إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحَرمان الشريفان، والتوسعات المختلفة




مآذن الحرم التسعة
واجهة ومئذنة
واجهة ومئذنة أخرى
واجهة ومئذنة القبلة
أحد الشوارع
الواجهات الخارجية
الواجهة الشرقية
المدخل الشمالي الرئيسي
الأسقف الداخلية والعقود المدببة
المظلات وهي مغلقة
المظلات وهي مفتوحة
الأعمدة وقواعدها
الأعمدة في الحرم
التوسعة السعودية الثانية والثالثة
التكامل والانسجام
الحجر الأسود
الروضة الشريفة
العقود المدببة (الأبلق)
القباب المتحركة المغلفة
القباب المتحركة المفتوحة
بوابة المروة وساحة المسعى
توسعة خادم الحرمين الشريفين
بداية التوسعة السعودية
ساحة المطاف
زخارف الواجهات الخارجية
سطح الحرم وساحة السعي
كسوة الكعبة

مخطط مقارن للمسجد
إضافة دار الندوة
مسقط للحرم المكي
مسقط أفقي بعد توسعة
مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ
المنطقة المحيطة والأراضي المنزوعة
المنطقة المركزية والخط الدائري
الأحياء الملتفة حوله
الأجزاء المضافة
المخطط بعد العمارة العثمانية
التأثير على المحيط العمراني
التوسعات في عهد المهدي العباسي
الحرم في عهد عمر بن الخطاب
الحرم في عهد قريش
الركن اليماني
الشوارع والطرق
الكعبة بعد العمارة العثمانية
توسعات في عهد الملك عبدالعزيز
توسعة أبو جعفر المنصور
توسعة المهدي
توسعة الوليد بن عبدالملك
توسعة عبدالله الزبير
تصور لمسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم




المبحث الرابع

المبحث الرابع

التوسعات السعودية للحرم المكي الشريف وتأثيرها على محيطه العمراني

(التوسعة الأولى)

ظل المسجد الحرام محافظاً على توسعته العثمانية قرابة أربعة قرون (منذ عام 984هـ)، ما عدا بعض الإصلاحات والترميمات الضرورية، التي شهدها. وبعد تأسيس المملكة العربية السعودية، على يد المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، في عام 1351هـ الموافق 1932م، استتب الأمن في ربوع الجزيرة العربية، وأصبح الحاج يقطع الفيافي، ولا يخاف على نفسه ولا ماله، وساعده على ذلك أيضاً التقدم في وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية. فاستتباب الأمن وتيسر الطرق وتوفر وسائل المواصلات، ساعدت وشجعت المسلمين على القدوم للأراضي المقدسة من مختلف أصقاع الأرض، وأداء مناسك الحج والعمرة في وقت قصير، مقارنة بالدواب أو السفن الشراعية، التي تستغرق من الحاج أكثر من عام في الذهاب والإياب. وأخيراً وليس أخراً، فقد ساهمت وسائل الإعلام البصرية (التلفاز) والسمعية (الإذاعة) والمكتوبة (الصحف والمجلات والنشرات الإعلامية)، في نقل صور ومناسك الحج والعمرة لمئات الملايين من المسلمين في أصقاع المعمورة، وتحريك مشاعرهم وحثهم على القدوم للأراضي المقدسة.كل هذا ساهم في مضاعفة أعداد الحجاج والمعتمرين مئات المرات، وأصبح المسجد الحرام لا يكفي لاستيعابهم، خصوصاً أن المساكن، التي كانوا يأوون إليها تحيط بالمسجد الحرام إحاطة السوار بالمعصم. كما كان وصول السيارات إلى منطقة المسجد الحرام أمراً غير ميسور، وذلك لأن الطرق والأزقة القائمة في ذلك الوقت لم تكن مصممة لهذا الغرض. لقد كان لهذا الازدحام دوره في جعل أمر التوسعة أمراً مُلحاًّ، فكر به مؤسس الدولة، طيب الله ثراه، وأمر أبناءه القيام به. وقد تم تحقيق ذلك على يد أنجاله الملك سعود والملك فيصل والملك خالد، رحمهم الله، وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد، يحفظه الله.

استمرت توسعة المسجد الحرام السعودية الأولى أكثر من عشرين عاماً في مراحل متتالية ومتداخلة، في عهد الملك فيصل والملك خالد رحمهما الله.

وقد أعطت التوسعة السعودية للحرم أبعاداً جديدة، فقد تم الاحتفاظ بالأروقة القديمة ذات القباب العثمانية الحجرية، كما تمت تغطية المسعى بين الصفا والمروة، وجعله على دورين. وأصبح مرتبطاً بالحرم، ثم أضيفت أروقة جديدة تُحيط بالحرم القديم من دورين، وفى حالات الازدحام القصوى، تُستخدم الأسطح والساحات والأقبية أيضاً للصلاة. وكُسِيَتْ الجدران جميعاً بعد تجديدها بالرخام المحلي، وبُنيت سبع مآذن جديدة لها طابع إسلامي مميز، بدلاً من السبع القديمة في التوسعة الأولى ثم أضيفت مئذنتان في التوسعة الثانية.

أولاً: دوافع التوسعة

أوضحت الدراسات التاريخية أن أعداد الحجاج كانت في حدود مائة ألف حاج، من جميع أنحاء العالم الإسلامي، في فترات السلم والازدهار الاقتصادي. وكانت تنخفض إلى حدود عشرين ألف حاج في أعوام الكساد. وقد وصلت أعدادهم في عام 1941م/1359هـ إلى حوالي تسعة آلاف حاج من خارج المملكة، وقت اشتداد الحرب العالمية الثانية، التي تأثرت بها دول العالم الإسلامي في الشرق والغرب (اُنظر شكل الحرم في عهد قريش) و(شكل توسعة الوليد بن عبد الملك).

بدأت الزيادة المطردة والدائمة في أعداد الحجاج القادمين من الخارج، عام 1370هـ حين وصل تعدادهم عام 1371 هـ إلى 500,148 حاجاً، أي بزيادة قدرها 50 % عن العام السابق له مباشرة واستمرت هذه الزيادة، حتى وصلت إلى تسعة أضعاف ذلك العدد في حوالي ثلاثين سنة، حين وصل تعدادهم إلى 879 ألف حاج من الخارج، عام 1401 هـ. وهناك ظاهرة جديرة بالدراسة وهي تطور أعداد الحجاج الإجمالي في يوم عرفات إلى ما يزيد عن المليونين، وذلك للزيادة الكبيرة في الحجاج من داخل المملكة.

من الممكن تفسير هذه الزيادة الكبيرة في أعداد الحجاج، بالأسباب الآتية:

1. استتباب الأمن والاستقرار في مناطق الحج.

2. حصول دول إسلامية كثيرة على استقلالها، وانتهاء القيود، التي كانت موضوعة على أبنائها ومواطنيها في ممارسة شعائر الإسلام.

3. بداية حركة نشيطة وصحوة إسلامية في دول المؤتمر الإسلامي.

4. الانتعاش الاقتصادي لكثير من الدول الإسلامية وارتفاع مستوى المعيشة. (اُنظر شكل توسعة عبدالله الزبير). و(شكل توسعة الوليد بن عبدالملك).

5. تطور أجهزة النقل والمواصلات العالمية بالطائرات والعبارات (السفن).

6. التوسع في إنشاء الطرق البرية، التي تربط المملكة بالدول المحيطة بها، مما شجع على حضور الكثير من أبناء هذه الدول للحج عبر هذه الطرق الآمنة.

7. حضور نسبة كبيرة من الحجاج للحج والانتفاع بتبادل تجاري، وذلك ببيع بعض منتجات بلادهم؛ نظراً لعدم تحصيل رسوم جمركية في المملكة، مما يجعل هذه الأصناف ذات أسعار منافسة للأسواق المحلية. وكذلك شراء الكثير من احتياجاتهم من البضائع من أسواق مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة.

8. تطوير وسائل النقل والمواصلات الداخلية، في المملكة العربية السعودية، وفى مناطق المشاعر المقدسة.

9. تطوير أجهزة الخدمات الأساسية للحج والرعاية الصحية والمياه في مناطق المشاعر.

10. استخدام أعداد كبيرة من الأيدي العاملة المسلمة، في تنفيذ برامج التنمية في المملكة، ودول الخليج العربية المجاورة.

11. توافق موسم الحج مع فصل الشتاء أو الخريف يجعل الحج أيسر على بعض المسلمين القادمين من بلاد باردة، بالإضافة إلى توافر وسائل النقل العالمية، حيث إن الشتاء فترة كساد لشركات الطيران والنقل الجماعي.

ثانياً: نسب الحجاج التصاعدية

تعتبر مكة المكرمة نقطة جذب مؤثرة على المسلمين، فأي مسلم مؤمن، أمنيته العظمى أن يصل إليها ليطوف بالبيت العتيق، ويؤدي مناسك الحج، وكثير منهم لا يكتفي بحجة واحدة وإنما يكررها عشرات المرات. تستقبل مكة المكرمة سنوياً، منذ قرون عديدة، مئات الألوف من الحجاج، عندما كان السفر بالدواب والأقدام، وأقصى رفاهيته السفر بالسفن الشراعية، وكل حاج يأمل الوصول بأمن وسلامة لأداء حجة واحدة؛ لأنه يمضي عاماً كاملاً بين ذهابه وحجه وإيابه، ويصل إلى بلده، وكأنه مولود جديد كُتبت له الحياة؛ نظراً لما يحيط برحلته من مخاطر ومشاق. أما الآن، فقد تيسرت وسائل السفر واختصرت مدة موسم الحج إلى أيام معدودات؛ لأن الأغلبية يفضلون الوصول بالطائرات الحديثة والسريعة، فلا يمكثون سوى أيام، ترتفع خلالها كثافة الحجاج في المشاعر المقدسة، وخاصة المسجد الحرام، إلى الذروة.

إن من أقدم التقديرات الكمية المتوافرة عن عدد الحجاج المسلمين وجنسياتهم المختلفة، تعود إلى ما كتبه كين في سنة 1294هـ، إذ قسم الحجاج إلى 11 قسماً، تبعاً لأصولهم وتفاوت نسبهم من الجنسيات المختلفة.

ولو نظرنا إلى إحصائية الحجاج لوجدنا أنه خلال السنوات السبعين الأخيرة (1345 ـ 1414هـ) وصل إجمالي عدد الحجاج إلى ستة وعشرين مليوناَ وثلاثمائة وستة وثمانين ألفاً وستمائة وعشرين حاجاً من خارج المملكة، بمعدل سنوي متصاعد. ففي عام 1345هـ وصل عدد الحجاج إلى 90600 حاج، وزاد في السنة التالية إلى 96300 حاج، بزيادة 5700 حاج. ثم بدأ العدد في النزول، حتى وصل إلى أدنى درجة عام 1359هـ، إذ كان عدد الحجاج الذين وصلوا من الخارج عن طريق البر والبحر 9024 حاجاً، وربما كان لظروف الحرب العالمية تأثيراتها على طرق المواصلات والاقتصاد العالمي، إضافة إلى عدم توفر الإحساس بالأمن. ارتفع العدد في العام الذي يليه إلى 23863 حاجاً، واستمر في الارتفاع حتى زاد عن المائة ألف في عام 1369 هـ، وزاد عن المليون عام 1403 هـ، وبلغ الذروة عام 1412 هـ، حين بلغ العدد 1012140 حاجاً. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، بلغت نسبة الحجاج، الذين وصلوا من الرقم الذي ذكرناه 43.86 % حتى عام 1415 هـ، أي أنه، خلال ثلاث عشرة سنة، وصل لأداء فريضة الحج 11575000 حاج، أي ما يقارب نصف ما وصل خلال 57 سنة. وهذا يعني زيادة مطردة في أعداد الحجاج، الذين يصلون من خارج المملكة، خاصة بعد التطور الهائل في القدرة الاستيعابية للحرم المكي الشريف، وفي الخدمات، التي توافرت حوله.

ثالثاً: خلفية تاريخية لأعمال التوسعات السعودية

لقد كان للاستقرار واستتباب الأمن، الذي خيم على ربوع البلاد، في فترة العهد السعودي، الذي استهل في عام 1343هـ (1924م)، وما صاحب ذلك من تدفق ثروات النفط، أثر كبير في تطور كل مدن وقرى المملكة. وشهدت مدينة مكة المكرمة، مثلها مثل بقية مدن المملكة، نهضة عمرانية شاملة، وتطوراً هائلاً في تركيبها العمراني. ويمكن دراسة تأثير أعمال التوسعات، على انتشار المدينة المقدسة، من خلال دراسة أنماط الانتشار، ومن خلال ثلاث فترات تاريخية، شهدت كل فترة منها نوعاً من أنواع التنمية.

رابعاً: الفترة التقليدية ـ ما قبل التوسعة

لو أمعنا النظر في أعمال التوسعة العثمانية للمسجد الحرام، لوجدنا أنه مر عليها أكثر من أربعة قرون، وانطبعت مكة بطابع عمراني خاص، حيث تتصف شوارع مكة، بأنها ضيقة غير منتظمة، ما عدا شارعاً مشهوراً يقطعها من جنوبها الغربي إلى شمالها الشرقي. يبتدئ ذلك الشارع من محلة جرول ماراً بباب العمرة إلى باب التكية المصرية، ثم إلى المسعى وعلى طريق القشاشية وسوق الليل إلى آخر مكة من جهة المعلاة. ويراوح عرض الشارع بين ثمانية وعشرة أمتار. ومن الحارات النافذة من اليمين إلى الشارع المذكور، حارة الباب، وحارة الشبيكة، والسوق الصغير، وأجياد، وسوق الليل، وسوق الصفا، والمسعى، والقشاشية، ويليها الغزة، ثم سوق المعلاة، والبياضية. وعن يسار القشاشية المسعى المتجه إلى المروة، الذي به يساراً باب السلام ويميناً طريق المدعى، ثم الجودرية، ثم المحناطة. ومن حارة الباب يُنفذ إلى سوق الشامية ومنه إلى المروة. (اُنظر شكل الكعبة بعد العمارة العثمانية).

ومن الجهات التي بها مبان فخمة وآثار جمة، جهة جرول، والمسفلة، وشعب أجياد، والقشاشية، والغزة، وشعب بني عامر، والشامية والقرارة، والسليمانية، وبها النقا، والمنحنى، والمعابدة، والبياضية، والمعلاة (المقبرة).

خامساً: الفترة الانتقالية

وهي المرحلة التالية لتأسيس المملكة بعد 1351هـ (1932م)، حيث شهدت بدايات النظرة الشاملة للمدن السعودية كوحدة في كيان واحد، والتي أدت إلى هدم أسوار المدن، وبعض قلاعها، وفتح أبواب التطوير والبناء لمشروعات المياه والخدمات الصحية والتعليمية. ولقد نمت مدينة مكة المكرمة في الاتجاهات، التي لا تعترضها الجبال، من خلال الفتحة المعروفة بجبل الكعبة إلى حارة الباب وجرول في اتجاه الشمال الغربي، ومن خلال المعلاة إلى السليمانية والحجون والجميزة والمعابدة في الشمال الشرقي، وإلى المسفلة في الجنوب. وكانت عمارة البيوت في هذه الأحياء امتداداً للعمارة القديمة وإتباع أساليبها وخاماتها، من أحجار الجبال والطين المنجرف مع السيل. وكانت الأحياء الجديدة (في ذلك الوقت) امتداداً لتخطيط الحارة واستعمالاتها والواجهات المنكسرة عليها. وكان اتساع الأزقة بما يكفي لمرور الدواب في اتجاهات مطالع الجبال.

ولكن حدود مكة المكرمة لم تشهد توسعاً كبيراً عما كانت عليه في السابق، غير أن ملامح التغيير بدأت واضحة. فلقد أدى ظهور السيارات في المملكة، لأول مرة في عام 1346هـ (1927م) إلى إيجاد الطرق الممهدة، وخاصة تلك القادمة إلى الأراضي المقدسة.

ولقد شهدت هذه الفترة تمديد مياه وادي فاطمة إلى مكة عام 1951م، والتي عرفت بالعين العزيزية لمواجهة زيادة استهلاك مياه عين زُبيدة، التي استمرت لأكثر من ألف عام حتى الآن، مع زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين.

كما تزامن تأسيس المملكة في عام 1351هـ، باستتباب الأمن على ربوع البلاد. وانعكاساً لذلك، بدأت القبائل المحيطة بمكة استقرارها في ضواحي المدينة.

لقد كانت المدينة المقدسة، خلال هذه الفترة، مثلاً للمدينة، الإسلامية، التي تلتف حول مركزها الديني (الحرم الشريف)، وعرفت بأزقتها العتيقة الضيقة، التي تصب من جميع الجهات في اتجاه المسجد الحرام، إضافة إلى الأسواق، التي انتشرت حول المسجد الحرام؛ لخدمة الحجاج. ولكن حدودها لم تشهد توسعاً كبيراً، عما كانت عليه في السابق، غير أن ملامح التغيير بدأت تظهر.

سادساً: إعمار المسجد الحرام وتوسعاته في العهد السعودي (التوسعة السعودية الأولى)

ابتدأت التوسعة السعودية للحرم الشريف، عام 1375هـ (1955م)، عندما أمر الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، بتوسعة منطقة المسجد الحرام (اُنظر شكل مسقط للحرم المكي)؛ ليستوعب أعداد المسلمين القادمين من شتى بقاع الأرض: واستمرت أعمال التوسعة لمدة عشرين سنة، وتمت على ثلاث مراحل هي:

1. المرحلة الأولى

أصدر الملك سعود ـ تغمده الله برحمته ـ في عام خمسة وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية، أمره السامي بإجراء توسعة شاملة للمسجد الحرام. ففي الخامس من محرم عام خمسة وسبعين وثلاثمائة وألف، صدر الأمر بنقل جميع الأدوات والمعدات، التي استخدمت في مشروع توسعة المسجد النبوي إلى مكة المكرمة، للشروع في توسعة المسجد، وفي اليوم الرابع من شهر ربيع الثاني من نفس السنة، بدأت أعمال التوسعة في منطقة أجياد والمسعى من الجهتين الجنوبية والشرقية، وهُدِمت الدور والمباني القائمة، وتم تعويض أهلها. ثم بُدئ بشق طريق جديد، يمتد بجانب الصفا والمروة إلى حي القرارة والشامية، فتمكن بذلك الحجاج من السعي دون إزعاج من المارة. وفي شعبان من نفس العام، احتفل بوضع أساس هذه التوسعة، وتم بناء المسعى في التوسعة من طابقين، يبلغ طول كل طابق 394 متراً ونصف المتر، وعرضه عشرون متراً، وارتفاع الطابق الأول اثنا عشر متراً، والطابق العلوي تسعة أمتار، وأُقيم في وسط المسعى حاجز يقسمه إلى قسمين لسير عربات، تحمل غير القادرين على السير، ويمنع من التصادم في الذهاب والإياب. (اُنظر شكل الأجزاء المضافة).

كما بلغ عدد أبواب المسعى ثمانية عشر باباً، منتشرة على جانبيه الشرقي والغربي. وقد خُصص للطابق العلوي مدخلان أحدهما عند الصفا والآخر عند المروة، وبُني للطابق العلوي سُلّمان: أحدهما عند الصفا والآخر عند المروة، وبُني تحت الطابق الأرضي طابق سُفلي، يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف المتر. كما أصبح للمسعى ثمانية وأربعون شُباكاً، صُنعت من الحديد المطعم بالنحاس. في مرحلة لاحقة أصدر المغفور له الملك خالد أمره الكريم بعمل تهوية وتكييف للمسعى؛ حرصاً منه على راحة ضيوف الرحمن. كما تم تحويل مجرى السيل إلى أسفل المسجد، والاتجاه به إلى منطقة المسفلة، خارج منطقة المسجد الحرام، ويبلغ طول مجرى السيل سبعة كيلو مترات، وعرضه خمسة أمتار، وارتفاعه ستة أمتار، مما جَنّبْ البيت العتيق والمسجد الحرام خطر السيول.

وبنُيت في هذه المرحلة قبة فوق الصفا، ومنارة ارتفاعها اثنان وتسعون متراً، وعرض قاعدتها سبعة أمتار في مثلها، وتم هدم 768 منزلاً وحوشاً، و928 دكاناً ومخزناً، شملته توسعة المسجد الحرام في هذه المرحلة.

2. المرحلة الثانية

بدأ تنفيذ هذه المرحلة في عام تسعة وسبعين وثلاثمائة وألف، حيث أزيلت فيها المباني من منطقة زقاق البخاري إلى منطقة باب إبراهيم، تمهيداً لعمارة المنطقة الجنوبية، ثم بُني الرواق الجنوبي، الممتد من باب أم هانئ إلى باب إبراهيم بطابقين، إضافة إلى طابق سُفلي أسفل هذا الرواق. وبلغ ارتفاع الطابق الأول عشرة أمتار ونصف المتر، وغُطيت جدارنه بالمرمر والعقود بالحجر الصناعي المنقوش، وأُقيم بهذه الجهة باب الملك عبدالعزيز، الذي يتكون من ثلاثة أبواب كبيرة، من أجود أنواع الخشب المزين بالنحاس. وأُقيم الطابق الثالث فوق الرواق الجنوبي، كما أُقيم في هذا الجانب ثلاث منارات: واحدة بجوار الصفا، وكانت بدايتها بالمرحلة الأولى، واثنتان بجوار باب الملك عبدالعزيز، وتم تسقيف ما بقي من مجرى السيل، الذي بُدئ به بالمرحلة الأولى، وتم في هذه المرحلة هدم بعض الأبنية القديمة، التي كانت تُحول بين المصلين بالطابق الأول من الرواق الجنوبي ورؤية الكعبة المعظمة.

3. المرحلة الثالثة

بدأت هذه المرحلة في عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية، الموافق واحد وستين وتسعمائة وألف، وهي في الجهة الغربية من الحرم، وفي هذه المرحلة أزيلت المباني، وحفرت الأساسات، وارتفع بناء الرواق الغربي، ويتكون من طابق سفلي وطابقين، علوهما مماثل لعلو الرواق الجنوبي، وسقف الرواق الغربي، وغُطيت جدارنه بالرخام وعقوده وسقفه بالحجر الصناعي المنقوش.

كما تم بناء الجانب الشمالي من المسجد الحرام من باب العمرة إلى باب السلام، وإقامة منارتين قرب باب السلام، وأُقيم باب السلام على غرار باب الملك عبدالعزيز، وتم بناء باب العمرة على نفس النسق.

وبذلك تمت المرحلة الثالثة من التوسعة السعودية، وأصبحت مساحة المسجد الحرام 193.000م2، بعد أن كانت مساحته الأولى لا تتجاوز 29,127م2 في العمارة العثمانية، التي أصبحت داخل العمارة السعودية.

سابعاً: الفكرة التصميمية

عندما يقترب المرء من المسجد الحرام، تبهره ضخامة المبنى وجمال الرخام السنجابي والأبيض، وعندما يرى البوابات الرئيسية أو الصغيرة، التي ترحب بمقدمه، عندها يبدأ بالنزول إلى ساحة المطاف، ويرتاح بمشاهدة الكعبة. هذا المُقترب يدل على أن بيت الله مفتوح لجميع المسلمين. فالمبنى من الخارج أو الداخل لا تسمح ضخامته بأن يستوعبه الإنسان كله، ولكن هناك فكرة إجمالية لهذا المسجد الحرام أدت إلى ظهوره للوجود بهذه الكيفية.

الكعبة هي محط أنظار العالم الإسلامي بأكمله، فهي النبع القائم، الذي يولد تصميم الخطوط الأساسية لأي مسجد يُبنى حيث يتجه إليها. فالكعبة تشكل مركز دائرة الطواف، والخط، الذي ينبعث من المركز، إلى كل ركن من أركان الكعبة القائمة المتجهة نحو الجهات الأصلية الأربع، يتجه إلى بوابة هامة من بوابات المسجد الحرام. يمكن متابعة الأقسام الأربعة للدائرة بالخطوط الأربع، المكملة التي تُقاطع واجهات الكعبة الأربعة التي تُساعد على إيجاد شكل هندسي مثمن الزوايا يتحكم في النقاط الرئيسية للتصميم. المفهومية التي تُستخلص من المخطط هي تأكيد التوافق الأساسي، الذي قد اتخذ معياراً مادياً للتصميم. يتضح المعدل التصميمي والإنشائي (Modul) من مسقط المبنى، والذي يدل على أن الفكرة التصميمية والإنشائية مبنية على نظام هندسي (اُنظر شكل الأجزاء المضافة). ولتأكيد وظيفة تحديد الاقتراب المحوري, فقد أوجدت مئذنتان على جانبي المداخل الرئيسية الثلاثة.

حدد المصمم عرض أماكن الحركة بخمسة أمتار، وهي محددة بوضوح في المخطط، بأرضية رخامية قاتمة اللون، تتميز عن الرخام الأبيض، الذي جعل في أماكن الصلاة، التي حددت مساحتها 15 × 15 متراً، وبالمثل في الارتفاع. والممرات تتركب من بواكي أُقيمت على أعمدة مربعة من الرخام الأسود، في حين أن أماكن الصلاة تتركب من مبنى صندوقي الشكل مسطح مركب على أعمدة دائرية بيضاء. وهذا النظام المبين في استخدام كل فراغ يعمل به في بعض الأوقات الخاصة، مثل موسم الحج، أو ليالي رمضان أو الأعياد، حيث يستعمل كل مكان ممكن للصلاة (اُنظر شكل المخطط بعد العمارة العثمانية) و(شكل الكعبة بعد العمارة العثمانية) و(صورة بداية التوسعة السعودية).

ثامناً: الطابع

هناك الكثير من المفردات المعمارية الطابع، والتي بمضمونها، قد أنتجت لغة مشتركة، قبلها واستعملها الكثير من المعماريين في العالم الإسلامي. طبيعة هذه المفردات، التي يترجم المعماري بها مبناه، تبدأ بالدائرة والأشكال العديدة المنتظمة، التي يمكن أن توجدها الدائرة. استفادة هذه اللغة في بناء مفرداتها، في مباني المساجد، من العديد من المصادر، مثل الرياضيات والهندسة والأشكال الطبيعية والنباتية وجماليات الخط العربي، في إعطاء طابع مميز لمبنى التوسعة السعودية الأولى، تُرى في المربع المثمن الشكل ذي الأضلاع التسعة في الزخارف المستخدمة لبناء الأشكال الأساسية، مثل النجمة المثمنة، والمربع الدوار، والشكل ذي الأضلاع المتعددة (اُنظر شكل الحرم في عهد عمر ين الخطاب).

1. الأرابسك

بدأ الأرابسك أيضاً بنظام هندسي، ولكنه تطور بحرية أوسع إلى أشكال رشيقة، تحت رسم أشكال نباتية، فنجد أن أشكالاً ذات أربعة سطوح ابتدائية، قد تكررت في زخرفة عناصر المسجد بالإضافة إلى الحلزون، وشكل زهرة اللوتس، وأوراق النبات، والأشكال الأخرى.

2. الطابع المركب للزخارف

استعمل الكثير من الأشكال المركبة، التي تستخدم أكثر من رسم هندسي ابتدائي واحد، تُنتج نسقاً واضحاً. (اًنظر صورة بداية التوسعة السعودية) و(صورة الأعمدة في الحرم) و(شكل مسقط الحرم المكي).

3. تيجان الأعمدة

هناك نوعان من تيجان الأعمدة الأساسية، استعمل الأول في الأروقة المعدة للصلاة والممرات، والثاني بالواجهات الخارجية للمسعى والمداخل الرئيسية، كما توجد تيجان ثانوية أُخرى، استعملت في أماكن متعددة من الواجهة والمداخل، وهي ذات أشكال مختلفة (اُنظر صورة الأعمدة وقواعدها).

4. لوحات الجدران والشبابيك

إن الأشكال المسطحة، وتيجان الأعمدة، والجسور المزخرفة بالحجر الصناعي، كلها تجتمع لتكون لوحات كاملة متناسقة، تساعد على تحديد القشرة الخارجية (للسطح). ولوحات الشبابيك تبدأ من الإطار الحجري أو الخرسانة السابق صبها المحيط بهيكلها، الذي تركب فيه فتشكل حواجز من النحاس والألومنيوم المؤكسد مع لوحات الشبابيك النموذجية المكررة من وقت لآخر، حول المبنى، وحدة زخرفية مع لوحات الجدران، ولوحات حواجز السقف، والشرفات التي نفذت بنفس الطريقة، وتتخذ مكانها في واجهة المبنى.

5. لوحات الأبواب

في أعلى الواجهات الكلية للمداخل، تجد سلسلة من تكرار السطوح المتمركزة حتى تصل ذروتها عند المدخل السفلي، في حين تركت هندسة الزخارف النحاسية والمعدنية لسطح المداخل.

6. لوحات الأسقف

استخدمت أشكال نموذجية عديدة من الزخارف الإسلامية في أسقف أروقة الصلاة والمسعى والممرات. بنيت أشكال السقف المستطيلة والمربعة، على شبكة هندسية موزونة، فكثيراً ما تظهر حلية مركزية من نجوم مثمنة الزوايا أو حلزونية أو رسوم زهرة اللوتس، وتظهر في السقف بوضوح عدة ألوان كالأحمر الوردي أو المائي الطبيعي، وهي الألوان الوحيدة التي استعملت بالمبنى، علاوة على القشرة المذهبة في كتابة الخطوط وتدرج الأحجار، من اللون الأبيض إلى الأسود، ولون يقارب الأخضر أحياناً (اُنظر شكل الأجزاء المضافة) و(صورة الواجهات الخارجية).

7. الخط

استُعمل الخط الكوفي الواضح الظاهر في القشرة الذهبية، على خلفية بيضاء، وتتكرر رسوم الخط في كل أنحاء المسجد. وقد وُضِع فوق كل مدخل إطار مستطيل، كتبت فيه البسملة "بسم الله الرحمن الرحيم". وفي قبة الصفا فقط، توجد آيات قرآنية مذهبة على شريط متواصل متداخل "الله" و"لا اله إلا الله محمد رسول الله"

تاسعاً: المواد وتقنية البناء

1. أساليب البناء

استخدم في أعمال التوسعة السعودية نظام العمود، والعقد، والكمر الحامل للسقف. ويرتفع سقف المسجد الحرام على أعمدة مربعة ومستديرة، يصل ارتفاعها في الطابق الأول عشرة أمتار، كُسيت هذه الأعمدة بالرخام، وتنتهي بتيجان على شكل زخارف جصية، ترتكز عليها منابت العقود، وتأخذ شكلاً مقوساً صُنعت من الحجارة، وقسم السقف إلى مستطيلات من الحجر الصناعي المنقوش، وطُليت بألوان مختلفة تُبرز أناقة العمارة السعودية وبساطتها. كما جُعل الطابق الثاني من العمارة السعودية على نمط الطابق الأول، ولكن أعمدته وعقوده أقل طولاً وارتفاعاً. واستخدمت في جميع الأعمال الإنشائية الخرسانة المسلحة.

أساس بناء المسجد الحرام هيكل من الخرسانة المسلحة، المكسوة بالحجر الصناعي والرخام. وقد وضعت الأساسات على طبقة صخرية صلبة في وادي إبراهيم. أما الأرضيات الداخلية والخارجية فقد وضعت أرضية من الخرسانة المسلحة السميكة. روعيت المتانة في تصميم الجدران، والأعمدة، والكمرات، والبواكي والتبليطات، وحواجز السطح، والشرفات، لأسباب وقائية. ركبت بلاطات الرخام والحجر الصناعي في الجدران المسلحة بخطافات من الصلب، وتم صب جميع الأحجار الصناعية التي أُحسن اختيار موادها في قوالب خاصة، عولجت معالجة تامة ونقلت بكل عناية ووضعت في أماكنها، وثُبتت بأصل المبنى قبل صب الإسمنت في البلاطات أو الأعمدة أو البواكي فهي بهذا تكون جزءاً متمماً للخرسانة المسلحة.

2. أعمال الرخام

تم استخدام بلاطات الرخام، للأرضيات والمناطق المكشوفة والجدران والأعمدة وحواجز السطح والشرفات في الدور الأرضي، والدور الأول، وجميع السلالم، وكذلك جدران المآذن السبع مكسوة بالرخام في جزئها السفلي.

3. الأعمال المعدنية

وضعت الرسومات الأصلية للأعمال المعدنية بمكتب المشروع في جدة. والأبواب مصنوعة من هيكل من الصلب مغطى بالنحاس المزخرف، أما الحواجز فهي مصنوعة من الألومنيوم المؤكسد. واستعملت قشرة ذهبية في كتابة الآيات على مقام إبراهيم u، وتغطية الأهلة التي في أعلى المآذن، وكذلك قاعدة القبة الزجاجية المغطاة لمقام إبراهيم فقد كُسِيَتْ أيضاً بطبقة سميكة من الذهب.

4. الأرضيات

إن أرضيات الدور الأرضي بأكملها والدور الأول مكسوة ببلاطات الرخام لا يعترضها إلا السلالم الكثيرة، التي يظهر بها تغير في المستوى. ورخام الأرضيات أبيض وسنجابي اللون، ويحس الإنسان بشعور من الانشراح وهو يمر خلال المسجد. يبدأ تبليط الأرضية بالرخام من خارج المسجد، وخلال المداخل وأماكن الانتقال، ويستمر كذلك حتى صحن المسجد فالكعبة.

5. الجدران

وجدران المسجد مكسوة بالرخام، وقد انتشرت بينها الأعمدة والبواكي والشبابيك والحجر الصناعي. وإن ارتفاع المسجد من الداخل 12 م،ً يزيد شعور الحاج بهذه الضخامة، كلما تقدم نحو الكعبة.

6. السلالم

تلعب السلالم دوراً كبيراً في مبنى التوسعة السعودية الأولى الجديد، فهناك 42 سلماً للمداخل المؤدية إلى الدور الأرضي للمسجد، وسبعة في مستوى الدور الأول، وثمانية لمستوى البدروم وهي تختلف حجماً حسب استخدامها، والوظيفة التي تؤديها. وهي بكاملها مكسوة بالرخام الأبيض والأسود. والسلالم الداخلية أيضاً عديدة، فهناك سبعة سلالم من داخل الحرم إلى البدروم وتسعة من المداخل الرئيسية، وأحدها من المروة إلى السطح، وخمسة سلالم مربعة من البدروم إلى السقف والسطح.

عاشراً: الأسلوب المعماري

إن الأسلوب المعماري، الذي تم إنجازه في توسعة المسجد الحرام لفريد في طابعه، من حيث النسق والجمع بين الأساليب الإسلامية المختلفة والطراز التاريخي التقليدي، فهو على الشكل الذي تم به منعدم النظير في العالم الإسلامي. وكان طبيعياً أن تأتي هذه المهمة الفريدة، مهمة عمارة المسجد الحرام، بحل فريد وجدير. للمزيد من تفهم لهذا الأسلوب الفريد، علينا أن نستعرض بإيجاز المظاهر، التي يشترك بها الحرم الجديد مع المساجد الكبرى في العالم الإسلامي، ثم نوضح بالمقارنة ذلك التناسق الفريد، الذي تجلى عنه البناء بطابعه الذي تم عليه. إن الأروقة ذات الأعمدة في بناء الحرم الجديد تحاكي بوضوح الطراز العربي العريق في بناء المساجد، الذي بدأ من المسجد الكبير في الكوفة وانتهى بمساجد مصر وشمال أفريقيا والأندلس. ولكننا لا نلبث هنا أن نتلمس الفرق الشاسع بين بنيان الحرم المكي والمساجد الأخرى. نجد أول ما نجد أن جميع المساجد يتوخى في بنائها توجيه المؤمنين في صلاتهم نحو مكة المكرمة والكعبة المشرفة، وبذا ينصب تصميمها على شكل هندسي قائم الزوايا، قياساً على وجهة المحراب. أما الحرم المكي فيستوجب بناؤه الإحاطة بالكعبة المشرفة والدوران حولها من جميع جوانبها. وبذا يكون كل حيز في المبنى منبعثاً من المركز من الكعبة المشرفة. إن الشكل المثمن في التصميم يسهل أداء هذه الغاية رمزاً أو عملاً، ومع ذلك فهو يختلف في صورته الثمانية، عن كثير من الأبنية المثمنة الشكل. وعن الأبنية المربعة والمستطيلة الشكل كمسجد الكوفة.

ثم إننا لو أمعنا النظر في الأروقة ذات الأعمدة لوجدناها تختلف عن مثيلاتها في المباني التاريخية. ذلك أنها مقسمة إلى أقسام منفصلة عن بعضها البعض، منها خاص بالصلاة ومنها خاص بمرور المصلين، مما يُلطف الشعور بالجزء، الذي يستوعبه الشكل في الأبنية الأُخرى. زد على ذلك أن تصميم البناء على طابقين بسقوف عالية، يوضح الفارق بجلاء، كما أن المآذن السبع، التي تعلو جنبات المسجد، تفوق في عددها مآذن المساجد الأخرى، فضلاً عما تُضفيه من الجلال، الذي يتسم به هذا المكان.

والميزة الأخيرة، التي أضفت على البنيان حلته الفريدة، هي طابعه المتكامل فإن استبقاء البواكي العثمانية التي يرجع عهدها إلى أربعمائة سنة خلت ـ وضمها في نسق مع البنيان الجديد، إنما هو إنجاز معماري يضاهي في تصوره وواقعه أعظم الإنجازات في تاريخ الفن المعماري.

حادي عشر: المبنى العثماني وتجديده

هذا الجزء من المسجد يحتوي على المبنى القديم للحرم، الذي بناه العثمانيون منذ 400 عام. احتفظ به، وأدخل عليه التجديد، وكان المسجد مبنياً في الأصل من أعمدة رخامية وجدران مبنية بالحجر، وبواكي وحواجز للسقف، وقباب مبنية بالطوب. الأجزاء التي جرى عليها التجديد بُنيت بالخرسانة المسلحة بأعمدة منتظمة وكثيرة الأضلاع والكمرات الجديدة، تكسوها من الخارج طبقة من البياض الإسمنتي المصقول، الذي يغطي الخرسانة المسلحة. وقد بُنيت البواكي الحجر بنفسه. ولتيجان الأعمدة قوالب جديدة من الإسمنت السابق صبه والحجر الصناعي، مع خرسانة مسلحة من الداخل. وقد أقيم سقف القبة من الطوب الأحمر، مكسواً بستار خفيف الوزن، لا ينفذ منه الماء، وقد استعمل فيه الإسمنت وخليط من الجير مع البياض الإسمنتي وأساس الجدران والأعمدة عميقة بحيث تصل إلى طبقات رمليه متماسكة وصخرية.

أما العقد الأمامي من المبنى للحرم القديم والسقوف المقببة، فكلها مزينة برسوم على شكل زهور ورسوم زخرفيه، قد يتكرر بعضها. وترى رسوم حية لسلال الفاكهة وباقات الأزهار ومصابيح وقناديل وساعات وستائر وأثواب، كما توجد رسوم ترجع للقرن التاسع. والألوان الزيتية المستعملة هي الأصفر الفاتح والأحمر والأزرق يُغطي حوالي 380 قبة، والأعمدة والقواعد كثيرة وقد كُسِيَتْ بأنواع مختلفة من الرخام والحجر الجيري البرتقالي الأصفر، الذي استخرج من محاجر الشميسي، على بعد 20 كم من المسجد الحرام، على طريق جدة وقد استعمل نفس المحجر لأعمال التجديد. وتيجان الأعمدة مختلفة منها الكورنثي، وكذلك الإسلامي الهندسي ومساحة الأرضية حوالي 9600 متر مربع يحملها560 عموداً.

ثاني عشر: طوابق المسجد الحرام

للمسجد الحرام أربعة طوابق، جهزت جميعها لتكون مصليات للمصلين، وهذه الطوابق هي: الطابق السُفلي والطابق الأرضي والطابق الأول والسطح.

1. الطابق السُفلي والطابق الأرضي

إن الطابق السُفلي يشغل حوالي 31.200 م2، أعدت للصلاة، علاوة على عدد من الغرف للخدمات، وكذلك ممرات سفلية ودرج للدخول إلى مبنى الحرم من الداخل. أما الطابق الأرضي فيتركب من قسمين. القسم الأول عبارة عن المساحات المغطاة داخل الحرم والأرصفة المرتفعة المرصوفة، والتي تقع في المحيط الخارجي للحرم، وتبلغ مساحة القسم الداخلي 46.100م2، وهي تتصل أساساً بالبوابات وبحركة المرور وأماكن الصلاة والمكاتب وهي ذات أبواب مفتوحة إلى خارج الحرم، وتتصل أيضاً بالسلالم والطابق الأرضي للمسعى. ومستوى الأرضية ينحدر بلطف نحو فناء المطاف على ثلاث مستويات أساسية وكل واحدة منها تنخفض عن الأخرى حوالي متر، وبذلك تهيئ منظراً أكبر وبأقل عائق للكعبة المشرفة، التي هي قبلة كل مسلم. أما المناطق المكشوفة المبلطة حول الكعبة، فإن مساحتها حوالي 13.000 م2.

2. الطابق الأول

يصل المصلون إلى الطابق الأول المرتفع حوالي اثنى عشر متراً عن الطابق الأرضي بواسطة ثلاثة عشر سلماً كبيراً، وهناك أربع كباري تساعد أيضاً على ربط المداخل الشمالية والشرقية بمستوى الطرق العلوية المحيطة، ومن ثم توصل إلى مستوى الطابق الأول وهذا الجزء مساحته 46.100 م2، وهو في وظيفته وفي مساحة فراغه، يماثل الطابق الأرضي. وبطبيعة الحال فإن المسقط الأفقي بأكمله مسطح بلا تغييرات في مستواه، فيما عدا موضع ارتباطه بالصفا والمروة، فإن الاختلاف في ارتفاع نصف دور قد ذُلل بسلسلة من السلالم بينه وبين مستوى الطابق الأول للمسعى وبذلك تضاعفت السعة لإيجاد مكان كاف لتأدية منسك هام من مناسك الحج، وهو السعي.

3. السطح

سطح المبنى مستوٍ، تبرز منه المداخل الثلاثة، والتي بها ست مآذن والمئذنة السابعة عند قبة الصفا، التي تعلو السطح. وكذلك سقف المروة يرتفع عن سطح المسجد بشكل مستطيل، وقد أقتصر استخدام سقف المداخل الثلاثة على تخزين المياه، حيث توجد ثلاث خزانات للمياه وأجهزة تعقيمها. وسطح المبنى مغطى بمواد عازلة للحرارة والمياه. وهذا المكان أُعد كمكان للصلاة خاصة أوقات الحج وليالي شهر رمضان المبارك.

ولتقدير سعة المسجد الحرام للقيام بهذه الوظيفة الهامة فإنه يمكن اتخاذ بساط الصلاة النموذجي كوحدة أساسية للقياس. ففي الإمكان أن نحدد مثل هذه السعة تحت ثلاثة ظروف مختلفة، الأولى: تتعلق بالظروف العادية طول أيام العام، حيث لا يعد إلا أماكن للصلاة، وجميع ممرات المرور تعتبر خالية، وتكون السعة تقريباً 96.650 مُصلٍ في التوسعة السعودية الأولى للحرم، 11.450 مُصلٍ في المبنى القديم للحرم والمناطق المجددة به، وفي صحن المسجد 23.350 مُصلٍ.

ويتعلق الطرف الثاني: بمناسبات مثل شهر رمضان وتحت هذه الظروف، يمكن القول إن نصف مساحة الممرات يستخدم للصلاة، وفي هذه الحالة تصل سعة المبنى الجديد للحرم إلى 152.100 مُصلٍ والمبنى القديم للحرم والأماكن المجددة به 16.000 مُصلٍ، وفي الصحن 32.700 مُصلٍ، والطرف الثالث يتعلق بموسم الحج، ففي مثل هذه الظروف، يمكن استخدام جميع الفراغات التي يمكن الحصول عليها سواءً كان ذلك داخل الحرم أو خارجه، وفي مثل هذه الظروف فإن من الممكن أن تستوعب المساحات الخارجية للحرم 100.000 مُصلٍ، والمبنى الجديد للحرم 245.000 مُصلٍ، والمبنى القديم والمناطق المجددة 18.000 مُصلٍ، والصحن 37.000 مُصلٍ، فيكون مجموع ما يستوعبه الحرم وما حوله 400.000 مُصلٍ.

ثالث عشر: العناصر العمرانية والمعمارية لأعمال التوسعة

1. الميادين

تحيط بالمسجد الحرام خمسة ميادين؛ لتستوعب الأعداد الكبيرة الخارجة من المسجد الحرام وتفريغها بالشوارع والطرقات المحيطة. كما تُستخدم للصلاة في أثناء امتلاء المسجد الحرام بالمصلين، وكذلك لجلوس واستراحة الحجاج والمصلين. وتلك الميادين هي:

أ. ميدان شرق المسعى "ميدان القشاشية".

ب. ميدان الملك عبد العزيز.

ج. ميدان باب العمرة.

د. ميدان باب السلام.

هـ. ميدان باب الوداع.

2. أبواب الحرم

ضمت العمارة السعودية الأولى أربعة وستين باباً، موزعة على مختلف جهات المسجد، وأكبرها:

أ. باب الملك عبد العزيز

وهو في الجهة الجنوبية للمسجد باتجاه أجياد، ويتكون من ثلاثة أبواب خشبية منقوشة، وفي مدخل الباب من الناحية الخارجية عقد مقام على أربعة أعمدة مطلية باللونين الأبيض والأسود، وتُزينه زخارف جصية، ويُصعد إليه بدرج، ويُشرف الباب على ميدان الملك عبد العزيز، كما يواجه مكتبة الحرم الشريف.

ب. باب العمرة

في الجهة الغربية للمسجد الحرام، وبجواره منارتان ارتفاع كل منارة اثنان وتسعون متراً.

ج. باب الفتح

وهو في الجهة الشمالية من المسجد الحرام، وأمامه ميدان باب الفتح، وبجواره منارتان ارتفاع كل منارة اثنان وتسعون متراً.

3. المآذن

ظهرت المآذن تاريخياً في الأشكال الإسلامية للأذان، أي دعوة الناس للصلاة. وكان بلال t من أصحاب النبي  rأول من أذن للصلاة. ومن هذا الدور الذي قام به ظهرت الحاجة إلى مكان مرتفع للأذان.

واليوم مع التقدم التقني، فقد زودت مآذن المسجد الحرام بمكبرات الصوت، بحيث أصبحت تؤدي وظيفة التبليغ للصلاة لمسافات بعيدة. أصبحت هذه المآذن علامات بارزة للمسجد، إذ يمكن رؤيتها من بعيد، عندما يقترب الحاج من البلد الحرام. وقد بنيت كلها من الخرسانة المسلحة، وكسيت إما بالحجر الصناعي وإما بالرخام، وترتفع عن سطح الأرض بمقدار 96 م إلى قمة الهلال.

ويوجد على جانبي كل مدخل رئيسي للمسجد مئذنتان، ومئذنة واحدة فقط عند قبة الصفا، وهذه الأزواج من المآذن تؤدي وظيفة أُخرى هي تحديد الاقتراب المحوري نحو الحرم.

4. المداخل: الاتصال

إن المداخل الكبيرة والصغيرة تقوم كأماكن للاتصال بين الخارج والمسجد الحرام. والأبواب الرئيسية الثلاثة تقع على محاور من أركان الكعبة الشمالي والغربي والجنوبي. يقع باب الفتح في الجانب الشمالي، ويتصل محورياً بركن الكعبة الشمالي المعروف بالركن العراقي، أما باب العمرة، وهو ثاني الأبواب الرئيسية، فإن اتصاله المحوري بالركن الغربي للكعبة المعروف بالركن الشامي، وأما الباب الجنوبي، المعروف بباب الملك عبدالعزيز، فهو يتصل بمحور الركن اليماني للكعبة. أما الركن الشرقي للكعبة، وهو ركن الحجر الأسود، فيتعلق بقبة الصفا، وذلك أفضل من أن يكون متعلقاً بباب رئيسي.

شملت أعمال التوسعة السعودية الأولى، إقامة سبع مآذن، ارتفاع كل مئذنة اثنان وتسعون متراً، تُبرز هذه المآذن أبعاد المسجد الحرام، وترتفع شامخة بقّدها الممشوق، وبطرازها الفريد وقد روعي في بنائها الدقة والبساطة.

والمآذن السبع ذوات طراز مُوحد، بحيث لا يمكن التمييز بينها، جُعلت كل مئذنة على قاعدة مربعة، ملتصقة بجدران المسجد، يتحول جسم المنارة عندما تبرز من أرض المسجد إلى شكل مثمن الأضلاع. كُسيت المآذن من أسفل بالرخام، تمشياً مع الغطاء الخارجي لجدران المسجد، وبكل منارة شرُفتان، جعلتا على نسق واحد: الشرفة الأولى فوق جدران المسجد على ارتفاع قليل، وتأخذ الشكل المثمن لأضلاع المنارة، وتُحليها ثمانية أعمدة صغيرة، تحمل مظلة الشُّرفة، وقد كُسيت من أعلى بالزخارف، وحُليت باللون الأخضر.

أما الشرفة الثانية فقد جعلت قرب نهاية المئذنة من أعلى، وبُنيت على نسق الشرفة الأولى، وفوق الشرفة الثانية شكل جصي، يتكون من قطعتين: الأولى أخذت الشكل الدائري، وحُلِّيت بالزخارف الجصية في أركانها، والثانية على شكل قبَة مُحلاة بزخارف على هيئة خطوط طولية من أعلى إلى أسفل، وفوقها الهلال. والمآذن السبع موزعة على أبواب الصفا والملك عبدالعزيز والعمرة والفتح.

رابع عشر: أثر العمارة والتوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام على المحيط العمراني

وُسعت الطرق الرئيسية في مكة المكرمة التي أصبحت تقصدها قوافل السيارات المستمرة، خصوصاً في أيام الحج، مما دعا إلى توسيع كثير من الطرق الرئيسية، أهمها فتح الطرق الرئيسية حول المسجد الحرام، مثل شارع الملك، الذي يبدأ من أجياد للسوق الصغير، ثم هدمت المساكن والدكاكين الموجودة على جانب المسعى، وابتدأ العمل في طابقي المسعى بين الصفا والمروة، واقتضى الأمر تنظيف أرض المسعى، وتحويل مجرى السيل، الذي ينحدر من أعالي مكة، مخترقاً الحجون والقشاشية، ليمر بين المسعى والمسجد الحرام، إلى المسفلة، فتم تحويل المجرى ليمر شرق منطقة الصفا إلى الجياد ثم المسفلة، ومنها إلى خارج مكة المكرمة. بدأ العمل في الجانب الجنوبي الجديد من التوسعة المقابلة لأجياد، وبعد إتمامه بدأ العمل في الجزء الغربي، الذي يبتدئ من باب الملك عبد العزيز إلى باب العمرة. وتم إنشاء ساحة ضخمة تفصل المسجد الحرام عن السوق الصغير، وساحة أخرى أمام باب الملك عبد العزيز، ثم تم بناء الجزء الشرقي من المسجد الحرام، وأُكملت بقية الجوانب الأخرى من البناء الجديد، ثم رممت كل أجزاء توسعة العهد العثماني القديمة، واتصلت أرضياتها بأرضية التوسعة الجديدة؛ لتقود كلها إلى المطاف (ساحة الكعبة الشريفة)، والتي بعدها أصبحت الكعبة تُرى من جميع الجهات؛ نظراً لارتفاع مستوى التوسعة السعودية الأخيرة. وبذلك تمت أكبر توسعة شهدها التاريخ للحرم المكي الشريف، بحيث أصبحت المساحة الكلية للمسجد تسع أكثر من 300.000 شخص، يصلون في يسر وسهولة في الأيام العادية، بينما تتضاعف هذه السعة أيام الحج وأيام رمضان.

شهدت مكة المكرمة، في فترة التوسعة السعودية للمسجد الحرام وما بعدها، تطوراً هائلاً ملحوظاً في مد الخدمات الضرورية إلى أحيائها، وتمهيد كثير من الطرق الرئيسية، وإنشاء كثير من الساحات حول المسجد الحرم، وإنشاء كثير من المدارس والمستشفيات ومساجد الأحياء. كما أن الهدم، الذي شمل مئات المساكن لتوسعة المسجد الحرام والساحات وشق الطرق، دفع السكان، الذين هُدمت منازلهم، إلى السكن خارج المنطقة المركزية، فتعدت مساكن مكة المكرمة الجبال المحيطة بها لأول مرة، وبدأت الأحياء السكانية الجديدة تظهر في الأطراف خارج جبال المنطقة المركزية، وعمرت حارات جرول والهنداوية والطندباوي، بعد أن كانت مشغولة ببعض مساكن الصفيح والأكواخ، التي كان يقيم فيها الوافدون. واقتضى هذا التوسع شق مزيد من الطرق الرئيسية، وتوصيل كثير من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية. ونظراً لانبساط الأرض في الأحياء السكنية الجديدة بعض الشيء، فقد نعم السكان بمساكن منفصلة، حولها مساحات واسعة، لا تقارن بالأزقة الضيقة في الحارات، التي في مركز مكة المكرمة.

وقد استمرت توسعة المسجد الحرام السعودية الأولى أكثر من عشرين عاماً، في مراحل متتالية ومتداخلة، في عهد الملك سعود والملك فيصل والملك خالد، رحمهم الله. وقد أعطت التوسعة السعودية للحرم أبعاداً جديدة، فقد تم الاحتفاظ بالأروقة القديمة ذات القباب العثمانية الحجرية، كما تمت تغطية المسعى بين الصفا والمروة، وجعله على دورين، وأصبح مرتبطاً بالحرم. ثم أُضيفت أروقة جديدة تحيط بالحرم القديم من دورين، وفى حالات الازدحام القصوى، تستخدم الأسطح أيضاً لصلاة الحجاج، وللسعي فوق سطح المسعى أيضاً، إذا دعت الضرورة. وكُسِيَتْ الجدران جميعاً، بعد تجديدها بالرخام المحلي، وبُنيت سبع مآذن جديدة لها طابع إسلامي مميز، بدلاً من السبع القديمة.

كانت التوسعة السعودية الأولى أعظم من التوسعات، التي مرت على المسجد الحرام، فقد أصبح المسجد الحرام رغم التوسعات المتتالية، التي سبقت التوسعة السعودية، يضيق بالعاكفين والركع السجود، وكان من الصعوبة بمكان الوصول إلى المسجد الحرام، نظراً لوجود المباني المنتشرة حوله، وضيق الطرق المؤدية إليه، مما سبب بعض العوائق والمشاق، في الدخول إليه والخروج منه. كما أن المسعى كانت تفصل بينه وبين المسجد الحرام المباني والأسواق، فيختلط قاصد العبادة بقاصد الدنيا داخل المسعى، مما يشوش على الساعي، فضلاً عن زيادة الكثافة السكانية الهائلة وسط مكة المكرمة. إضافة إلى ذلك، فقد بدأ السكان في تعمير الأراضي الخارجية للمدينة، بدلاً من التكدس في الحارات القريبة من المسجد الحرام، التي ضاقت بالكثافة السكانية العالية.

الفترة ما بين 1375 ـ 1394هـ (1955 ـ 1974 م)، التي تمت بها عمارة وتوسعة المسجد الحرام ومحيطه العمراني، هي النواة التأسيسية لبدايات التخطيط. واكب هذه الفترة إدخال مهنيين وعمال مهرة، وظهور أنماط جديدة من العمارة أتت من خارج المملكة. استدعت التوسعة نزع الملكيات للأراضي السكنية والتجارية، التي حول منطقة المسجد الحرام وذلك لاستيعاب المساحات داخل المسجد الحرام والساحات المحيطة به، وكذلك الشوارع والطرقات اللازمة لاستيعاب العدد الهائل من السيارات والحافلات. نتيجة لأعمال نزع الملكيات والتعويضات، التي حصل عليها الملاك، تم ظهور أحياء جديدة في الناحية الغربية والشرقية والجنوبية لمكة، وهي الأحياء المعروفة بالأسماء التالية: الطندباوي، والمعابدة، والملاوي، وامتدادت المسفلة إلى الجنوب.

كان الاستيطان البشري عبر التاريخ مركزاً حول المسجد الحرام، حيث إن القرب منه مرتبط ارتباطاً بديهياً بالنواحي الدينية أساساً والتجارية. كما أن نمط الاستيطان مرتبط بنوعية التضاريس في المنطقة، التي هي عبارة عن جوانب الأودية المؤدية إلى الجبال. فوجود الجبال (كجبل أبي قبيس، وخندمة، وقعيقعان، وعمر، والسبع بنات، والقلعة)، حول منطقة المسجد الحرام، من النواحي الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية بشكل خاص، قد أدى إلى صعوبة في ربط المنطقة الوسطى لمكة بأطراف انتشار المدينة، على الرغم من وجود أكثر من ثلاثين شارعاً أو سكة أو طريقاً موصلاً للمسجد الحرام من المنطقة المحيطة به. وعلى الرغم من التحسينات الكبيرة، التي قامت بها الدولة في تطوير شبكة المواصلات، فإن هناك رغبة ملحة وقوية لمجاورة المسجد الحرام للاستعمالات السكنية والتجارية. ولازدياد عدد الحجاج والزائرين للمنطقة عبر السنين، فقد ازداد الطلب على كمية ونوعية الاستعمالات المختلفة، وما تتطلبه من فراغات حول المسجد. أما من ناحية العرض، فإن هذه الفراغات المحيطة بالمسجد لا ترقى للمستوى اللائق بمكانة المنطقة فإن نوعية المباني، وأنواع النسيج العمراني، وكمية الخدمات الأساسية كمواقف السيارات، والخدمات الصحية، والأسواق في حاجة إلى التحسين والتوسع.

شهدت مكة المكرمة، بعد عام 1375هـ، الكثير من العمليات التخطيطية، التي أحدثت الكثير من التغيرات في التركيب العمراني لها. فالتركيز السكاني، الذي كان السمة الغالبة للمدينة الإسلامية، والذي كانت تعبر عنه بوضوح الكثافة العالية في المناطق المركزية، قد حل محله انتشار المدينة في جميع محاور الأطراف لمكة المكرمة، عبر الشعاب وبطون الأودية، واتسعت رقعة المدينة المقدسة لتتجاوز ما سبقها.

أما المركزية في الوظائف والخدمات والتي كان تهيمن عليها المنطقة المركزية، فقد تغير وضعها هي الأخرى، إذ أقيمت الأحياء الجديدة خارج الحدود القديمة، وانتشرت المدارس والمساجد والمرافق في كل أرجاء المدينة، ونشأت على طول محاور الطرق الخدمات التجارية، وخرجت جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية من قلب المدينة، وتوزعت في مختلف أرجائها، وتطور نظام الخدمات والمرافق، بحيث غطى معظم أجزاء البيئة المبنية. وأصبح هناك تعدد للبلديات، فصار لكل قسم من أقسام المدينة بلدية تشرف على إدارتها وتنظيمها، وبذا تحررت مكة المكرمة من سيطرة المنطقة المركزية، ولم يبق الناس مرتبطين بقلب المدينة إلا في أمر مهم واحد، هو أداء الصلوات في المسجد الحرام، والذي سيظل القطب الجاذب للناس نحو قلب المدينة (الكعبة المشرفة).

يمكن القول، على ضوء المعطيات السابقة، إن خطوط التطور، التي سارت عليها مكة المكرمة، هي نفس الخطوط العريضة للمدينة المعاصرة أو المدينة الصناعية. فبنية مكة المكرمة وتركيبها الحضري، مشابه لنمط البنية والنسيج الحضري في المدينة العالمية المعاصرة. والعمليات التخطيطية تتشابه في تأثيرها وعملها، مع العمليات التخطيطية في المدينة الحديثة، حيث ساد التباعد بدل التركز، وحلت اللامركزية بديلاً للمركزية، وزاد تيار الهجرة من الأرياف نحو المدينة، وظهرت رحلة العمل اليومية بشكل واضح، على غرار ما هو موجود في المدن الكبرى في العالم. وأصبح الناس يتمايزون في مناطق سكنهم، وفق ضوابط اقتصادية تتعلق بالدخل، لا بحسب الأصول العرقية للسكان.