إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحَرمان الشريفان، والتوسعات المختلفة




مآذن الحرم التسعة
واجهة ومئذنة
واجهة ومئذنة أخرى
واجهة ومئذنة القبلة
أحد الشوارع
الواجهات الخارجية
الواجهة الشرقية
المدخل الشمالي الرئيسي
الأسقف الداخلية والعقود المدببة
المظلات وهي مغلقة
المظلات وهي مفتوحة
الأعمدة وقواعدها
الأعمدة في الحرم
التوسعة السعودية الثانية والثالثة
التكامل والانسجام
الحجر الأسود
الروضة الشريفة
العقود المدببة (الأبلق)
القباب المتحركة المغلفة
القباب المتحركة المفتوحة
بوابة المروة وساحة المسعى
توسعة خادم الحرمين الشريفين
بداية التوسعة السعودية
ساحة المطاف
زخارف الواجهات الخارجية
سطح الحرم وساحة السعي
كسوة الكعبة

مخطط مقارن للمسجد
إضافة دار الندوة
مسقط للحرم المكي
مسقط أفقي بعد توسعة
مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ
المنطقة المحيطة والأراضي المنزوعة
المنطقة المركزية والخط الدائري
الأحياء الملتفة حوله
الأجزاء المضافة
المخطط بعد العمارة العثمانية
التأثير على المحيط العمراني
التوسعات في عهد المهدي العباسي
الحرم في عهد عمر بن الخطاب
الحرم في عهد قريش
الركن اليماني
الشوارع والطرق
الكعبة بعد العمارة العثمانية
توسعات في عهد الملك عبدالعزيز
توسعة أبو جعفر المنصور
توسعة المهدي
توسعة الوليد بن عبدالملك
توسعة عبدالله الزبير
تصور لمسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم




المبحث العاشر

المبحث العاشر

الثوابت والمتغيرات في عمارة الحرمين الشريفين، وفضائلها، والتطورات التي أدخلت على عمارة الحرمين

أولاً: دروس مستفادة من مشاريع إعمارهما وتوسعهما على مر العصور

يقصد بالثوابت جميع الاعتبارات الشرعية، التي يجب على المعماري والمخطط الالتزام بها وعدم الحياد عنها، في أثناء عملية التخطيط أو التصميم أو الترميم لأي مشروع، يخص الحرمين الشريفين. أما المتغيرات، فهي جميع ما لا يتعارض مع الثوابت، التي حددها الشرع. عملية تحديد الثوابت والمتغيرات قد تساعد على فهم موضوع الاستمرارية في التراث، الذي ينادي به من مدة طويلة منظرو العمارة والتخطيط. ففهم الثوابت النابعة من التشريع الإسلامي والمتغيرات، التي تمليها علينا الخصائص الطبيعية للمكان (جغرافية أو مناخية)، ومنتجات الصناعة من مواد بناء أساسية، ونظم إنشاء، ومعدات، هدفه راحة الحاج والمعتمر والزائر. فالتقنية على مرور الزمن، تساعد المستخدم للفراغ المعماري على التكييف مع العوامل الطبيعية. والتفاعل الناجح بين الثوابت والمتغيرات، ربما يفسر لنا شكل وتطور الطراز المعماري المنتمي لكل فترة من فترات العمارة للحرمين الشريفين، مما يقودنا إلى التأني في إطلاق الأحكام على الحديث عن الطرز المعمارية والتقنيات المستخدمة وغير المألوفة في الوقت، الذي نمر به ويطلق عليه بالمعاصـرة.

من المؤكد، أن مبادئ وتعليمات الإسلام هي التراث الإسلامي، الذي يجب المحافظة عليه، وليس التراث ماديات تتعلق بنوع من المباني أو نمط من الشكل العمراني. فالمبادئ والتعليمات الإسلامية، لم تقف حجر عثرة في تقدم العلوم وتطبيق نتائجها ومنها العمارة، فأينما وجد المسلمون شجعوا العمارة المحلية للمكان، وأضافوا إليها واستخدموا مواد البناء المتوافرة، والتقنية المحلية، بذكاء، فأبدعوا؛ لأنهم اعتبروا أن الخصائص الطبيعية للمكان ومواد البناء والتقنية من المتغيرات، وليست من الثوابت. فالإبداع في هذا المجال هو انصهار مفاهيم الدين السامية مع الماديات، من دون أدنى تعارض. فهو بحق التجديد، والذي يمكن أن يعرف بالتوجه السلفي. لذا نجد أهل الحل والعقد من المسلمين، على مر الأزمان، لم يعارضوا مواد البناء أو تقنياته. فنجدهم استخدموا أحجار وأعتاب وأخشاب مبان قبل الإسلام، وبنوا بها أجزاء من مباني الحرمين، وخاصة عندما نرى بعض الطرز الإغريقية والرومانية استخدمت في بنائها. وذلك لأنها مواد وتفاصيل، لم تدخل ضمن نطاق المحرم. وتلا ذلك المنتجات المادية المصاحبة للثورة الصـناعية من المواد الصـناعية، وتقنيات البناء والتحكم البيئي. فهذه المواد والتقنيات الجديدة، وما رافقها من تفاصيل بناء، لم تُعَارضْ، مثلما عورضت في أماكن إنتاجها، بل على الفور تبنوها، مادامت صـالحة وتخدم مصـالحهم، ولم تمس الثوابت، التي يدينون بها.

وانطلاقاً من حديث النعمان بن بشير t، قول الرسول r ]الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1910). فالإسلام وضع معياراً لقيم معينة (الحلال). فهو ليس ضد مواد بناء أو طراز عمارة آتية من بلاد غير المسلمين، ما دام لا يدخل ضمن الحرام. ويجب أن لا نقف ضد استخدام التقنية أو مواد البناء الأجنبية، أو الاختراعات الحديثة؛ بحجة أنها غربية أو حديثة. ولكن المعماري أو المخطط الواعي يجب أن يطبق حديث النعمان بن البشير t كمعيار، وأن يفرق بين الأدوات والقيم.

فالإسلام دين عالمي، لا يتقيد بزمان ولا مكان، ولم يقف يوماً حجر عثرة أمام التقنيات أو المواد، أو تحجير وتضييق مفهوم العمارة بزخارف ومفردات سطحية أو مواد دون مواد أو تقنية دون أخرى. فهذا التصنيف والتحجير أتى من كتابات بعض من عنوا بتاريخ العمارة في البلدان الإسلامية، وتبعهم في ذلك من قرأ كتبهم، وتحمس لها، أو درس على أيديهم. فالكثير من هؤلاء المتحمسين يرى أن الطراز الإسلامي، يتمثل في مفردات من العمارة، مثل القبة، والعقد، والمشربية. وهذا يقودنا إلى استنتاج أن هذه المفردات ناتجة من الحضارة الإسلامية، فإذا وجدنا في منطقة عدم استعمالها، أو ضعفاً في استعمال هذه المفردات أو عدمها، فهذا معناه ضعف في إسلامية هذه المنطقة. أي إذا كانت العمارة الإسلامية هي العقود والأقواس مثلاً، فإذا أتينا إلى بيئة ليس فيها عقود أو قبب، مثل منطقة نجد في وسط المملكة العربية السعودية، مثلاً، فهل هذا يعنى أن نشك في إسلامهم؟ فهذا تضييق لمفهوم العمارة الإسلامية، وتحجير عليها أكثر من أن يكون عاملاً للإبداع المعماري.

والازدحام المتلاحق، واكتظاظ المدينة المنورة بالزوار، هو السبب الرئيس، الذي دفع ولاة أمر المسلمين أن يحدثوا النقلات الكبرى في عمارة وتوسعة المسجد النبوي الشريف، إن الأمر لم يقتصر على المسجد ذاته، وإنما شمل ما يحيط به من عناصر وطرق، وخطوط مواصلات، ومنشآت سكنية، تؤمن كلها خدمات للزوار، بما يكفل لهم الراحة، والطمأنينة، والأمن، والسلامة، وسهولة الحركة.

يقصد، بعمارة الحرمين الشريفين، معنيان: الأول إعمارهما المعنوي بالعبادة، والآخر إعمارهما المادي بالبناء، والتوسعة، والإصلاح. وقد واكب عمارة وتوسعات الحرمين الشريفين منذ نشوئها. استخدام تقنييات بناء وتصميم عالية الجودة، وذلك لما لهما من مكانة وقدر عند ولاة أمر المسلمين. ولا يمكن القول إنها خاصة بالحرمين دون ما سواهما، لكن تصميمها بدأ في الحرمين الشريفين. ومن ثم، يمكن تطبيقها في أماكن عدة، لذا يجب أن لا يفهم خطأ، ضمن المجتمع الإسلامي، أن الجديد أو الحديث ليس إسلامياً. فما دامت الثوابت مطبقة، فهو إسلامي صرف. وهذا لا يعني أن الحديث أفضل أو أحسن من القديم، ولكنها صـفات تطلق على الأشياء. فالجديد هو ما لم يكن لنا به عهد سابق، وهو نقيض البالي، والحديث نقيض القديم، فكل جديد حديث، وليس كل حديث بجديد. فكل المباني كانت حديثة ثم أصبحت قديمة، وأيضا كلها كانت جديدة، ثم أصبحت بالية، وهذا لا يفيد أنه جيد أو غير جيد، ملائـم أو غير ملائـم، قبيح أو جميل. ففي تعاملنا مع تسجيل تطبيقات الثوابت في مشاريع الحرمين الشريفين المعمارية، يجب أن ننظر إلى كل مشروع عمارة أو توسعة على حدة، ونعرف الثوابت، التي من أجلها وصل المشروع إلى تلبية حاجة الحجاج والمعتمرين والزوار، وهل حقق الغرض والاحتياجات أم لا؟ وعلى هذا يتم التقويم.

فالثوابت ما أثبته الله ورسوله  r وأجمع عليه المسلمون من الفعل والعمل والالتزام مثل الالتزام، باتجاه المساجد للكعبة، وعدم جرح حرمة الجوار للمؤذن أثناء تأديته الآذان، وإعطاء الطريق حقه، وعدم التصوير للمخلوقات ذات الروح والزخرفة بها، والمتغيرات مثل أشكال الفراغ، ومواد البناء، وتقنيات الإنشاء، والإنارة، والصوت. فإذا تحققت الثوابت في العمارة أصبحت إسلامية، فالتجديد دوماً هو الناتج من تطبيق المتغيرات، مما لا ضرر فيه. كما أن تحديث المتغيرات القديمة ليس به من بأس، مادام يؤدي غرضاً ما ومنفعة لفرد أو مجموعة. أما تحجير العمارة في بلاد المسلمين، بأنها أنماط وأشكال ثابتة، فهذا عين الخطأ. فالإسلام دين عالمي مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فلا يمكن توقيف الأشكال في فترة من الفترات أو تشديد أمر تشكيل المباني أو الفراغ، بالطرز، التي اصطلحوا عليها خطأ بأنها إسلامية وفي نفس الوقت لا يوجد ضرر من استعمالها من قبل المحبين للطرز التي أفرزتها فترة من الفترات.

وقد يكون، من جراء ذلك المفهوم الخاطئ، ربط العمارة الإسلامية بالأشكال الهندسية والزخرفية بدلاً من اعتبار أن العمارة الإسلامية، هي تطبيق الثوابت، التي ينص عليها الإسلام، واستخدام المتغيرات لجلب أفكار وإبداعات معمارية. يمكن، من جراء ذلك، تكوين مفهومٍ جديدٍ للعمارة وصبغها بالصبغة الإسلامية، فإن التوضيح بالنسبة للثوابت مهم للمهتمين، فربما استخدمنا مواد موجودة لدينا أو لدى غيرنا، مثل الحجر والرخام والحديد والزجاج والأسمنت بصبغة متغيرات فالمواد تنتقل من مكان إلى آخر، والتقنية تتطور، وطرق البناء كذلك، والمعالجات تتحسن إلى الأفضل ونحن نتطلع إلى الأفضل، فمن هذا المنطلق يمكن إعطاء مبنى المسجد صبغة إسلامية، عندما يخصص أماكن خاصة لصلاة النساء. فالإسلام لم يكن في يوم من الأيام حجر عثرة في سبيل تقدم أي صناعة، سواء كانت صناعة البناء أو التنفيذ أو إدارة المرافق.

يجب أن لا تضيق ممارسة المهنة أو الأشكال، التي تتشكل بها المباني بزخارف ورموز أو مفردات محددة، يكون منشؤها إما إنشائها كالعقود أو تذكيرياً كالخطوط والكتابات، أو تفخيمياً كالزخرفة والضخامة. نحن لا ندري ماذا سيحصل لصناعة البناء في المستقبل فالإسلام صالح لكل الأوقات والأزمان. لذا ينبغي للمعماريين والمخططين أن يتفهموا احتياج المجتمع أولاً، ومن ثم إيجاد الحلول الملائـمة، ومعالجة المشاكل الناتجة، سواء كانت اجتماعية أو اقتصـادية أو مناخية أو تضاريسية أو تقنية، ويعملوا على ربط التراث بتقنية القرن، الذي يبنى فيه، مع الحرص على المحافظة على الثوابت.

ولكن الأهم من ذلك هو معرفة تزاوج الثوابت مع صـناعة البناء والتقنية، وأن نعرف كيفية التعامل مع الجديد، ضمن إطار الشريعة الإسلامية، حيث لا يجب خلط الأمور وجعل أشياء لا علاقة لها بالإسلام جزءاً من الشرع، وهى ليست منه في شيء، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية في تثقيف المعماريين، واستعمال المصـطلحات والألفاظ الصـحيحة، في النقد والشرح.

كان أسلوب التخطيط، وتقنية البناء والزخرفة، وتقنيات التنفيذ في كل مشروع عمارة أو توسعة للحرمين الشريفين متميزاً عن غيره، وهو الذي تحاول هذه الورقة أن تقوم بدراسته وإظهار المعرفة، وذلك لتسهيل مهمة ربط الحاضر بالماضي، والعمل على الاستمرارية للتراث، وتجنب الفصل القائـم بين الماضي والحاضر وذلك للمحافظة على التراث والاستمرارية فيه.

وقد اهتم خلفاء وسلاطين وملوك المسلمين، على مر العصور، بعمارة وتوسعة الحرمين الشريفين، عند اتخاذ أي قرار، وظلت أعمال الترميم والإصلاح والتجديد، وإدخال الجديد من التقنيات لهما قائمة، على قدم وساق بشكل فاق أعمال أي مبنى آخر على مر التاريخ.

لم يكن المسجد الحرام أو المسجد النبوي، في عهد الرسول r، أو في صدر الإسلام، كما نراه الآن، وإنما هو تطور مادي عبر القرون نتج عن تفاعل موفق بين الثوابت والمتغيرات، أقره ولاة الأمر والعلماء من المسلمين، كما أن المظهر المادي للمسجد نتج عن تمازج الثقافات وتطور تقنيات البناء وخاماتها عبر العالم الإسلامي. ونتيجة لهذه التطورات المتتالية أصبحت هناك عمارة متجددة للمسجدين.

توسعة الحرمين الشريفين ليست بناء هندسياً أو عمارة فنية فحسب، وإن كانت كذلك كما يتراءى للعين، لكنها امتداد للأديان السماوية، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى قيام الساعة، مروراً برسالة الإسلام التي بعث بها خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد r.

الحرمان الشريفان أماكن لعبادة الله سبحانه اختارها الله في أكثر الأماكن قدسية، فهي من أكثر الأماكن ازدحاما، وأكثرها تجمعاً للبشر، من مختلف الألوان، والأجناس، واللغات، والمستويات الحضارية، والثقافية، والمادية. والمطلوب، ممن يقوم بأي عمل حيالها، أن يراعي الجوانب، التي تجعلها تؤدي دورها، بحيث يصل من يؤمها إلى قمة الخشوع والراحة، وهو في هذا المكان الآمن.

نضرب لذلك الأمثلة الناتجة عن زيادة عدد الحجاج والمعتمرين، والتي فرضت قرارات حاسمة وحلولاً مبتكرة، خدمة لهم مثل:

1. عندما أصدر والي مكة، خالد بن عبدالله القسري، أيام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، قراره الصائب باستدارة صفوف الصلاة، بدلاً من كونها خلف الأمام فقط، ضاعف آلاف المرات طاقة الحرم الاستيعابية من المصلين ووسع على أمة المسلمين.

2. التعامل بحكمة مع الثوابت الملموسة الموجودة، مثل ما أمر به الملك سعود بن عبدالعزيز، من طمر لفوهة بئر زمزم وجعلها من المطاف، وعمل درج للبئر يمكن الراغب من الحجاج أو المعتمرين النـزول إليه، وكذلك إزالة المقصورة التي كانت على مقام إبراهيم، والاكتفاء بأقل تحديد للمقام، وذلك تخفيفاً على الطائفين، وتيسيراً لحركة طوافهم.

3. عندما قرر الملك سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله، رفع طوابق عليا فوق الأروقة أو خفض طوابق تحت الأروقة؛ لاستيعاب العابدين والقائمين والركع السجود والحجاج والمعتمرين. وهذه إضافات وابتكارات معمارية، حققت الوظيفة والجمال والتناسق وراحة الحجاج والعمار.

4. عندما أمر الملك سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله، إدخال طريق المسعى بين الصفا والمروة في حدود المسجد المبارك، وكانت الأسواق تكاد تفسد شعيرة السعي، فحفظت هذه الخطوة للشعيرة وقارها واستقلالها، وزادت تيسيراً بإنشاء مسعى بالطوابق العليا.

يكمن الإبداع في عمارة وتوسعة الحرمين الشريفين في الاستخدام الأمثل للفراغ وللتقنيات الهندسية المختلفة (إنشاءً، وإضاءة، وصوتاً، وتهوية، وتبريداً). والتخطيط الناجح لحركة المركبات (دواب أو آليات) والمشاة على اختلاف أنواعها.

كل ذلك يحدث في توافق وانسجام تام، ويوفر الخشوع والراحة والطمأنينة للمسلمين، الذين يتجمعون في هذا المكان، في وقت واحد في الحج والعمرة وفي رمضان. وإذا كانت الأعمال تخلد لأصحابها ذكراً في الدنيا، فإن العمل في هذين الحرمين شرف وعبادة لمن وضع حجراً أو خط خطاً أو أنفق ديناراً، فكيف بمن اتخذ قراراً في أن ُيبْدَأَ في العمل لِعمارة كل من الحرمين المسجد الحرام بيت الله وقبلة المسلمين والمسجد النبوي مسجد الرسول r؟ إنه الشرف في الدنيا والثواب في الآخرة إن شاء الله.

ثانياً: خصائص الحرمين الشريفين

لم يبق أثر معماري ملموس من المسجد الحرام أو مسجد الرسول r، إلا الثوابت، بينما المتغيرات أصبحت تاريخاً لعمارتهما ومصدراً لاهتمام المؤرخين والأثريين، وأقدمهم الأزرقي مؤرخ مكة (ت: 199)، وابن الحسن بن زبالة بكتابه المفقود "تاريخ المدينة وتاريخ مسجدها" (ت: 199 هـ). لكن المؤرخين أكثروا من النقل عنه. وكتابات القرن الثالث نقلها ابن سعد وابن شبة وغيرها. وأهم ما بقي لدينا "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للفاسي، "والدرة الثمينة في أخبار المدينة" لمحب الدين محمد بن محمد النجار (ت: 593 هـ) ثم "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" لنور الدين على بن أحمد السمهودي (ت: 911 هـ)، حققت تلك المراجع توصيفاً، على الوضع الواقعي داخل الحرمين الشريفين على عهد كاتبيها. وهكذا فأساس التخطيط للمسجد الحرام ساحة المطاف، التي تلتف حول الكعبة (اُنظر شكل الركن اليماني). فالكعبة يجمع تفاصيلها من الثوابت، وكذلك بداية أشواط الطواف، التي تنطلق من أهم ركن بها، الحجر الأسود. قام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t، بتسوير ساحة المطاف وإزالة كل ما يلتف حول المطاف من المباني بقوة السلطان، واقتدى به الخليفة الراشد عثمان بن عفان t عندما وسع المسجد الحرام، وبنى t، أول رواق حول المطاف بالمسجد الحرام، وبنى جدرانه بالحجارة، وجعل أعمدته من الحجارة أيضا. أما أساس المسجد النبوي الشريف فهو، كما اختطه رسول الله r، عبارة عن ظلة للصلاة محاطة بحوائط من ثلاث جهات، ورحبة فسيحة بالوسط، وظلة في مؤخر المسجد. ثم وسع المسجد واتصل الجانبان بين الظلتين فيما بعد، وتم زيادة ارتفاع جدارنه حين بناه r سبعة أذرع أي (3.5م). وقد أدخل r على المسجد ثلاث تعديلات في أثناء حياته وهي:

1. أسلوب البناء.

2. تغيير ظلة الصلاة، عندما حولت القبلة من القدس إلى الكعبة.

3. زيادة في مساحة المسجد وارتفاع سقفه. ويؤكد المؤرخون أن ذلك تمّ بعد سبع سنوات من بنائه الأول، عندما ضاق المسجد بأهله، جدد r سقفه في ظلته ثلاثة صفوف من تسع سوار من جذوع النخل، وصلى النبي r في منتصف جدار القبلة في الروضة الشريفة. ويعتبر محراب المسجد لأنه في صدر الصف، والمحراب أساساً هو صدر البيت.

أصلحه أبو بكر t، وزاد عمر t في قبلته وبناه مثل بناء الرسول r، وزاد فيه عثمان t سنة 29 هـ زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالحجارة المنقوشة والقصة (الجص)، وجعل سواريه من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، ونقل إليه الحصباء، وزاد في قبلته بقدر عشرة أذرع، وزاد فيه إلى الشام عشرين ذراعاً، وفي غربه قدر أسطوان أي عشرة أذرع، وجعل له ستة أبواب ونوافذ مرتفعة بالجدارين الشرقي والغربي لمكان الصلاة، ولم تقم على الأساطين عقود بل امتد فوقها السقف على أوتار أو عوارض خشبية.

ومنذ ذلك العهد أصبح مسجد الرسول r بالمدينة أساس تخطيط ونظم المساجد الجامعة، وهو أول عمل للمسلمين بالبلاد المفتوحة، إلى جواره دار الإمارة أو قصر الخليفة.

وجعل البهو أو الصحن الفسيح أساساً، في تخطيط المسجد النبوي، ليكون مصدراً لكفاية الضوء والتهوية داخل مكان الصلاة. وكان بلال مؤذن الرسول يدعو إلى الصلاة من فوق سطح المسجد أول الأمر، ثم بدأ يؤذن من سطح حجرة حفصة زوجة رسول الله r، ويرقى أقتاباً مثل الدرج ويؤذن، ويمكن اعتبارها أساساً للمئذنة.

أما المنبر فملحق بأثاث المسجد، لا يدخل في تخطيطه، حيث ثبت أن الرسول كان يخطب متكئاً على جذع نخلة، إلى أن صنع له ميمون من موالي الأنصار منبراً من درجتين ومقعد. وقد اتخذ المنبر في مسجد الرسول من مرقاتين أو عتبتين. وقيل كان المنبر أولاً من طين قبل أن يتخذ من خشب. أما منبر المسجد فيوجد في الرواق الثالث من إيوان القبلة، وهو موضوع بين محراب النبي والمحراب السليماني المعروف بالحنفي. الأول عن يساره، والثاني عن يمنيه. وتمتد بين المنبر وقبر رسول الله r الروضة، التي يبلغ طولها 22 م، وعرضها 15 م، وتنتهي حدود الروضة من الجهة الجنوبية بحدود المسجد النبوي في عهد الرسول r، وقد وضع سور نحاسي، يفصل بين الروضة وبين حائط المسجد القبلي، أو بعبارة أخرى بين زيادة عثمان بن عفان t، والتي يشغلها الآن رواقان، ويبلغ ارتفاع السور النحاسي، الذي يفصل بين الروضة وحائط القبلة ما يقرب من مترين.

أما المقصورة فيذكر أن أول من استحدثها الخليفة عثمان بن عفان t، سنة 7 أو 8 للهجرة.

والمحراب، وهو صدر جدار القبلة، ومكانه معروف في المسجد النبوي، أيام الرسول r، ويمكن اعتباره محراباً مسطحاً، أما المحراب المجوف فقد استحدثه عمر بن عبد العزيز بالمسجد النبوي، عندما وسع المسجد النبوي، وقت الوليد بن عبدالملك سنة 91 هـ. ويوجد بإيوان القبلة ثلاثة محاريب مجوفة، الأول في حائط القبلة الجنوبي، وهو المعروف بالمحراب العثماني؛ لأنه مبني في الزيادة التي أضافها عثمان بن عفان، في الجهة الجنوبية من مسجد الرسول r. وفي الرواق الثالث من إيوان القبلة، يوجد محراب ثان يعرف بمحراب النبي وذلك لأنه مبني في الضلع الجنوبي للمسجد الذي بناه الرسول r، والمحراب الثالث إلى الغرب من محراب النبي، ويعرف باسم المحراب السليماني، نسبة إلى السلطان سليمان القانوني. وفى الجزء الجنوبي الشرقي من المسجد بإيوان القبلة، توجد الحجرة النبوية الشريفة المحاطة بمقصورة من النحاس الأصفر، يبلغ طول كل من ضلعها الجنوبي والشمالي 16 م، أما الضلع الشرقي والغربي فيبلغ طول كل منهما 15 متراً. وبداخل المقصورة النحاسية بناء ذو خمسة أضلاع يمثل الشماليان منها ساقي مثلث، والثلاثة الباقية تكون أضلاع المربع، وارتفاع المبنى نحو ستة أمتار.

وفي هذا المبنى المتعدد الأضلاع، يوجد قبر الرسول r في الجهة القبلية الغربية، ثم يليه من الجهة الشمالية الشرقية قبر أبو بكر الصديق، ثم إلى الشرق قليلاً قبر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وهذا البناء المقام حول قبر الرسول r وقبر صاحبيه، رضي الله عنهما، هو البناء الذي أقامه نور الدين زنكي، لما بلغه اعتزام الصليبيين، على محاولة إخراج الجسد الشريف، فبنى ذلك البناء، ونزل بأساسه إلى منابع الماء، ثم أفرغ عليه الرصاص حتى لا يستطيعوا له نقباً. وفي شمال المقصورة النبوية، يوجد مقصورة نحاسية متصلة بالمقصورة الأولى، يبلغ ضلعها الجنوبي 14م، أما الضلع الشمالي، فيزيد نصف متر عن الضلع الجنوبي، أما طول ضلعها الشرقي والغربي، فيبلغ 5.7 م. وتسمى هذه المقصورة مقصورة السيدة فاطمة بنت الرسول r، وزوج علي بن أبي طالب، وأم الحسن والحسين، سبطي الرسول r. ويوصل المقصورة الصغيرة بالمقصورة الكبيرة بابان بجدارهما الجنوبي. ويوجد بالمقصورة الكبيرة باب في ضلعها الغربي يسمى باب الوفود أو باب الرحمة، وإلى الجنوب من باب الرحمة، وفي نفس الضلع الغربي للمقصورة الكبيرة، يوجد نافذة تسمى (شباك التوبة). وللمقصورة الكبرى باب آخر في ضلعها الجنوبي، وبالضلع الشرقي، كما يوجد باب سادس في الضلع الشمالي مخصص لدخول الأغوات، لصيانة وتنظيف الحجرة الشريفة.

وفي شمال مقصورة السيدة فاطمة، دكة الأغوات (الصفة)، قيل إنها متهجد النبي r، وهي تواجه الضلع الشمالي للمقصورة الصغيرة. وهي مستطيلة الشكل، يبلغ طولها 12 م، وعرضها 8 م وارتفاعها عن أرض الإيوان القبلي 40سم.

هذا ويوجد بالحجرة الشريفة كذلك، ثلاثة محاريب فضلاً عن محاريب إيوان القبلة التي سبقت الإشارة إليها. وهكذا يصبح عدد محاريب المسجد والحجرة الشريفة ستة. أما عن محاريب الحجرة الشريفة، فهي محراب التهجد وهو خلف حجرة السيدة فاطمة خارج المقصورة النحاسية المحيطة بها، وعلى الحجرة الشريفة من جهة الشمال. ويقال إنه متهجد الرسول r، والمعروف أن تهجده في غير قيام رمضان كان بيته. وقد جدد هذا المحراب في عمارة السلطان عبدالمجيد، وكتب عليه ]وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً[ (سورة الإسراء: الآية 79).

أما المحراب الخامس فهو إلى الجنوب من محراب التهجد، ويعرف بمحراب فاطمة، وهو داخل المقصورة، التي تحيط بحجرة فاطمة. أما المحراب السادس، فيقع إلى الشمال من دكة الأغوات أو مصطبتهم، وهو محراب حديث عمل في العمارة العثمانية، وكان موضعه مصلى شيخ الحرم في العهود السابقة، ويصلى به الآن شيخ الحرم صلاة التراويح.

ثالثاً: الثوابت بالمسجد الحرام

1. ساحة المطاف

بعد بناء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، الكعبة المشرفة، بقيت المساحة حول الكعبة (المطاف) فضاء غير محاطة بجدار، يطوف حولها حجاج وعمار البيت. وقامت حولها الدور المدورة من عهد قصي بن كلاب، الجد الرابع للرسول r. وبعد الفتح العظيم طاف رسول الله r، على ناقته حول البيت، وأكد مبتدأ هذه الشعيرة العظيمة من ركن الحجر الأسود، وجعله من الثوابت، ويسر r على أمته استخدام المركوب أو المنقول، في أداء هذه الشعيرة العظيمة، مثل (الكرسي المتحرك أو السرير المحمول على الأكتاف وخلافه) حتى لو كان الطائف قادراً. اتخذ r المساحة حول الكعبة مسجداً لتأدية الصلوات المكتوبة. وعندما ضاقت هذه الساحة بالطائفين، هدم عمر t بعض الدور حولها، وأقام جداراً قليل الارتفاع؛ ليمنع السائب من الحيوانات دخول هذه البقعة المباركة، ثم وسعها عثمان t وأقام بها رواقاً حولها، ومن بعده عبدالله بن الزبير.

أما الوليد بن عبد الملك الأموي، فقد نقل إليها أساطين الرخام، وأقام السقف وزخرفه، ثم توالت التوسعات إلى يومنا هذا. والمطاف ثابت المكان إلا أن دائرته تختلف باختلاف أعداد الطائفين، فكلما ضاق بهم ازدادت دائرته (اُنظر صورة ساحة المطاف).

هناك العديد من الثوابت في المسجد الحرام أهمها:

2. الكعبة

أول بيت وضعه الله للناس على الأرض، وهو البيت الحرام، القبلة التي اختارها الله للمسلمين يتجهون إليها وقت صلاتهم، حيث يقول سبحانه وتعالى ]إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 96) فهي ثابتة المكان، بجميع التفاصيل الملحقة بها، والتي هي جزء من شعائر الطواف والصلاة.

أما فيما يخص أحجار الكعبة ومواد تسقيفها وكسوتها وأبوابها، فهي من المتغيرات، التي كلما بلي منها شيء وضع مكانه آخر (اُنظر صورة كسوة الكعبة).

3. ثوابت تفاصيل الكعبة

أ. الحجر الأسود

الحجر الأسود مثبت في الركن الشرقي للكعبة، مبتدأ دائرة أشواط الطواف، وقد وضعه رسول الله r في مكانه الحالي، قبل خمس سنين من مبعثه، عندما بنى المشركون الكعبة، واختلفوا فيمن يضعه، واستقر بهم الرأي أن أول من يدخل الحرم له شرف وضع الحجر في مكانه، فكان له r ذلك. (اُنظر صورة الحجر الأسود).ومن عند الحجر الأسود تبدأ أشواط الطواف السبعة. ودائرة المطاف تتسع وتضيق حسب كثافة الطائفين، وما دام الإنسان يرى الكعبة من أي مستوى فدائرة الطواف له اختيارها، لكن محيطها يطول عليه.

ب. الركن اليماني

هو ركن الكعبة المشرفة الجنوبي، وهو يسبق الحجر الأسود في الطواف، ولهذا المكان فضائل عظيمة، ومزايا جليلة، وأعظم فضيلة له هي أن المصطفى  استلمه بيده الشريفة، وكان يفعل ذلك كثيراً فصارت سنة نبوية ثابتة مشروعة؛ ومن فضائله هو والركن الأسود، أنهما لا زالا على القواعد الأولى للبيت التي رفعها إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام.

ج. حِجْر إسماعيل

حِجْر إسماعيل u، هو الحائط نصف الدائري، الواقع شمال الكعبة المعظمة، جعله إبراهيم u عريشاً إلى جانب الكعبة. وهذه الرواية تدل على أن الحِجْر لم يكن من البيت المعظم، وإنما كان خارجاً عنه، غير أنه لما بنت قريش الكعبة، أنقصت من جانبها الشمالي ستة أذرعاً وشبراً على أشهر الروايات، وأدخلته في حِجْر إسماعيل u. ويسمى الحجر أيضا الحطيم؛ لأن الناس يزدحمون على الدعاء عنده ويزاحم بعضهم بعضاً.

د. الملتزم

الملتزم هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وسمي بالملتزم؛ لأن الناس يلزمونه ويدعون عنده، وفضله عظيم، وثبت أنه من المواطن، التي يستجاب فيها الدعاء. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

وقد التزم بين الباب والحجر: هذا والله المكان الذي رأيت رسول الله r التزمه. وقد قال رسول الله r الملتزم ]موضع يستجاب فيه الدعاء، ما دعا اللهَ فيه عبد دعوة إلا استجابها[.

فرض وجود الكعبة المشرفة وسط ساحة المسجد الحرام نمطاً، تخطيطه محدد على مر العصور، فمكانها ثابت وعناصرها ثابتة. وهي مركز الطواف ابتداءً من ركن الحجر الأسود. وشعيرة الطواف هي سنة المسجد، وهي التي حكمت مشاريع كل من عَمَّرَ وَوَسَّعَ المسجد الحرام منذ فعل ذلك عمر بن الخطاب t. فكان ما حدث من إزالة البيوت التي أحاطت الكعبة يومئذ، وإنشاء أول سور للمسجد الحرام، ثم ما كان من توسعة عظيمة وإنشاء أروقة حول المطاف على عهد عثمان بن عفان t، ومنذ ذلك الحين تزداد ساحة المطاف وتزداد الأروقة، تبعاً لازدياد الحجاج والعمار والطائفين والركع السجود.

4. مقام إبراهيم u

قال تعالى: ]فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا[ (سورة آل عمران: الآية 97)، يعني المسجد الحرام. وقال تعالى: ]وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[ (سورة البقرة: الآية 125). وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم u، عند بناء البيت، وأثر قدميه فيه إلى الآن، على رغم تطاول الزمان (اُنظر شكل مقام إبراهيم u). وخلف هذا المقام كان إبراهيم u يصلي، ويفضل أن يؤدي الطائف حول الكعبة ركعتي الطواف خلف هذا المقام إذا لم يكن بذلك مضايقة للطائفين.

إعادة وضع مقام إبراهيم u، في مكانه الذي هو عليه الآن، من عمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t. وذلك أنه جاء سيل أم نهشل، في خلافته سنة سبع عشرة من الهجرة، وكان سيلاً عظيماً، حيث اقتلع المقام من موضعه وذهب به، فلما جف الماء وجدوه أسفل مكة، فأتي به وألصق في وجه الكعبة وربط بأستارها.

وكان عمر t يومئذ بالمدينة، فلما بلغه ذلك هاله الأمر، وركب من ساعته فزعاً إلى مكة فدخلها بعمرة في رمضان من السنة المذكورة، فلما دخل المسجد الحرام ووقف على حجر المقام، قال أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي t: أنا يا أمير المؤمنين عندي علم بذلك. فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت. فقال عمر t: فاجلس عندي. وأرسل إليها فأُتي بها، فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا. فسأل الناس وشاورهم، فقالوا نعم هذا موضعه. فلما تثبت عمر t، من ذلك، أمر به فأعلم ببناء تحت المقام، ثم وضعه، فهو في مكانه اليوم. وعمل هذا الصحابي الجليل أحسن من عمل الكثير من المساحين في توقيع نقطة مهمة من الثوابت في المسجد الحرام.

إن مقام إبراهيم u، شأنه جليل. فهو مقام مقدس لا يستهان بأمره. وهو، والحجر الأسود، يرتبط أمرهما بالكعبة المشرفة إلى أن تقوم الساعة، فخليق بعمرt، أن يحضر من المدينة إلى مكة سريعاً، عندما بلغه خبر السيل، الذي اقتلع المقام من محله، وذهب به إلى أسفل مكة. فخلف هذا المقام يقوم إمام الحرم بالصلاة في الأوقات العادية وصلاة التهجد. أما أوقات الزحام فإن الإمام يصلي في مصلى رسول الله r، بين باب الكعبة وركن الحجر الأسود، والذي يسمى مصلى جبريل أو مصلى آدم عليهما السلام.

من الجدير ذكره، أن موقع المقام وتحديد مكانه، هو من الثوابت الأساسية في الحرم المكي الشريف، ولكن شكل البناء حوله وحجمه من المتغيرات، التي طرأ عليها بعض التغيير مع الزمن وكان آخرها تصغير حجمه للحاجة الضرورية لتوسعة مساحة المطاف.

5. زمزم

هو تلك البئر التي حدث نبعها بمعجزة إلهية. ومنذ ذلك الحين بدأت أفئدة من الناس تهوي إلى السكن قرب المسجد الحرام؛ استجابة لدعاء أبينا إبراهيم u ]رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون[ (سورة إبراهيم: الآية 37)، فمكان البئر ثابت حتى لو غطي بطابق، وأصبح الحجاج والمعتمرون وزوار المسجد يطوفون فوقه.

6. الصفا والمروة

هما جبلان تبدأ من الأول شعائر السعي، وينتهي الشوط السابع منه عند الآخر. ومن جبل الصفا، يمكن للحاج أو المعتمر رؤية الكعبة. وقد فرض الله السعي على الحاج والمعتمر بعد ذلك؛ اقتداء بأم إسماعيل عليهما السلام، حيث قال سبحانه ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 158) (اُنظر صورة بوابة المروة وساحة المسعى).

7. أروقة المسجد

أول من بنى الأروقة هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان t، عندما وسع المسجد. توالى بعد ذلك، بناء الأروقة، واستخدم العديد من تقنيات بنائها، مثل بنائها بالعقود وتسقيفها بالساج المنقوش، واستخدام طبقتين للتسقيف علوية لمقاومة ظروف الجو، وداخلية للتمكين من عمل زخرفة، ونقش عليها، من دون تعرضها لمياه الأمطار؛ ولتخفيف حدة الحرارة بإيجاد سقف مجوف يمكن طرد حرارته قبل نفاذها للداخل، وكذلك استخدام القباب، كما نراها في الرواق العثماني المحيط بالمسجد الحرام من الداخل. وقد استخدمت لأول مرة الطوابق المتعددة للصلاة من طوابق سفلية وعلوية والسطح في عمارة وتوسعة الملك سعود.

8. العناصر الملحقة بالمسجد الحرام

أ. الطابق العلوي للمسعى

واستحدث الطابق العلوي بالمسعى، وهو للحجاج والمعتمرين، في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام، وذلك للتخفيف من الزحام في الدور الأرضي (اُنظر صورة بوابة المروة وساحة المسعى).

ب. مآذن المسجد

تعدد وجود المآذن بالحرم المكي الشريف، منذ عمارة المهدي العباسي، وقد تعددت من أربع منارات إلى سبع، ثم إلى تسع في توسعة خادم الحرمين الشريفين. وقد كان هدفها الأساسي التبليغ للصلاة، حيث كان يرتقى إليها، لذا كان ارتفاعها مناسباً لصعود المؤذن. والمؤذنون يؤذنون بوقت واحد، وبصوت واحد. أما بعد إدخال مكبرات الصوت، فأصبح دورها مكملاً لمكبرات الصوت، وبدأت تأخذ ارتفاعاً شاهقاً، زاد عن 94متراً في مآذن المسجد الحرام الجديدة.

وقد تفنن المعماري المسلم في تصميم المآذن، وأدخل عليها عناصر جمالية تزيد من رونقها، كما أن مصممي الإضاءة أصبحوا يتفننون في إضاءتها، وإسقاط النور عليها.

ج. أماكن المحراب وإقامة الصلوات

هناك العديد من الأماكن التي يوضع فيها المحراب بالمسجد الحرام، ففي الأوقات العادية، يصلي الإمام خلف مقام إبراهيم u، وفي أوقات الزحام مثل الجمع والأعياد، يصلي في مصلى النبي يمين الداخل للكعبة. أما في أوقات صلاة التراويح والقيام، فإن الأمام يفسح المجال للطائفين ويوضع له المحراب قرب الأروقة.

وإذا كان وجود الساتر الذي يقوم به المحراب أو العنزة، يعتبر من الثوابت، فإن مكانه يعتبر من المتغيرات.

وقبل حكم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، كانت تقام أربع صلوات لكل فريضة بأئمة مختلفين (حنفي، وشافعي، ومالكي وحنبلي). وظل إمام الحنفية يبتدئ بالصلاة في جميع الأوقات، يتلوه أئمة المالكية فالشافعية فالحنابلة، إلا في صلاة الصبح، فيبدأ بها إمام الشافعية. ولقد أدت صلاة الجماعات المتعددة إلى الفرقة، وكأنها أديان مختلفة، حتى قام رحمه الله بإصدار قرار إلى تجميع المصلين وراء إمام واحد في الحرمين الشريفين في الصلوات الخمس والتراويح والجمع والأعياد، فجزاه الله خير الجزاء.

د. المكبرية

هي عبارة عن سقيفة مرتفعة، يرتقيها المؤذن، ويتابع تكبير وتحميد الإمام وتسليمه، ليوصل صوته إلى الصفوف البعيدة وموقعها وشكلها يعتبـر أن من المتغيرات.

هـ. الميضأة ودورات المياه

يحرص الكثير من رواد المسجد الحرام أن يكونوا على طهارة دائمة، لذا فكلما قرب مكان الوضوء سهل عليهم هذه المهمة. وقد تعددت أماكن وأشكال هذه الميضآت على مر العصور، وحسب ما تقتضيه أمور التصميم للمسجد.

وقد سهلت تقنيات التغذية والصرف للمياه، وكذلك التهوية للأماكن الرطبة، من جعل الكثير من هذه العناصر في متناول المستخدم. ونرى تكثيف مثل هذه العناصر، في شمال وجنوب المسجد الحرام، وقربها من المداخل المؤدية للمسجد.

و. الساحات

الساحات المحيطة بالمسجد الحرام من العناصر العمرانية، التي ألحقت بالمسجد في التوسعات السعودية، وذلك لما لها من دور كبير في سرعة انتشار المصلين، بعد انتهاء الصلاة وخاصة أيام الجمع والأعياد وصلوات التراويح والقيام. كما أنها تشكل امتداداً لصفوف المسجد في تلك الظروف أما في الحالات العادية، فهي عبارة عن أماكن مفتوحة.