إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحَرمان الشريفان، والتوسعات المختلفة




مآذن الحرم التسعة
واجهة ومئذنة
واجهة ومئذنة أخرى
واجهة ومئذنة القبلة
أحد الشوارع
الواجهات الخارجية
الواجهة الشرقية
المدخل الشمالي الرئيسي
الأسقف الداخلية والعقود المدببة
المظلات وهي مغلقة
المظلات وهي مفتوحة
الأعمدة وقواعدها
الأعمدة في الحرم
التوسعة السعودية الثانية والثالثة
التكامل والانسجام
الحجر الأسود
الروضة الشريفة
العقود المدببة (الأبلق)
القباب المتحركة المغلفة
القباب المتحركة المفتوحة
بوابة المروة وساحة المسعى
توسعة خادم الحرمين الشريفين
بداية التوسعة السعودية
ساحة المطاف
زخارف الواجهات الخارجية
سطح الحرم وساحة السعي
كسوة الكعبة

مخطط مقارن للمسجد
إضافة دار الندوة
مسقط للحرم المكي
مسقط أفقي بعد توسعة
مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ
المنطقة المحيطة والأراضي المنزوعة
المنطقة المركزية والخط الدائري
الأحياء الملتفة حوله
الأجزاء المضافة
المخطط بعد العمارة العثمانية
التأثير على المحيط العمراني
التوسعات في عهد المهدي العباسي
الحرم في عهد عمر بن الخطاب
الحرم في عهد قريش
الركن اليماني
الشوارع والطرق
الكعبة بعد العمارة العثمانية
توسعات في عهد الملك عبدالعزيز
توسعة أبو جعفر المنصور
توسعة المهدي
توسعة الوليد بن عبدالملك
توسعة عبدالله الزبير
تصور لمسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم




المبحث السابع

المبحث السابع

الحرم النبوي الشريف والتوسعات الثالثة حتى السابعة

وأثر توسعات الحرم على البيئة العمرانية للمدينة المنورة

أولاً: التوسعة الثالثة

المسجد النبوي الشريف، في عهد عثمان بن عفانt، (24 ـ 35هـ/644ـ 656م)

برزت الحاجة إلى توسعة المسجد النبوي الشريف وشكا الناس إليه ضيقه وما يعانونه من شدة الازدحام، لإضافة إلى تفتت بعض جذوعه. وروى أبو داود عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: إن مسجد النبي r، كانت سواريه على عهد رسول الله r، من جذوع النخل، وأعلاه مظلل بجريد النخل. ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكرt  فبناها بجذوع النخل وبجريد النخل. ثم إنها نخرت في خلافة عثمان t فبناها بالآجر. وفي هذه النصوص ما يدل على أن أهم الأسباب التي دفعت عثمان t إلى توسعة المسجد النبوي الشريف هو ضيقه وسوء حالة أعمدته (سواريه) المقامة من جذوع النخل.

الخطوات التي اتخذها عثمان t في توسعة المسجد النبوي الشريف

1. الشورى

لما شكا الناس إلى عثمان t ضيق المسجد، وطلبوا منه أن يزيد فيه، رأى أن يستشير أهل الرأي من صحابة الرسول r، قبل أن يفعل شيئاً، فعرض عليهم الأمر وطلب منهم المشورة. وفي الصحيحين: لما أراد عثمان t بناء المسجد، كره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال: إنكم قد أكثرتم وإني سمعت رسول الله r يقول ]‏مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، ‏قَالَ ‏بُكَيْرٌ ‏حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّه، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 828). لعل الذي كره الصحابة من عثمان t بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسعته.

2. تجديد المسجد النبوي في عهد الخليفة عثمان بن عفان t بتوجيهه

ولما آلت الخلافة إلى عثمان بن عفان t سنة أربع وعشرين من الهجرة، كلمه الناس في أن يزيد المسجد النبوي، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، فشاور أهل الرأي من الصحابة في ذلك فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصعد عثمان المنبر ليعلم الناس فقال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه: أيها الناس إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله r وأزيد فيه. وأشهد لقد سمعت رسول الله r يقول: ]‏مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 828). وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب t كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله r فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه.

3. الشكل الهندسي لزيادة عثمان t

تطور عمران المسجد في زيادة الخليفة عثمان t وفي تجديده للمسجد، فهو لم يجدده باللبن، ولم يجعل عمده من الخشب وسقفه من الجريد، بل جعل بنيانه من الحجارة المنقوشة والقصة (اللياسة)، وجعل عمده من الحجارة المنقورة، أدخل فيها حديداً وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها. أما سقفه، فقد جعله من الساج. وتطور عثمان بهذا البناء، فقد أحدث فيه فكرة المتانة والبقاء. ولم يزد عثمان من ناحية المشرق لأن بيوت النبي  كانت ما تزال قائمة وكان من أزواجه من لا يزلن يقمن بها وكان أقرب هذه البيوت بيت عائشة الذي دفن به رسول الله وخليفتاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، لذلك لم تكن الحجرة النبوية في المسجد ولم يكن به موضع معين آنذاك للروضة إلا ما حدده الحديث. وبقي المسجد على تجديد عثمان t إلى سنة ثمان وثمانين من الهجرة. وذلك مما يدل على متانة بنائه في عهد الخليفة المذكور.

4. طريقة الإنشاء

أما عن طريقة الإنشاء، فقد اختلفت عن السابق، حيث حل الحجر محل الطوب اللبن، فبُني المسجد بالحجارة المنحوتة (المنقوشة) والجص (القصة)، وبنيت أعمدته من الحجر المنحوت أيضاً وضعت بها قطع من الحديد مغطاة بالرصاص المصهور، وذلك لتثبيت حجارة الأعمدة مع بعضها، وقد وضعت الأعمدة الحجرية في نفس أماكن الأعمدة الخشبية، أما السقف فقد عمل من خشب الساج، محمولاً على جسور خشبية، ترتكز على الأعمدة، كذلك عملت رقة (بياض) على الحائط، من الجص أيضاً. وعمل بالحائط الشرقي والغربي فتحات (طيقان) يغلب الظن أنها كانت في الجزء العلوي من الحائط. وقد أمكن التعرف من خلال رواية خارجة بن زيد أن المشرف على البناء هو زيد بن ثابت. وقد احتفظ المسجد بالأبواب الستة التي كانت في عهد عمر بن الخطاب.

5. اتخاذ عثمان t المقصورة

لم تعرف المقصورة في عهد الرسول r، ولا في عهد أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. بل عُرفت بعد ذلك، فقد روى ابن شبة وابن زبالة: أن أول من عمل المقصورة بلبن عثمان بن عفان t، وأنه كانت توجد كُوى (طاقات) ينظر الناس منها إلى الإمام. وروي عن مالك بن أنس t أنه قال: لما استخلف عثمان بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عمل عثمان t مقصورة من لبن، فقام يُصلي فيها للناس، خوفاً من الذي أصاب عمر بن الخطاب t وكانت صغيرة.

ثانياً: التوسعة الرابعة

أمر الوليد بن عبد الملك عامله بالمدينة عمر بن عبدالعزيز t، بإعادة بناء المسجد النبوي الشريف مع إدخال حجرات أمهات المؤمنين فيه، ومن بينها حجرة السيدة عائشة رضي الله عنهن. وقد أثر ذلك على أهل المدينة لحبهم للنبي r وزوجاته، ويبدو لي أن رغبة الوليد في الزيادة لمسجد الرسول r، كانت بسبب ضيق المسجد في عهده، حيث ذكر أن المصلين استخدموا تلك الحجرات للصلاة فيها يوم الجمعة، من كثرتهم وشدة الزحام بالمسجد، وكانت تلك الحجرات من الجهة الشمالية الشرقية للمسجد النبوي الشريف.

وأفاد الطبري بأنه تم تعيين صالح بن كيسان، للإشراف على الهدم والقيام بأمره والصرف على تلك الأمور وقد تم الهدم بواسطة عمال من المدينة المنورة، أما عمال البناء فقد أرسلهم الوليد إلى المدينة في ربيع الأول سنة 88هـ، في الوقت الذي كان عمر بن عبدالعزيز قد انتهى فيه من هدم المسجد، فبدأ بالبناء وعمل الأساس بالحجارة. ولما وصل البناء إلى جدار القبلة دعا عمر t شيوخ المدينة من المهاجرين والأنصار والعرب والموالي وقال لهم: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، ولا تقولوا غَيَّر عمرt  قبلتنا فجعل لا ينزع حجراً إلا وضع مكانه حجراً وذلك حرصاً منه على تحديد قبلة المسجد، كما فعل السلف من قبله.

الاهتمام بالجودة: اهتم عمر بن عبد العزيز t بسواري المسجد، وأمر بأن يجعل أسفل السواري ما يستر رجلين من المصلين، ويتسع لإسناد اثنين من الجالسين إليها، وجعل لسطح التوسعة ميزاباً، وهو أول من أحدث ذلك، كما جعل لسطحه شرفات. كما أمر مولى لحويطب ـ اسمه سعد ـ أن يكتب على جدار القبلة سورة الفاتحة، ومن سورة الشمس إلى آخر سورة الناس. وبلغ من حرص عمر t، أنه كان يتفقد أعمال البناء بنفسه. وكان يراقب العمال وهم يعملون بداخله وبخاصة العمال، الذين كانوا يعملون الفسيفساء، فيكافئ محسنهم ويعاقب مسيئهم، حتى كان العامل الذي يصنع شجرة كبيرة من الفسيفساء ويحسن عملها يعطيه ثلاثين درهماً، حتى كان المسجد في أبهى صورة وأجمل منظر. وبنى عمر بن عبدالعزيز t في المسجد مقصورة ليصلي فيها الإمام، وأبدع بناءها وجعلها من ساج، وزخرف سقفها بالفسيفاء، حتى أن الوليد لما رأى سقف المقصورة، وهو يتفقد المسجد بعد أن انتهى البناء، قال لعمر t: ألا عملت السقف كله مثل هذا فقال عمر t: إذن تعظم النفقة جداً، فقد أنفق على جدار القبلة وما بين السقفين خمسة وأربعون ألف دينار.

1. طريقة الإنشاء، استخدام السقف المزدوج

أما طريقة الإنشاء، التي عمل بها عمر بن عبدالعزيز، فقد عمل الأساس من الحجارة وعمل الجدار من الحجارة المنحوتة (المطابقة)، واستعملت النورة (الجير الكلس) والقصة (جص)، وعملت الأعمدة من قطع الحجارة المنحوتة، رُبطت مع بعضها بالحديد المغطى بالرصاص المصهور، تحمل في أعلاها جسوراً خشبية، ترتكز مباشرة على تيجان الأعمدة وتحمل الجسور سقفاً من خشب الساج، وكان للأعمدة قواعد مربعة وتيجان مذهبة، وكسي عظم الأعمدة بطبقة من المادة، التي تصقل وتلمع حتى تظهر، وكأنها رخام أبيض. وقد كان للمسجد سقفان: أحدهما فوق الآخر، فأما السقف السفلي فكان ارتفاعه ثلاثة وعشرون ذراعاً (11.50م) والعلوي على ارتفاع 25 ذراعاً (12.50م). ولعل الذين تولوا عمارة المسجد النبوي الشريف، حرصوا على أن يكون له سقفان لمقاومة الأحوال الجوية في كل الحالات. كما كانت حوائط المسجد قوية وعريضة فقد بلغ عرض الحائط الغربي ذراعين إلا قليلاً (حوالي 95 سم) وأما الحائط الشرقي فكان عرضه ذراعين وأربعة أصابع (حوالي 110 سم). وكان السبب في هذه الزيادة أن الحائط الشرقي كله في ناحية السيل، ولقد تسبب هذا السيل في انهيار الحائط الشرقي، ونجم عنه أن سقط جدار الحجرة الشريفة؛ ولهذا جعلوا سمكه عند البناء أكبر من سمك الجدار الغربي.

2. أعمال التكسية

أما عن أعمال التكسية، فقد أفاد ابن عبد ربه "وقد أخذ وجه السور القبلي من داخل المسجد بإزار من رخام من أساسه إلى قدر القامة منه (1.75م)، وكف (لف) على الإزار بطوق رخام في غلظ الإصبع (2سم) ثم فوقه إزار دونه في العرض، مخلق بالخلوق (عجينة ذات رائحة طيبة لونها أحمر)، ثم فوقه إزار مثل الأول (1,75م) فيه أربعة عشر باباً (يقصد شباكاً) في صف من المشرق إلى المغرب في تقدير كُوى (شبابيك) المسجد الجامع بقرطبة، منقشة مذهبة، ثم فوقه إزار رخام أيضاً فيه صنيفة سماوية، فيها خمسة سطور مكتوبة بالذهب، بكتاب ثخين غليظ قدر إصبع (2 سم) من سور قصار المفصل، ثم فوقه إزار رخام مثل الأول الأسفل (1.75م)، فيه ترسة من ذهب منقشة، وبين كل ترسين فيها عمود أخضر، في حافاته قضيبان من ذهب، ثم فوقه إزار رخام فيه صنيفة منقشة، عرضها مثل عظم الذراع (25سم) لها قضبان وأوارق من ذهب، ثم فوقه إزار فسيسفاء عريض، ثم السماوات (الأسقف) عليه. والمحراب في موسطة السور القبلي، على قوسه قصة من ذهب ناتئة غليظة في وسطها مرآة مربعة، ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها.

وقد أحدثت العمارة الأموية تغييرات في الحجرة الشريفة، وكذلك في المنبر، كما أدخلت عنصرين على المسجد، لم يُعرفا فيه من قبل، وهما المئذنة والمحراب ونجمل ذلك توضيحاً كما يلي:

3. الحجرة الشريفة

فأما التغييرات التي أحدثتها العمارة الأموية في الحجرة الشريفة، فهي بناء جدرانها بالحجارة المنحوتة البازلتية ولم يعمل بها أبواب، وبني حولها مخمس الأضلاع، وأضلاعه غير متساوية وكانت الجدران الخارجية المذكورة لا تصل إلى سقف المسجد، ولكنها كانت أقصر منه بمقدار ذراعين (1 م) وكان لها شباك من خشب، ووضع أعلى سقف الحجرة الداخلية مشمعاً (وقاية لها من الأمطار). وكان الجدار الخارجي الغربي ملاصقاً للجدار الداخلي والجدار الشرقي الخارجي بينه وبين جدار الحجرة مقدار (50 سم) من الجهة الشمالية ويضيق من الجهة الجنوبية (15 سم)، وجدار السور الجنوبي بينه وبين جدار الحجرة (50 سم) من جهة الشرق ويضيق من جهة الغرب حتى يصل إلى (20 سم). وأما جدار الحجرة الشمالي، فكان بينه وبين رأس المثلث الناشئ من السور مقدار (4 م). وعلى سطح المسجد، عمل سور في أعلى منطقة القبر حتى لا يتمكن أحد من السير عليه.

4. المنبر

وأما التغييرات التي أحدثتها العمارة الأموية في المنبر، فهي زيادة عدد درجاته ست درجات حتى بلغ تسع درجات. وكان ذلك على يد مروان بن الحكم والي معاوية على المدينة. وعمل للمنبر باب على هيئة شباك. ويصف ابن عبد ربه المنبر إذ يقول: (المنبر على يمين المحراب في أول البلاط "الرواق") الثالث من المحراب (المحراب في حائط القبلة)، في روضة مفروشة من الرخام محجوز به حولها، وله درج وسمر أعلاه لوح حتى لا يجلس عليها أحد، أي على الدرجة التي كان رسول الله r يجلس عليها وهو مختصر ليس فيه من النقوش ودقة العمل ما في منابر زماننا الآن.

5. المئذنة

وأما المئذنة (المنارة) فقد أحدثها عمر بن عبد العزيز في عمارة الوليد للمسجد النبوي، الشريف فجعل في كل ركن من أركان المسجد مئذنة مربعة. قال كثير بن حفص: وكانت إحدى المنارات الأربع مطلة على بيت مروان بن الحكم (وهو منزل بني أمية عندما يأتون إلى المدينة ينزلون فيه)، فلما حج سليمان بن عبدالملك أذن المؤذن فأطل عليه، فأمر سليمان بهدم هذه المئذنة فهُدمت حتى سويت بظهر المسجد. وظل المسجد النبوي الشريف بالمنارات الثلاث. وحُدد طول كل منارة بالتالي:

·   طول المنارة الجنوبية الشرقية خمسة وخمسون ذراعاً (27.5م).

·   طول المنارة الشمالية الشرقية خمسة وخمسون ذراعاً (27.5م).

·   طول المنارة الشمالية الغربية ثلاثة وخمسون ذراعاً (26.5م).

وحدد عرض كل من المنارات المربعة، بأنها ثمانية أذرع في ثمانية أذرع (4م × 4م). وظلت هذه المنارات الثلاث حتى عام 580هـ، عند زيارة ابن جبير للمدينة المنورة، حيث وصفها بقوله: "وللمسجد النبوي الشريف ثلاث صوامع، إحداها في الركن الشرقي على هيئة صومعة، والاثنتان في ركني الجهة الجنوبية صغيرتان، كأنهما على هيئة برجين".

6. المحراب

ذكرنا فيما سبق أنه لم يكن للمسجد النبوي الشريف محراب مجوف، لا في عهد المصطفى r، ولا في عهد الخلفاء الراشدين من بعده، وتشير النصوص الواضحة والصريحة والمؤكدة في المصادر التاريخية إلى أن المحراب المجوف الأول كان في المسجد النبوي الشريف في عمارة الوليد الأموية على يد عامله عمر بن عبد العزيز والي المدينة المنورة عام 88 ـ 91هـ. فقد جعل عمر بن عبد العزيز المحراب، وشارك المسلمون في تحديد القبلة لدعوة عمر بن عبد العزيز إياهم "تعالوا احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا غير عمر قبلتنا"، فجعل لا ينزع حجراً إلا وضع مكانه حجراً. ويعطينا ابن عبد ربه وصفاً للمحراب وطريقة صنعته فيقول "قبو المحراب مقدر جداً، وفيه دارات (حنيات)، بعضها مذهب وبعضها خمري وأسود، وتحت القبو صُفَّة ذهب منقوشة تحتها صفائح من ذهب مثمنة، فيها جزعة (عقيق) مثل جمجمة الصبي الصغير مسمرة ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلق بالخلوق، فيه الوتد الذي كان النبي  rيتوكأ عليه في المحراب الأول عند قيامه من السجود، وعن يمين المحراب باب يدخل منه الإمام ويخرج، وعن يساره باب صغير مشطرج، وقد سد بعوارض من حديد وبين هذين البابين والمحراب ممشى مسطح لطيف.

7. أبواب المسجد

احتفظ المسجد النبوي الشريف بالأبواب الأربعة الرئيسية وهي: باب السلام وباب الرحمة بالحائط الغربي وباب جبريل u وباب النساء بالحائط الشرقي إلى ما قبل مشروع توسعة وعمارة آخر الزيادات التي تمت في عهد الدولة الأموية، والتي جمعت بين متانة العمارة وأناقة الفن المعماري الإسلامي البديع.

زاد الخليفة الوليد بن عبد الملك، في مسجد رسول الله r، من الناحية الغربية والشرقية والشمالية. وكثير من المؤرخين يرى أن زيادة الوليد كانت من الناحية الغربية فقط. كما أدخل دور زوجات الرسول r في المسجد. فبنى الوليد المسجد من الحجارة المنقوشة، وجعل سواريه من الحجارة المطابقة، وخُشِّبَتْ بالحديد والرصاص، وزخرف حيطانه.

ثالثاً: التوسعة الخامسة

1. تظليل الحصوة

بقى المسجد النبوي الشريف على حاله بعد عمارة الوليد بن عبد الملك له عام 88-91هـ، والتي كانت العمارة الوحيدة في العصر الأموي. فلما تولى العباسيون أمر البلاد وآلت الخلافة إليهم، همَّ أبو جعفر المنصور بتوسعة المسجد النبوي الشريف، إلا أنه توفي ولم يزد فيه، إلا أنه لما قدم قبل وفاته إلى المدينة المنورة عام 140هـ، أمر بوضع ستور لصحن المسجد فوضعت على عمد لها لتقي الناس من حر الشمس، فكانت الريح تدخل بينها وتسقطها على المصلين فأبدلها بستور أقوى موثقة بحبال أكثر متانة، وبذلك يكون المنصور أول من قام بتظليل رحبة المسجد.

الإشراف على التنفيذ: لما تولى المهدي الخلافة وحج سنة 160هـ، زار المدينة المنورة، ورأى ما عليه المسجد النبوي الشريف، فأمر بالزيادة فيه وأزال المقصورة التي كانت فيه. وعهد المهدي ببناء هذه الزيادة لعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبدالعزيز، وعبدالملك بن شيب الغساني، فمات عبد الله بن عاصم، فولي مكانه عبدالله بن موسى الحمصي. وعين المهدي عامله على المدينة المنورة، جعفر بن سليمان بن عبد الله بن عباس، مشرفاً على العمارة (اُنظر شكل التوسعات في عهد المهدي العباسي).

وبدأ العمل في التوسعة سنة 161هـ بهدم زيادة الوليد الشمالية وأعادها مع زيادة قدرت بخمسة وخمسين ذراعاً. وأدخل تعديلات كثيرة على هذا الجزء من المسجد ونقشه بالفسيفساء. وقد وجدت شواهد على ذلك في مؤخرة المسجد عند المنارة الشمالية الغربية، وكذلك في الحائط الغربي القريب من هذه المنارة، حيث شوهدت بقايا الفسيسفاء. كما أمر المهدي بهدم المقصورة الأموية، وخفض منسوب أرضيتها إلى منسوب أرضية المسجد. وقد احتوى المسجد بعد هذه الزيادة على 17 عموداً في الاتجاه الموازي لحائط القبلة، و28 عموداً في الاتجاه الموازي للحائط الشرقي والغربي. وكان بالمسجد خمسة أروقة بالجناح الجنوبي (جناح القبلة) وخمسة أروقة بالجناح الشمالي وثلاثة أروقة بالجهة الشرقية وأربعة بالجهة الغربية.

أما الواجهات على الصحن، فكان بالواجهة الجنوبية والشمالية 11 عقداً، وبكل من الواجهة الشرقية والغربية 19 عقداً. وقد وضع في الجزء العلوي من فتحات العقود حواجز خشبية يغلب الظن أنها للحماية من الشمس. واستخدم في هذه الزيادة الرخام، فقد كسيت الأعمدة بالرخام وكانت على قواعد مربعة ورؤوسها مذهبة ومنقوشة بالفسيفساء في الجدران الشمالية والجنوبية، بينما الجدران الشرقية والغربية، كانت بيضاء مقرنصة، وكانت مدة العمل خمس سنوات.

2. أبواب المسجد

جعل المهدي للمسجد النبوي الشريف أربعة وعشرين باباً، موزعة كالآتي:

·   8 أبواب في جدار الحائط الشرقي.

·   8 أبواب في جدار الحائط الغربي.

·   4 أبواب في جدار الحائط الشمالي.

·   4 أبواب في جدار الحائط الجنوبي (القبلة).

وكانت أبواب الجدار الجنوبي مخصصة للدخول والخروج منها، فباب يدخل منه الأمراء ناحية دار مروان، وباب يسار القبلة يدخل منه إلى المقصورة، وباب يمين القبلة (باب بيت القناديل) وباب في قبلة المسجد يخرج منه السلطان إلى المقصورة.

زاد الخليفة المهدي العباسي، بن أبي جعفر المنصور في مسجد رسول الله r، من سنة مائة وواحد وستين إلى عام مائة وخمسة وستين هجرية، فأدخل فيه دار مُليْكَة ودار شرحبيل بن حَسَنَة، والباقي من دار القرّاء ودار المسْور بن مخرمة، وكانت هذه الدور شمال المسجد النبوي، فأدخلها فيه وعوض أهلها، وزخرف المهدي المسجد بالفسيفساء. ومنذ ذلك الحين لم تجر للمسجد النبوي زيادة تُذكر، بعد زيادة المهدي العباسي، إلا أنه في سنة ستمائة وأربع وخمسين هجرية، عندما شبّ حريق أتلف الكثير من المسجد وعلم الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد بذلك، بادر بعمارة المسجد النبوي، في عام ستمائة وخمسة وخمسين هجرية. ولكن سقوط بغداد وقتل الخليفة العباسي، حال دون إتمام عمارة المسجد.

3. الإصلاحات والتجديدات الأولى

قام خلفاء المسلمين بمصر واليمن بالتعاون على إعادة بناء المسجد النبوي، وذلك من دون زيادة فانتهت هذه العمارة في عهد الظاهر بيبرس، ثم رمم الناصر محمد قلاوون سقف المسجد من الجهتين الشرقية والغربية، وزاد رواقين في القسم الجنوبي. وفي عام ثمانمائة وأربعة وخمسين جدد جَقْمق بعض أجزاء سقف المسجد، وتلا ذلك عدة تجديدات للسلطان الأشرف قايتباي.

4. حريق المسجد النبوي في المرة الأولى

وفي سنة أربع وخمسين وستمائة، ترك موقد المصابيح مشعلاً في مخازن المسجد النبوي، فامتدت النار منه إلى ما حوله، وتعلقت بحصر وبسط وأقفاص قصب كانت في المخزن، فامتد اللهب إلى سقف المسجد وامتدت النار منه إلى المسجد كله، فلم تُبق منه على خشبه واحدة.

وكان أمير المدينة آنذاك الأمير منيف بن شيحة الحسيني، فأقبل ومعه معظم أهل المدينة ليطفئوا الحريق المذكور فلم يقدروا على ذلك، ولم يسلم من هذا الحريق سوى قبة كانت بصحن المسجد عُملت في القرن السادس الهجري لحفظ ذخائر الحرم مثل المصحف العثماني وبعض صناديق أودعت فيها هذه الذخائر. أما عمد المسجد، فبقيت قائمة كأنها جذوع النخل تتمايل إذا هبت الريح وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت.

5. المستعصم وأمير المدينة

كتب أمير المدينة إلى المستعصم بالخبر، فاهتم المستعصم بذلك، وأرسل الآلات مع الصناع ولم يبد رأياً فيما يصنعون، فقد كان مهتماً بصد التتار عن بغداد بعد أن استولوا على أعمالها؛ لذلك اضطرب الصناع الذين بعثهم المستعصم وكذلك أهل المدينة واختلفوا ما يصنعون في الحجرة هل يذرون ما سقط فيها، أو يرفعونه جميعاً حتى يبلغوا سطح الأرض إلى التراب الذي فوق القبر الشريف؟ وقد انتهى رأيهم إلى ترك ما سقط مهابة لساكن الحجرة صلوات الله وسلامه عليه. قال السمهودي: إن الواجب، في سلوك الأدب مع النبي العظيم، هو إزالة ذلك عن قبره الشريف.

6. اشتراك الملك المنصور مع المستعصم

واشترك الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحي، بأن أرسل زيادة من المؤن، واشترك أيضاً صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور، بإرساله الأخشاب. وقام أهل المدينة بإشراف الأمير منيف بن شيحة الحسيني يعملون في المسجد بما يستطيعون القيام به وفي أثناء ذلك تم استيلاء التتار على بغداد وقتلوا المستعصم ثم عزل صاحب مصر، وقام فيها مملوك ابن الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، وقتل هذا فيما دون السنة من ولايته. وكان لهذه الأحداث المتتالية أثر واضح في عمارة المسجد النبوي فكانت العمارة تتقدم حيناً وتتأخر وتسير على غير خطة مرسومة واستمر الإبطاء في هذه العمارة ست سنوات أي إلى سنة 660هـ.

7. إتمام الملك بيبرس عمارة المسجد النبوي

لما تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري أمر مصر، وكان ذلك في سنة 660 من الهجرة جهز الأخشاب والحديد والرصاص، وجهز الصناع وما يمونهم وأرسلهم بذلك كله إلى المدينة، وصار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات، حتى أتموا المسجد كما كان قبل الحريق. ولم يزل على الإصلاح المذكور إلى أوائل دولة الملك الناصر محمد بن الملك المنصور بن قلاوون الصالحي.

8. إصلاح الملك الناصر محمد بن قلاوون للمسجد النبوي

ففي سنة 705 من الهجرة أمر الملك ابن قلاوون بزيادة السقف، وبقى المسجد على الإصلاح المذكور إلى سنة 831 هـ. ثم طرأ خلل على زيادة ابن قلاوون فأمر الملك الأشرف برسباي بإصلاح ما حصل من خراب.

وفي سنة 853هـ جدد الطاهر جقمق بعض سقف المسجد، ثم في سنة 879 هـ قام الملك الأشرف قايتباي بعمارة، تناولت بعض سقف المسجد النبوي وعمده وجدرانه ومآذنه.

رابعاً: التوسعة السادسة

1. عمارة قايتباي الأولى للمسجد النبوي الشريف 879 ـ 881 هـ/1474 ـ 1475 م

احتاج المسجد النبوي الشريف إلى عمارة كبيرة، بدأت في عام 879 هـ إلى عام 880هـ / 1475-1476م، حيث هدمت العقود المطلة على الصحن بالجهة الشرقية وبالتالي سقف الرواق ثم أعيدت الأعمدة مع الرصاص، كما تم هدم الحائط الشرقي من بعد المئذنة الشمالية الشرقية (السنجارية) من أساسه وأعيد بناؤه، كما عملت إصلاحات في أساس تلك المئذنة وكانت الأعمال تسير وفق طرق جديدة للبناء والتعمير، إذ عمل أساس الحائط بالطين (الطفلة) والجير (الكلس ـ النورة) والرمل، وأصلح السقف في ذلك الجزء مع تكحيل الحجارة من الداخل والخارج بالجص (الجفصين). وقد أسند أمر العمارة إلى شمس الدين بن الزمن (شمس الدين محمد بن الزمن، أقام المدرسة الزمنية بالمدنية المنورة، تولى إصلاح وعمارة المسجد النبوي الشريف قبل وبعد الحريق عام 886هـ / 1481م. توفي في نهاية عام 897 هـ) ثم توقفت الأعمال لمدة عام لاختلاف الآراء حول تجديد الحجرة الشريفة، وبدأت مرة أخرى في جمادى الأولى سنة 881هـ 21 سبتمبر 1476م، فشرعوا بإشراف ابن الزمن أيضاً في تجديد سقف الروضة المطهرة وقبة القبر النبوي، فرفع سقف الروضة العلوي وبعض السقف غربي المنبر. وكان الإنشاء الأول عبارة عن جسور خشبية ترتكز على دعائم حجرية أعلى تاج الأعمدة واستبدلت الجسور الخشبية بالعقود من الطوب المحروق (الآجر) على نمط عقود الصحن، ونتج عن ذلك رفع سقف هذه المنطقة عن بقية السقف جناح القبلة مع وجود سقفين، كما هو الحال في الأسقف الأخرى، وأصلح السقف السفلي بالرواق الشرقي شرق القبر النبوي وسقف الرواق من باب وباب النساء، وكذلك السقف السفلي أمام القبر النبوي بالجهة الجنوبية وكان عليه اسم الظاهر بيبرس. كذلك أصلحت بعض أجزاء سقف الجناح الشمالي. وقد استقر رأى مشرف العمارة على هدم السقف القديم للحجرة الشريفة واستبدال قبة صغيرة به، بنيت بالأحجار البازلتية وعملت قمتها من الحجر الجيري، طمعاً في متانتها، ورفعوها حتى لامس هلالها السقف الأعلى للمسجد.

أ. حريق المسجد للمرة الثانية

وفي سنة 886 هـ انقضت صاعقة على مئذنة المسجد الرئيسية، وانتقلت النار من المئذنة إلى سقف المسجد فالتهمته وتخطته إلى المسجد، فتهدمت جدرانه وتداعت أكثر أساطينه واحترقت المقصورة والكتب والمصاحف، ولم يسلم من الحريق إلا الحجرة النبوية والقبة التي بالصحن، وهذا كان سبباً لزوال العمارات السابقة.

ب. إصلاح ما أحدثه الحريق بأمر الملك قايتباي وتحت إشراف سنقر الجمالي

لما بلغ خبر الحريق الملك الأشرف قايتباي بمصر، وجه الأمير سنقر الجمالي إلى المدينة ومعه مائة صانع وما يلزم للعمارة. فبدؤوا بالمئذنة ووسعوا المحراب العثماني وجعلوا فوقه قبة، أقاموها على رؤوس الأساطين التي حوله. وجعلوا، على جدر الحجرة النبوية وفوق السقف الذي كان عليها، قبة شادوا فوقها قبة أخرى، أقيمت على الأساطين والدعائم التي زخرفوها وبنوا باب السلام بالرخام الأسود والأبيض وزخرفوه كما زخرفوا، محراباً مجوفاً للرسول  وكان ذلك في دعامة أقاموها بين المنبر والقبر على حد مسجده الأصلي. وزخرفوا هذا المحراب بالرخام الملون وأعادوا ما سوى ذلك من بناء المسجد على صورة تأنقوا فيها غاية التأنق. واستمر الإصلاح الذي للسلطان قايتباي إلى 980 من الهجرة. وقد أنفق الملك قايتباي على العمارة المذكورة نحو ستين ألفاً من الجنيهات. ويلاحظ أن قايتباي هو الذي عمر المقصورة وأدار عليها الشبك الحديد. وكان تمام ذلك سنة 886 هـ.

2. عمارة قايتباي الثانية للمسجد النبوي الشريف 886 ـ 889هـ /1481 ـ 1484م

ظل المسجد النبوي الشريف محتفظاً بعمارة قايتباي الأولى التي جددها له ابن الزمن (معماري المسجد النبوي) في نهاية عام 881هـ /1475م حتى فترة وجيزة، حين احترق المسجد كلياً مرة أخرى بسبب صاعقة أصابت المئذنة الجنوبية الشرقية (الرئيسية) وكان ذلك في 14 رمضان سنة 886هـ 5 نوفمبر سنة 1481م. وعلى الرغم من أن السمهودي لم يكن موجوداً بالمدينة المنورة في أثناء الحريق وخلال الفترة الأولى من إعمار المسجد النبوي الشريف لوجوده في مكة المكرمة، التي سافر منها إلى مصر لزيارة أهله فإنه يعطينا وصفاً دقيقاً لأسباب الحريق وكيفية التغلب عليه، وعملية الإعمار، التي حصلت في المسجد، حيث قطع زيارته وتوجه إلى المدينة المنورة ليشارك في عملية الإعمار.

ويشير السمهودي إلى انه لم يسلم من الحريق غير القبة الداخلية على القبر النبوي الشريف، والتي عُملت في عمارة قايتباي السابقة. واحترق المنبر والمقصورة، وسقطت أكثر عقود المسجد وأعمدته، وما بقي منها فهو آيل للسقوط.

وكتب إلى السلطان قايتباي في مصر، في 16 رمضان 886هـ/ نوفمبر 1481م، الذي هاله الأمر، وأمر على الفور في الشهر ذاته بتنظيف المسجد من آثار الحريق كما أوقف الأعمال، التي بدأ بتنفيذها في الحرم المكي الشريف آنذاك وسُيِّرت آلات العمارة الخاصة بها إلى المدينة المنورة، وأرسلت مجموعتان من العمال:

المجموعة الأولى: تقدر بحوالي مائة صانع من البنائين، والنجارين، والنشائين، والدهانين، والحجارين، والنحاتين، والحدادين، والمرخمين؛ ومعهم المشرف على العمائر في مكة سنقر الجمالي، وأخوه الأشرفي شاهين الجمالي.

المجموعة الثانية: تتكون من أكثر ثلاثمائة صانع حضروا من القاهرة، مع مواد البناء اللازمة، وهي بإشراف شمس الدين بن الزمن، الذي اشرف على العمارة قبل الحريق.

وقد سبق العملَ في إعمار المسجد النبوي الشريف على الفور، البدء بهدم المئذنة الجنوبية الشرقية (الرئيسية) إلى أساسها، والحائط من باب جبريل بالجهة الشرقية إلى باب الرحمة بالجهة الغربية. وأعيد بناء المئذنة على هيئة المآذن المملوكية، وأعيد بناء السور وزيد في سمك الحائط عن السابق قليلاً، وتوسع المحراب في حائط القبلة (المحراب العثماني)، وعملت أعمدة جديدة، في أعلاها عقود من الآجر، تحمل أعلاها سقفاً من الخشب. كما غطي الفراغ أمام المحراب بحائط القبلة، وعملت له قبة وأضيف عمود آخر إلى الأعمدة الحاملة للقبة، وعملت قبة كبيرة على دعائم من الحجر وعقود من الآجر على القبر النبوي الشريف. ونتج عن ذلك ضيق الفراغ بين الحائط الخارجي الشرقي والمباني المستجدة، وهذا ما استلزم زيادة المسطح بهذه الجهة بنحو عرض الجدار السابق، وبقي باب جبريل في مكانه، وأضيفت دعامتان للعمودين بالجهة الشرقية من الغرفة النبوية. وغُطِيَ السقف بين الغرفة النبوية والحائط الجنوبي بقبة كبيرة حولها ثلاث قباب أخرى. وبجوار هذه القباب والمئذنة الرئيسية عمل فراغ للإنارة والتهوية.

وعُمل للمئذنة المذكورة باب في الحائط الغربي بعد أن كان بابها الأول في الحائط الشمالي. كذلك عملت قبتان أمام باب السلام داخل المسجد، وكسي الباب المذكور بالرخام الأبيض والأسود وزخرف زخرفة بديعة، وكذلك القباب أمامه من الداخل. وعمل محراب في مكان المصلى النبوي؟ وكذلك كُسِيَ محراب القبلة (المحراب العثماني) بالرخام الملون، ووضعت مقصورة بشبابيك من النحاس. كذلك عمل منبر ودكة من الرخام، ووضعت دكة بالأروقة الشرقية بين باب النساء ومؤخر المسجد، وأخرى بالأروقة الغربية بين باب الرحمة ومؤخر المسجد أيضاً. كما عملت خزائن بالحائط الشرقي، إضافة إلى فتحات دائرية ومعقودة بالجزء العلوي من ذلك الحائط، وبالحائط الجنوبي أيضا (حائط القبلة). وبني الجدار في منسوب الفتحات بالآجر، بينما الباقي عمل من الحجارة البازلتية. كان سبب عمل الفتحات هو أن العقود قد قللت من الضوء داخل الأروقة، ثم سدت الفتحات في حائط القبلة ماعدا تلك التي في منطقة المحراب العثماني، وعمل للفتحات قمريات بالزجاج، عليها شبك من النحاس. وقد سد الطريق المؤدي من خارج المسجد أمام الشباك (خوخة عمر سابقاً) إلى الرواق الثاني من جهة حائط القبلة (قبو أسفل المسجد)، وذلك في ذي القعدة سنة 888هـ/ 4 ديسمبر 1483م، كذلك غطيت حوائط القبر النبوي الشريف وما حولها بالرخام. وقد بلغ ارتفاع سقف المسجد عن الأرضية 22 ذراعاً (11 م). وقد انتهت الأعمال في سقف المسجد في أواخر أكتوبر 1483م. وفي ذي القعدة  889هـ/ ديسمبر 1484م، حضر بهاء الدين أبو البقاء ابن الجيعان، ومعه الدهانون لدهان سقف المسجد باللازورد. كما زود المسجد بالقناديل والثريات والمصاحف وخزائن الكتب. وعندما قاربت الأعمال على الانتهاء، عمر السلطان قايتباي رباطاً ومدرسة ملاصقين للحائط الغربي للمسجد، بين باب السلام وباب الرحمة، وعمل مئذنة صغيرة عرفت بعد ذلك بمئذنة باب الرحمة.

وقبل الانتهاء من هذه الأعمال، تبين بعد فترة وجيزة، وجود شرخ في القبة العلوية للقبر الشريف، وكذلك بالمئذنة الجنوبية الشرقية (الرئيسية)، فهدمت القبة وأعيد بناؤها، وهدمت المئذنة إلى أساسها، وحفر حتى بلغ منسوب المياه وعمل لها أساس قوي بالحجارة البازلتية، وهي المئذنة التي نراها اليوم. وقد بلغ ارتفاع هذه المئذنة 120 ذراعاً (60 م). وكان العمل في عام 891 ـ 892 هـ/1486 ـ 1487م، وأشرف عليه شاهين الجمالي.

وفي 19صفر سنة 898 هـ/10 ديسمبر 1492م، أصابت صاعقة جانباً من هذه المئذنة (الرئيسية)، تناثر منها بعض الحجارة، وسلم المسجد من الخسارة. وقد أمر السلطان قايتباي بإصلاح الأضرار، التي أصابتها في ربيع الثاني 898 هـ/ 18 فبراير 1493م.

وقد كان المسجد النبوي الشريف، بعد عمارة قايتباي الثانية له، يحتوى على سبعة أروقة جهة القبلة: أربعة أروقة بالجهة الغربية، وثلاثة بالجهة الشرقية، وأربعة بالجهة الشمالية.

وقد أضاف السلطان قايتباي إلى مساحة مسطح المسجد النبوي الشريف مائة وعشرين متراً مربعاً.

وتعتبر هذه التوسعة خاتمة الأعمال في عهد الأشرف قايتباي، بل في عهد دولة المماليك الجراكسة، التي انتهت على يد العثمانيين سنة 923هـ/ 1517م.

3. السلطان سليم الثاني ابن السلطان سليمان والمسجد النبوي

وفي سنة ثمانين وتسعمائة من الهجرة، عمره السلطان سليم الثاني، وشيد به محراباً جميلاً، ويسمى هذا المحراب السليماني. وقد زَين هذا المحراب بالفسيفساء المنقوشة بماء الذهب، وكتب اسم والده على ظاهره بخط الثلث الجميل، ويلاحظ أن بناء المحراب في زمن سليم الثاني والنقش عليه باسم السلطان سليمان. وظاهر من ذلك أن ابتداء عمارة المسجد كان في زمن السلطان سليمان وبأمره؛ ولذلك أحب ابن السلطان سليمان أن يذكر اسم والده بالكتابة على هذا البلاط في هذا المكان الشريف.

4. الإصلاحات والتجديدات الثانية

بعد توسعة قايتباي وعمارة المسجد، لم تجر على المسجد زيادات بل كانت بعض الترميمات، حتى توسعة السلطان عبد المجيد. مضى على عمارة المسجد النبوي، ما يقارب أربعمائة سنة بعد عمارة قايتباي بدون تجديد، فآلت سقوف المسجد للخراب والسقوط فشق ذلك على أهل المدينة المنورة، فأخبروا السلطان عبد المجيد رحمه الله، فأمر، في عام خمسة وستين ومائتين وألف هجرية، ببناء المسجد النبوي من جديد، وعلى أحدث طراز. فجهز المهندسين والخبراء والبناءين والحجارين، بكل ما يلزم لذلك من المؤن والنقود والآلات.