إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / التقوى ... والعلم ... والعمل (تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة، والآية 105 من سورة التوبة)









5

5. منهاج المسلم: تقوى وعلم وعمل

منظومة ثلاثية، لا يكون العمل صالحاً إلا بها. فالمؤمن يعرف ببصيرته، أن المعيار الدقيق لصلاح كل أعماله، هو معرفة الله واستشعار وجوده ووحدانيته، والخضوع له بالإحساس بالعبودية في كل عمل. فحياة المؤمن، مرتبطة ارتباطاً دقيقاً بالتوحيد، ولا يوجد تشريع إلاّ وفي مبناه الوازع الروحي. فمحك التقوى هو العمل بمقتضاها، لأن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل. فما أسهل الدعوى إن بقيت في حيز القول، من دون الفعل. غير أن العمل الصالح، الذي يُراد به وجه الله، والسلوك المستقيم في كل شيء، يكونان ترجمة حية وعملية، لتقوى المؤمن، التي يجب أن تترجم إلى عمل صالح، يُنَظّم حركة المجتمع في كل معاملاته. لذلك، كان من أسس التوبة بعد إعلانها، أن يتبعها العمل الصالح يقول تعالى: ]إِلاَّ مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا[ (سورة الفرقان: الآيتان 70، 71). فلا عمل صالح من دون علم وتقوى، ولا تقوى من دون علم وعمل. وليس أدل على ذلك أن علاقة الأنبياء بأبنائهم هي دالة العمل، وليس الدم أو الرحم. فعندما دفعت عاطفة الأبوة سيدنا نوح لأن يدعوا ابنه لينقذ نفسه من الغرق ويركب السفينة، عندما دهمهم الطوفان، استكبر الأبن وقال إنه سيلجأ إلى جبل يعصمه من الماء. ففاضت عاطفة الأبوة واستغاث نوح u ربه داعياً ]رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي[ (سورة هود: الآية 45). وهنا جاء الرد الحاسم موضحاً أن الرابطة ليست رابطة الدم بل العمل ]إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[ (سورة هود: الآية 46). وقد تكرر هذا الموقف عندما قال إبراهيم u: ]رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي[ (سورة إبراهيم: الآية 40). جاء الرد حاسماً من الله سبحانه وتعالى ]لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[. (سورة البقرة: الآية 124). وبذلك أُرسيت القاعدة أن أبناء الأنبياء مكانتهم في عملهم صالحاً أو طالحاً، وليس في قرابتهم لآبائهم. وقد أكّد رسول الله r، هذه الحقيقة، عندما شفع أسامة بن زيد في المرأة الغامدية التي سرقت، فغضب رسول الله r، لهذه الشفاعة، وقال: ]لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ r سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ r يَدَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6290)

ومع أن العلم والعمل ليسا من طبيعة واحدة؛ إذ أن العلم مناطه العقل والإدراك، والعمل مناطه الجوارح، إلا أنهما مرتبطان برباط وثيق. فلا خير في علم بلا عمل، ولا خير في عمل بلا تقوى. وبنص الآية الكريمة، يصبح العمل الصالح هو كل عمل يؤديه المؤمن، على مقتضى العلم بكيفية أدائه أداء صحيحاً، مجتنباً محاذيره، ومتوخياً الفائدة المرجوة منه، سالكاً إليها الطريق الشَّرْعيّ، بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه. فالكمال إذن في تناغم هذه المنظومة الثلاثية: علم تزينه تقوى، ينتج منهما عمل صالح. فالتقوى والعلم من غير عمل؛ عصيان لله، الذي استخلف الإنسان في الأرض لعمارتها بعلمه وعمله المبني على التقوى. وفي إحجام الإنسان عن العمل، تعطيل لقدراته، وإهدار لطاقاته، ورهبانية مبتدعة. وإطلاق التقوى هنا مجاز، لأن التقوى إنما تكون في أداء الأعمال النافعة، والعمل هو المحك والممحص لحقيقتها. أما التقوى والعمل من غير علم؛  فجهد ضائع، لأن الجهل ألد أعداء الإنسان، ولذا قيل (عدو عاقل خير من صديق جاهل) والمؤمن لا يسعه الجهل في عصر سلاحه المعرفة، التي أصبحت متاحة للجميع، بل الناس فيها شركاء كالماء والكلأ. الجاهل قد يعمل أعمالاً يظنها صالحة، وهي على غير مقتضى الشرع، وأمثلة ذلك كثيرة لا تحصى. مثال ذلك، من يجادل في حقيقة علمية، بمقولة يظنها حقيقة قرآنية وهي ليست كذلك، ولذا قال الشيخ الشعراوي: "آفة الدنيا كلها الجهل" فالذي لا يعرف حقيقة علمية، يمكن أن يتعلمها. ولكن المصيبة في ذاك، الذي يجزم أو يصدق في قضية كاذبة. ثم يقيم الدنيا محاولاً أن يدلل على شيء غير حقيقي. وهذا ما تعاني منه البشرية وهذا أسوأ ما يتعرض له الإسلام من الجهلاء، الذين ظنوا أنهم يحسنون صنعاً. وما علموا أن العلم هو إدراك الشيء بحقيقته وليس بتصوره. وإطلاق التقوى هنا مجاز ـ أيضاً ـ لأن التقوى لا تكون إلا بعد علم، ومعناها أن يعلم الإنسان محاذير العمل، فيجتنبها ليتقي غضب الله. والعلم والعمل من غير تقوى؛ خسران مبين، وهلاك ودمار للبشرية، التي وجهت علمها لغير الله، فصنعت أسلحة الدمار الشامل، وقد جاء في حقهم قوله تعالى]وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[ (سورة الفرقان: الآية 23). فإذن لا يكون العمل صالحاً، إلاّ بتلك المنظومة الثلاثية.

إن منهج الإسلام، يأمرنا بالتفّكر والتدبّر، وتعلم كافة العلوم ـ دون حَجْرٍ أو قيد ـ لغايات تحقق استخلاف الإنسان لعمارة الأرض. وفي وسائل الإنسان، إلى تعلم هذه العلوم، النظر في ملكوت الله، لقوله تعالى: ]أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ[ (سورة الأعراف: الآية 185)، والخلق في هذه الآية، يشمل كل الموجودات أحياء كانت أو جمادات، فخير عبادة لله، هي اهتداء الإنسان إلى سر الله في خلقه، وأن يعرف حقائق الوجود، لأن العلم في الإسلام يشمل كل موجود، فهو أعم وأشمل من العلم الذي يراد لمعرفة أداء الفرائض فقط، قال تعالى: ]وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[ (سورة الإسراء: الآية 85). وقال تعالى: ]وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ[ (سورة البقرة: الآية 255)، وقال تعالى ]وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا[ (سورة الأنعام: الآية 80).

وقد مرت بالعالم الإسلامي عصور من التخلفُ، جُهلت فيها حقيقة الإسلام، وجُهل فيها فضل العلم. إلا أن تاريخ الأمة الإسلامية، لم يخل من بعض الأئمة المجتهدين، الذين استمدوا حرية الفكر، من ينبوع تلك القوة الحيوية الكامنة في جوهر الشريعة، وأوجبوا على المسلم تَعَلُم العلم الصالح النافع أينما وجده ، لأن الحكمة ضالة المؤمن، والعلم ميراث البشرية، لا جنس له ولا لون. وكل معرفة صحيحة نافعة، لا تتعارض مع أصل إسلامي مقرر، فهي معرفة مشروعة ، وهذا سر قوله تعالى: ]وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ[ (سورة البقرة: الآية 282) (اُنظر ملحق تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة). لأنّ المسلم إذا تسلح بالتقوى فلا شيء يُخشى عليه. فالمُسلم قد أُمر بطلب المعرفة، يقصدها أنىّ كانت، لا يعوقه عن ذلك عائق، بل عليه الضرب في الأرض، ليتفكر ويتحرى، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب. فهو مجتهد، والمجتهد مثاب، أخطأ أم أصاب.

وتأثير الدين في حياة الأفراد والجماعات، لا يكون إلا بعلم وعمل نافعين، وما أمر به الله أو نهى عنه، يجب أن ينعكس في حياة الناس وأخلاقهم وسلوكهم ومعاملاتهم، ومن هنا جاء قوله تعالى ]وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ[ (سورة البقرة: الآية 282) (اُنظر ملحق تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة) ، لأن التقوى، هي الروح والقاعدة التي ينطلق منها المؤمن فيما تعمده أو لم يتعمّده، من أفعال وسلوك وآداب، وهي الروح التي يُتَرجْم إليها عمل الدين في دنيا الواقع . فلا يٌحسب لدين من الأديان، عمل نافع في حياة البشر، إلا بما يغرسه فيهم من تقوى، أي مراقبة النفس ومحاسبتها، ]فالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 4250). وليس التقي الذي يمشي خاشعاً بين الناس، يتمتم بكلمات الذكر والدعاء فقط، بل التقي هو المسلم القوي، العاقل الفاعل العامل المُعلم، المؤثر في مجتمعه بعقله وفكره، لأن منجاة الإنسان وهلاكه منوطان بسعيه وعمله. ولكن، ما جدوى العمل إن لم يقترن بتقوى الله؟ هكذا رجع الأمر إلى توحيد الله، وإخلاص النية له، في كل عمل يقوم به المسلم. فالخِطاب في آية المداينة بدأ بالنداء للمؤمنين، وأمرهم بكتابة الدَّيْن وتوثيقه، وانتهى بأمرهم بالتقوى. ولما كان الأمر في قوله تعالى ]وَاتَّقُوا اللهَ[ (سورة البقرة: الآية 282). يرجع فيه الضمير إلى المخاطبين، بقوله تعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[ (سورة البقرة: الآية 282)، في بداية الآية، دل ذلك على أن الأمر بالتقوى، قد بُدئت به الآية تقديراً، وتوسط فيها في قوله تعالى: ]وَلِيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ[ (سورة البقرة: الآية 282)، وختمت به صراحة. فالأمر بالتقوى مقدر أو مذكور من بداية الآية إلى نهايتها، وفي ذلك تنبيه إلى معنى التوحيد، فلا أمر إلاّ ما أمر به الله، ولا نهي إلا ما نهى عنه، والكل مأمور بالتقوى، فالكاتب والشاهد والمَدِين، والدائن يدخلون في جملة قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[ (سورة البقرة: الآية 282)، ثم يأتي التنبيه الأخير، ]وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 282) (اُنظر ملحق تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة) ليعلم المُخَاطب، من دائن ومدين وشاهد وكاتب وبائع ومشترٍ، أن علم الله محيط بهم ]فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِرَّ وَأَخْفَى[ (سورة طه: الآية 7).

وعلى هذا، فإن سياق الآية يحكم حياة الإنسان كاملة. إذ على الإنسان أن يتقي الله في عبادته، وهي تقوى بينه وبين ربه، وإن اطلع عليها الناس، إلاّ أن الله ]بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم[ٌ (سورة البقرة: الآية 282) (اُنظر ملحق تفسير آخر الآية 282 من سورة البقرة). فصلاته لا يعلم خشوعها غير الله، وصيامه لا يعلم تمامه إلاّ الله، وحجه لا يعلم بِره إلاّ الله، وكذلك زكاته، بل مطلق إيمانه بالله يعلمه الله، لأنه ]بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 282).

كذلك على الإنسان أن يتقي الله في معاملته، في أسرته، بين أبنائه وأقاربه وجيرانه، والمجتمع من حوله، فإن عقّ والديه، أو فرَّق في المعاملة بين أبنائه، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو غش وسَلْب ونهب، ولم يره الناس، فإن الله ]بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 282).

وبذلك تصبح التقوى، هي محور حياة الإنسان الكامل الصحيح. ونتساءل: هل لنا أن نصوغ منهج الإسلام التام، من خلال هذه الآية في الشكل التالي:

فالعلم والعمل بلا تقوى: هما خسران مبين، وهما باب كل الرذائل الفكرية، بدءاً من الفرق الضّالة المنحرفة قديماً، وانتهاء بها في العصر الحديث.

والتقوى والعلم بلا عمل: تعطيل لقدرات الإنسان في السعي وعمارة الأرض، وهما الرهبانية التي أنكرها الدين الإسلامي.

والتقوى والعمل بلا علم: ضرب من الجهل، يشوه سماحة هذا الدين، ويجعل الجهلاء يتصدرون ويسودون من دون التأهيل الكامل للعمل الذي يحكمه العلم.

أما العمل بعلم وتقوى؛ فهو الغاية الكاملة، التي دعا إليها الإسلام، وبينّها من خلال هذه الآية. فأصبحت هذه الثلاثية: تقوى وعلم وعمل، هي منهاج الإسلام القويم.

إن الهدف من هذه الثلاثية مجتمعةً، الرقي بالمجتمع المسلم، ليواكب ركب العلم والحضارة، من دون أن يَبْتعد عن منهج الله.