إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحَرمان الشريفان، والتوسعات المختلفة




مآذن الحرم التسعة
واجهة ومئذنة
واجهة ومئذنة أخرى
واجهة ومئذنة القبلة
أحد الشوارع
الواجهات الخارجية
الواجهة الشرقية
المدخل الشمالي الرئيسي
الأسقف الداخلية والعقود المدببة
المظلات وهي مغلقة
المظلات وهي مفتوحة
الأعمدة وقواعدها
الأعمدة في الحرم
التوسعة السعودية الثانية والثالثة
التكامل والانسجام
الحجر الأسود
الروضة الشريفة
العقود المدببة (الأبلق)
القباب المتحركة المغلفة
القباب المتحركة المفتوحة
بوابة المروة وساحة المسعى
توسعة خادم الحرمين الشريفين
بداية التوسعة السعودية
ساحة المطاف
زخارف الواجهات الخارجية
سطح الحرم وساحة السعي
كسوة الكعبة

مخطط مقارن للمسجد
إضافة دار الندوة
مسقط للحرم المكي
مسقط أفقي بعد توسعة
مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ
المنطقة المحيطة والأراضي المنزوعة
المنطقة المركزية والخط الدائري
الأحياء الملتفة حوله
الأجزاء المضافة
المخطط بعد العمارة العثمانية
التأثير على المحيط العمراني
التوسعات في عهد المهدي العباسي
الحرم في عهد عمر بن الخطاب
الحرم في عهد قريش
الركن اليماني
الشوارع والطرق
الكعبة بعد العمارة العثمانية
توسعات في عهد الملك عبدالعزيز
توسعة أبو جعفر المنصور
توسعة المهدي
توسعة الوليد بن عبدالملك
توسعة عبدالله الزبير
تصور لمسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم




المبحث الثالث

المبحث الثالث

نشوء وعمارة الحرم المكي الشريف

أولاً: عمارة الملائكة للبيت الحرام

اختلف المؤرخون في أول من بنى الكعبة المشرفة، غير أن المؤكد أنها أول بيت وضع للناس، كما جاء في محكم التنزيل ]إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 96) وإن كان قد غاب عن ذاكرة التاريخ معظم تفاصيل الفترة الأولى من قصة الكعبة، لكن الذي تؤكده بعض الروايات أن الملائكة هم الذين قاموا بتشييدها قبل آدم u. يقول بعض المحققين إنه إذا ثبتت قصة البناء قبل الخليل u، فهو بناء تأسيس فقط. فالكعبة المشرفة بيت الله جل جلاله، وقد ذكره الله سبحانه وتعالى إذ قال: ]وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[ (سورة البقرة: الآية 125).

فالكعبة المعظمة هي هذا البناء الشامخ الجليل، الذي يقع في قلب الحرم المكي الشريف، وهي قبلة المسلمين ومحط أنظارهم، يلتف الناس حولها في جميع الصلوات، ويطوفون بها في الليل والنهار، ولا ينقطع طوافهم حولها إلا في أثناء الصلوات الخمس، عندها يقف الجميع أمامها وفي اتجاهها في خشوع وتبتل، يؤدون الصلاة المكتوبة عليهم. وأما تسمية البيت المعظم بالكعبة فقد ورد في ذلك عدة روايات منها ما ذكره ابن منظور في لسان العرب أنه قال "سُميت كعبة لتربيعها" والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة، وقال أيضاً "سُميت كعبة لانفرادها من البناء"، وقيل "سميت كعبة لارتفاعها عن الأرض"، وأصلها من الخروج والارتفاع، وكل شيء علا وارتفع فهو كعب.

ثانياً: عمارة إبراهيم u

لقد عُرفت مكة منذ أحقاب طويلة ممعنة في القِدَم، قبل عهد إبراهيم u. غير أنه من المؤكد أن الأمر بهجرة إبراهيم بزوجته هاجر وابنه إسماعيل عليهم السلام، يمكن اعتبارها البداية الجلية لتاريخ مكة. وعند وصول إسماعيل كانت قبيلة جرهم قد حلت محل العماليق، سكنت وادي مكة أو على مسافة قصيرة منها.

لقد حددت العناية الإلهية موضع هذا المكان المقدس، وهيأت له أسباب الحياة والدوام استجابة لدعوة أبينا إبراهيم u ]رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[ (سورة إبراهيم: الآية 37). فكانت بئر زمزم التي نبعت بمعجزة من الله سبحانه وتعالى ليروي ظمأ الرضيع إسماعيل وأمه عليهما السلام.

حين بدأ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إعادة بناء الكعبة، وذلك برفع القواعد من البيت، في المكان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى، وأرشدهم إليه جبريل u، كان إبراهيم يضع الحجارة فوق بعضها ويناوله إياها إسماعيل u. ذكر ابن اسحق في سيرة ابن هشام أنه عند تمام البيت، كانت المسافة بين الحجر الأسود والركن الشامي اثنين وثلاثين ذراعاً، وبين الركن الشامي والركن الغربي عشرين ذراعاً وبين الغربي واليماني واحدا وثلاثين ذراعاً وبين اليماني والحجر الأسود عشرين ذراعاً.

نما هذا المكان واتسعت أطرافه، وسكنته جرهم وأحفاد إسماعيل u، الذي تزوج منهم. ويروي لنا المؤرخون أنه، بعد وفاة إسماعيل u بقرنين من الزمن، كان يحكم أهل مكة أحد أحفاد إسماعيل u، وقد انقسم أهلها إلى قسمين: جرهم وقطورا. وكانت مساكن جرهم قد امتدت من بطن وادي إبراهيم بجوار زمزم إلى جبل قعيقعان في الشمال، وإلى أعلى مكة مما يحاذي موقع القشاشية والشمال الشرقي من المسعى في الوقت الحاضر. كما تغلغل أبناء عمومتهم من قطوراً شِعب أجياد منحدرين إلى أطراف موقع المسفلة. وكانت الكعبة الشريفة البناء الوحيد في مكة ذلك الوقت، أما مساكن هؤلاء فكانت مضارب من الشعر، تتلاصق أو تتباعد في حواشي الوادي وبين ثنيات الجبال المحيطة بالكعبة.

ثالثاً: عمارة قصي بن كلاب

حدث أن اختلفت جرهم مع قطورا، كما نازعتهم، على السيادة في أواخر القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع الميلادي، قبيلة قحطانية قدمت من اليمن، إثر سيل العرم، هي قبيلة خزاعة، التي استولت على مكة وورثت الحكم فيها، وطردت قبيلة جرهم منها. أما أبناء إسماعيل u فقد اعتزل بعضهم أخوالهم من جرهم، غير راضين عن أعمالهم في مكة، فلم يناوئوا القحطانيين من خزاعة، وظلوا على حيادهم، حتى إذا استتب الأمر لخزاعة سألوهم السكنى معهم فأذنوا لهم. أما البعض الآخر، فقد تفرق بين اليمن والبحرين (منطقة الأحساء) وأطراف الحجاز، وقيل إن بعض قبائلهم وصلت إلى العراق والشام. وسمي هؤلاء بالعدنانيين، وكان من بين هؤلاء قصي بن كلاب، الذي عاش بعيداً عن مكة موطن أجداده، غير أنه قرر العودة إليها، فآلت إليه أمور مكة وزعامتها، وذلك قرابة منتصف القرن الخامس الميلادي. جمع قصي قومه فأنزلهم مكة بجوار قبيلة خزاعة، التي بقيت تسكن مكة تحت إمرة قصي. ومنذ ذلك الحين انتشرت بطون قريش في شعاب مكة.

وقد أمر زعيم قريش، قصي بن كلاب، قومه ببناء مساكنهم حول الكعبة حتى تهابهم العرب وتعظمهم. وبذلك يعتبر قصي أول من صمم المدينة، وقام ببناء دار الندوة لاجتماع زعماء القبيلة، وذلك ليقضي فيها أمور الناس. وتقع دار الندوة، غربي الكعبة وهي أول دار بنيت في مكة المكرمة سنة 150 قبل الهجرة (أواخر القرن الخامس الميلادي)، وكان بناؤها من الطين والحجارة. ثم خط قصي بن كلاب للكعبة ساحة دائرية توازي صحن المطاف القديم، وسمح للناس أن يبنوا دون ذلك، حول مدارها من الجهات الأربع. وقد بنى مساكنه ومساكن أبنائه بحيث تطل على ساحة الكعبة، ومن يومها ابتدأت المساكن الدائمة في مكة المكرمة، وأخذت تزداد تدريجياً من حول الكعبة. وكانت تلك المساكن بسيطة في مواد بنائها، حيث كانت تبنى من الطين والحجارة مدورة في شكلها، تعظيماً للكعبة المشرفة من أن يقلد بنيانها المربع الشكل، ولم تسور ساحة الكعبة، ولم يسمح لأحد بأن يرتفع ببنائه إلى مستوى ارتفاع الكعبة، حتى يظل البيت العتيق مشرفاً على كل المنطقة. وكانت مساكن قريش منحصرة في بطن الوادي وعند سفوح الجبال، التي تحيط بالكعبة في جميع الجهات، ولم ترتفع مبانيهم على جوانب الجبال كما هو الحال الآن.

يتضح، من هذه الصورة، أن العمران بدأ وأخذ في الكثافة من باب بنى شيبة، بقرب حصوة باب السلام القديمة، حيث كانت بيوت السفيانيين، وبعض بطون من غساسنة الشام، ودور لبني عامر بن لؤي، وأخرى لآل عدي من ثقيف. ثم نجد شِعب ابن يوسف (شِعب علي حالياً) حيث تقع دور بني عبد المطلب، ثم يلتوي شِعب عامر ليضم دورًا لبني بكر، وأخرى لبني عبد المطلب، وعلى السفوح المطلة على المروة نجد دار أبي سفيان، ودورًا لبني عبد شمس وآل زرارة. وفي أجياد، كان بنو تميم وبنو مخزوم يسكنون، مما يلي الحرم، يليهم جماعة من الأزد. وفي المسفلة، مما يلي الحرم، كانت تنزل بطون من آل صيفي، وبينهم جماعة آل عبد الدار، وجماعة من بني مخزوم، وفي منطقة السوق الصغير، كانت تنزل بطون من بني أسد بن عبد العزى.

ويمكننا القول إن العمران في مكة كان كثيفاً نسبياً في بطون وادي إبراهيم، وممتداً على السفوح المجاورة لجبل قعيقعان (جبل هندي)، وجبل أبي قبيس، متوجهاً إلى أعلى مكة، وعلى المنحدرات الدنيا لأجياد الكبير (بير بليلة)، وأجياد الصغير (أجياد السد)، وأطراف المسفلة مما يلي الكعبة وما جاورها، بينما كانت مناطق جرول والشبيكة وحارة الباب، ضواحي قليلة العمران في تلك الفترة.

وساعد مكة، على الازدهار في هذه الفترة، بُعدٌ آخرٌ، يتمثل في كونها مركزاً تجارياً، يقع على طريق القوافل بين دول الجنوب وممالك الشمال، إذ كانت أسواقها تزدحم بالتجار صاعدين إلى الشام أو هابطين إلى اليمن، فمهروا في التجارة وأصبحوا في ثراء ويسر كبيرين. فإذا أضفنا إلى ذلك المكانة الدينية لمكة، بوجود الكعبة التي قدسها عرب الجاهلية، وكانوا يحجون إليها ويودعون فيها أصنامهم، أدركنا أنها نمت وازدهرت في هذه الفترة، من خلال كونها مركزاً للتجارة، إضافة إلى كونها عاصمة روحية. ومن ثم، لا عجب أن نرى التركيبة السكانية، لا تقتصر على العرب وحدهم، إذ كانت مكة في عهد قريش تشبه عواصم اليوم، في كونها تضم جاليات أجنبية، يهبطون إليها بفنونهم وأموالهم وبعض علومهم.

رابعاً: عمارة قريش

ذكر ابن فهد أنه في السنة الخامسة والثلاثين من مولد النبي r هدمت قريش الكعبة، وجددت عمارتها. وقد كانت الكعبة مبنية بردم يابس ليس بمدر، وكان بابها بالأرض ولم يكن لها سقف، وإنما تُدَلّىّ الكسوة على الجدر من الخارج، وتربط من أعلى الجدر في بطنها، وكان، في بطن الكعبة عن يمين من دخلها، جب يكون فيه ما يهدى إلى الكعبة من مال وحلية كهيئة الخزانة. وكان قرنا الكبش، الذي ذبحه إبراهيم خليل الرحمن u، معلقين في بطنها بالجدار تلقاء من دخلها، يُخلقان ويطيبان، إذا طيب البيت، وكان فيها معاليق للحلية، التي كانت تهدى للكعبة. ثم إن امرأة من قريش ذهبت تُجمر الكعبة فطارت من مجمرتها شرارة فاحترقت كسوتها وتحولت إلى رماد، مما تسبب في ضعف وتصدع جدران الكعبة من كل جانب، ففزعت قريش من ذلك فزعاً شديداً، وخافوا أن تنهدم وهابوا هدمها، وخشوا إن مسوها أن ينزل عليهم العذاب. وبينما هم بتلك الحال يتشاورون في أمر إعادة بنائها إذ جاءهم الخبر أن سفينة من الروم انكسرت بالقرب من الشعيبة ـ وهي يومئذ ساحل مكة ـ فركب الوليد بن المغيرة في نفر من قريش، فاشتروا خشبها وأعدوه لسقف الكعبة، وأذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة، فيبيعوا ما معهم من متاع. وزُعم أنه كان في السفينة نجار رومي يسمى باقوم، وكان بانياً فكلموه بأن يقدم معهم ويبني لهم الكعبة على بُنيان الشام.فلما قدموا بالخشب لمكة أمروا بالحجارة أن تجمع بين أجياد والضواحي فكانوا ينقلون الحجارة تبرراً وتبركاً بالكعبة، الرجال تنقل الحجارة والنساء ينقلن الشيد[1]. وكان النبي r ينقل معهم الحجارة.

ولما جمعوا ما أخرجوه من النفقة لبناء الكعبة، قصرت أن تبلغ بهم عمارة البيت كله. فتشاوروا في ذلك، فأجمع رأيهم على أن يقصروا عن القواعد، ويحجروا ما يقدرون عليه من بناء البيت، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه، ففعلوا ذلك. وبنوا في بطن الكعبة أساساً يبنون عليه من شق الحجر، وتركوا من ورائه في الحجر ستة أذرع وشبراً، فبنوا على ذلك، فلما وضعوا أيديهم في بنائها قال أبو حذيفة بن المغيرة: يا معشر قريش ارفعوا باب الكعبة عن الأرض واكبسوها، حتى لا تدخلها السيول، ولا ترقى إلا بسلم، ولا يدخلها إلا من أردتم، ثم إن جاء أحد ممن تكرهون رميتم به فسقط فكان نكالا لمن رآه. ففعلوا ذلك وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب بين الحجارة، حتى انتهوا إلى موضع الركن، فاختلفوا في وضعه وتنافسوا في ذلك حتى تواعدوا للقتال. فمكثوا أربع ليال أو خمساً كذلك، ثم تشاوروا، فقال أبو أمية حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان أسن قريش يومئذ: يا قوم إنما أردنا البر ولم نرد الشر، فلا تحاسدوا ولا تنافسوا فإنكم إذا اختلفتم تشتت أموركم وطمع فيكم غيركم، ولكن حكموا بينكم أول من يدخل باب هذا المسجد، يريد باب بنى شيبة. فقالوا رضينا وسلمنا، فطلع رسول الله r فلما رأوه قالوا هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، وضع رداءه وبسطه في الأرض، ثم وضع فيه الركن بيده ثم قال ليأت من كل ربع من أرباع قريش رجل، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفي الربع الثاني أبو زمعة بن الأسود بن المطلب وكان أسن القوم وفي الربع الثالث العاص بن وائل وقيل بن عدي السهمي، وفي الربع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة. ثم قال رسول الله r ليأخذ كل رجل منكم بزاوية من زوايا الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ثم ارتقى على الجدر ورفع القوم إليه الركن، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه رسول الله r بيده في موضعه ذلك، وناوله العباس حجراً فشد به الركن. فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع، ثم كبسوها ووضعوا بابها مرتفعاً على هذا الذراع، ورفعوها بمدماك خشب ومدماك حجارة. وكرهوا أن تكون بغير سقف، فلما بلغوا السقف بنوه مسطحاً، وجعلوا فيه ست دعائم في صفين في كل صف ثلاث دعائم من الشق الشامي الذي يلي الحِجر، إلى الشق اليماني، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعاً، وكانت قبل ذلك تسعة أذرع، فزادت قريش في ارتفاعها تسعة أذرع أخرى. وبنوها من أعلاها إلى أسفلها بمدماك من حجارة ومدماك من خشب، وكان الخشب خمسة عشر مدماكاً، والحجارة ستة عشر مدماكاً. ثم جعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وجعلوا درجة من خشب في بطنها في الركن الشامي يصعد فيها إلى ظهرها. وزوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلوا في دعائمها، صور الأنبياء. وكانت فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن u شيخ يستقسم بالأزلام، وصور الملائكة عليهم السلام، وصور الشجر، وصورة مريم مزوقة في حجرها عيسى u ابنها قاعداً مزوقاً، وتمثال عيسى u وأمه في العمود الذي يلي الباب، وجعلوا لها باباً واحداً. وكانوا يفتحون الكعبة يومي الاثنين والخميس، وكان الحجاب يجلسون عند الباب فيرتقي الرجل فإذا كانوا لا يريدون دخوله يدفع ويطرح، وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء ويضعون نعالهم تحت الدرجة (اُنظر شكل الحرم في عهد قريش).

الإسلام وعمارة المسجد الحرام وتوسعاته

أولاً:

اختار الله هذه البقعة المباركة لتكون الموطن الأول للدعوة إلى الإسلام، كما كانت الموطن الأول لدعوة التوحيد، التي دعا إليها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. استمرت بيوت العرب مستديرة تحيط بالكعبة المشرفة، يفصلها مساحة ضيقة هي المطاف. وأشرق نور الإسلام من بطاح مكة وزلزل أركان قريش، فقاومته في أول عهده، ثم لانت قناتها للإسلام عند دخول الرسول الكريم r إليها فاتحاً في السنة الثامنة من الهجرة، حيث قام بتحطيم الأصنام المحيطة بالكعبة وتنظيف المطاف من الأوثان وتهيئته للطائفين والركع السجود.

1. التوسعة الأولى

لم يذكر المؤرخون القدماء أي بناء للمسجد الحرام حول الكعبة المشرفة بل كانت الكعبة محاطة بالمنازل حول أرض المطاف، غير أن بين تلك المنازل طرقاً يدخل منها الناس إلى صحن البيت الحرام، حتى كان عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t، فجعل حول المطاف حائطاً ارتفاعه دون القامة من جميع الجهات. وكان عمر بن الخطاب t أول من عمر الكعبة بعد سيل (أم نهشل) في العام السابع عشر من الهجرة، الذي جرف معه مقام إبراهيم u إلى المسفلة، حيث قام بنصب المقام مكانه، بعدما تأكد من أن أحد الصحابة قد تحسب لمثل هذا الأمر، وعقد عقداً في حبل أبقاه عنده، وتوضح العقد نقاطاً معينة من ركن الحجر الأسود وباب الكعبة. وقد قام عمر t بشراء الدور الملاصقة للمسجد الحرام، وهدمها وأدخلها في فناء المسجد. وقد واجه عمر t بعض المعارضة من أصحاب الدور المحيطة بالحرم إلا أنه واجههم بقوة حين قال: أفسحوا للبيت رحبته، أنتم نزلتم عليه. فاشترى الدور المجاورة للكعبة وأدخلها في صحن البيت، ثم ضرب حدوداً للمسجد لأول مرة في السنة السابعة عشرة حين قدم إلى مكة. وكانت مساحة المسجد الحرام عند خلافته لا تتجاوز حدود بئر زمزم، والمطاف غرباً، وكذلك من الشمال والجنوب، ولم تكن تتجاوز صحن الكعبة (اُنظر شكل الحرم في عهد عمر ين الخطاب t). وبذلك يعتبر عمر بن الخطاب t أول من وسع المسجد وأحاطه بجدار، وجعل له أبواباً، وأضاء البيت بالمصابيح الزيتية، كما أمر بعمل سد لحجز السيول عن الكعبة.

2. التوسعة الثانية

وفي العام السادس والعشرين من الهجرة، زاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان t في اتساع المسجد، بشراء البيوت الملاصقة للمسجد، فوسع بها المسجد، وهدمها وجعل في المسجد أروقة، فكان أول من اتخذ الأروقة في المسجد، ولم يكن من قبله ذا أروقة أو سقف، وكانت هذه التوسعة الثانية متزامنة مع اتساع الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان t، وأدى ذلك إلى زيادة رواد المسجد الحرام وازدحام مكة بالسكان.

3. التوسعة الثالثة

في العام الخامس والستين من الهجرة، زاد عبد الله بن الزبير t في المسجد الحرام، وعمّره وبناه وزاد من جهته الشرقية والجنوبية والشمالية وجعل فيه أعمدة من رخام (اُنظر شكل توسعة عبد الله الزبير t). بدأت التوسعة الثالثة بهدم عبد الله بن الزبير t للكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم u قبل بناء قريش لها، وإخراج الحِجْر منها لنقص النفقة عليهم، ذلك لأن عائشة رضي الله عنها أخبرته أنها سألت رسول الله r عن ارتفاع باب الكعبة، فقال ما معناه: أولئك قومك يريدون إدخال من شاءوا فيها ومنع من شاءوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت البيت ولجعلته على قواعد إبراهيم، ولجعلت له بابين أحدهما من الشرق وباب من الغرب. فقال لها ابن الزبير: أنا قادر على النفقة وقومك بَعُد عهدهم عن الكفر، فسأبني البيت على قواعد إبراهيم u، ففعل. وبعد أن انتهى عبد الله بن الزبير t من عمارة الكعبة المشرفة، بدأ بعمارة المسجد الحرام، فاشترى المنازل المجاورة للمسجد وأدخلها في مساحته، فازداد المسجد زيادة كبيرة تُقدّر بحوالي 16.000م2، وكان ذلك في عام خمس وستين من الهجرة النبوية.

لما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير t، كتب إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يقول: إن ابن الزبير جعل الكعبة على قواعد إبراهيم u فماذا أفعل؟ فرد عليه عبد الملك: أن اردد الكعبة إلى ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير، وارفع من جدرانها، ولا تترك أثراً لابن الزبير هناك. فأعاد عامله الكعبة على بناء قريش. ولم يزد عبدالملك بن مروان في مساحة الحرم شيئاً غير أنه رفع في جدرانه، وسقفه بخشب الساج، وزين أساطينه، ووضع على كل رأس أسطوانة مثقالا من الذهب، فكانت عمارته منحصرة في تجديد البناء ورفع الجدار وتسقيفه بالساج وهو أفخر أنواع الخشب وأمتنه، وفي عهده أدار واليه خالد بن عبد الله القسري الصفوف حول الكعبة.

4. التوسعة الرابعة

في العام الحادي والتسعين من الهجرة، هدم الخليفة الوليد بن عبدالملك عمل أبيه وأحدث في الحرم توسعة كبيرة، وعمره عمارة جديدة، وجلب له الأعمدة والرخام من مصر والشام وأقام العقود، وزين الجدران، وجعل فيها طيقاناً بأعلاها الفسيفساء، وشد الشرفات بالساج المزخرف، وزين رؤوس الأساطين بالذهب، وآزر المسجد بالرخام من الداخل، وجعل به سرادقات، وأشاع الظل للمصلين، وأمر بفرش جوف الكعبة بالرخام الأبيض والأخضر. وكانت عمارة الوليد رواقاً واحداً دائراً على حافة المطاف، أما زيادته فهي من الجهة الشرقية (اُنظر شكل توسعة الوليد بن عبدالملك).

5. التوسعة الخامسة

في العام التاسع والثلاثين بعد المائة الأولى من الهجرة، تمت الزيادة الخامسة في المسجد الحرام بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، حيث أضاف إليه مساحة من الأرض واسعة من الشمال والغرب، وزاد على أروقته رواقاً أقيم على أعمدة من رخام وزينه بالنقوش (اُنظر شكل توسعة أبو جعفر المنصور).

وفي هذه الزيادة شيدت منارة في الركن الشمالي الغربي، وفرش حجر إسماعيل بالرخام، كما أحيط بئر زمزم بسياج لمنع السقوط فيه. وبدأت تلك التوسعة في عام سبعة وثلاثين ومائة من الهجرة النبوية، وكان المتولي على أعمال العمارة زياد بن عبيد الله الحارثي، وقد أجحف بدار بني شيبة سدنة البيت، فتكلم معه سدنة الكعبة أن يميل عنه قليلاً ففعل، فكان بالمسجد ازورار.

6. التوسعة السادسة

ومن أبرز التوسعات وأعظمها للمسجد الحرام، التوسعة المهدية، فقد وسع الخليفة المهدي العباسي بن المنصور المسجد الحرام على مرحلتين:

توسعة المهدي الأولى: في العام 160 من الهجرة، أمر بتوسعة المسجد فاشتريت الدور والمباني، وتمت الزيادة في الجهتين الشرقية والشمالية، وبقيت الكعبة قريبة من الطرف الجنوبي للمسجد. وعندما حج المهدي في عام واحد وستين ومائة من الهجرة، اصطحب معه أموالاً كثيرة، واشترى الدور المحيطة بالمسجد الحرام، وهدمها وزاد في مساحة المسجد من جميع جهاته، وأمر بنقل الأعمدة الرخامية إلى المسجد، وأمر بتشييده على أحسن صورة، وتسقيفه بأفخر أنواع الخشب، ولأول مرة يستخدم سقف مستعار للحرم بعمق متر، بهدف جعل الزخرفة لا تتأثر بالعوامل الجوية الخارجية، وخاصة المطر، وكذلك لحماية المصلين من شدة حرارة الشمس.

توسعة المهدي الثانية: في عام 164 هـ حج المهدى حجته الثانية، التي بدأ فيها توسعته الثانية للمسجد الحرام من الطرف الجنوبي؛ لكي تكون الكعبة في وسطه. (اُنظر شكل توسعة المهدي).

بعد أن اكتملت التوسعة الأولى التي قام بها، لاحظ المهدي أن المسجد لم يتسع من الناحية الجنوبية كاتساعه من الجهات الأخرى، مما جعل المسجد يظهر بصورة غير منتظمة، لكون الكعبة ليست في وسطه، فاستدعى المهندسين، وشاورهم بخصوص وضع الكعبة في وسط المسجد، فرأوا أن ذلك من الصعوبة بمكان، لأن هناك عقبات طبيعية تعترض توسعة المسجد من هذه الناحية، حيث تعترض التوسعة مجرى مسيل وادي إبراهيم عليه السلام. ولأن الأمر يستدعى تحويل مجرى هذا السيل وضح المهندسون للخليفة صعوبة تحويل مجرى السيل. وكثرة النفقات المترتبة على ذلك، فصمم الخليفة على توسعته، وأمر المهندسين في تنفيذ وتحقيق ذلك، فحولوا مجرى السيل، رغم كثرة النفقات وعظم الجهد. وقد استعمل المهدي ميناء الشعيبة لوقوعها على البحر العميق بصفة مؤقتة لإنزال أساطين الرخام، التي أحضرها من مصر والشام ولكن المنية عاجلته، فلم يكتمل العمل في المسجد إلا في خلافة ابنه موسى الهادي. وبلغت مساحة المسجد بعد الزيادة المهدية 120.000 ذراعاً، وبلغ عدد الأعمدة الرخامية، التي ضمتها عمارة المهدي 484 عموداً، موزعة على جميع جهات المسجد الأربع، ومن بين هذه الأعمدة ثلاثمائة وعشرون عموداً مُذهّب الرأس، وارتفاع كل عمود عشرة أذرع، وسمك محيطة ثلاثة أذرع. وبلغ عدد أبواب المسجد الحرام ثلاثة وعشرين باباً موزعة على جميع جهات المسجد. في عام 271 هـ وقعت دار زبيدة التي بجوار باب إبراهيم u على بعض من في سطح الحرم القريب منها فانكسرت أخشابه وسقط أسطوانتان من أساطين المسجد، فأمر الخليفة المعتمد بالله عامله على مكة، هارون بن محمد بن إسحاق، بعمارة ما تهدم من المسجد، وجدد له سقفاً من خشب الساج، وذلك في سنة 272هـ.

7. التوسعة السابعة

في عهد المعتضد بالله عام 284 هـ، أضيف للمسجد جزء متبقٍّ من دار الندوة من الجهة الشمالية، وعرفت "بباب الزيادة" وهي خارجة عن تربيع المسجد (اُنظر شكل إضافة دار الندوة). وفي عهد المقتدر بالله عام 306هـ، أضيفت زيادة أخرى من الجهة الغربية، أُطلق عليها رحبة إبراهيم، وأصبحت الزيادتان من أروقة المسجد الحرام وأقيمت في هذه الزيادة الأعمدة، وسقفت بالخشب الساج، وجعل سقفها مساوياً لسقف المسجد الحرام.

ثانياً: مؤثرات التوسعات على التنمية العمرانية

يستخلص مما سبق أن الفترة، التي تتزامن مع أي مشروع توسعة، يمكن اعتبارها مؤشراً لرخاء اقتصادي واستتباب أمني. لذا يمكن اعتبار أزمنة تلك التوسعات فترات ازدهار. في أثناء حكم الخليفة عثمان بن عفان t كانت مكة غنية ومزدهرة ليس من التجارة فحسب ولكن أيضاً نتيجة لكرم وهبات الخليفة، ونتيجة لحصص فتوحات المسلمين من أموال الخراج والجزية، التي جمعت، وكذلك الغنائم التي أرسلت إلى المدينة المنورة مقر الخليفة من المناطق، التي فتحت والتي وجه الخليفة جزءًا منها إلى مكة، والتي كان لها الأثر على نموها العمراني. وفي عهد الخلافة الأموية أعطى خلفاؤها منحاً وفيرة للحجاز بوجه عام، ولمكة على وجه الخصوص. وتحت حكمهم حافظ اقتصاد مكة المكرمة على قوته، وتمتع المكيون بمستوى رفيع من رغد العيش. وبنشوب العديد من الصراعات السياسية بين مكة وبغداد أثناء بداية خلافة الدولة العباسية عانت مكة لفترات طويلة من عدم الاستقرار، مما أثر في ازدهارها ونتج عنه ارتفاع في الأسعار ونزوح الكثير من أغنياء مكة لمناطق أخرى؛ طلباً لظروف معيشية أفضل.

ثالثاً: الإصلاحات والتجديدات الأولى

بعد التوسعة العباسية في عهد المقتدر بالله لم تحدث على المسجد الحرام توسعة تذكر، بل كانت إصلاحات وتجديدات على الأساطين والعقود والسقوف. وفي عام 803 هجرية، قام بيسق الظاهري، نيابة عن السلطان أبى السعادات بن الظاهر برقوق، بإجراء ترميم شامل على المسجد الحرام، بعد الحريق الذي شب في القسم الغربي، وامتد إلى القسم الشمالي، فاستبدل بالأعمدة الرخامية التي أتلفها الحريق، وكان عددها 130 عموداً، أعمدة من الحجر، وقد جلب بيسق الظاهري الخشب اللازم للسقوف من بلاد الروم، وبعد أن تمت عمارة المسجد نقشت السقوف وزينت، وزودت بسلاسل معدنية علقت فيها المصابيح خشية تكرار الحريق.

وعندما أخذ العثمانيون السلطة من المماليك في مصر سنة 922هـ (1516م)، أسسوا علاقات طيبة وقوية مع أمير مكة المكرمة من الأشراف. وبازدياد نفوذ العثمانيين تدريجياً في مكة، أصبحت مكة المكرمة تحت سيطرتهم التامة سنة 1217هـ (1802م). فقد شغل الأتراك العديد من الوظائف الهامة، وخاصة ما يتعلق بالمعاملات المالية. لم يكن الأشراف راضين عن هذه التطورات، فحدثت سلسلة مـن الصراعـات السياسية، التي قـادت في بعض الأحيان إلى نشوب القتال فيما بينهم، وقد استمرت حالة عدم الاستقرار هذه، حتى نجح الملك عبدالعزيز آل سعود في استلام السلطة، وجعل مكة المكرمة العاصمة المقدسة للمملكة العربية السعودية، ومن ذلك الحين، بدأت مكة المكرمة تنعم بالاستقرار والتطور المستمر، الذي يلمسه كل مسلم يأتي إلى مكة للحج أو العمرة.

رابعاً: مؤشرات الإصلاحات والتجديدات التنموية

تمتد هذه الفترة من أواسط العهد العباسي، وتنتهي بحكم المماليك وتشمل قرابة سبعة قرون من عام 306 إلى 923هـ (940- 1517م) ظلت زيادة المهدي قائمة حوالي ستمائة عام ولم تجر عليها تعديلات تذكر، واقتصرت العمارة في المسجد على الترميم والإصلاح وبعض الإضافات. وقد تعاقب على حكم مكة في هذه الحقبة العباسيون والفاطميون والأيوبيون. وفي أثناء حكم المماليك على مصر، وولايتهم على مكة، بدأت الأحوال المعيشية والاقتصادية في مكة المكرمة في التحسن بسبب ثراء حكام المماليك وكرمهم واهتمامهم بالأراضي المقدسة.

وفي مجال التوسع العمراني، شهدت المدينة توسعاً متواضعاً، خلال هذه الفترة، التي استغرقت قرابة ستة قرون. وكانت معظم المباني حول الحرم هي من المدارس والتكايا والأربطة وعمارات الوقف، الذي خصص ريعه للإنفاق على الحرم المكي الشريف. وعلى العموم، فقد ظل عمران مكة على ما هو عليه، وظلت مكة لا تتعدى أوائل حدود المسفلة وقبيل الشبيكة. واتسمت بنية المدينة الحضرية، في هذه الفترة، بظاهرة جديدة، حيث إن حكام مكة كانوا يعنون بتحصين المدينة أكثر مما يعنون بعمرانها، فكانوا يبنون القلاع لرد عاديات بعضهم.

خامساً: عمارة سليم الثاني

تعتبر عمارة السلطان سليم العثماني سنة 984هـ من أعظم الأعمال، التي أجريت على المسجد الحرام، حيث أصبحت تضاهي توسعة الخليفة المهدي العباسي. فقد أعاد السلطان سليم بناء المسجد الحرام بعناية وإتقان، فحلت القباب محل السقف الخشبي، وأقام العديد من الأعمدة الرخامية، إذ بلغ عددها 589 عموداً، منها 311 عموداً من عمارة الخليفة المهدي العباسي، موزعة علي جميع جهات المسجد الحرام. كما بلغ عدد العقود 881 عقداً، وضم المسجد 152 قُبة موزعة على جهات المسجد الأربع. وبلغت أبواب المسجد الحرام في التوسعة العثمانية ستة وعشرين باباً: في الجانب الجنوبي سبعة أبواب، وفي الجانب الغربي ستة أبواب، وفي الجهة الشمالية ثمانية أبواب، وفي الشرق خمسة أبواب. وبلغت مساحة المسجد الحرام في التوسعة العثمانية قرابة 000‚28 متر مربع، ولا تزال العمارة العثمانية باقية حتى الآن داخل العمارة السعودية الأولى.

سادساً: أبواب الحرم

ولقد تميزت أبواب الحرم القديم (قبل التوسعات السعودية) بسمات خاصة ومن هذه الأبواب:

1. الأبواب المظللة: وباب قايتباي، باب الدريبة، وباب العمرة، وكانت هذه الأبواب تؤدي بالحجيج والزوار إلى صحن المسجد، وتميز باب العمرة بصفة خاصة، وهي كثرة الزمازمة، وأماكن الوضوء العامة حوله.

2. الأبواب الكبيرة: وباب السلام، باب إبراهيم u، وباب الزيارة. وكانت هذه الأبواب على مستوى الطرق الرئيسية، وعلى الجوانب من هذه الأبواب، كانت تقوم المكتبات العامة (باب السلام)، وتجارات الهدايا الخفيفة (باب الزيارة) (اُنظر شكل المخطط بعد العمارة العثمانية).

سابعاً: منارات الحرم

قبل التوسعة السعودية للمسجد الحرام (1375 ـ 1385هـ)، كان للمسجد الحرام سبع منائر وهي:

الأولى: منارة باب العمرة شيدها أبو جعفر المنصور، وسقطت سنة 551هـ، فعمرها وزير صاحب الموصل، ثم جددت بأمر السلطان سليمان خان عام 931هـ، ثم عمرت سنة 1201هـ قبل استبدالها.

الثانية: منارة باب السلام، أنشأها الخليفة المهدي، وهدمت عام 816هـ زمن سلطان مصر برقوق، ثم جددها مراد الثالث عام 983هـ، قبل استبدالها.

الثالثة: منارة باب علي، أنشأها أيضا المهدي، وأعاد بناءها سليمان خان عام 970هـ بعد خرابها، وجعلها دورين بدل دور واحد، وظلت على عمارتها ثم أزيلت.

الرابعة: منارة باب الوداع. ذكر ابن فهد في حوادث سنة 772هـ أن سلطان مصر الأشرف شعبان عَمّر تلك المنارة، بعد سقوطها سنة 771هـ، وجعلها دورين، وظلت على حالها حتى أزيلت.

الخامسة: منارة باب الزيادة، أنشأها المعتضد العباسي في زيادة دار الندوة، وذكر ابن فهد، في حوادث سنة 838هـ، أن الأمير "سودون المحمدي" هدم مئذنة سويقة وبناها عالياً.

السادسة: أنشأها الأشرف قايتباي المحمودي خلف مدرسته، في الجانب الشرقي، فيما بين بابي السلام والنبي r.

السابعة: أنشأها السلطان سليمان خان العثماني بين مدراسه الأربعة، التي شيدها في الجانب الشمالي من المسجد، ونظراً لحداثة بناء هاتين المنارتين الأخيرتين، فإنهما لم تتأثرا بعوامل الخراب، وحدث لهما بعض الترميمات الصغيرة إلى أن أزيلتا.

وبخلاف المنائر السابقة للمسجد الحرام، هناك بعض المنائر الصغيرة، وكانت أقرب إلى الصوامع منها إلى المآذن. (اُنظر شكل الكعبة بعد العمارة العثمانية).

ثامناً: تأثير توسيع الحرم المكي على النمو الحضري لمدينة مكة المكرمة

إن المتتبع لمراحل النمو الحضري لمدينة مكة المكرمة، يجد أن الأسباب الدينية هي التي تفسر موقع وشكل التطوير في المدينة المقدسة، أكثر مما تفسره الأسباب الدنيوية الأخرى. لقد اختار الله، سبحانه وتعالى، هذا المكان ليقام فيه أول بيت لعبادة الله وحده، وسخر له خليله إبراهيم وابنه إسماعيل، عليهما السلام، لينشرا الحنيفية في ربوع الجزيرة العربية والعالم. ويمكن تقسيم المراحل، التي مرت بها المدينة المقدسة، إلى ثلاث مراحل متميزة، تمثل كل مرحلة لبنة منفردة في نموها وتطورها:

مرحلة ما قبل الإسلام

وتشمل المراحل، التي ذكرت سابقاً، أي من عهد عمارة إبراهيم u وابنه إسماعيل عليهما السلام للكعبة، ثم أبناء إسماعيل الذين كانوا يعيشون في الخيام والمضارب حول الحرم. وشهدت مكة أعمال بناء، حين عاد قصي بن كلاب من الشام، في القرن الثاني قبل الهجرة، فبنى فيها المساكن والبيوت حول الكعبة، ومن ثم أخذت تزيد في عمرانها، وأصبحت مركزاً تجارياً مهماً. وجاءت بعدها عمارة قريش المذكورة آنفاً إلى أن فتحها النبي محمد r.

لقد عُرفت مكة، منذ أحقاب طويلة ممعنة في القدم، قبل عهد إبراهيم u. غير أنه من المؤكد أن وصول إبراهيم وإسماعيل، عليها السلام، يمكن اعتباره البداية الجلية لتاريخ مكة.

لقد حددت العناية الإلهية موضع هذا المكان المقدس، وهيأت له أسباب الحياة، فكانت بئر زمزم استجابة لدعوة أم إسماعيل وغوثا للهفتها على وليدها. وقد منحت بئر زمزم أسباب البقاء والنماء لهذا المكان المبارك، عندما بدأت القبائل العربية تسكن هذا المكان. ثم كانت الخطوة الثانية وهي رفع قواعد أول بيت للتوحيد، مما جعل هذا المكان مهوى أفئدة الموحدين بالله.



[1] الشيد: كل ما طلى به البناء من جص ونحوه.