إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / القرى والمدن في القرآن الكريم




مدائن صالح
مدينة الحجر
مساكن الثموديين
معبد الكرنك
الأهرامات وأبو الهول
البحر الميت
البحر الميت من الفضاء
بيوت ثمودية
بيت المقدس
جبال تم نحتها بموقع العلا
خط بارليف
قبة الصخرة





المبحث الرابع

المبحث الرابع

قرى عنيدة ومخادعة

أولاً: قرى عنيدة

1. قرية قوم نوح

يضرب القرآن الكريم مثلاً لتلك النوعية من القرى الظالمة، حيث تشتهر تلك القرى ليس فقط بظلمها، بل وأيضاً بعنادها، فلا تنفع معهم طول الفترة الزمنية التي يقضيها الرسول بينهم، ولا تنفع معهم تعدد الأساليب التي يتخذها الرسول في دعوته إليهم، ولنضرب مثلا بنوح u، حيث مكث في قومه أطول فترة زمنية قضاها رسول في قومه، فقد أرسله الله إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا)، لينذرهم بترك عبادة تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، من قبل أن يأتيهم عذاب أليم.

قال تعالى: ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ((هود: الآية 25).

وقال تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ((نوح: الآية 1).

هذا هو المثال الأول من أمثلة القرى الظالمة العنيدة، فهي قرية أرسل الله إليها رسولاً من أولى العزم من الرسل، مكث فيهم فترة طويلة للغاية، لم يمكثها رسول من قبله في قومه على الأرض، على مر التاريخ، لقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، إنه نوح u (أنظر خريطة بعثة نوح u).

لقد أرسل الله نوحاً u إلى قومه لينذرهم، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، لقوله تعالى: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ((العنكبوت: الآية 14)، ظل يدعو قومه وينذرهم من عقاب الله، فكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً، فلم يزيدهم دعاؤه إلا فراراً، لقد دعاهم u في السر والعلن، وفى حالات السرور والشجن، لكنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا إصراراً على كفرهم، واستكبروا استكباراً. فقرية نوح u هي قرية ظالمة عنيدة، لم تكفيهم طول مدة دعوة رسولهم فيهم، ولم تفلح معهم كل أساليب الدعوة التي كان بها يدعوهم.

ويبين الله I في سورة نوح هذا العناد والاستكبار. قال تعالى على لسان نوح u: ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9)( (نوح: الآيات 5- 9).

لقد دعاهم نوح u بالنهار جهاراً، ولقد أعلن لهم بالليل وأسر لهم إسراراً، فلم تفلح تلك الأساليب المتعددة والمتنوعة معهم، ظلت دعوته لهم خلال 950 سنة، ومع ذلك لم يؤمن لدعوته إلا من قد آمن له من قبل.

إن قرية نوح u عاندت واستكبرت على رسولها، إنها نموذج للقرى الظالمة العنيدة، تلك القرى المعاندة التي لا يفلح مع أهلها طول زمن دعوة رسولها، ولا يفلح معهم الأساليب المتنوعة والمتعددة التي يتخذها الرسول معهم، فقد كانت دعوة نوح u لقومه مثالاً لذلك، كان يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهراً، ومع ذلك صموا أذانهم، ووضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا دعوته. والقرآن الكريم يبين مدى عنادهم مع رسولهم، وعدم الاستجابة له في دعوته لهم، على لسان نوح u وهو يشكوهم لربه: )وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ(.

يبين القرآن الكريم مشهد من مشاهد السخرية التي تعرض لها نوح u من قومه، فقد أمره الله بصنع الفلك التي سيحمل عليها المؤمنين، وكان كلما مر عليه ملأ من قومه وهو يصنع هذا الفلك، سخروا منه، قال تعالى: ) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ((هود: الآية 38)، وكان نوح u يتحمل كل السخرية والأذى، والتكذيب، فهو يعلم تلك النوعية من القرى المعاندة.

ولا بد أن نشير إلى المكان الذي استوت عليه سفينة نوح u، بعد الطوفان المروع، لقد استوت على جبل يسمى الجوديّ، فنحن نتحدث عن القرى الظالمة التي سيهلكها الله ويبيدها، وفى الوقت نفسه كيف ينجى الله المؤمنين منهم، لقد ركبوا في السفينة، وكانت تجرى بهم في موج كالجبال، ولما هلك قوم نوح u الذين عاندوه وكذبوه، استقرت الفلك على جبل الجوديّ بتشديد الياء، وهو جبل مطل على جزيرة ابن عمر، بالجانب الشرقي من نهر دجلة، بناحية الموصل بالعراق، ذكر ذلك ياقوت في المعجم، وقد جاء في كتب التفسير، أن الجودي الذي رست عليه سفينة نوح u، هو جبل الجودي بالموصل بالعراق، (أنظر صورة منظر علوى وجانبى لسفينة نوح u).

وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره للآية: )وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ((هود: الآية 44)، يقول: إن أوائل هذه الأمة الإسلامية شاهدوا بقايا سفينة نوح على الجوديّ (أنظر صورة أثر سفينة نوح).

2. قرية قوم ياسين

وهذا هو المثال الثاني من أمثلة القرى الظالمة العنيدة، فقرية قوم ياسين، هي القرية التي أرسل الله إليها رسولين، فلم يفلحا في دعوهما مع قومهما، فعززهم الله برسول ثالث، فهي قرية من القرى الظالمة العنيدة التي لا يفلح معها رسول واحد.

قال تعالى:) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)((يس: الآيتان 13، 14).

هي قرية يقال لها (إنطاكية) في قول جميع المفسرين فيما ذكره الماوردى، نسبت إلى آهل (انطبيس)، وهو اسم الذي بناها، ثم غير الاسم لما عُرِب، ذكره السهلي (من تفسير القرطبي). وفى رسالة دكتوراه بعنوان "مبهمات الأماكن الواردة في القرآن الكريم"، يقول دكتور محمود مصطفى الشنقيطى: أكثر أقوال المفسرين أن هذه القرية هي (إنطاكية)، وتقع في شمال سورية، وسط سهل خصب في الحوض الأدنى لنهر العاصي. كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية، (أنظر خريطة أصحاب القرية)، وهى بلدة كبيرة ذات أعين، وسور عظيم داخله خمسة أجبل وقلعة، ويمر بظاهرها نهر العاصي، كما أن بها قبر حبيب النجار.

قال ابن حوقل: إنطاكية أنزه بلاد الشام بعد دمشق، عليها سور من صخر يحيط بها، وبجبل مشرف عليها، وتجري مياههم في دورهم وسككهم، ولها مسجد جامعهم، ولها ضياع وقرى ونواح خصبة جداً. وقال في العزيزي: ومساحة دور السور اثني عشر ميلاً، ويبدو أن القوم الذين كانوا يسكنون القرية، هم من أشد الناس كفراً وعناداً، وقسوة ولؤما، حيث بعث الله إليهم ثلاثة من الرسل فكذبوهم جميعاً.

فقد اشتهر أهل هذه القرية بتكذيب الرسل وإصرارهم على الكفر، وتعدد الرسل المرسلين إليهم وكثرتهم، فقد أرسل الله I إليهم رسولين فكذبوهما، فعززهما بثالث، فكذبوه أيضا إمعاناً منهم في الكفر والعناد، وبما عرف عنهم من تكذيب الرسل. وقال الشيخ محمد محمود حجازي صاحب التفسير الواضح في تفسيره لقوله تعالى: ) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)((يس: الآيتان 13، 14). قال: اجعل يا محمد أصحاب القرية التي سيأتيك خبرها، مثلاً في الغلو والعناد والكفر، مع الإصرار على تكذيب أهل تلك القرية إذ جاءها المرسلون، حين أرسلنا إليهم اثنين، فلم يكن مجيئهم عن محض اختيارهم، بل بإرسالنا إليهم، فكذبوهما، فقوينا الحق، وأيدناهم برسول ثالث، فقالوا جميعاً إنا إليكم مرسلون.

فلما أقام الرُسل عليهم الحجة، ما كان منهم إلا أن هددوهم بالرجم والقتل والتعذيب، قالوا لهم إنا منكم متشائمون، ولما لم يفلح معهم إرسال ثلاثة من الرسل، واستمروا في إصرارهم وعنادهم، وبينما هم على هذا الحال، إذ جاءهم من أقصي المدينة رجل يسعى، دعا هؤلاء القوم لإتباع ما جاء به المرسلين، كأن الذي جاء هو رسول رابع أُرسله الله إليهم وما هو برسول، قال تعالى: ) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ((يس: الآية 20). لقد تفتح قلب هذا الرجل لدعوة الحق وآمن بما جاءت به الرسل، وما إن أعلن إيمانه أمام القوم حتى قتلوه !!.

مات شهيداً في سبيل الله، وتأييده للمرسلين, فانتقل عزيزاً كريماً إلى مرتبة ومنزلة أفضل عند الله هي "منزلة الشهداء"، ففي لحظة واحدة، انتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب!!، تحسبه ميتاً وهو حيً، يرزقه الله في الملأ الأعلى عند ربه، فرحاً بما آتاه الله من فضله، ومستبشراً بالذين لم يلحقوا به من خلفه.

ولما جاء وقت العقاب، لم يتطلب إهلاكهم أن يُنزِّل الله عليهم جند من السماء, بل كان الأمر أيسر من ذلك، إن هي صيحة واحدة أرسلها الله عليهم فإذا هم خامدون!!، قال تعالى: ) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ(28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)( (يس: الآيتان 28، 29).

بينا فيما سبق مثالين من القرى الظالمة العنيدة، تلك القرى التي لا يفلح معها طول الفترة الزمنية التي يمكثها الرسول في قومه، ولا تفلح معهم أساليب الدعوة إلى الله المتعددة والمتنوعة التي يتبعها الرسول معهم، ولا تفلح معهم كثرة أو تعدد الرسل المرسلين إليهم.

ثانياً: قرى مخادعة

1. قرية شعيب u (مدين ـ الأيكة)

هذا هو المثال الأول لبعض القرى الظالمة، التي وردت في القرآن الكريم، واشتهرت بالخداع، وفى هذا المثال نبين قرية اشتهرت بخداع الناس, بالغش في البيع والشراء, وعدم الوفاء بالكيل والميزان، يبخسون الناس أشياءهم، ويفسدون في الأرض بعد إصلاحها.

قال تعالى: ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(91)( (الأعراف: الآيات 85-91).

ومدين هي اسم قوم شعيب u واسم قريته أيضاً، حيث يُطلق اسم مدين على القبيلة وعلى القرية، ومدين هنا يُراد بها القبيلة، ويجوز أن يكون المراد بها القرية، وتقع مدين شرق البحر الأحمر على نحو 50 ميلاً منه، وهى محاذية لمدينة تبوك من الجهة الغربية، وتبعد عنها حوالى240 كم، ذكر ذلك صاحب تقويم البلدان، وذكره ابن سعيد المغربي في كتاب الجغرافيا، وقال صاحب حماه في تقويم البلدان: "مدين مدينة خراب على بحر القلزم، محاذية لتبوك من الجهة الغربية، على نحو ست مراحل منها، وبها البئر الذي استقى منها موسى u لسائمة شعيب".

وقد ورد ذكر مدين والإشارة إليها في العديد من الآيات.

قال تعالى: ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ((التوبة: الآية 70).

وقال تعالى: ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ((هود: الآية 84).

وقال تعالى: ) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى((طه: الآية 40).

وقال تعالى: ) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ((الحج: الآية 44).

وقال تعالى: ) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ(22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23)( (القصص: الآيتان 22، 23).

وقال تعالى: ) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ((القصص: الآية 45).

وقال تعالى: ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ((العنكبوت: الآية 36).

ومدين هي قرية من قرى الكفار، كان أهلها يُرَوِّعون المارة ويقطعون السبيل، ويبخسون الناس أشياءهم ويطففون الكيل والميزان، ولا يعطون الناس حقوقهم، ويسعون في الأرض مفسدين، كانوا يعدون أن بخسهم للأشياء نوعاً من أنواع المهارة في البيع والشراء، ودهاء في الأخذ والعطاء، فأرسل الله لهم شعيباً u رسولاً منهم، لينذرهم ولينهاهم عما كانوا يفعلون.

قال تعالى على لسان شعيب u، وهو ينهى قومه عن الفساد: )وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ((هود: الآية 85).

لكن قومه سخروا منه، وتهكموا عليه، وهددوه إما بإخراجه من القرية[1]، أو عودته في ملتهم التي هم عليها: ) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( (هود: الآية 87). ولما جاء أمر الله، نجى الله شعيباً u والذين آمنوا معه برحمة منه، وأخذت الذين كذبوا الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

والأيكة هي أيضاً من بلاد مدين قوم شعيب، قال تعالى: ) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ(78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)( (الحجر: الآيتان 78، 79).

قال الإمام ابن كثير أن أصحاب الأيكة هم (أهل مدين)، وأكثر المفسرين على خلاف لما ذهب إليه ابن كثير، في مقدمتهم إمام أهل التفسير ابن جرير الطبري، والإمام القرطبي، وغيرهما من أئمة التفسير، فهؤلاء يرون أن شعيباً بعثه الله إلى أمتين، إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة القريبين منهم، حيث تقع الأيكة شمال مدين، (أنظر خريطة بعثة شعيب u).

والأيكة هي الشجر الملتف المجتمع، وروى عن قتادة أن أصحاب الأيكة كانوا أهل غيضة، وكان عامة شجرهم هو الدوم، وكان رسولهم الذي أرسل إليهم هو شعيباً u، كما أُرسل أيضاً لأهل مدين. أُرسل إلى أمتين من الناس كما ذكرنا، وعذبتا بعذابين شتى، فأما أهل مدين فقد أخذتهم الصيحة، وأما أصحاب الأيكة فقد سلط الله عليهم الحر سبعة أيام، لا يظلهم منه ظل، ولا يمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة، فحلَّوا تحتها يلتمسون الظل فيها، فجعلها الله عليهم عذاباً، بعث عليهم ناراً، فاضطرمت عليهم فأكلتهم، فذلك هو عذاب يوم الظلة الذي ورد في القرآن الكريم، إنه كان عذاب يوم عظيم قال تعالى: ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ((الشعراء: من الآية 189).

قال ابن عباس: الأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها، وقال ابن كثير: ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره: أن أصحاب الآيكة أمة أخرى، غير أهل مدين قول ضعيف، وإنما عمدتهم شيئان أحدهما، أنه قال: )  كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ(177)( (الشعراء: الآيتان 176، 177). ولم يقل أخوهم كما فى قوله تعالى: ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا( (العنكبوت: من الآية 36). والثاني أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة، وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة.

والجواب عن الأول: أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله تعالى: )كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ((الشعراء: الآية 176)، لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا، ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب u بأنه أخوهم، وهذا الفرق بين النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة، وقال البكري: الأيكة المذكورة فى كتاب الله تعالى كانت منازل قوم شعيب u. رُوي عن ابن عباس فيها روايتين: أحدهما أن الأيكة من مدين إلى شغب وبدا، والثانية أنها من ساحل البحر إلى مدين، قال: وكان شجرهم المقل، والأيكة عند أهل اللغة هي الشجر الملتف، وكانوا أصحاب شجر ملتف، وقال قوم: الأيكة: الغيضة، وليكة: اسم البلد حولها، كالقول في مكة وبكة.

وقال ياقوت: الأيكة: هي الغيضة التي جاء ذكرها في كتاب الله عز وجل، في قوله تعالى: ) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ((الشعراء: الآية 176)، وقيل هي تبوك التي غزاها النبي e آخر غزواته، وأهل تبوك يقولون ذلك ويعرفونه، ويقولون: إن شعيباً u أُرسل إلى أهل تبوك، ولا يوجد ما يؤكد ذلك في كتب التفسير، ويقولون الأيكة: هي الغيضة الملتفة الأشجار، والجمع أيك، وأن المراد بأصحاب الأيكة هم قوم مدين.

وقال ياقوت: ومدين وتبوك متجاورتان، وخلاصة ما ذكره المفسرون والمؤرخون، في التعريف بالأيكة التي ورد ذكرها في كتاب الله I، هو اختلاف المفسرين في التعريف بأصحاب الأيكة، فبعضهم يرى أن أصحاب الأيكة ومدين أمة واحدة، وبعضهم يرى أنهما أمتان، أُرسل الله إليهما شعيباً u. والجدير بالذكر أن ابن كثير يرجح أنهما أمة واحدة.

قال أصحاب كتاب "تقويم البلدان": تبوك بين الحجر وبين الشام، وكان بها أصحاب الأيكة، الذين بعث الله إليهم شعيباً u، ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من أهل مدين، وتبوك الآن هي مدينة عامرة، من أهم مدن المملكة العربية السعودية، وتقع فى جهة الشمال من المدينة المنورة، وتبعد عنها حوالى 678 كم، ويمر بتبوك حالياً طريق السيارات المُعبد بين المدينة المنورة وعمان (عاصمة الأردن)، وتشتهر هذه المدينة بآخر غزوة من غزوات الرسول e، وهى غزوة تبوك، حيث كانت في السنة التاسعة للهجرة، وكان أصحاب الأيكة يتصفون بالظلم والشرك، وينقصون الكيل والميزان.

فلما كذبوا نبيهم، أرسل الله عليهم سحابة من نار فأكلتهم، قال تعالى: ) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ(184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)( (الشعراء: الآيات 181-189).

وخلاصة القول أن أكثر المفسرين يقولون أن شعيباً u بعثه الله إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة الذين هم أمة أخرى ليسوا ببعيد عن مدين، إذ أن الأيكة تبعد عن مدين 240 كم فقط كما ذكرنا، والدليل أن العذاب الذي نزل على أهل مدين، يختلف عن العذاب الذي نزل على أصحاب الأيكة، فأهل مدين أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وأصحاب الأيكة نزلت عليهم سحابة من نار فأهلكتهم.

ومن أدلة الجمهور أيضاً، أن شعيباً u عندما يُذكر في آيات القرآن الكريم مع أهل مدين، يُصرح بأخوته لهم، إشارة إلى أنهم عشيرته وقبيلته، بخلاف ما يذكر من الآيات مع أصحاب الأيكة، فإنه لم بصرح بأخوته لهم، قال تعالى: ) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ(177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي(179)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(180)( (الشعراء: الآيات 176- 180).

وأما ابن كثير فدليله, أنه عندما يأتي ذكر قوم شعيب u، فتارة يذكر معهم أهل مدين، وتارة يذكر معهم أصحاب الأيكة، وذلك دليل على أن مدين وأصحاب الأيكة أمة واحدة، كما قال أيضاً أن أهل مدين كانوا يعبدون شجرة، وهى الأيكة، وأن الله قد أرسل عليهم ثلاثة أنواع من العذاب (الظلة[2]ـ الصيحة ـ الرجفة). والله أعلم.

2. قرية أصحاب السبت

هذا هو المثال الثاني لبعض القرى الظالمة، التي وردت في القرآن الكريم، واشتهرت بالخداع، وهي قرية اشتهرت بالتحايل على الله في عدم تنفيذ ما أمرهم به الله I، يخادعون الله وهو خادعهم, حين أمرهم بعدم صيد الحيتان (الأسماك) يوم السبت، لقد فتنهم الله وأظهر لهم تلك الأسماك في يوم السبت، بينما في باقي أيام الأسبوع لا تأتيهم، فلم يمتثلوا لأمر الله، وتحايلوا على الله, يريدون خداعه فهم مخادعون, كانوا يحجزونها يوم السبت ويصطادونها يوم الأحد.

قال تعالى: ) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ((الأعراف:الآية 163).

أمر الله I محمداَ e أن يسأل اليهود الذين كذبوه، عن خبر أسلافهم وإخوانهم من أهل هذه القرية، ليعلموا أن محمداً e هو رسول من عند الله، يأتيه الوحى من الله، وما ينطق عن الهوى. لقد كان أسلافهم يعصون أمر ربهم ولا يتناهون عما نهاهم الله عنه.

وفى تفسير ابن كثير: أن هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ((البقرة: الآية 65)، وأن قوله تعالى لنبيه e: )وَاسْأَلْهُمْ(، أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك، عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، فجاءتهم نقمته على صنيعهم، وعلى اعتدائهم، واحتيالهم, وخداعهم في المخالفة لأمر الله، وحذر يا محمد هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم.

قيل أن تلك القرية هي (أيلة) وهى بين مدين والطور، وهي على شاطئ بحر القلزم. قال ذلك محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: )وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ( (أنظر خريطة أصحاب السبت). وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي. وقال عبد الله بن كثير: سمعنا أنها أيلة، وقيل هي مدين، وهى رواية عن ابن عباس. وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها (معتا) بين مدين وعينونا.

وقوله )إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ( أي يعتدون فيه، ويخالفون أمر الله فيه )إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا(.  قال الضحاك عن ابن عباس: أي ظاهرة على الماء. وقال العوفي عن ابن عباس: ظاهرة من كل مكان.

قال ابن جرير وقوله I: ) وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ((الأعراف: من الآية 163)، أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها عنهم في اليوم الحل لهم صيده )كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ( نختبرهم، ) بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ( يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها، احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن فعل الحرام, هذه القرية كان يسكنها قوم من بنى إسرائيل، ابتلاهم الله بإظهار الحيتان يوم السبت المحرم عليهم، حيث كانت تأتيهم في ذلك اليوم بكثرة، ظاهرة لهم رافعة رؤوسها مشرعة؛ بينما لا تظهر لهم باقي الأيام )إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ(.

قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله: عن أبى هريرة t:  أَنَّ النَّبِيّ e قَالَ "لَا تَرْتَكِبُوا مَا اِرْتَكَبَ الْيَهُود فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِم اللَّه بِأَدْنَى الْحِيَل" وَإِسْنَاده مِمَّا يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ (تعليقات الحافظ ابن القيم الجوزية: 3003).

قال محمود الشنقيطي: القرية التي كانت حاضرة البحر هي أيلة، وهو قول ابن عباس وعكرمة والسدى. وتقع أيلة على ساحل خليج العقبة من جهة فلسطين، وخليج العقبة هو جزء من البحر الأحمر ويُطلق عليها اليهود إيلات، (أنظر خريطة أصحاب السبت).

وكعادتهم في مخالفة أوامر الله، تحايلوا على اصطيادها في يوم السبت المحرم عليهم، وذلك بوضع الشصوص والحبائل، وفتح البرك قبل أن تأتى، فإذا جاء يوم السبت وأتت في كثرتها كعادتها، نشبت وتعلقت بتلك الشصوص والحبائل، وحجزت بداخل البرك، حتى إذا جاء اليوم التالي (يوم الأحد) اصطادوها، يخالفون بذلك أوامر الله ويتحايلون على الله ويخادعونه، فكانت عقوبتهم أن جعلهم قردة خاسئين, قال تعالى: ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ((البقرة: الآية 65).

فأصبحوا بين يوم وليلة قردة, لها أذيال وأنياب تقفز وتصرخ. تعرف أنسابها من الإنس وتقترب منهم وتشم ملابسهم، ولكنها لا تستطيع التحدث معهم!!. قال تعالى: )فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ((الأعراف: الآية 166).

بينا فيما سبق مثالين من القرى الظالمة التي اشتهرت بالخداع، تلك القرى التي نراها في كل العصور، فما من عصر إلا ونجد أناساً يغشون ويخادعون ويتحايلون على أوامر الله عز وجل، وضربنا المثالين لقريتين قرية شعيب u (مدين - الأيكة).  وقرية أصحاب السبت.

 



[1] قيل هي (مدين) وهى رواية عن ابن عباس أيضاً ـ وقيل هي (طبرية) وهو قول الزهري، وقال قتادة وزين ابن أسلم هى ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينون تسمى (مقناة).

[2] الظلة = هي سحابة فيها شرر النار.