إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الهيئات التنصيرية وأثرها في العالم الإسلامي









المصادر والمراجع

سادساً: النشاط النصيري في مصر من الإرسالية الفرنسية حتى الإرسالية الهولندية

1. الإرسالية الفرنسية

تعود جهود الإرساليات التنصيرية الفرنسية، للعمل في مصر، إلى بداية العمل الاستشراقي، حيث كانت اهتمامات فرنسا، بدراسة اللغة العربية، "بوصفها لغة عالمية تفيد في التعامل مع المصريين، والمغاربة والسوريين والأتراك، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس.

والذي لا جدال فيه أن التنصير يتفق تماماً مع الاستشراق، ولذلك تجب معرفة لغات من يراد تنصيرهم. وقد كان هناك اقتناع تام لدى دعاة التنصير الفرنسيين، منذ القرن الثالث عشر؛ بضرورة تعلم لغات المسلمين، إذا أريد لمحاولات تنصير المسلمين أن تؤتي ثمارها بنجاح. ولم يكن من السهل ـ في أي وقت من الأوقات ـ فصل الاستشراق عن التنصير، فهما وجهان لعملة واحدة !!

وقد كان من بين الدعاة الفرنسيين، المتحمسين، الذين طالبوا بضرورة تعلم لغات المسلمين لغرض التنصير، (روجر بيكون 1214 ـ 1294م)، حيث كان يرى هذا الرجل، "أن التنصير هو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها توسيع رقعة العالم المسيحي". كما كان يرى، ضرورة معرفة اللغات الضرورية لبلوغ هذه الغاية. وقد شارك بيكون في أفكاره (رايموند لول 1235م ـ 1316م)، الذي كان هدفه التنصير، عن طريق إقناع المسلمين بلغتهم، ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين النصراني.

ولقد صادق مجمع فينا الكنسي في عام 1312م، على أفكار بيكون ولول، بشأن تعلم اللغات الإسلامية، وتمت الموافقة على تعليم اللغة العربية، في خمس جامعات أوروبية مسيحية، هي جامعات باريس، وأكسفورد وبولونيا، وسلمنكا، وجامعة المدينة البابوية روما. وكلها، بطبيعة الحال، مراكز تنصيرية خطيرة في العالم ـ في ذلك الوقت ـ وعند هذا الأمر، كان رايموند لول، "يعتقد أن الوقت قد حان لإخضاع المسلمين عن طريق التنصير، وبذلك تزول العقبة الكبرى، التي تقف في سبيل تحويل الإنسانية كلها إلى العقيدة الكاثوليكية".

وبدأت فرنسا تستعد لبدء عملها التنصيري في مصر، عندما أنشأت في عام 1539م، أول كرسي للغة العربية في الكوليج دي فرانس بباريس. وقد شغل هذا الكرسي جيوم بوستل، الذي زار مصر والشرق الإسلامي، في عام 1581م؛ حيث قام بجمع مجموعة مهمة من المخطوطات الإسلامية. وبذلك يعد جيوم بوستل أول المنصرين الفرنسيين، الذين وفدوا إلى مصر والشرق الإسلامي، إذ له جهود ملحوظة في هذا المجال.

وعند منتصف القرن الثامن عشر، قامت الحكومة الفرنسية؛ بإنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية، في مارس 1795م، في محاولة جادة من جانب فرنسا، التي كانت تعد نفسها كبرى بنات الكنيسة الكاثوليكية، لإعداد الكوادر اللازمة لحركة التنصير الفرنسية، وفي الوقت نفسه، تقريبا، كانت مصر قد لفتت أنظار فرنسا والعالم الأوروبي المسيحي، خاصة بعد أن خرجت من عزلتها السياسية والفكرية، وأخذت توفد بعثاتها التعليمية إلى الخارج، وبصفة خاصة إلى باريس، وبطبيعة الحال، أخذ العالم الغربي المسيحي، يضاعف من عدد بعثاته الدينية والثقافية والاقتصادية إلى مصر، التي كانت ترحب بكل هؤلاء الوافدين ـ تحت ضغط الامتيازات الأجنبية ـ ومع هؤلاء الوافدين، الذين كان في مقدمتهم الفرنسيون، جاء إلى مصر لفيف من رجال الإرساليات التنصيرية، "إلى حقل جديد، يعد خصباً لنشاطهم".

ولما كانت فرنسا تعد نفسها كبرى بنات الكنيسة الكاثوليكية، حملت على عاتقها مهمة نشر المسيحية في الشرق الإسلامي؛ وكانت البداية في مصر. فعندما وصلت الحملة الفرنسية إلى الإسكندرية، في 28 يونيه عام 1798م، كانت برفقتها مجموعة من العلماء، بلغ عددهم 175 عالماً، كان من بينهم أعضاء بعض الهيئات المهتمة بالدراسات الخاصة بما وراء البحار، وعدد من المستشرقين، الذين درسوا اللغة العربية، في مدرسة اللغات الشرقية الحية، بباريس؛ لوضع أسس أول إرسالية تنصيرية فرنسية في مصر.

وكان بابوات روما، قد حاولوا إخضاع الكنيسة القبطية في مصر، وإجبارها على الاعتراف برياستهم، وذلك بما أرسلوا من راهبات فرنسيسكان إلى مصر، حتى قبيل الحملة الفرنسية، وتوغلوا في الصعيد، حيث يكثر الأقباط. وبلغ بهم الأمر أن كان الفرنسيسكان يمسكون بالأطفال المسلمين ويرسلونهم إلى روما لتعليمهم المسيحية الكاثوليكية.

على كل حال … كان بين هؤلاء المستشرقين الفرنسيين، الذين وفدوا مع الحملة إلى مصر، مارسيل، الذي قام بالإشراف على إحدى المطبعتين، وقام هذا الرجل بدراسة الشعر العربي، في القاهرة. وقد ضبط هذا المستعرب، في أثناء ثورة القاهرة في أكتوبر 1798م، ضد الوجود العسكري الفرنسي، بسرقة مخطوط رائع للقرآن الكريم، يرجع تاريخه إلى القرن الثالث عشر، من خزائن الجامع الأزهر. هكذا كان نشاط أول مجموعة فرنسية تنصيرية، جاءت تحت ستار الاستشراق.

المهم، أنه منذ ذلك التاريخ، غدت فرنسا في مصر، أفضل تمثيلاً قنصلياً ودبلوماسياً من غيرها من الدول الأجنبية الأخرى. فكان لها قنصل عام يسكن القاهرة، وقنصليتان في ثغري الإسكندرية ورشيد؛ بينما كان لإنجلترا قنصلية واحدة فقط في القاهرة.

وكان أول اتصال حكومي بين إرساليات التنصير الفرنسية وبين مصر، في عهد محمد علي 1805 ـ 1848م؛ فعندما زار الأب إتين Etienne pere، الرئيس العام للعازريين في سورية، مصر على رأس بعثة تبشيرية في عام 1840. عرض عليه محمد علي، إنشاء بعض المدارس، في محاولة لتطوير التعليم في عهده، وبطبيعة الحال، وجدها المنصر إتين فرصة ذهبية، فاستجاب على الفور لطلب محمد علي، من ناحية، ولرغبات الإرسالية الفرنسية، التي كانت ترى ضرورة إقامة مراكز تبشيرية في الأقاليم المصرية. وأخذ المنصر الفرنسي يتوسع في إقامة المدارس الكاثوليكية الفرنسية، لتكون مدخلاً طبيعياً ومنطقياً للعمل التنصيري في مصر.

وقد أنشأت الإرسالية الفرنسية، أول ثلاث مدارس كاثوليكية فرنسية في عهد محمد علي، هي: مدرسة الراعي الصالح بون باستور للبنات في القاهرة عام 1845، ومدرسة فتيان الإحسان في العام نفسه، ثم مدرسة اللعازريين في عام 1846. ومع هذه المدارس، أخذت عملية التعاون، تأخذ طريقها إلى مدن الصعيد وقراه، بين الراهبان والراهبات الفرنسيسكان، الذين مارسوا نشاطاً تنصيرياً خطيراً، تحت ستار التطبيب، وحتى وقت قريب جداّ، كانت مدن الصعيد، لا تخلو من مركز طبي يعمل فيه الرهبان والراهبات الفرنسيسكان، وامتد هذا النشاط إلى بقية مدن الوجه البحري وقراه.

ولم يلبث أن ظهر صراع النفوذ بين فرنسا وإنجلترا ـ كما قلنا ـ في ميدان الإرساليات التنصيرية، فحاولت جمعية إرساليات الكنائس الإنجليزية، أن تنافس الانتشار التنصيري الفرنسي في مدن مصر وقراها، بفتح عدد من المدارس، ولكن كانت الغلبة للفرنسيين، الذين كانوا قد انتشروا في البلاد، من خلال مدارسهم ومراكزهم الطبية، يمارسون من خلالها التنصير بين المسلمين.

وعندما تولى عباس الأول، ولاية مصر 1848 ـ 1854م، كان شديد الكره للأجانب، وقد يعزى هذا إلى شدة حقده عليهم؛ وقد شاهد بنفسه أنهم حطموا آمال جده محمد علي الواسعة، وحرموه ثمرة انتصاراته وتضحياته. وكان عباس يعتقد أن معظم أولئك الأجانب الذين وفدوا إلى مصر، لم يكونوا إلا من أحط الأوساط؛ ولذلك كان يعمل على طردهم بكل الطرق، من البلاد، ثم جعل نفسه بمعزل عنهم، لا يقابل إلا عدداً محدوداً من قناصل الدول الأوروبية، مما جعل الكثيرين، منهم يذمونه ويرمونه بالتعصب!!

ولذلك لم تمارس الإرساليات الفرنسية الكاثوليكية، أي نشاطات تنصيرية ملحوظة على عهد عباس الأول، بسبب عداوته للأجانب عموماً، وإنما راحت في الوقت نفسه، تنشئ المدارس، متذرعة بالمساهمة في تنمية الحركة التعليمية في مصر. وأخذت الإرسالية الفرنسية تتوغل أكثر وأكثر، في صعيد مصر. ونجحت هذه الإرسالية بالتعاون مع الرهبان الفرنسيسكان، في عام 1850م في افتتاح مدرسة للآباء الفرنسيسكان في منطقة نقادة وبعد ثلاثة أعوام، واصلت نجاحها، وأنشأت مدرسة أخرى في جرجا في عام 1853. وبعد هذا التمركز المتعمد في جنوب البلاد، توجهت جهود الإرسالية الفرنسية إلى الوجه البحري.

وأخذت تكثف جهودها في بورسعيد، فأنشأت فيها مدرسة الراعي الصالح الداخلية في عام 1853م، ثم أضافت نهاية عهد عباس الأول مدرسة الفرير عام 1854م، في القاهرة. وكانت مدرسة كاثوليكية فرنسية خطيرة، وقعت فيها عدة حوادث تنصير لصبية من أبناء المسلمين.

وكانت حكومة فرنسا، تساند، وبصفة مباشرة، جهود الإرسالية التنصيرية في مصر، وكانت حكومة جيزو الفرنسية، تسبغ عطفها المعنوي والمادي على كل العاملين في هذه المدارس الفرنسية بمصر.

2. عهد محمد سعيد (1854 ـ 1863) وموقفه من النشاط التنصيري

وعندما اغتيل عباس الأول في قصره بمدينة بنها، وخلفه عمه محمد سعيد، الذي حكم من 1854 ـ 1863، قيل إن الأجانب الفرنسيين، كانت لهم يد في مقتله. على أي حال. عندما تولى محمد سعيد الحكم في 12 يوليه 1854، انتهج سياسة مع الأجانب، كانت على عكس سياسة عباس الأول؛ فكان سعيد يميل إلى عشرة الأجانب، ويكرم مثواهم، ويحسن وفادتهم. وقد يرجع السبب في ذلك إلى أن سعيداً تربى تربية فرنسية؛ لذلك كثر توافدهم إلى البلاد في عهده، وكثر اختلاطهم بأفراد الشعب. وبطبيعة الحال، تزايد نشاط المنصرين عامة، والفرنسيين منهم، بصفة خاصة، لأن سياسة سعيد، قد فتحت الباب أمام مزيد من المنصرين الفرنسيين. وكان قيام مدارس الإرساليات الأجنبية، يمثل أكبر ظاهرة سائدة في السياسة التعليمية في مصر، في ذلك العهد، ولم يحاول سعيد، الذي كان منفتحاً على النفوذ الفرنسي، أن يفعل شيئاً، للحد من هذه الظاهرة، بإعادته فتح المدارس الابتدائية والإعدادية الحكومية، مفضلاً ترك هذه المهمة لإرسالية التنصير الأجنبية. وبذلك يكون الخديوي محمد سعيد قد أسدى للإرساليات التنصيرية الأجنبية خدمة جليلة، وهي منحهم حرية فتح مراكز التنصير في البلاد، بلا رقابة حكومية.

ويقول أحد المنصرين عن سعيد: "إن الأجانب مدينون بالكثير لحكم سعيد باشا، حيث وضعت الإرساليات التبشيرية في أثناء عهده، أسس عملها، تلك الأسس التي لم يكن من المستطاع، بعد ذلك، هدمها بواسطة أشد المقاومات عنفاً من جانب الحكام المدنيين والدينيين مجتمعين". ويبدو أن هذا المنصر، كان يغفل جانب القوى الشعبية الإسلامية، والتي ستقاوم هذه الإرساليات أشد المقاومة فيما بعد !!

على أي حال، كان سعيد قد أغدق العطف المعنوي والمادي، على المنصرين في مصر بغباء. وإن كان البعض يعتقد، أن هذا العطف جاء من جانبه من دون قصد؛ المهم أنه منحهم الكثير من الامتيازات التي كانوا لا يحلمون بمثلها على الإطلاق. ويتحدث أحد هؤلاء المنصرين عن "الكرم الذي أظهره سعيد حيال المدارس التنصيرية الأوروبية، التي لولا المساعدات الأميرية، التي كان يقدمها إليها، ما استمرت"، في القيام بمهمتها ضد الإسلام والمسلمين في مصر.

ويصف آخر سعيداً؛ "بأنه القديس الحامي للإرساليات، وبصفة خاصة الإرسالية الأمريكية". ويقرر ثالث؛ أنه، بغض النظر عن المباني الحكومية، التي تنازل عنها سعيد، للإرساليات التنصيرية، فإن المبالغ المالية التي وهبها لمدارس الفرير بالقاهرة، ومدارس الإيطاليين الرهبان بالإسكندرية، كانت على الأرجح تفوق ما تم صرفه على ميزانية التعليم الحكومي العمومي خلال فترة حكمه الطويلة".

والحقيقة أن سعيد لم يكن وحده، هو الذي قدم الخدمات إلى الإرساليات، وإنما فعل ذلك أيضاً، رجال الأعمال، وأصحاب المهن، من الأجانب. والإرساليات التنصيرية مدينة لكل هؤلاء، لما كانوا يزودونهم به من المشورات والنصائح. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فقد اقترح هؤلاء، أصحاب الأعمال الأجانب، "أن تتقدم الإرساليات الأجنبية بطلبات إلى الخديوي سعيد ليمنحها منزلاً أو قطعة أرض تشيد عليها مقراً دائماً لها في مصر". وكان هذا الاقتراح بداية تملك الإرساليات أراضي أو عقارات بمعاونة الحكومة أو السلطة في مصر.

وبالفعل، وافق سعيد على إهداء مقر دائم، لبيت الأخوات الفرنسيسكان في القاهرة، عام 1859م. وسمح، كذلك، للإرسالية الفرنسية، خلال الفترة من 1855 ـ 1863م، بإنشاء عشر مدارس للفرنسيسكان في الوجه القبلي والوجه البحري، وامتدت هذه المدارس من قنا إلى بور سعيد وأغدق عليها بلا حساب!!

وقد راوح عدد المدارس الأجنبية التنصيرية، الأولية والإعدادية في عام 1863م ـ نهاية عهد سعيد ـ بين 32 و 37 مدرسة، منها ثلاث مدارس غير دينية. ويقدم سعيد ـ كذلك ـ منحاً مالية وعينية سخية للكنائس التابعة للإرساليات التنصيرية، جميعها. وإن كان قد خص الإرسالية الفرنسية، فإنه كان لا يقبل التنافس بين الإرساليات. الطريف أن البعض، راح يدعي "بأن سعيداً، كان يستهجن التعصب والاضطهاد الديني في كثير من الأحيان" كيف لا… وهو ربيب الثقافة الفرنسية!!

لقد كان سعيد فرنسياً في كل سلوكه، فقد شجع الفرنسيين فانسون بنامسون Vincent Penasson وأنطون موريس Antoine Morice، بالأموال اللازمة من أجل إنشاء مطابع، بدعوى إثراء النهضة الفكرية. وإنما كان هدفه الأول والأخير، خدمة الحركة التنصيرية الفرنسية، بصفة خاصة، والإرساليات الأجنبية الأخرى، بصفة عامة. فأنشأ (فانسون) مطبعته في عام 1858م بالقاهرة، لخدمة المنصرين ونشاطهم في هذه العاصمة، والوجه القبلي. وأنشأ (أنطون موريس) مطبعته في عام 1860م بالإسكندرية، لخدمة نشاط الإرساليات التنصيرية، في الوجه البحري، وإن كانت هاتان المطبعتان تقومان بطبع الكتب المدرسية الفرنسية، التي كانت تطلبها مدارس الإرسالية الكاثوليكية، فإنها في الوقت نفسه، كانت تسمح بطبع ما ترغب فيه الإرساليات عامة، من مادة علمية ودينية، بقصد زعزعة التلاميذ في عقيدتهم الإسلامية. وبطبيعة الحال، كان كل هذا يحدث بعيداً عن مراقبة الحكومة والسلطات المصرية. إنها ثمار إنعامات الخديوي سعيد!!

ولم يقتصر عطاء الخديوي سعيد على هذا فقط، وإنما امتد إلى مزيد من دعم نشاط الإرساليات الفرنسية، "باستعانته بالمسيحيين الفرنسيين، الذين كانت تشكلهم وتوجههم الإرساليات الكاثوليكية". فقد استخدمهم مستشارين له، في أدق الأمور.

وفوق كل ذلك؛ فإن سعيداً قد اتخذ في عام 1860م كل الاحتياطات اللازمة، لحماية المنصرين الفرنسيين والأجانب في مصر، بسبب المذابح التي حدثت بين الموارنة والدروز في جبل لبنان وسورية، مما أدى إلى التجاء حوالي خمسة آلاف مسيحي من أقاليم الشام إلى الإسكندرية. معظمهم دخل في حماية الإرساليات التنصيرية الأجنبية.

هكذا كانت الإرساليات الفرنسية، تمارس نشاطها التنصيري، بحماية والي مصر سعيد. لقد كانت تلك الفترة، تمثل قمة حملات الإرساليات التنصيرية الكاثوليكية والبروتستانتية على مصر، كما أن المسيحيين الأجانب، وبعض المصريين يدينون لسعيد، باندماجهم الكامل في جسد الأمة المصرية الإسلامية، وليس كما يدعي البعض: "أن هدف البعثات التبشيرية كان تحويل الأقباط المصريين إلى الكاثوليكية والبروتستانتية".

وإذا كان عهد سعيد قد وضعت خلاله الإرساليات التنصيرية الأجنبية، أسس عملها الهدام ضد الإسلام والمسلمين المصريين؛ فإن عهد خليفته إسماعيل باشا 1863-1879م، قد تم خلاله تتويج كل هذه الأسس، وتلك الرعاية التي حظيت بها الإرساليات في عهد سلفه، وسوف نعرض لذلك عند الحديث عن الإرساليات الأمريكية. ويتوج كل هذه الرعاية للإرساليات التنصيرية، تنصيب إسماعيل أكبر أبنائه، وولي عهده محمد توفيق راعياً للمدارس الحرة المجانية، التي كانت تدار بواسطة الإرساليات، بطبيعة الحال، وإيفاده في كثير من الأوقات لحضور احتفالات توزيع الجوائز في بعض مدارس الإرساليات الأجنبية بالإسكندرية.

لقد كان للامتيازات الأجنبية، والمنح والهبات التي أعطاها ولاة وحكام مصر ـ بلا حدود وبغباء ـ للأجانب وإرسالياتهم التنصيرية، نتائجها المباشرة على الإسلام والمسلمين في مصر، وعلى تكوين الفكر المصري، حتى اليوم. فقد بذل هؤلاء الحكام جهوداً كبيرة، في سبيل إرضاء الإرساليات الأجنبية، وتشجيع رعاياها. وكان من مظاهر هذا التشجيع تلك المدارس الأجنبية، التي كانت مراكز تنصيرية خطيرة. لقد كان اعتقاد هؤلاء الحكام المصريين، والحكومات المتعاقبة، أن عمل البعثات التبشيرية هو السعي إلى نشر الحضارة بين أهالي مدن القطر المصري وقراه في جنوبه وشماله، أكثر مما هو محاولة تحويل المسلمين في هذه المناطق ـ الصعيد بالذات ـ إلى المسيحية، ونشرها بينهم" ومن هنا كان الحكام والحكومات المتعاقبة، يتوقعون أن تهتم الإرساليات الأجنبية التنصيرية، بالعمل الاجتماعي والتربوي أكثر من اهتمامها بالعمل على تحويل المسلمين إلى المسيحية واعتناقها. غير أن الإرساليات الأجنبية، جعلت من هذه المهمة الأخيرة، هدفها الرئيسي، من دون أن تقلل من اهتمامها بالتعليم، باعتباره واجهة تخفي وراءها هدفها الخطير. فقد كان إنشاء الكنائس الجديدة في مصر، يسير إلى جنب المدارس دائماً، وفى أغلب الأحيان كان يضمهما مبنى واحد.

مما سبق عرضه، يتضح مدى الرعاية، التي كانت تتلقاها الإرسالية الفرنسية التنصيرية، وغيرها من الإرساليات الأخرى، من جانب ولاة الأمور، وحجم التشجيع الذي كانت تحاط به، ومدى الحرص على تجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى حدوث اضطهاد أحد رعاياها. وبطبيعة الحال، كانت نتائج هذه السياسة اللينة المتسامحة، إلى درجة الإفراط، أن تزايدت أعداد مراكز التنصير الأجنبية في البلاد، وأخذ نشاطها الهدام ضد الإسلام والمسلمين، يستشري في المدن الكبرى، وغالبية القرى والنجوع المصرية في جنوب القطر، وشماله.

3. جهود الإرسالية الأمريكية (بداية النشاط التنصيري الأمريكي في الدولة العثمانية)

يعود اهتمام الولايات المتحدة؛ بممارسة النشاط التنصيري ـ تحت ستار التعليم ـ في البلاد العربية، وبلدان الشرق الأقصى، بصفة عامة، إلى الوقت الذي نزعت فيه الحركة التعليمية في الولايات المتحدة إلى عدم الاستقرار داخل حدودها. وأخذت تتجاوزها إلى المناطق التي لم تتهيأ لها الفرصة، للأخذ بأساليب الحضارة الحديثة، وإنشاء نظم تعليمية خاصة بها، كالصين واليابان والهند، وبلدان الشرق الأدنى. غير أن هذه الحركة الأمريكية التعليمية، التي قام بها المبشرون، على اختلاف صورهم من كاثوليك وبروتستانت، اتخذت "صبغة دينية"، هدفها محاربة الإسلام في كل هذه المناطق، التي انتشر فيها الإسلام سريعاً، وأصبح حقيقة قائمة في الحياة اليومية، فلفت بقوته أنظار رجالات اللاهوت الأمريكيين.

وجاء بدء الاهتمام في الربع الأول من القرن التاسع عشر، عندما استقر رأي اللجنة الأمريكية للإرساليات الأجنبية للكنيسة المذهبية الموحدة American Board of Commissioners for foreign missions of the congregational church على إقامة مركز تبشيري في الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تضم في ذلك الوقت،35 مليون مسلم، وتشغل مساحة ضخمة، تمتد عبر قارات ثلاث، وتحتل مكانة متميزة لتزعمها العالم الإسلامي. ويحلو للبعض أن يطلق على هذه اللجنة الأمريكية التنصيرية، اسم المجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التنصيرية الأجنبية. على كل حال تجمع المصادر على أن هذه اللجنة الأمريكية التنصيرية، تأسست في عام 1810م بمدينة بوسطن، وبعد تسع سنوات من تأسيسها أرسلت أول منصريها إلى منطقة الشرق الأدنى، واتخذ من جزيرة مالطة مركزاً له، ثم بدأ التجول في شاطئ البحر المتوسط. وذهب بعض المنصرين الأمريكيين إلى القدس، ثم انتقل نشاطهم التنصيري إلى بيروت، حيث التركيب الطائفي، الذي يميز تلك المنطقة، والذي هو المنطلق الخصيب لحركة التنصير الأمريكية، وأهم المناطق مرتكزاً للتدخل الأجنبي، وفيها ظهرت حركة التنافس الشديد بين الإرساليات الأجنبية التنصيرية.

ففي نهاية عام 1818م كلفت اللجنة الأمريكية للإرساليات، كلاً من؛ ليفي برسونز Levi parsons وبليني فيسك pliny Fisx، مهمة إقامة أول مركز تنصيري أمريكي في الشرق الأدنى. وأبحر الرجلان، في 3 نوفمبر 1818م، من بوسطن، على ظهر المركب الأمريكي سالي آن Sally Ann، قاصدين جزيرة مالطة في البحر المتوسط، إذ أقيم فيها أول مركز تبشيري عرف باسم الإرسالية الفلسطينية Palestine Mission، وكانوا قد أسسوا هذه الإرسالية في 23 ديسمبر عام 1819م.

ولكن سرعان ما دعت إستراتيجية التنصير الأمريكي، إلى مزاولة نشاطها في بر الشام نفسه، فصدرت الأوامر، في عام 1820م، للرجلين نفسيهما، بالإبحار إلى أزمير في 9 يناير 1820م، فوصلاها في 15 يناير من العام ذاته. وتوجها بعد ذلك إلى بيروت، التي كانت مدينة على درجة عالية من الأهمية، لنشاطهم، حيث التعدد الطائفي فيها، ولوقوعها في وسط العالم العربي، ويمكن نشر النشاط التبشيري منها إلى كل أنحاء الأقاليم الناطقة بالضاد. وقد استقر الرجلان فيها.

ولما كانت فلسطين هي الهدف الأول، لإستراتيجية التنصير الأمريكي؛ فقد تم فتح أول مقر للإرسالية الأمريكية في بيت المقدس عام 1823م. غير أن هذه الإرسالية، واجهت العديد من المصاعب والعقبات في أثناء ممارسة نشاطها التنصيري هناك، فاضطرت إلى إغلاق أبوابها في عام 1827م. ولكن الإستراتيجية الأمريكية للتنصير لم تتقاعس، وأخذت تسعى جاهدة لإنشاء مراكز تنصيرية جديدة، في سورية عام 1825م، وفى أزمير عام 1828م. غير أن اضطراب الأحوال الداخلية في الدولة العثمانية، بسبب ثورة اليونان ضد السلطان العثماني، وإثارة النزاع بين والي مصر محمد علي وبين السلطان العثماني بشأن الاستقلال، أدى إلى إغلاق كل هذه المراكز التنصيرية الأمريكية في عام 1830م.

ولكن بعد أن توصلت حكومة الولايات المتحدة إلى عقد اتفاق ودي تجاري، مع الدولة العثمانية في عام 1830م، أعيد فتح المركز الأمريكي التنصيري في بيروت عام 1831م. وهو العام الذي امتاز ببدء مرحلة جديدة، في إستراتيجية التنصير الأمريكي، تجاه الدولة العثمانية، إذ أعيد فتح المركز التبشيري في أزمير، بعد ذلك، في عام 1833م. ونشطت بعد ذلك أعمال الإرسالية الأمريكية، فأنشئت مراكز تبشيرية أخرى، في طرابزون وفى بروسه Bursa، عام 1834م، وفي كلية روبرت Robert college، عام 1863م.

وأخذت الإرسالية الأمريكية تزاول نشاطها التنصيري، بين أوساط المسلمين، بشكل ملحوظ، عندما استقر الحكم المصري في الشام على عهد محمد علي والى مصر، وبيد ابنه إبراهيم، الذي كان ينتهج سياسة التسامح الديني. وأخذ عمل هذه الإرسالية الأمريكية طريقه إلى مجالين أساسيين: إنشاء المدارس والمعاهد البروتستانتية والكاثوليكية، وتأليف الجمعيات. وقد استعانت الإرسالية الأمريكية، في أعمالها في بيروت بتلاميذها وأصدقائها من المسيحيين، ونقلت مطبعتها من مالطة إلى بيروت في عام 1834م، لطبع الإنجيل، وترجمته إلى العربية.

وعندما أخذ نشاط الإرسالية الأمريكية في بر الشام يتزايد، كان نشاط الإرساليات الأخرى، في بيروت والقدس ولبنان، قد أخذ شكلاً منافساً للإرسالية الأمريكية؛ فقد اقتفى المنصرون الفرنسيون الكاثوليك، أثر البروتستانت الأمريكيين في بر الشام. فعندما أنشأت الإرسالية الأمريكية، في بيروت الكلية السورية البروتستانتية في عام 1866م، والتي عرفت فيما بعد باسم جامعة بيروت الأمريكية، لتربي فيها الكوادر التنصيرية من كل الدول العربية الأخرى، لحمل رسالة التبشير، شرعت الإرسالية الفرنسية، في إنشاء كلية القديس يوسف الكاثوليكية في بيروت. ومن خريجي هذه الإرساليات انطلقت البعثات التنصيرية التي وفدت إلى مصر.

ولما أخذت مدارس الإرسالية الأمريكية تنتشر في أقاليم الشام، شعرت الدولة العثمانية، أن خريجي تلك المعاهد والمدارس الأمريكية، عناصر هدامة تعمل في كيان الدولة؛ واضطر السلطان العثماني إلى الاعتراف بالبروتستانتية مذهباً دينياً جديداً، في دولته، بمقتضى فرمان عام 1850م.

ويذكر ليلاند جيمس غودون؛ "ومنذ عام 1863م أخذت أعمال التبشير في الانتشار داخل أقاليم وولايات الإمبراطورية العثمانية، وبحلول عام 1869م، كان يوجد في أنحاء تركيا 21 مركزاً تبشيرياً، تضم 45 من رجال الإرساليات، يعاونهم عدد كبير من الأرمن، وإلى جانب هذه المراكز، كان يوجد ما لا يقل عن 185 مدرسة، إلى جانب الكنائس الكثيرة، التي شيدت في كل أنحاء تركيا. وسوف يمتد العمل التنصيري الأمريكي من الشام إلى مصر.

هكذا بدأت الإستراتيجية الأمريكية التنصيرية، في التمركز بالمواقع الحيوية والضرورية، لضرب الإسلام في قلب دولة الخلافة الإسلامية، الدولة العثمانية. ومن هذه المراكز الحيوية، انطلقت جيوش التنصير الأمريكية، إلى مصر، التي كانت تمثل القيادة الفكرية للعالم الإسلامي في ذلك الوقت، ولأن مصر هي مركز الثقل في العالم الإسلامي كله، وكل ما يثار فيها من تيارات إنما يكون عاملاً مؤثراً في مختلف الأجزاء.

لقد قدمت الإرساليات التنصيرية الأمريكية من لبنان إلى مصر، شخصيات حملت لواء الفكر العربي المسيحي، وقادته حيث سيطرت على وسائل الثقافة والصحافة، وكان لها أثرها بعيد المدى.

4. الإرسالية الهولندية

كانت أقل إرساليات التنصير أهمية في القطر المصري. فقد توطنت في قليوب، وضمت في مدارسها المتعددة طلاباً من كل المذاهب، ومن المسلمين. وتقوم هذه الإرسالية، بنشر الإنجيل في القرى، بواسطة بائعي الكتب. ومن أعمالها أنها أنشأت ملجأ للأيتام، كان مركزاً خطيراً لتنصير الأطفال والبنات واليتامى المسلمين. وكانت عنايتها فائقة بالأطفال المسلمين والأقباط على السواء.

وقد بدأ نشاط الإرسالية الهولندية في عام 1871م، بينما يذكر البعض: "أن بداية وفود الإرسالية الهولندية إلى مصر، كان عام 1886م، بإنشاء مدرسة ابتدائية للبنين والبنات في منطقة القناطر الخيرية. ومن داخل هذه المدرسة المشتركة، انطلقت قوافل التنصير الهولندية.

وفى عام 1874م أُسس المنصر الهولندي بنجس، ملجأ للأيتام في قليوب، كان له دور خطير في تنصير عدد من الأطفال والبنات المسلمين. وفى عام 1902 أنشأت الإرسالية الهولندية، كنيستها، أيضاً في قليوب؛ ومدرسة أخرى، وعيادة طبية. وكان أعضاء الإرسالية الهولندية في مصر، ستة أفراد فقط، هم فلينجر، وسبلينار، وبنجس، وبايل، وقد توفي في عام 1942 ودفن في قليوب، ومس كات، وصلت في عام 1930 وغادرت مصر في عام 1950، والقس كورسلمان.

وفى عام 1954 أغلقت مدارس الإرسالية الهولندية، وكذلك العيادة الطبية فيما بعد؛ بسبب عدم معرفة الأطباء الهولنديين للغة العربية.