إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / القرى والمدن في القرآن الكريم




مدائن صالح
مدينة الحجر
مساكن الثموديين
معبد الكرنك
الأهرامات وأبو الهول
البحر الميت
البحر الميت من الفضاء
بيوت ثمودية
بيت المقدس
جبال تم نحتها بموقع العلا
خط بارليف
قبة الصخرة





المبحث الثالث

المبحث الثالث

قرى عادلة

أولاً: أم القرى

1. أم القرى في اللغة

هي مكة المكرمة، شرفها الله تعالى، لأن أهل القرى يَؤُمُوها أي يقصدونها، وقيل: لأَنها توسطَت الأرض فيما زَعَموا، وقيل: لأنها قِبْلةُ جميع الناس يؤُمُّونها، وقيل: سُمِّيَت بذلك لأَنها كانت أَعظم القرى شأنا، وكلُّ مدينة هي أُمُّ ما حَوْلها من القرى.

2. أم القرى في القرآن الكريم

قال تعالى: )وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا((الأنعام: من الآية 92).

وسيتم التركيز على هذا النوع من القرى طبقاً لتصنيفها في القرآن الكريم، فهذا هو المثال الأول من أمثلة القرى العادلة التي وردت في القرآن الكريم.

يُراد بأم القرى (مكة المكرمة)، ففيها أول بيت وُضع للناس، وهو بيت الله الحرام (أُنظر صورة المسجد الحرام)، يحج إليه المسلمون كل عام، يقيمون فيه شعائر الحج والعمرة في أوقاتها، يقومون فيه ويعكفون، يطوفون فيه بالكعبة ويركعون ويسجدون (أنظر صورة الكعبة المشرفة)، ويسعون فيه أيضاً بين الصفا والمروة، والصفا والمروة يقعان داخل المسجد الحرام في الجزء الشرقي منه، قال تعالى: )إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ((البقرة: الآية 158).

ومكة هي قرية مباركة ولد وعاش فيها محمد r، ورفع إبراهيم u وإسماعيل u قواعد البيت الحرام فيها، وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، قال تعالى: )وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ((البقرة: الآية127) (أنظر صورة مكة المكرمة)، وقد جعل الله في هذه البلدة الآمنة، مثابة للناس وأمناً، وأمر المسلمين بأن يتخذوا من مقام إبراهيم u مصلى، قال تعالى: ) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ((البقرة: الآية 125).

وأم القرى (مكة المكرمة) هي من القرى الآمنة، لأن فيها البيت الحرام ومن دخله كان آمناً، قال تعالى: )فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ((آل عمران: الآية 97)، وقد سماها الله بالبلد الأمين، وذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: )وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1) وَطُورِ سِينِينَ(2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3)((التين: الآيات 1-3).

إن أم القرى، يقصدها جموع المسلمين القادمين، من مشارق الأرض ومغاربها كل عام، يؤدوا فيها مناسكهم من حَجٍ وعمرة، ومن أم القرى (مكة المكرمة) بدأت الدعوة لدين الله الحنيف، وانتشر منها الإسلام إلى القرى من حولها، وإلى كل الأمم والشعوب، حقاً إنها أم القرى التى تحنو على أبنائها من القرى المسلمة الأخرى، وكأنها تبكى على القرى التي ضلت عنها وكثر الظالمون فيها!!، لقد كانت مكة أما لبقية القرى في الجزيرة العربية، تتوسط مواطئهم، يقصدونها حجاً وتجارة، تقصدها الخيرات والثمرات من أنحاء الجزيرة المتفرقة.

وسميت أم القرى لأنها قبلة أهل القرى كلها، ولأنها أعظم القرى شأناً، ولأنها مكان أول بيت وضع للناس، وتقع مكة شرق البحر الأحمر على بُعد 70 كم، في الركن الجنوبي الغربي من الحجاز بشبه الجزيرة العربية، وبالمنطقة الغربية بالمملكة العربية السعودية، وتقع على خط عرض 19 شمال خط الاستواء، وعلى خط الطول 39 شرق خط جرينتش.

ومعنى )وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا( (الأنعام الآية 92)، أن تنذر يا محمد، جميع القرى في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وجميع سكان أهل المعمورة.

ويذكر أبو الفداء في "تقويم البلدان"، في ذكر بعض أماكن مكة: يذكر منها أبأ قبيس، وهو الجبل المشرف على مكة من غربيها، ومنها بطن محسر، وهو واد بين منى والمزدلفة وليس هو واحد منهما، ومنها الغار الذي كان يتعبد فيه رسول الله e في جبل حراء، وهو مطل على مكة، وحراء على بُعد ثلاثة أميال من مكة، والغار الذي آوى إليه رسول الله e ومعه أبو بكر الصديق t في جبل ثور، وهو يطل على مكة من جنوبيها، ومنها عرفات وهي ما بين غزنة وحائط ابن عامر والمازمين، ومن جملة عرفات جبل الرحمة.

وليس وادى غزنة من عرفات، وهو حد عرفات مما يلي منى، وبالقرب من (حائط ابن عامر)، المسجد الذي يجمع فيه الإمام، بين الظهر والعصر يوم عرفة، وقد اشتهر بمسجد إبراهيم، وبعض المسجد المذكور، يقع في غزنة وبعضه يقع في عرفات، وابن عامر المنسوب إليه الحائط المذكور، هو عبد الله بن عامر بن كرير.

وعن عرفات والمشعر الحرام قال تعالى: )فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ((البقرة: من الآية 198)، وقد سُميت عرفات بذلك لأن الناس يتعارفون فيها عند وقوفهم بها، في كل موسم من مواسم الحج، وقيل لأنها وصفت لإبراهيم u فلما أبصرها عرفها، وقيل أن جبريل u حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها، فقال: قد عرفت، وقيل أن آدم u وحواء التقيا فيها بعد هبوطهما على الأرض فتعارفا، وتقع عرفة شرق مكة المكرمة، على بعد حوالي 20 كم، وأما المشعر الحرام فهو المزدلفة كلها، أو الموضع الذي فيه مسجد المزدلفة، وتقع المزدلفة بين عرفة ومكة. 

قال ابن حوقل: وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية، وأما خارج حدود الحرم، ففيه عيون وثمار، ومنى على طريق عرفات، من مكة، وبينها وبين مكة ثلاثة أميال، وبطن مُحسَر وادِ بين منى ومزدلفة، وليس هو من منى، ولا من مزدلفة. وقال: رامة منزلة في طريق مكة من البصرة، وهي أخر بلاد بنى تميم، وثبير جبل مشرف يُرى من منى ومزدلفة، وكانت الجاهلية لا تدفع من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس على ثيبر، والحديبية موضع، بعضه في الحِلَ وبعضه في الحرم، صد فيه المشركون رسول الله e عن زيارة البيت الحرام، وهو أبعد أطراف الحرم عن البيت، وهو في مثل زاوية للحرم، فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم.

وقال ابن حوقل: ورضوى جبل منيف ذو شعاب وأودية، وقال: ورأيته من ينبع أخضر، وأخبرني من طاف في شعابه أن به مياها كثيرة، وهو الجبل الذي زعمت طائفة يعرفون بالكيسانية، أن محمداً بن على المعروف بابن الحنفية مقيم به.

قال تعالى: )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا((الشورى: من الآية 7)، وأم القرى هي نموذج لكل القرى التي حولها في كل بقاع الأرض؛ وفي كل قارات العالم (في أمريكا، وأوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وأستراليا)، وهي نموذجاً للقرية التي يريدها الله لكل المسلمين أن يعيشوا فيها، ويأنسوا بها ويطمئنوا لها، بل وكل الناس على هذا الكوكب من مسلمين وغير مسلمين.

 قارن بين ما يؤدى في أم القرى من عبادات ومناسك تقرباً إلى الله عز وجل، وبين ما تفعله القرى الأخرى في كل أنحاء العالم، وعلى القرى المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، أن تحذو حذو أم القرى في العبادات والحدود، وما أمر به الله الواحد المعبود.

لقد بدأ رسول الله r بإنذار أم القرى بما جاء به الوحي، ثم هاجر إلى المدينة بعد ذلك ليستكمل رسالته، ولينذر كل من حولها من القرى، وامتدت رسالته حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهي بحق أم كل القرى التي في هذه الدنيا، وتحتاج منا إلى وقفة عندما يأتي الحديث عنها، وعلى كل مسلم أن يتخذها ملاذه وقبلته، يتذكرها عندما يوجه وجهه شطر المسجد الحرام  في صلواته، وعندما يشد الرحال إليها للحج أو العمرة.

وأم القرى لها أسماء عديدة، منها (مكة، وبكة، والنسَّساسة، والحرم، و صلاح البلد الأمين، والعرش، والقادس لأنها تقدس من الذنوب أي تطهر، والمقدسَّة، والناسية، والباسة لأنها تبس أى تحطم الملحدين وقيل تخرجهم، وكوثى وهو اسم قطعة كان بها منزل بنى عبد الدار، وقد سماها الله أم القرى، وسماها البلد الأمين)، في قوله تعالى: )وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1) وَطُورِ سِينِينَ(2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3)((التين: الآيات 1-3).

ومكة المكرمة بها بيت الله الحرام، فقد جاء على لسان إبراهيم u )رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ((إبراهيم: من الآية 37).

ثانياً: القرى الآمنة المطمئنة

قال تعالى: )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ((النحل: الآية 112).

هذا هو المثال الثاني من أمثلة القرى العادلة، إنها القرى الآمنة المطمئنة، ولمعرفة هذا النوع من القرى والتي ضرب الله بها مثلاً لنا في القرآن الكريم، نرجع إلى تعريف معنى الأمن والاطمئنان في اللغة.

1. الأمن في اللغة

الأمن ضد الخوف، أن فلانا يأمن أمنا فهو آمن، وفي التنزيل العزيز: )وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين(؛ أَي الآمن يعني مكة، وهو من الأمن، وقد أَمِنْتُ فأنا آمِنٌ، والأَمَنةُ من الأمن، ويقال: ليس من شيءٍ يَفْزَعُ إلاّ مال على جانبه الأيمن، لأن الدابَّة لا تُؤتى من جانبها الأيمن، وإنَّما تؤتى في الاحتلاب والركوب من جانبها الأيسر، فإنَّما خوفُها منه، والخائفُ إنَّما يفرّ من موضع المخافة إلى موضع الأمن.

2. الاطمئنان في اللغة

الطمأنينة: تعنى السكون، واطْمَأَنَّ الرجل اطْمِئناناً وطُمَأْنينة أَي سَكَن، وقد ذهب سيبويه إلى أَن اطْمَأَنَّ مقلوب، وأَن أَصله من طَأْمَنَ، وقد خالفه أَبو عمرو فرأَى ضِدَّ ذلك، وتصغير مُطمئن طُمَيْئِنٌ، بحذف الميم من أَوله وإِحدى النونين من آخره، وتصغير طُمَأْنِينَةُ طُمَيْئِنَةٌ بحذف إحدى النونين من آخره لأَنها زائدة. وقيل في تفسير قوله تعالى: )يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( هي التي قد اطمَأَنَّتْ بالإِيمانِ وأَخْبَتَتْ لربها، وقولُه عز وجل: )وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي( أَي ليسكن إلى المعاينة بعد الإِيمان بالغيب، والاسم الطمَأْنينة.

اختلف المفسرون في تعيين هذه القرية، التي ضرب الله بها المثل في الأمن والاطمئنان، في قوله تعالى: )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً((النحل: من الآية112). فقال بعضهم هي مكة المكرمة، حيث أن أهلها آمنين مطمئنين مستقرين، يجبى إليهم ثمرات كل شيء، يأتيهم رزقهم رغداً من كل مكان، بينما يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون، وقيل أن هذه القرية ليست المقصودة بعينها، بل المراد منها، جعل حالها كمثل للقرى الآمنة المطمئنة، وتحذر من القرى التي تكفر بأنعم الله، فيذيقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون عقاباً لهم.

قال الحافظ بن كثير في تفسيره: (هذا مثل أُريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمناً لا يخاف)، والرزق الرغد هو السهل الهنيء، ولعل مكة كانت أماً لبقية القرى في الجزيرة، تتوسط موطئهم، ويقصدونها حجاً وتجارة، تقصدها الخيرات والثمرات من أنحاء الجزيرة المتفرقة).

ولنضرب مثلاً للقرى الآمنة المطمئنة (بمكة المكرمة)، فإن فيها بيت الله الحرام من دخله كان آمناً، وهذا النوع من القرى تجد كل شيء فيها يسير، ورزق أهلها وفير، تأتيهم خيرات الله من كل مكان، من البَحر (كالأسماك)، ومن البَر (كالنبات والأنعام)، ومن الجَو (مثل السمان والحمام), ونؤكد هنا على الفرق الكبير بين معنى (الأمان)، و(الاطمئنان).

أ. فالأولى وهي كلمة (الأمان)

إن كلمة الأمان تعني توفر الحماية، وذلك بالإحساس بوجود من يحميه من اعتداء المعتدين، قد يكون ذلك بسبب وجود حراس يوفرون تلك الحماية على سبيل المثال، أو بسبب ضمان من الله بتوفير الأمن للبشر، كدخول بيت الله الحرام مثلاً، فمن دخله كان أمناً لقوله تعالى: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا((آل عمران: الآية 96، ومن الآية 97).

إن من يدخل بيت الله  الحرام في مكة المكرمة يكن أمناً، وهو ضمان من الله بشعور كل من يدخل هذا المكان بالحماية والأمان، ولقد حمى الله هذا المكان من أبرهة وجيشه (أصحاب الفيل)، حينما أرادوا أن يدخلوا بيت الله الحرام عنوة وبالقوة، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول، قال تعالى: ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ(4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ(5)( (الفيل: الآيات 1-5)، هكذا وفر الله الحماية والأمان للبيت الحرام ومن فيه.

ب. والثانية وهي كلمة (الاطمئنان)

تعنى ببساطة أيضاً، ذلك الشعور الذي يتملك الإنسان من داخله، بهدوء النفس والسكينة وراحة البال. فقد تنعم بالأمان لوجود من يحرسك أو يحميك من اعتداء الآخرين، وبرغم ذلك لا تنعم بالاطمئنان النفسي من داخلك، فيساورك الرعب والخوف والقلق في كل مكان، ولا تستطيع النوم بالليل أو النهار، حتى لو لازمك حراسك المكلفون بحمايتك طوال الوقت من الليل أو النهار، فكم من البشر تؤرقهم المشاكل والهموم برغم أنهم أغنياء ولا تفارقهم حراستهم، إلا أنهم لا يشعرون بالاطمئنان من داخلهم.

ويمكن تقريب الفرق بين الأمان والاطمئنان بالآتي:

· "الأمان" هو توفير الحماية من اعتداء الآخرين[1].

· أما "الاطمئنان" فهو شعور بالهدوء والسكينة للنفس من الداخل. وهذا ليس له علاقة بالجسد من الخارج، بل هو إحساس يتعلق بالنفس من الداخل[2]، فلا هم ولا حزن، بل صفاء نفسي وسعادة غامرة يشعر بها الإنسان من داخله دون أن يشعر به أحد.

وهذا النوع من القرى التي يشعر أهلها بالأمن والاطمئنان، هي قرى عادلة، لا تغش ولا تخدع ولا تظلم، فكافأها الله بالعيشة الهانئة الرغدة الآمنة المطمئنة، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن النفس المطمئنة، في قوله تعالى: )يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ( (الفجر: الآية 27)، لم يقل يأيتها النفس الآمنة، فالأمن شيء والاطمئنان شيء آخر.

ثالثاً: القرى المباركة

هذا هو المثال الثالث من أمثلة القرى العادلة، وهو نوع مهم من القرى العادلة، وقبل الحديث عن تلك النوعية من القرى الواردة في القرآن الكريم، نتعرف أولاً معنى البركة في اللغة، ثم نتعرف معناها في القرآن الكريم.

1. البركة في اللغة

البركة هي: النَّماءُ والزيادةُ، والسَّعادَةُ، والتَّبْريكُ: الدُّعاءُ بها، وبَريكٌ: مُبارَكٌ فيه. وبارَكَ اللّهُ لَكَ، وفيكَ، وعليكَ، وبارَكَكَ، وبارِكْ على محمد e، وعلى آلِ محمدٍ: أدِمْ له ما أعْطَيْته من التَّشْريفِ والكَرامَةِ، وتَبَارَكَ اللّهُ: تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ، وهي صفَةٌ خاصَّةٌ باللهِ تعالى، وتبارك بالشيءِ: تَفاءَلَ به.

2. البركة في القرآن الكريم

من المعروف لغوياً أن البركة تعنى النماء والزيادة، وأول بركة وضعها الله في الأرض، كانت حين أتم الله خلق الأرض، فقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام على ثلاث مراحل، ووضع الله البركة في الأرض في المرحلة الثانية، أي في اليوم الرابع، قال تعالى: ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ((فصلت: الآية 10).

 وقوله تعالى: )وَبَارَكَ فِيهَا( تعني أن الله وضع البركة في الأرض، أي الزيادة والنماء في كل شيء في الأرض، وضعها في أماكن متفرقة من الأرض. ووضعها في ظروف معينة أيضاً، ولولا أن الله قد وضع البركة في هذه الأرض، لبقى كل شيء على حاله دون زيادة، فالسنبلة تبقى سنبلة، والحبة تبقى حبة.

فحين وضع الله البركة في الشيء جعله دائماً في نماء وزيادة، فمن بارك الله له في ماله، زاد ماله، ومن بارك الله له في ولده، زاد ولده وقوى ساعده، ومن بارك الله له في زوجه، زادته سعادة وحفظته في ماله وعرضه، ولقد ضرب الله مثلا بالكلمة الطيبة التي يبارك الله فيها، التي تزيد صاحبها خيراً، وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)( (إبراهيم: الآيتان 24، 25).

وكذلك يبارك الله في أموال الذين ينفقون في سبيل الله، لقوله تعالى: )مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((البقرة: الآية 261).

3. أمثلة للأمم والقرى، والأرض المباركة .

أ. أمم مباركة

قال تعالى: )قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ((هود: الآية 48). إن الذين أمنوا من قوم نوح u واتبعوه، آتاهم الله هبوطاً سالماً وبركات من عنده، وعموماً فإن البركة التي تحل بأهل قرية، إنما تأتيهم بسبب إتباعهم منهج الرسل؛ وإيمان أهلها وتقواهم، فهذه بركات أعطاها الله لنوح u، وأعطاها لأمم ممن معه، الذين ركبوا معه في السفينة، ونجاهم الله من الغرق، وذلك لقوله تعالى: )وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ((هود: من الآية 48).

ب. قرى مباركة

قال تعالى: )  وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ((الأعراف : من الآية 96). هي قرى بارك الله فيها لإيمان أهلها وتقواهم، يُنزل الله عليهم بركات من السماء والأرض، فإن سبب نزول هذه البركة، وجعلها تلك القرى مباركة إنما يرجع إلى أن أهلها أمنوا بربهم واتقوه، كما تشير الآية، فما بال أهل قرى فتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، فأصبحوا يسكنون قرى مباركة.

وقال تعالى: ) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ((سبأ: الآية 18). قال الحسن عن تلك القرى المباركة الوارد ذكرها في الآية: يعني قرى  بين اليمن والشام،  والقرى التي بورك فيها: هي الشام والأردن وفلسطين، وقيل إنها كانت أربعة ألاف وسبعمائة قرية، بورك فيها بالشجر، والثمر، والماء، وقيل بارك الله فيها بالماء والشجر، وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة، ويحتمل أن يكون معنى )بَارَكْنَا فِيهَا( بكثرة العدد.

ج. أرض مباركة

قال تعالى: )وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ((الأنبياء: الآية 71)، يريد نجينا إبراهيم ولوطا عليهما السلام، إلى أرض الشام، وكانا بالعراق، وكان إبراهيم u عمه، قال ابن عباس: وقيل لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها، وأنهارها، ولأنها معادن الأنبياء، والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح،  وقال ابن عباس: الأرض المباركة مكة، وقيل: بيت المقدس، لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضاً كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الأرض، قال أبو العالية: ليس من ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الأرض، وقيل: الأرض المباركة مصر.

وقال تعالى: )وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ( (الأنبياء: الآية 81). وفي تفسير القرطبي والجلالين، هي أرض الشام، وقد تجئ بركة الأرض فتنة للإنسان، فعن أبى سعيد الخدري، أن رسول الله e قَالَ : "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا قَالُوا وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَرَكَاتُ الْأَرْضِ" (مسلم: 1743).



[1] الأمين: في اللغة هو من يتولى رقابة الشيء أو المحافظة عليه – وجمعه (أمناء)، وأستأمن إلى فلان: أي استجار وطلب حمايته، وأمَّن فلاناً على الشيء: جعله أميناً عليه.

[2] اطمأن: في اللغة بمعنى سكن وهدأ، وطمأنه: سكنه وهدأ من روعه، واطمئنان: الثقة وعدم القلق.