إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اقتصادية / الرأسمالية والاشتراكية واقتصاديات السوق





الدورة الاقتصادية




أولاً: تاريخ النظم الاقتصادية

أولاً: تاريخ النظم الاقتصادية

      تدل دراسة التاريخ الاقتصادي أن المجتمعات التي وصلت اليوم إلى درجة عالية من التقدم الصناعي قد مرت منذ القدم بمراحل مختلفة، إذ بدأت بنظام الاكتفاء الذاتي الفردي حيث كان كل فرد يعتمد على نفسه فقط في الحصول على ما يحتاج إليه. وفي ظل هذا النظام البدائي في فترة ما قبل التاريخ، كان الإنسان يكافح ويجاهد لحماية نفسه من قسوة الطبيعة ولزيادة إنتاج ما يحتاج إليه مع الاقتصاد في مجهوده.

      وتدل دراسة هذا النظام البدائي على أن الإنسان كان يعتمد في صراعه مع الطبيعة على أدوات بدائية وبسيطة. مثل العصي والحجارة المدببة والقوس والبلطة الحجرية في عدة أغراض مثل الدفاع عن النفس وجمع الثمار.

      ثم كانت بعد ذلك مرحلة أخرى من مراحل التطور تميزت بممارسة الزراعة وتربية الماشية والالتجاء إلى الري واختراع المحراث والمنجل والعربة ذات العجلات.

      وقد ساعد اكتشاف النار والمعادن وصناعة الأدوات الإنسان في صراعه مع الطبيعة وقسوتها.

1. النظام الاقتصادي البدائي

      إن الحياة المعاصرة التي نحياها، بكل ما بها من متع وخيرات وأمن وحماية، إنما هي من الأمور الحديثة جداً في تاريخ البشرية. ذلك أن الإنسان عاش الجزء الأكبر من تاريخه في حالة بدائية. فمنذ بدء الخليقة قبل ملايين السنين وهو يواجه الطبيعة بكل ما بها من قسوة، فكان عرضة للزلازل والبراكين والفيضانات والحيوانات المتوحشة، فظل يسعى جاهداً لتحقيق مزيد من الإنتاج؛ لإشباع حاجاته المتعددة.

      وبدأ الإنسان في التجمع والسكن في الكهوف والمغارات والاعتماد في سد حاجاته من الغذاء على ثمار الأشجار، واصطياد الحيوانات والأسماك، وكانت مرحلة اكتشاف النار مهمة للإنسان، إذ جعلته يطهو طعامه وأصبح بإمكانه أن يعيش في مناطق باردة، وحقق لنفسه أداة جديدة يمكن الاعتماد عليها في حماية نفسه من مخاطر الحيوانات المفترسة، وقد كان يعتمد على الأحجار وأغصان الشجر في الدفاع والصيد والقنص.

      وقد تمكن لإنسان البدائي من تطوير هذه الأدوات واستخدامها في تعبيد الأرض لأغراض الزراعة. ومع اكتشاف الزراعة بدأت مرحلة التخصص في الإنتاج والتبادل بين أفراد الجماعة، حيث كان منهم من يعمل بالصيد والرعي، ومنهم من يعمل بالزراعة.

      إلا أن الصيد كان النشاط الرئيس الذي اعتمد عليه الإنسان في ظل النظام البدائي، واستطاع بعد ذلك أن يسيطر على قوى الطبيعة، وانتقل من مزاولة نشاط الصيد البدائي إلى استئناس بعض الحيوانات مثل الماعز والحصان. ثم اتجه بعد ذلك إلى تعلم الزراعة البدائية، واستعان بالحيوانات على حرث الأرض، وكانت الزراعة محدودة. فقد كانت ملكية الأرض على الشيوع، والقوي من الأشخاص في هذه الجماعة البدائية كان يستأثر بنصيب الأسد، ويترك الباقي لمن هو أضعف منه. وطبيعي أن يكون الإنسان البدائي أنانياً وشرساً في معاملاته بفعل قسوة الطبيعة التي يتعامل معها. وشيئاً فشيئاً أصبحت الملكية مقسمة بين القبائل. حيث لكل قبيلة أراضيها سواء مخصصة للري أو مخصصة للزراعة، ولا يشاركها فيها القبائل الأخرى.

      وبزيادة الجهد تمكن الإنسان في النظام البدائي، من تطوير أدوات إنتاجه وزيادة إنتاجيته فأصبح في إمكانه أن ينتج أكثر من حاجته، وبالتالي أصبح هناك فائض ادخار؛ مما أدى إلى تمتعه بالملكية الفردية، وبظهور الوفرة في الإنتاج والملكية الفردية أصبح الإنسان في حاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة المنتجة، وبالتالي لم يعد، في ظل النظام البدائي، يقتل عدوه الأضعف منه، ولكنه استخدمه أسير حرب في الإنتاج. ومن هنا نشأ ما يسمى "نظام الرق" لأول مرة.

2. نظام الرق

      يرجع مفهوم الرق إلى آراء الفلاسفة اليونانيين: أمثال أفلاطون وأرسطو؛ إذ إنهم لاحظوا أن العمل اليدوي في مجال الإنتاج الزراعي والحرفي كان في مرتبة أدنى ولا يليق بالأحرار الذين يعملون بالفكر والحرب والدفاع، وهكذا أصبح كل ضعيف أو مقهور أو مغلوب على أمره ضمن الرقيق، وأصبح كل قوى متمتعا بحقوقه وحريته ومن طبقة السادة أو الأحرار. وفي ظل نظام الرق تطورت أدوات الإنتاج على نحو مكن الإنسان من زراعة نباتات جديدة كالكروم والزيتون.

      في ظل هذا النظام انقسم المجتمع إلى طبقتين متميزتين هما: طبقة الأحرار الذين يتمتعون بكل الحقوق والحريات، وطبقة الأرقاء المحرومين من كل حق أو حرية، ورغم أنهم القوى الإنتاجية البشرية الرئيسة للإنتاج في المجتمع؛ انقسمت طبقة الأحرار إلى فئتين : السادة وهم كبار الملاك العقاريين، وهم في الوقت نفسه كبار ملاك الرقيق، والعامة وهم صغار المنتجين من مزارعين وحرفيين، الذين كانوا يستخدمون عدد محدوداً من الرقيق كذلك.

      بالإضافة إلى هاتين الفئتين كانت هنالك فئة ثالثة تضم الأفراد العاطلين عن كل عمل حيث تتولى الدولة إعالتهم.

      وقد تميز نظام الرق بعدم العدالة في التوزيع، لأن ما ينتجه الرق يذهب بالكامل لصالح سيده، ولا يحصل الرقيق على ما يكفي لسد حاجته الضرورية أو لضمان استمرار حياته.

      وكان الأرقاء جزءاً من وسائل الإنتاج، فهم جزء من أشياء كالأرض والحيوانات والآلات.

      ونتيجة للظروف السيئة التي كان يعيشها الرقيق قاموا بثورات متعددة مطالبين بتحريرهم، إلى أن أدرك السادة أن من الأفضل تحريرهم وإعطاءهم مساحات من الأرض حتى يزداد الإنتاج ويتوفر لديهم الحماس. وهكذا انتهى نظام الرق ليتحول فيما بعد إلى نظام الإقطاع.

3. النظام الاقتصادي الإقطاعي

      ترجع نشأة النظام الإقطاعي إلى عهد الرومان. إلا أن معالمه الحقيقة لم تظهر بوضوح إلا ابتداء من القرن التاسع الميلادي، ووصل إلى قمته خلال القرن الثالث عشر، ثم بدأ بعد ذلك في الاضمحلال تدريجياً. وليس هناك اتفاق بين المؤرخين حول حادث معين أو تاريخ معين لنشأة النظام الإقطاعي.

      بدأ نظام الإقطاع باقتطاع الملاك والأمراء مساحات من الأراضي إلى من يدينون لهم بالولاء، وذلك مدى حياتهم، ثم أصبح ذلك أمراً وراثياً، ويقوم هؤلاء النبلاء الذين حصلوا على الأرض باقتطاع مساحات منها إلى من يدين لهم ولأميرهم وملكهم بالولاء، ومن هنا بدأ الاتجاه نحو تطبيق نظام الحكم المحلي بدلاً من نظام الحكم المركزي، إذ يمكن القول أن الضيعة أو الإقطاعية كانت وحدة سياسية واجتماعية واقتصادية. فهي وحدة سياسية لأن أحد الأسياد أو النبلاء أو رجال الكنيسة كان يملكها ويكون له حق الحصول على دخل منها، وله فيها سلطات واسعة، كسلطة جمع الضرائب وتعبئة السكان وقت الحرب. وتعد الضيعة أو الإقطاعية وحدة اجتماعية؛ لأنها تتكون من مجموعة من الأفراد يعيشون معاً في قرية صغيرة، وتربطهم عادات خاصة بهم. وتعد الضيعة أو الإقطاعية وحدة اقتصادية؛ لأن كل من أفرادها كان يعتمد على مبدأ الاكتفاء الذاتي، حيث يتعاونون في زراعة الأرض وإعدادها للإنتاج ويشتركون في دفع الضرائب للسيد والكنيسة.

      وتدل دراسة تاريخ أوروبا الاقتصادي خلال القرون الوسطى أن المدن القديمة سقطت تحت سلطان السادة الإقطاعيين، وأّرغم أهلها على فلاحة الأرض المحيطة بها، وترتب على ذلك اندثار بعض المدن، وتحول بعضها إلى قرى. ولذلك فإن المرحلة الأولى للإقطاع قد تميزت باندثار معالم المدنية، وسيادة الريف وزيادة أهمية النشاط الزراعي على حساب النشاطين الصناعي والتجاري. وهكذا أصبحت الإقطاعية الوحدة السياسية للنظام الإقطاعي في أوروبا في القرون الوسطى، كما أصبحت كذلك الوحدة الاقتصادية والاجتماعية.

      نخلص مما تقدم إلى أن الزراعة كانت تحتل المركز الأول في اقتصاديات الدول الأوربية حتى منتصف القرن التاسع عشر. وكان الدخل من قطاع الزراعة، حتى ذلك التاريخ، أكبر من الدخل من قطاع الصناعة أو من قطاع الخدمات.

      وقد جرت عادة الاقتصاديين على تقسيم النشاط الاقتصادي إلى ثلاث قطاعات هي: الزراعة، والصناعة، والخدمات. وإذا رجعنا إلى الإحصاءات، نجد أن نسبة المشتغلين بالقطاع الأول كانت أكبر من نسبة المستغلين بالقطاعين الثاني والثالث، وذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر. فمنذ قيام الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأت نسبة المشتغلين بقطاعي الصناعة والخدمات تزداد وفي الوقت نفسه قلت نسبة المشتغلين بالزراعة، وقد اشتهر نظام الإقطاع بنمو الطوائف الحرفية وطبقة الصناع الذين أخذوا على عاتقهم توفير احتياجات المجتمع من الصناعات الحرفية. ويتكون نظام الطوائف الحرفية من عدد من (الأسطوات) أو المعلمين في كل حرفة على حدة. ويقوم (الأسطى) أو المعلم بمباشرة حرفته بمساعده عدد من الحرفيين والصبية.

      وقد تميز العصر الإقطاعي كذلك بنمو التجارة والمدن التجارية؛ مما أدى إلى تكوين طبقة من كبار التجار الأغنياء داخل كل مدينة، وقد ساهمت طبقة التجار والمدينة عموما في تقويض نظام الإقطاع ذاته، فمن ناحية أصبحت المدينة مقصداً للهاربين من وطأة حكم الإقطاع وظلمه داخل الريف، ومن ناحية أخرى كان لدى الأغنياء من تجار المدن المال الذي ساهم في نشأة النظام الرأسمالي.

أولاً: خصائص النظام الإقطاعي

      تميز النظام الإقطاعي الذي ساد أوروبا في العصور الوسطى، بعده خصائص يمكن تلخيصها فيما يلي:

1. كان النظام الاقتصادي يقوم على الإقطاعيات أو الضيعات Manors والإقطاعية أو الضيعة قرية تحوطها الأسوار، وتخترقها الشوارع، ويحدها الفضاء الفسيح من الخارج، وبها كان كنيسة ومبنى كبير يطلق عليه اسم Town Hall. وإلى جانب الحقول المزروعة كانت بالإقطاعية الغابات والمراعى الدائمة. وكانت أراضي الإقطاعية تقسم إلى قطع كبيرة ( كل منها حوالي عشرة أفدنة).

2. اقترن النظام الإقطاعي بالعبودية، وبصفة خاصة في قطاع الزراعة، فأرض الإقطاعية أو الضيعة كانت تقسم إلى قسمين: أرض تخص السيد الإقطاعي وهى تزرع لحسابه، وقد أطلق عليها اسم "الدومين"، والأرض الباقية تقسم إلى شرائح توزع على الفلاحين مقابل ما يؤدونه للسيد من أعمال في أرضه الخاصة، وهذا ما يعرف "بالريع العيني"، ومع نمو المدن عرف ما يسمى بـ "الريع النقدي" الذي كان يدفعه رقيق الأرض. وهكذا نرى كيف أن النظام الإقطاعي قد اقترن فعلاً بالعبودية؛ لأن العبيد الذين كانوا يعملون في الأرض لم يكن لهم حق اختيار العمل أو السيد، بل كان عليهم قضاء خدمات معينة في شكل جزية تدفع للسيد نقداً أو عيناً.

3. تميز النظام الإقطاعي بمستوى منخفض جداً من الفن الإنتاجي، وبساطة تكلفة أدوات الإنتاج المستخدمة وصغرها، أمّا تقسيم العمل فلم يكن موجوداً في ظل هذا النظام إلا في صورة بدائية.

ثانياً: طرق الزراعة في ظل النظام الإقطاعي

      كانت الزراعة تتم بإحدى ثلاث طرق هي:

1. نظام الحقل الواحد One field system

      ويتميز هذا النظام بزراعة جميع المحاصيل في حقل واحدة عدة أعوام متتالية الأمر الذي يؤدي إلى قلة إنتاجية الأرض بسبب نقص خصوبتها فيضطر المزارع إلى الهجرة إلى حقل آخر... وهكذا.

2. نظام الحقلين Two field system

      ويقوم هذا النظام على أساس تقسيم الأرض إلى قسمين، يزرع أحدهما ويترك الآخر بدون زراعة على أن يعكس الوضع في العام التالي.

      ويهدف هذا النظام في الزراعة إلى تجديد خصوبة الأرض، بحيث لا يصبح المزارع مضطراً إلى الانتقال إلى مناطق جديدة، كما هو الحال في ظل نظام الحقل الواحد، مما لا شك فيه أن هذا النظام أقل تبديداً للأرض التي كانت تُعد في ذلك الوقت المورد الرئيس للثروة والدخل القومي.

3. نظام الحقول الثلاثة Three field system:

      وفي ظل هذا النظام كانت الأرض تقسم إلى ثلاثة أقسام مستطيلة الشكل يزرع اثنان منها فقط كل عام، على أن يترك الثالث دون زراعة ليسترد خصوبته، فإذا كان لدينا ثلاثة حقول أ، ب، ج يكون نظام الزراعة كالأتي:

في العام الأول يزرع أ قمحاً، ويزرع ب شعيراً، ويترك ج بدون زراعة.

وفي العام الثاني يزرع أ شعيراً، ويزرع ج قمحاً ويترك ب بدون زراعة.

وفي العام الثالث يزرع ب قمحاً، ويزرع ج شعيراً، ويترك أ بدون زراعة.

      ولا شك أن هذه الطريقة للزراعة أقل تبديداً للأرض من سابقتها. ولكنها، رغم ذلك، تؤدي إلى تبديد جزء من الأرض الزراعية يمثل ثلث الطاقة الإنتاجية ويرجع ذلك إلى جهل المزارعين، في تلك الفترة من التاريخ، بنظام الدورات الزراعية والأساليب العلمية الحديثة للزراعة التي تعتمد بصفة أساسية على المخصبات الكيماوية، وفي ظل هذه الطرق للزراعة التي سادت عصر الإقطاع، كان كل مزارع يقوم بزراعة عدة شرائح متفرقة في القطاعات المتعددة للإقطاعية. والواقع أن تفرق الشرائح التي كانت تخص كل مزارع يرجع إلى عدة أسباب:

ـ يرى بعض المؤرخين أن هذه الظاهرة ترجع إلى فكرة العدالة التي سادت العصور الوسطى والتي ظهر أثرها في تلك الحقبة من التاريخ في جميع نواحي الحياة السياسية والاجتماعية. فعندما كان السيد يوزع أراضي الإقطاعية على المزارعين كان يراعى تساوي أنصبتهم، لا من حيث المساحة فقط، بل ومن حيث درجة خصوبتها كذلك. ولما كانت درجات خصوبة الأرض الزراعية في الإقطاعية الواحدة متفاوتة، كان من الضروري تقسيمها إلى قطع كبيرة ثم تقسيم كل قطعة كبيرة إلى شرائح حسب تفاوت درجة خصوبتها، وتوزيعها على المزارعين بطريقة عادلة. ومن الواضح أن ذلك يؤدي إلى تفرق الشرائح التي يحصل عليها كل مزارع في الضيعة.

ـ وفي رأي فريق ثان أن هذه الظاهرة ترجع إلى أن الأرض الزراعية كانت في بادئ الأمر محدودة، وموزعة جميعها على المزارعين في الضيعة، مما أدى إلى تفرق الشرائح التي كانت تخص كل منهم.

ـ بينما يرى فريق ثالث أن تفرق الشرائح التي كانت تخص كل مزارع في الإقطاعية إنما يرجع إلى فعل عامل الوراثة.

      وكان المزارعون يتبعون نظاماً معيناً للمحافظة على خصوبة الأرض الزراعية، ويتلخص في ترك جزء من الأرض دون زراعة، واستخدام السماد الطبيعي وتنفيذ نظام الدورة الزراعية.

      وكانت الإقطاعية تضم، بجانب الأراضي الصالحة للزراعة، أراضي مخصصة للرعي، يستخدمها الجميع أي النبلاء والعبيد. وكان العرف يحدد عدد الحيوانات التي يسمح بها لكل إقطاعية، أما الأراضي البور في الإقطاعيات فكانت تستخدم لرعي الخنازير، كما كان لكل شخص حقوق معينة من حيث إمكان قطع الأخشاب والوقود في الغابات.

ثالثاً: طبقات المجتمع في ظل النظام الإقطاعي:

      كان المجتمع في ظل النظام الإقطاعي ينقسم إلى طبقتين هما: طبقة العبيد وطبقة النبلاء.

1. طبقة العبيد: يجب التفرقة بين عبيد الأرض والعبيد الذين يتم شراؤهم بالمال، فعبيد الأرض كانت لهم بعض الحقوق على الأرض التي يزرعونها، وكانوا يستغلون جزءاً من الوقت لحسابهم الخاص وكان لهم ـ في بعض الدول ـ حق الهجرة من الضيعة مقابل ترك الأرض التي يزرعونها وكل ما يملكون. وفيما عدا هذه الفوارق البسيطة فعبيد الأرض كانوا في كثير من الأحيان لا يفترقون عن العبيد المشترون بالمال.

      وكانت على طبقة العبيد التزامات كثيرة، فمثلاً: كان على أبنائهم أن يعملوا خدماً بمنزل السيد الذي له حق بيعهم. وكان على العبيد كذلك أن يطلبوا الإذن لهم بالزواج، ولم يكن من حقهم أن يصبحوا من الرجال الأحرار إلا بموافقة السيد، وأكثر من ذلك فقد كان العبيد مرتبطين بالأرض ولا يستطيعون تركها إلا بموافقة السيد.

      إلا أن التزامات العبيد كانت تختلف من دولة إلى أخرى: فمثلاً، كان العبيد في ألمانيا ملزمين بالخدمة في منزل السيد حتى سن الخامسة والثلاثين، بينما كانوا في روسيا ملزمين بالخدمة في منزل السيد مدى الحياة، وفي فرنسا كانوا ملزمين بدفع جزية إلى سادات الإقطاع بالإضافة إلى إيجار الأرض. أما الطبقات القادرة مثل النبلاء ورجال الكنيسة فقد تهربوا من دفع الجزء الأكبر من الضرائب، وأصبحت الطبقات الفقيرة هي التي تتحمل عبئها. علاوة على ما تقدم، فقد كان العبيد ملزمين بالعمل في أرض السيد بضعة أيام كل أسبوع نتيجة منحهم الأرض. هذا العمل ـ الذي يقوم على السخرة ـ تختلف عدد أيامه من دولة لأخرى. بالإضافة إلى ذلك فقد كان العبيد ملزمين باستخدام جميع حيواناتهم في أرض الأسياد.

2. طبقة النبلاء: تتولى هذه الطبقة حماية العبيد والدفاع عنهم ضد أي اعتداء كما توفر لهم الآمن وتكفل لهم الغذاء في زمن المجاعة. وأهم من ذلك فطبقة النبلاء هي التي تمد العبيد برأس المال اللازم للزراعة؛ ومن جهة أخرى، كان النبيل يضطلع بالمسؤولية الإدارية للإقطاعية؛ فهو الحاكم المحلى، وهو الذي ينظم الأحوال الاقتصادية بصفة خاصة التجارة العابرة ويكفل الرقابة على الأسواق، وهو القاضي الذي يفصل في المسائل المدنية، والجنائية أحياناً.

      والواقع أن هذه الالتزامات من جانب طبقة النبلاء كانت أحد الأسباب التي ساعدت على نشأة النظام الإقطاعي؛ حيث تنازل الفلاحون عن أراضيهم للنبلاء مقابل أن يخلع هؤلاء حمايتهم عليها، ولا سيما إزاء عجز الحكومات المركزية البعيدة عن تحقيق هذا الهدف. وقد ساهمت في ذلك ظروف المجتمع الإقطاعي والتي كانت تقوم على العبيد، فالعبد ـ كما هو معروف ـ معدم لا يملك رأس المال. ومن ثم كان من المستحيل تملكه الأرض. ويكفي أن نذكر أن المزارع في روسيا لم تكن لدية الإمكانات المادية اللازمة لحفر آبار أو شراء الآلات الرافعة، بل اكثر من ذلك، لم يكن في استطاعته شراء الحبال اللازمة لرفع مياه الآبار. لذلك فقد كان السيد الإقطاعي يقيم طاحونة الهواء لتمد العبيد بالماء.

رابعاً: مساوئ النظام الإقطاعي

يمكن تلخيص مساوئ هذا النظام فيما يلي:

1. نظام تقسيم الأرض إلى شرائح وإعطاء المزارع عدداً منها تفصلها عن بعضها مسافات كبيرة، أدى إلى ضياع جزء كبير من الوقت والجهد، ويكفي أن نذكر هنا، على سبيل المثال، أن المزارع في روسيا كان يحصل على عدد من الشرائح يتراوح بين 20 و40 شريحة من الأرض ووصل في بعض الحالات إلى 100 شريحة تفصلها عن بعضها مسافات تراوح بين 15 و20 كم. ويعنى ذلك أن المزارع كان يضيع من وقته عدة أيام لمجرد الانتقال من شريحة إلى أخرى.

2. إن تقسيم الأرض الزراعية في الإقطاعية إلى قطع كبيرة، ثم تقسيم كل قطعة إلى شرائح صغيرة، أدى إلى إسراف في استخدام الأرض القابلة للزراعة نتيجة ترك مسافات كبيرة لتكون حدوداً فاصلة بين القطع المختلفة وكذلك بين الشرائح المتعددة.

3. أدى اتباع نظام الحقول المفتوحة إلى تبديد جزء من الأرض، نتيجة تركها بدون زراعة، ففي ظل نظام الحقلين كان هناك تبديد لنصف مساحة الأرض الزراعية، وفي ظل نظام الحقول الثلاثة كان هناك تبديد لثلث مساحة الأرض الزراعية، ومن الواضح أنه لو طبق نظام الدورات الزراعية لأمكن الاستفادة من هذه الأراضي.

4. أدى اتباع نظام الحقول المفتوحة إلى جمود التقدم الفني في أساليب الزراعة وطرقها، إذ كان المزارعون يزرعون الحاصلات نفسها، بالطريقة ونفسها، وفي الوقت نفسه من كل عام.

5. من أعظم مساوئ النظام الإقطاعي ما كان ينطوي عليه من ظلم اجتماعي يقع على عاتق طبقة العبيد.

خامساً: العوامل التي أدت إلى تلاشي النظام الإقطاعي

1. الثورة الصناعية

      لا شك أن الثورة الصناعية كانت أهم العوامل التي أدت إلى تلاشي النظام الإقطاعي ويتفق الاقتصاديون في إطلاق تسمية الثورة الصناعية Industrial Revolution على التغيرات الهائلة التي حدثت في الهيكل الصناعي لإنجلترا في الفترة من عام 1760 حتى عام 1830م. فالواقع أن المخترعات العظيمة التي ظهرت في فروع الصناعة المختلفة، وخاصة صناعة الغزل والنسيج، وصناعة التعدين، وتوليد القوى المحركة... الخ. وما ترتب عليها من نتائج، كانت سبباً في إطلاق تسمية " الثورة الصناعية".

      ولا يعني تحديد عام 1760م بالذات بداية للثورة الصناعية، أنه لم يكن هناك تقدم فني في طرق الإنتاج الصناعي ووسائله قبل هذا التاريخ؛ فمنذ أن أصبحت الصناعة حرفة مستقلة في القرن الثاني عشر الميلادي، حدث تقدم ملموس في طرق الصناعة ولكن هذا التقدم كان بطيئاً؛ إذ استغرق ستة قرون من الزمان، بعكس ما حدث خلال الفترة من 1760 إلى 1830م؛ إذ كان التقدم سريعاً لدرجة مذهلة.

      أما تحديد عام 1830م نهاية للثورة الصناعية، فلا يعنى إطلاقاً نهاية التقدم الفني في طرق الإنتاج الصناعي ووسائله، ولكنه يعني فقط نهاية الفترة التي شهدت التغيرات الكبيرة في الهيكل الصناعي بإنجلترا وما ترتب عليها من نتائج بالغة الأهمية. فالتقدم الفني سيظل مستمراً حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولعلنا نذكر في هذا المجال التغير الكبير في طرق الإنتاج الصناعي ووسائله في الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، وألمانيا الغربية، وإنجلترا، وفرنسا، إلخ الذي حدث من عام 1950م، فمنذ ذلك التاريخ أدخل نظام الآلية؛ إذ أصبحت الآلات تدار أوتوماتيكياً أي دون الحاجة إلى العمال، إلا في بعض العمليات الخاصة، لقد كان هذا التطور هائلاً لدرجة أن البعض أطلق عليه تسمية "الثورة الصناعية الثانية" وترجع هذه التسمية إلى صغر الفترة التي تم خلالها هذا التطور الهائل في وسائل الإنتاج، فهي لم تزد على خمس سنوات (1950ـ1955م)، وكذلك إلى الآثار البالغة التي تركها هذا التقدم الفني.

      إن إطلاق تسمية ثورة صناعية على التقدم الفني في طرق ووسائل الصناعة يستدعى توافر ثلاثة شروط:

ـ أن يكون هذا التقدم كبيراً وهائلاً.

ـ أن يكون هذا التقدم سريعاً ومفاجئاً، أي يحدث خلال فترة قصيرة من الزمن.

ـ أن يكون لهذا التقدم الفني آثار ذات أهمية كبرى على الهيكل الاقتصادي وعلى العلاقات الاجتماعية.

وللإلمام ببعض جوانب الثورة الصناعية ينبغي دراسة النقاط الآتية:

أ. العوامل التي ساعدت على قيام الثورة الصناعية

      لم تقم الثورة الصناعية في جميع الدول في وقت واحد. فقد بدأت في إنجلترا في عام 1760، إلا أنها لم تبدأ في فرنسا إلا عام 1815م. ثم تأتي بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، إذ بدأ التطور الصناعي بها منذ منتصف القرن التاسع عشر. أما في الاتحاد السوفيتي فإن التطور لم يظهر بوضوح إلا بعد عام 1860 وفي ألمانيا بعد عام 1870م ويرجع ذلك لاختلاف الظروف الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.

وفيما يلي أهم العوامل التي ساعدت على قيام الثورة الصناعية:

(1) انتصار سياسة الحرية وعدم التدخل الحكومي

      أسرفت الحكومات في التدخل في أعمال الأفراد وأقامت من نفسها وصياً على الصناعة والتجارة، تصدر لهما الأوامر والقوانين، وتضع لهما الخطط وتفرض اتباعها. وقد وضح للجميع فيما بعد أن هذه السياسة قد أدت إلى خمول التجارة وضعف الإنتاج والتقدم الصناعي. لذلك فقد انهار مذهب التدخل الحكومي وبدأ المذهب الحر في الانتشار. وقد صادف هذا التحول في الفكر الاقتصادي قيام الثورة الصناعية في إنجلترا. وكان من ذلك أن تمتع الأفراد بحريات كبيرة في ميادين التجارة والاستثمار والإنتاج والتسويق. ولقد شرح أدم سميث Adam Smith في مؤلفه المشهور "ثروة الأمم Wealth of Nations"، الذي أصدره عام 1776م، الطريقة التي تزيد بها ثروة الأمة والطريقة التي يجب أن توزع بها هذه الثروة.

      وكان من نتيجة انتشار هذه الأفكار أن تبعت معظم الدول الأوروبية سياسة الحرية. فأصبح الباب مفتوحاً للأفراد لدخول ميادين الإنتاج المختلفة، وخفضت الضرائب المفروضة على رؤوس الأموال المستثمرة في الصناعة، وصدرت القوانين لتحمى حقوق الاختراع.

(2) توافر رأس المال

      لقيام نهضة صناعية يجب توفر رأس المال حتى يمكن تمويل الأبحاث والآلات والمخترعات العظيمة. ويجب توجيه رأس المال أو قدر كبير منه إلى إنتاج السلع الإنتاجية اللازمة لإنتاج السلع الاستهلاكية.

      وقد أسهم كبار التجار بقدر كبير من رأس المال اللازم للصناعة. كما أن بعض المخترعين كانوا من طبقة الأغنياء، فتولوا تمويل مخترعاتهم من أموالهم الخاصة. واعتمد البعض على الافتراض الآخر بالاقتراض إما من طبقة التجار الأثرياء وإما من البنوك المحلية.

      ولعل من أهم الأسباب التي ساعدت على قيام الثورة الصناعية في إنجلترا قبل غيرها من الدول الأوروبية، أنها استطاعت أن تحصل على رأس المال اللازم لتمويل الصناعة الناشئة نتيجة اتساع تجارتها الخارجية خلال القرن الثامن عشر. ولاشك أن الفضل في ذلك إنما كان يرجع إلى تجارتها مع مستعمراتها في أمريكا والهند؛ إذ تمكن التجار البريطانيون من الحصول على أرباح ضخمة ولاسيما من تجارة الدخان والتوابل والسكر؛ إذ كانت إنجلترا مركزاً مهماً لتوزيع هذه السلع خلال القرن الثامن عشر الميلاد.

(3) زيادة السكان

      زادت معدلات نمو السكان زيادة كبيرة قرب نهاية القرن الثامن عشر وانخفضت معدلات الوفيات نتيجة لانتشار الوعي الصحي. وقد ساعدت زيادة السكان كثيراً على قيام الثورة الصناعية وتقدمها بخطى سريعة، ويرجع ذلك إلى سببين:

(أ)  أدت زيادة السكان إلى زيادة عرض العمل، ولاشك أن توافر الأيدي العاملة بأجور معقولة يساعد كثيراً على تقدم الصناعة، وخاصة إذا كانت في مهدها.

(ب) من المعروف أن زيادة السكان تعني زيادة الطلب على السلع والخدمات الاستهلاكية وبذلك يتسع حجم السوق وتنمو الصناعات المختلفة، حيث لا تواجهها مشكلة التخلص من الإنتاج.

(4) السيطرة على اقتصاديات بعض الدول

      عند قيام الثورة الصناعية كانت بعض الدول الأوروبية تتحكم في اقتصاديات عدد كبير من الدول خارج القارة الأوربية وخاصة في أفريقيا وآسيا. وكانت هذه الدول مورداً تحصل منه الدول الأوروبية على ما تحتاجه من المواد الأولية وفي الوقت نفسه كانت سوقاً لتصريف منتجاتها تامة الصنع، وذلك لأن الاستهلاك شرط ضروري للإنتاج.

(5) تقدم وسائل النقل والمواصلات

      من أهم نتائج الثورة الصناعية تقدم وسائل المواصلات ورخص تكلفة النقل؛ حيث اتسع حجم السوق، وأمكن استخدام المواد الأولية بكثرة؛ بما أدى إلى زيادة كبيرة في الإنتاج. وقد ترتب على ذلك كبر حجم المشروعات وتطبيق مبادئ تقسيم العمل، والاستفادة من وفورات الإنتاج الكبير، مما ساعد كثيراً على تخفيض تكلفة الإنتاج وجعل الإنتاج نمطياً.

ب. نتائج الثورة الصناعية

(1) هجرة السكان من الريف وتركزهم في بعض المدن

      لقد كان من أهم نتائج الثورة الصناعية زيادة السكان، وقد صاحبت هذه الزيادة الكبيرة في السكان هجرة الكثير منهم من الريف، حيث أغرتهم المصانع التي أقيمت في المدن وخاصة الأجور المرتفعة. وقد ساعد على هذا الاتجاه انه في الوقت نفسه الذي كانت فيه سبل العمل في المدن آخذة في الاتساع، وكانت موارد الرزق للزارع الصغير آخذة في النقصان.

      وقد سببت هجرة السكان من الريف للمدن كثير من المشكلات وعلى رأسها مشكلة المساكن. ويرجع ذلك إلى زيادة المساكن في المدن كانت تتمشى مع سرعة تزايد عدد السكان. بالإضافة إلى ذلك كان العمال الجدد القادمون من الريف يرغبون في الإقامة على مقربة من المصانع، وقد أدى ذلك إلى ازدحام العمال في مناطق معينة بالمدن، فنشأت، بأغلب المدن الأوروبية الكبرى، أحياء لسكنى العمال الفقراء، تتميز بضيق طرقها وسوء إضاءتها، وكثرة قاطنيها، وبدائية مساكنها، ولا يزال بعض من هذه الأحياء قائماً حتى اليوم في بعض المدن الكبرى مثل لندن وباريس، أما عن تركز الصناعة في مدن أو مناطق معينة، فان هذا يرجع إلى ضرورة القرب من مصادر القوة المحركة وخاصة المياه والفحم أو المواد الأولية وخاصة الحديد.

(2) كبر حجم الوحدات الإنتاجية

      من أهم مظاهر الثورة الصناعية كبر حجم الوحدة الإنتاجية وخاصة في صناعة الغزل والنسيج وصناعات التعدين. حيث احتشد فيها مئات بل آلاف العمال. وقد كانت مصانع الحديد والصلب أكبر حجماً من فروع الصناعات الأخرى. وأدت زيادة حجم الوحدات إلى التمتع بوفورات الإنتاج الكبير عن طريق خفض التكلفة.

(3) دور النزعات الاحتكارية في الصناعة

      أدى كبر حجم المشروعات الإنتاجية إلى ظهور النزعات الاحتكارية، وهو اتجاه نحو تجميع عدد كبير من المنشآت المهمة في الصناعة الواحدة تحت إدارة موحدة مشتركة. وقد اتخذت النزعات الاحتكارية عدة أشكال: ففي الولايات المتحدة الأمريكية، كان الشكل الغالب هو "الترست Trust "الذي ظهر حوالي عام 1890م، وهو يعني اندماج عدة مشروعات تحت إدارة واحدة، على أن يفقد كل منها استقلاله الإداري وشخصيته المعنوية. أما في ألمانيا فقد كان الشكل الغالب هو "الكارتل Cartel" ـ نقابات العمال ـ وهو اتفاق بين عده مشروعات من نوع واحد على عدم المنافسة بينها، مع الاحتفاظ بشخصية كل منها، والاستقلال في جميع المسائل التي لا يتناولها الاتفاق.

(4) ظهور المصانع واستخدام الآلات

      أدى ظهور المصانع الكبيرة واستخدام الآلات إلى انفصال تام بين طبقات الممولين والعمال والمديرين، على عكس الحال في ظل نظام الحرف في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حيث بدأت الصناعة تظهر لأول مرة جزءاً مستقلاً من النشاط الاقتصادي. وقد ترتب على ذلك:

      تحول الصناعة إلى النظام الرأسمالي، وتكوين طبقة من الرأسماليين لأن ارتفاع ثمن الآلات، وضرورة بناء المصانع الكبيرة، جعل فئة الأغنياء قادرة على تمويل الصناعة دون غيرها.

زيادة نفوذ أصحاب الأموال المشتغلين بالصناعة. وقد كان هذا أمراً طبيعياً لأنهم أصبحوا مسيطرين على أهم عناصر الإنتاج: من مباني المصنع، والآلات، والقوى المحركة، والمواد الخام، إلخ. أما عنصر العمل فقد أخذت أهميته تقل كلما ظهرت مخترعات جديدة.

(5) ارتفاع مستويات المعيشة

      زادت الثورة الصناعية من أهمية الآلات ونفوذ أصحاب العمال وقللت من أهمية العامل باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج، ولكنها رغم ذلك أفادت العمال فائدة كبيرة، حيث أدت إلى تجمعهم واحتشاد عدد كبير منهم في مكان واحد أو في حرفة واحدة. وبفضل توحيد كلمة العمال استطاعوا أن يحصلوا على شروط أحسن للعمل، وعلى أجور أعلى، وعلى خدمات اجتماعية وصحية متعددة. وبمرور الزمن حصل العمال على مكاسب أخرى مثل تخفيض ساعات العمل ومشاركتهم في الأرباح، وكان من نتيجة ذلك ارتفاع مستوى المعيشة.

      وتجدر الإشارة إلى أن زيادة الأجور وارتفاع مستويات المعيشة لم تتحقق في بداية الثورة الصناعية، بل استلزم ذلك عشرات من السنين ومجهودات ضخمة من جانب العمال.

(6) احتدام النزاع بين العمال وأصحاب الأعمال

      كان صاحب العمل، قبل قيام الثورة الصناعية، يشرف بنفسه على العمال، بل كان أحياناً يعمل بجانبهم. ولذلك، فإنه كان على علم بمشكلات العمال ومطالبهم وفهم كامل لعقليتهم وتفكيرهم. وقد ساعد ذلك على حل جميع المشكلات بطريقة سلمية وبشكل سريع.

      أما بعد قيام الثورة الصناعية، فقد احتدم الخلاف بين العمال وأصحاب الأعمال، وقد كان ذلك أمراً طبيعياً؛ حيث انفصلت الروابط بين العمال وأصحاب الأعمال، وتضاربت مصالح الفريقين: فبينما يرى العمال أن مصلحتهم تتطلب زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل، يرى أصحاب الأعمال العكس تماماً حتى تزيد أرباحهم. وقد كان من نتيجة ذلك لجؤ العمال في أحيان كثيرة إلى وسائل العنف والتخريب والإضراب عن العمل. ولذلك كانت هذه أسوأ نتائج الثورة الصناعية.

ج. الثورة الصناعية والدول النامية

      هناك علاقة وثيقة بين الثورة الصناعية والاستعمار في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ومن ثم بقاء هذه المجتمعات في حالة من التخلف الاقتصادي.

(1) العلاقة بين الثورة الصناعية والاستعمار:

      قامت الثورة الصناعية في عدد كبير من دول أوروبا، وكانت هذه الدول في حاجة إلى كميات كبيرة من المواد الأولية، وعندما تقدمت الصناعة في الدول الأوروبية وأصبح الإنتاج في كثير من هذه الدول يزيد على حاجات الاستهلاك فيها، بدأت هذه الدول تبحث عن أسواق خارجية لتصريف الفائض من إنتاجها الصناعي. فوجدت في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مصدراً تحصل منه على ما تحتاجه من المواد الأولية وسوقا لتصريف الفائض من إنتاجها الصناعي، وذلك لأن هذه الدول كانت حتى ذلك الوقت دولاً زراعية.

      وهكذا يؤكد كارل ماركس أن الدول الصناعية لجأت ـ تحت ضغط الحاجة إلى منافذ جديدة ـ إلى غزو العالم.

(2) أثر الاستعمار على اقتصاديات الدول النامية:

      جعل الاستعمار من المستعمرات مناطق متخصصة في إنتاج المواد الأولية على أن تقوم بتصديرها إلى دول أوروبا الصناعية، وفي الوقت نفسه تقوم هذه المستعمرات باستيراد المنتجات الصناعية من هذه الدول. وقد ترتب على هذا الوضع نوعا من التخصص الدولي، إذ أصبحت دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية دولاً زراعية أو استخراجية، بينما أصبحت دول أوروبا دولاً صناعية. وليس ذلك فحسب، بل كانت الدول الأوروبية تحصل على المواد الأولية بأثمان منخفضة، وتبيع منتجاتها الصناعية بأثمان مرتفعة، أي أن معدل التبادل كان دائما في صالح الدول الأوروبية؛ ولذلك فان الدول الأوروبية الاستعمارية تمسكت باحتلال دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية واستعمارها تمسكاً شديداً، ولم توافق على منحها الاستقلال إلا عندما اضطرتها الظروف الحركات التحررية الثورية إلى ذلك.

2. قيام الملكية الخاصة

      قامت في عدد كبير من الدول الأوروبية حركات ثورية تحريرية تهدف إلى القضاء على نفوذ طبقة النبلاء بالقضاء على مصدر قوتهم وهو ملكية الأرض وإعادة توزيعها على الفلاحين.

      ومن أعظم هذه الحركات التحريرية الثورة الفرنسية التي اندلعت في 14 مايو عام 1789م والتي بدأت بمصادرة أراضى النبلاء ورجال الكنيسة وبيعها للفلاحين بأسعار معقولة وعلى أقساط.

      وفي منتصف القرن التاسع عشر صدرت في ألمانيا عدة تشريعات تهدف إلى مساعدة الفلاحين في الحصول على الأرض عن طريق إنشاء بنوك تقرض الفلاحين المبالغ اللازمة لشراء الأرض مقابل رهنها للبنك حتى يتم السداد، وكانت آجال هذه القروض تمتد أحياناً إلى أكثر من 50 سنة.

      وفي الولايات المتحدة أعلن تحرير العبيد إثر قيام الحرب الأهلية في الجنوب عام 1863 وكان من نتائج حركة التحرير تغيير كبير في نظام الزراعة وانتشار الملكية الصغيرة نسبيا.

3. نمو الاقتصاد النقدي

      إن انتعاش التبادل التجاري ونموه في أوروبا الغربية إلى ظهور أهمية الدور الذي تؤديه النقود في الحياة الاقتصادية. فقد استبدلت خدمات العمل المدفوعات النقدية، وسداد إيجار الأرض نقدا بدلاً من نظام السخرة. وقد أدى كل ذلك إلى نمو حجم المعاملات النقدية وحجم السوق.