إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / التقوى ... والعلم ... والعمل (تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة، والآية 105 من سورة التوبة)









4

4. لِم ورد النص على التقوى في المعاملات التجارية؟

بعد التشريعات الخاصة بالدِّيْن، ينبه الله سبحانه المؤمنين، إلى أمر مهم وهو إصلاح الباطن وتزكية النفس، لأن الباطن النقي التقي، هو محرك الإنسان ودافعه الحقيقي إلى الأعمال الصالحة، وعاصمه من الأعمال الفاسدة. وقد جاء في الحديث الشريف ]أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 50)، فالقلب هو أساس صلاح العقيدة ومعيارها، وبه يكون صلاح حال الإنسان كله، وفي صلاح حاله إصلاح عمله، وبه يكون صلاح العالم الذي استُخلف فيه.

فالآية مثار البحث، ترشدنا إلى أن التقوى ليست في العبادات، كالصلاة والزكاة وغيرها من أداء الفرائض فحسب، بل تتمثل في كل عمل؛ بما فيه البيع والشراء بمال حاضر أو دين. فأعمال المسلم كلها غايتها وجه الله تعالى، ليؤدي بذلك حق خلافته لله في الأرض بإعمارها وإصلاحها، ولا يتم إصلاح العالم إلا بصلاح موجوداته. فإذا فسد الإنسان فسدت الموجودات، قال تعالى واصفاً هذا النمط من الناس ]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَاد[َ (سورة البقرة: الآية 205). ومن أجل ذلك وضع الإسلام الأنظمة الكفيلة بمنع الفساد في الأرض، لأن كل فساد فيها مرده إلى عدم الإيمان، وفساد الباطن. فجاءت الشريعة لتهذيب معاملات الناس بعضهم لبعض بالحق، وذلك بِدَفْعِ الإنسان على التدرج في مسالك تزكية النفس، حتى يصل إلى درجة الإحسان، أي استشعار الرقيب الرباني في كل ما يأتيه من أعمال، فيسمو عن العلائق الدنيوية الزائلة.

من هم المتقون؟

على كثرة ذِكْر التقوى والمتّقين في القرآن الكريم، إلاّ أن الصفات المميزة أو المحددة لهذه الفئة من الناس، لم ترد مجموعة على صعيد واحد سوى في آية واحدة، ومرة واحدة فقط. فكثير من الآيات خُتمت في مختلف المواقف والمعاملات والعبادات والطاعات بذكر المتقين، غير أن الآية الرقم (177) في سورة البقرة قدمت ثبتاً كاملاً بصفات المتقين، وتصوير المثال التام لمن يستحق أن يُدرج حقاً في زُمْرة المتقين. قال تعالى: ]لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[ (سورة البقرة: الآية 177).

فنصت الآية أن "التقوى" وبلوغ مصاف "المتقين" جهاد وعمل دائبين كاملين، أعلاه البرّ. وقد أفادت معاجم اللغة أن البرّ جِمَاعٌ لوجوه كثيرة من أعمال الخير، فهو الصدق والطاعة، وهو الصلاح والخير. وقال بعض العلماء هو كل ما يُقَرِّب إلى الله Uّ من عمل خيّر، وقال آخرون هو خير الدنيا والأخرة، ومن معاني البرّ الطاعة والعبادة، كما أن البرّ ضد العقوق . إذاً فالبرّ عمل يبدأ بالمنهج الصحيح، وهو الإيمان بالله وبما شرع وفرض، ثم تتعدد وجوه هذا الإيمان في جانبه الغيبي فتُصبح إيماناً، باليوم الآخر والملائكة والكتب السابقة. وبعد ذلك توضح الآية أن من صفات المتقين انعتاقهم من قيود الحرص والشَّح، وتخلصهم من عدوانية المال التي تستذل النفوس، بشدة الحرص، وتُفْسِد الذمم.

إنّ أشدّ نقاط الضعف عند الإنسان حرصه على المال، ]وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (سورة الحشر: الآية 9، والتغابن: الآية 16). فالمتقون هم الخارجون على شهوة المال وسلطانه، يتصدقون على ذوي الرحم والمحتاجين من اليتامى والمساكين، ومن تقطعت بهم السبل، كما يُعينون في أداء الديات والغرامات، وكل ذلك عملٌ يحقق صالح المجتمع وترابطه، ودفع الضر عن أفراده، وتكافله وتراحمه. وهذه الأعمال هي في الحقيقة انعكاس لجوهر الدين وروحه، وتأكيد على سمات المتقين التي أوردها الله في أول سورة البقرة، حين نص سبحانه أن في إنزال (الكتاب) القرآن بياناً وهدى لهؤلاء المتقين ]الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (سورة البقرة: الآيات 1 ـ 5).

ثم تقف الآية، التي تحدثت عن المتقين، على سماتهم الشخصية، فهم ليسوا فقط المصلين بل هم المقيمون للصلاة، أي الذين يؤدونها بحقها في تمام خشوعها وخضوعها وفي وقتها، وهي  تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، لأنهم عرفوا حقها فوجدوا استجابة لها في أعمالهم. ثم تعرض الآية لأهم صفات المتقين التي ذَكَرتْ طرفاً منها من قبل في أدائهم للصدقات، فهم هنا يقررون حق الله في المال، بدفعهم الزكاة فوق أدائهم للصدقات، فلم يمنعهم دفع الزكاة من زيادة البرّ بالصدقات والقربات لله تعالى. ثم يُضاف إليهم بُعدُ آخر، فأنهم يوفون بالعهود عند التزامهم بها، لأن العهد ـ كما قال الله ـ كان مسؤولاً. ومن صفات المتقين توازن الجانبين في حياتهم: جانب العبادة، والعمل في سبيل الله، فهم ليسوا فقط أهل صلاة وصيام وصدقات وزكاة، بل هم مجاهدون عاملون في سبيل الله، يبذلون أرواحهم بذلهم لأموالهم، صابرون في الحرب والقتال لإعلاء كلمة الله، مثل صبرهم في الشدة والمحن والبلاء. ثم تُختتم الآية بأن من كانت هذه صفاتهم، فهم باقون عليها صادقون في القيام بأمرهم لأنهم ]أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون[ (سورة الزمر: الآية 33).

ومن صفات المتقين كذلك أنهم أولياء الله U، وهم أكرم الناس.

قال تعالى ]أَلاَ إنَّ أَوِلياءَ اللهِ لاَ خَوفُ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحزَنُونَ (62) الَّذِينَ ءاَمَنوُاْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ[ (سورة يونس: الآيتان 62، 63)

قال تعالى ]وَاللهُ وَلِىُّ المُتَّقِينَ[ (سورة الجاثية: الآية 19).

قال تعالى ]إِنْ أَوْليَاؤْهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ وَلَكنَّ أَكثَرَهُم لاَ يَعلَمُونَ[ (سورة الأنفال: الآية 34).

قال تعالى ]إِنَّ أَكرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتقَاكُمْ[ (سورة الحجرات: الآية 13 ومن صفات المتقين أنهم يعفون ويصفحون.

قال تعالى ]وَأَنْ تَعفُواْ أَقْرَبُ للِتَّقوَى[ (سورة البقرة: الآية 237).

كما أنّ من صفاتهم أنهم غير معصومين من الخطايا، إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء غير أنهم لا يقارفون الكبائر، ولا يصرّون على الصغائر.

بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار، والعمل الصالح آخذين بقول النبي r ]اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1910). ودل على هذه الصفة قوله U ]إِنَّ الذَّيِنَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكرُوا فَإِذَا هُم مُبصِرُونَ[ (سورة الأعراف: الآية 201).

ومن صفاتهم أنهم يتحرّون الصدق، فهم أصدق الناس إيماناً، وأصدقهم أقوالاً وأعمالاً، وهم الذين صدّقوا المرسلين. قال تعالى ]وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ[ (سورة الزمر: الآية 33). وقال تعالى ]أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأَولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ[ (سورة البقرة: الآية 177).

ومن صفاتهم أنهم يعظّمون شعائر الله U، قال تعالى]ذَلِكَ وَمَن يُعَظم شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ[ (سورة الحج: الآية 32).

ومن صفاتهم أنهم يتحرون العدل ويحكمون به، ولا يحملهم بغض أحد على ظلمه أو حيفه. قال تعالى ]وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلوُا اْعدِلوُاْ هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيُر بِمَا تَعمَلُونَ[ (سورة المائدة: الآية 8).

ومن صفاتهم أنهم يتبعون سبيل الصادقين من الأنبياء والمرسلين، وصحابة سيد الأولين والآخرين r. قال تعالى: ]يَا أَيُهَا الَّذِينَ أَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[ (سورة التوبة: الآية 119).

كما أن المتقين يَدَعُون ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ويتقون الشبهات.

ويُلاحظ أن اختبار التقوى، يرد دائماً في المواقف، التي يحتاج فيها الإنسان إلى إكراه نفسه، على ما لا يحب، أو ما يكون ضد شهوته أو رغبته. فالصيام، مثلاً، كُتب على الناس، كما كتب على من قبلهم "لعلكم تتقون"، والقصاص فيه حياة لأولي الألباب، "لعلهم يتقون"، ويأمر الله الناس أن يأخذوا ما آتاهم بقوة "لعلهم يتقون".

ويلفت النظر أن أكثر الأنبياء عندما سألوا قومهم الإنابة إلى الله، ختموا تلك الدعوة برجاء التقوى:

]إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ[ (سورة الشعراء: الآية 106).

]إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ[ (سورة الشعراء: الآية 124).

]إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ[ (سورة الشعراء: الآية 142).

]إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ[ (سورة الشعراء: الآية 161).

]إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ[ .(سورة الشعراء: الآية 177).

]وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ[ (سورة الصافات: الآيتان 123، 124).

فالتقوى أمرها عند الله عظيم، لذلك خُصّ أصحابها بما لم يُخَصّ به غيرهم:

]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[ (سورة الطلاق: الآية 2).

]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[ (سورة الطلاق: الآية 4).

]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[ (سورة الطلاق: الآية 5).

]إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[ (سورة النحل: الآية 128).

]وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا[ (سورة الزمر: الآية 73).

]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ (سورة الحجرات: الآية 13).

ولذا كان من شرف التقوى وأهميتها أنها أصبحت وصية الله U للأولين والآخرين، قال تعالى ]وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ مِن قَبلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ[ (سورة النساء: الآية 131). كما أنها وصية النبي r لأمته ]أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا. فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي، فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا. فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 3991).