلهية؟، فهل هذه القرية هي أريحا، أم بيت المقدس؟، سنستعرض أقوال المفسرين في هذا الشأن، إلا أن الأرجح كما بين العلماء في النهاية أنها (بيت المقدس)، وذلك على النحو التالي:

1. أصحاب القول بأن القرية هي أريحا

من بيت المقدس، وهى بلدة في الغور من أرض الأردن، شرقي القدس، وقد ضعَّف هذا القول الإمام ابن كثير في تفسيره، وقال أن أريحا ليست على طريق بنى إسرائيل في خروجهم من أرض التيه، من صحراء سيناء إلى الأرض المقدسة، لأنهم كانوا قاصدين بيت المقدس لا أريحا.

وقال ابن حجر: أريحاء هي اسم قرية بالغور قريبة من القدس، وقال القزويني: أريحا مدينة بقرب بيت المقدس من أعمال الأردن بالغور، ذات موز ونخل وسكر كثير، وهى قرية الجبارين التي أمر الله موسى u بدخولها، فقال موسى u لبنى إسرائيل: )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ((المائدة: الآية 21)، وقال ياقوت: أريحا هي مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردن بالشام، بينهما وبين بيت المقدس مسيرة يوم للفارس في جبال صعبة المسلك، سميت فيما قيل (بأريحا بن مالك بن أرفخشند بن سام بن نوح u).

وفى الروض المعطار قال الحميري: أريحا مدينة من أجلَّ بلاد الغور بالشام، وفى الخبر أن عمر t أجلى اليهود إلى أريحا، وكانوا قد طلبوا من النبي e حين غلب عليهم أن يقرهم، على أن لهم نصف الثمر، فقال: نقركم متى شئنا، فبقوا كذلك خلافة أبى بكر t، وصدراً من خلافة عمر t، إلى أن أجلاهم إلى أريحا (ذكره مسلم ابن الحجاج).

وقال ابن الأثير، ثم إن الله I أمر موسى u أن يسير ببنى إسرائيل إلى أريحا بلد الجبارين، وهي أرض المقدس التي ذكرها الله في قوله تعالى: ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)( (المائدة: الآيتان 21، 22).

ومدينة أريحا موضحة على خريطة فلسطين والمملكة الأردنية الهاشمية، وهي مازالت مدينة عامرة باقية على اسمها لم يتغير منه شيء، ولها شهرة تاريخية قديماً وفى هذا العهد أيضاً، وموقعها الجغرافي شرق القدس وغير بعيدة منه، ويلاحظ أنها وردت في الحديث وبعض المصادر بمد الآخر وبعضها ذكرها بالقصر.

2. أصحاب القول بأن القرية هي بيت المقدس

القرية هي بيت المقدس، وهو الأرجح، فبرغم أن أبا حيان في تفسيره "البحر المحيط"، قد قال: قيل عنها إنها الرملة، وقيل هي أيلة، وقد أورد هذين القولين، ولكنه رجحها في النهاية بقوله: "أنها بيت المقدس في قول الجمهور"، (اُنظر صورة لبيت المقدس).

ويرى محمود الشنقيطي، في "مبهمات الأماكن الواردة في القرآن الكريم": أن قول القرية هي بيت المقدس هو الأقرب إلى الصواب، ويؤيد ذلك ما تشير إليه الآية 58 من سورة البقرة، في قوله تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(.

 حيث الأمر هنا بالخشوع وطلب المغفرة من الله، عند دخولهم هذه القرية، وهذا يتناسب مع قدسية بيت المقدس، فقد أمر الله أسلافهم، أن يدخلوا باب هذه القرية متذللين، خاشعين راكعين، داعين الله أن يحط عنهم خطاياهم، ويغفر لهم ذنوبهم، وأن يقولوا حطة، لكنهم عصوا أمر الله ودخلوا الباب زاحفين على أستاهم، فقد بدلوا القول وقالوا (حبة في شعرة) أو (حنطة في شعرة). كما يؤيده أيضاً، وهو الأهم، أن هناك باباً في بيت المقدس يقال له "باب حطة"، ولعل هذه التسمية مأخوذة من قوله تعالى: )وَقُولُوا حِطَّةٌ(.

وقد بنى سليمان بن داود u، بيت المقدس وبقى بناؤه حتى خربه (بختنصر)، ثم بناه بعض ملوك الفرس، وبقي حتى خربه (طيطس) ملك الروم، ثم بُنى ورُمم، وبقى كذلك حتى تنصر قسطنطين وأمه هيلانة، وقد ألقت قمامة على القبر الذي تزعم النصارى أن عيسى u دفن فيه، وخربت البناء الذي كان على الصخرة، وبقى كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب t القدس، فدله على موضع الصخرة بعضهم، فنظفه وبنى علي الصخرة مسجداً، وبقى حتى تولى الوليد بن عبد الملك، فبنى فيه قبة الصخرة على ما هي عليه اليوم. (اُنظر صورة قبة الصخرة).

والقدس هي عاصمة مدن الضفة الغربية لنهر الأردن في فلسطين، ويُطلق على بيت المقدس (المسجد الأقصى) الذي بارك الله حوله، والذي كان أولى القبلتين بعد الهجرة، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشد الرحال إلا إليها، وتوجد قبة الصخرة بجوار المسجد الأقصى (أنظر شكل مخطط لقبة الصخرة والمسجد الأقصى)، ولقدسية هذا المكان أُسرى برسول الله e من المسجد الحرام إليه، ومنه عُرج به إلى سدرة المنتهى، في رحلة الإسراء والمعراج، وفى المسجد الأقصى جمع الله الأنبياء لعبده ورسوله محمد e، فصلى بهم إماماً إظهارا لشرف قدره وعلو منزلته.

قال ياقوت: المقدس في اللغة بمعنى المنزه، قال المفسرون في قوله تعالى: )وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ((البقرة: من الآية 30). قال الزجاج: معنى نقدس لك أي نطهر أنفسنا لك، وكذلك نفعل بمن أطاعك، نقدسه، أي نطهره، قال: ومن هذا جاء اسم بيت المقدس، أي البيت المقدس المُطهر الذي يُتَطهر به من الذنوب، وقال قتادة: المراد بأرض المقدس أي المباركة، وإليه ذهب ابن الإعرابي.

قال الحسن بن أحمد المهلبى في كتابه المسمى "العزيزى": أن الوليد بن عبد الملك، لما بنى القبة على صخرة بيت المقدس بنى أيضاً عدة قباب، وسمى كل واحدة منها باسم، منها: قبة المعراج، وقبة الميزان، وقبة السلسلة، وقبة المحشر، قال: وإنما فعل ذلك ليعظم موقع القدس في نفوس أهل الشام، وينتهون به عن الحج إلى بيت الله الحرام، قال: فإنه كان يكره مسير الناس إلى الحجاز، لئلا يطلعوا من أهل الحجاز، على فضل آل بيت رسول الله e فيتغيرون على بنى أمية.

وفضائل بيت المقدس كثيرة، قال مقاتل ابن سليمان في قوله تعالى: ) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ((الأنبياء: الآية 71)، قال هي بيت المقدس، وقال الطبري: هي أرض الشام التى بارك الله فيها للعالمين، وقال ابن كثير: أن إبراهيم u لما سلمه الله من نار قومه، أخرجه الله من بين أظهرهم مهاجراً إلى الأرض المقدسة من بلاد الشام، وقال الربيع بن أنس: في قوله تعالى: )إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ((الأنبياء: من الآية 71)، قال: الشام، وقال: ما من ماء عزب إلا ويخرج من تحت الصخرة، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر.

ذُكِرَت هذه القرية في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ففي قوله تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(59)( (البقرة: الآيتان58، 59).

تشير تلك الآيات إلى بيت المقدس، حين أمر الله بنى إسرائيل أن يدخلوها، لكنهم لم يستجيبوا لأمره I، وبدلوا الفعل والقول، قال الطبري في تفسير قوله تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ( قال: هي  بيت المقدس، أمرهم الله أن يدخلوها سجداً، وأن يأكلوا منها أكلاً هنيئاً واسعاً بغير حساب، وأن يقولوا "حطة"، وهى كلمة تعني حُطْ عنا ذنوبنا يا ربنا، وهى كلمة استغفار عندهم ككلمة "استغفر الله العظيم" عند المسلمين، ووعدهم الله بأن يغفر لهم خطاياهم، ويحط عنهم أوزارهم، إذا قاموا بتنفيذ ما أمرهم الله به، وأنه I سيزيد المحسنين منهم إحساناً.

وبرغم هذا الوعد الطيب، وتلك النعمة التى منَّ الله عز وجل عليهم بها، إلا أنهم لم يشكروا تلك النعمة وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم، وبدلوا فعلاً غير الذي أمروا أن يفعلوه. قال ابن عباس: دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوه بطريقة مخالفة، حيث دخلوه وهم يزحفون على أستاهم، أي مقاعدهم بدلاً من سجودهم وهم داخلون، كما بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم وقالوا "حنطةُ في شعيرة "، بدلا من كلمة )حِطَّةٌ(.

وفى قوله تعالى: )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ((المائدة: الآية 21). يقول تعالى لائماً لهم على نكوثهم عن الجهاد، وعدم دخولهم الأرض المقدسة وقتال من فيها من العماليق، وهو قول السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغيرهم.

وفي قوله تعالى: )وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا(، قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس t قال: أي ركعاً، رواه الحاكم من حديث سفيان، ورواه ابن أبي حاتم، وزاد فدخلوا من قبل استاههم، دخلوا من باب صغير.

وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعد الرازي ذلك، وحكى عن بعضهم أن المراد في السجود هنا، هو الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال الخصيف: قال عكرمة، قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك، هو باب الحطة من باب إيلياء، ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة.

وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: فدخلوا على شق: وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي رافعي رؤوسهم، خلاف ما أمروا به. قال الثوري، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله تعالى: )وَقُولُوا حِطَّةٌ(، قال: حطة أي مغفرة، بمعنى استغفروا.

وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح، بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم، ويستغفروا ربهم ويشكروا نعمته، وأن يبادروا إلى ذلك، فالإسراع في طاعة الله محبب عند الله، والخضوع لله عند النعمة محبب أيضاً عنده I.

وأشار القرآن الكريم إلى هذه القرية في موضع آخر، في قوله تعالى: ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ( (الإسراء: من الآية 1)، يعنى بيت المقدس، وفى تفسير الطبري: أي من المسجد الحرام إلى مسجد بيت المقدس.

وقد رفع الله عيسى بن مريم u إلى السماء من بيت المقدس، وأول شيء حُسر عنه بعد الطوفان كان عن صخرة بيت المقدس (أنظر شكل مخطط لقبة الصخرة والمسجد الأقصى)، وقد أرسل عمر بن الخطاب t، القائد عمر بن العاص t إلى فلسطين، ثم نزل بيت المقدس فامتنع عليه، فقدم أبو عبيدة بن الجراح t بعد أن فتح قنسرين، سنة 16 هــ، فطلب أهل بيت المقدس الأمان والصلح، على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام، من أداء الجزية والخراج، والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم، على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر، فقدم عمر ونزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى بيت المقدس، فأنفذ صلحهم وكتب لهم كتاباً سنة 17هــ.

ولم تزل على ذلك منذ ذلك التاريخ بيد المسلمين، بينما النصارى من الروم والإفرنج والأرمن وغيرهم، يقصدونها للزيارة إلى بيعتهم المعروفة بالقيامة، وليس لهم في الأرض أجل منها، وشهرة بيت المقدس تغنى عن الإطالة في وصفه وتحديده، والصراع عليه مازال قائما بين المسلمين واليهود، وقد الحق اليهود بسكان مدينة القدس من الأذى مالا يعلمه إلا الله.

روى البخاري: عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب  tلما أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله e لما ظهر على خيبر وأراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله e وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله e ليقرهم بها، على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله e نقركم بها ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر t إلى تيماء وأريحا.

وخلاصة القول أن بنى إسرائيل أمرهم الله  أن يدخلوا هذه القرية، بشكل لم يسبق أن أمر الله به قوم آخرين، وهو أن يدخلوا الباب سجداً مطأطئي رؤوسِهم، شاكرين لله على النعم، وأن يقولوا هذا اللفظ المحدد "حطة".

لكنهم تعالوا وتكبروا وبدلوا ما أمرهم به ربهم، قولاً وفعلاً، فدخلوا الباب متعالين متكبرين، وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم وقالوا "حنطة"، إن هذا هو تفاعلهم مع الأوامر الإلهية، مخالفة واستكبار وتحريف وتبديل!!.

من أجل ذلك أنزل الله على الذين ظلموا، رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون، قال تعالى: ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ((البقرة: الآية 59).

كانت هذه أمثلة أربعة لقرى ذات خصوصية عالية، وردت أحداثها في القرآن الكريم، وكلها قرى لها خصوصية في الحدث، بمعنى أنه حدثت بها أحداث عجيبة، لم تحدث في قرى مثلها من قبل.

 



[1]  حطة : بمعنى حُط عنا خطايانا التي سلفت.