إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اقتصادية / فن التفاوض









المقدمة

المقدمة

      التفاوض جزء أصيل من حياة الإنسان، إلى حد أنه يمكن القول إن الإنسان كائن مفاوض، فهو في حالة مفاوضات دائمة، سواء كانت على أمور صغيرة أو على قضايا كبيرة، ففي البيت يتفاوض المرء مع أولاده حول المكافأة، التي يستحقونها، في حالة تحقيق النجاح في الدراسة، أو عند تنفيذ أمر بعينه، كما قد يكون في حالة تفاوض معهم ومع والدتهم، حول المكان الذي سيقضون فيه العطلة الصيفية. وتدور مفاوضات أخرى بين أفراد الأسرة، بشكل أو بآخر، عن أشياء تتصل بحياتهم. ومنذ أن يضع الإنسان قدمه خارج البيت، يجد نفسه في مواجهة أنواع شتى من المفاوضات، التي قد تبدأ بحديث مع بواب العمارة عن شؤون العمارة، كالنظافة وأعطال المصعد وزحام المواقف، ثم تبدأ مفاوضات أخرى مع السكان، على أشياء مشتركة بينهم، أما في الشارع، فهناك مفاوضات لا تنتهي، وتفرض على الإنسان فرضاً، فقد تكون في مفاوضات مع بائع لخفض سعر سلعة ما، أو لانتقاد سلوك معين يؤثر فيه، أو لإقناع رجل الشرطة، مثلاً، بأن الإشارة لم تكن حمراء حين عبر بسيارته. أما في محيط العمل، فإن أنواع المفاوضات، التي يواجهها الإنسان، لا حصر لها، فقد تكون ذات طابع رسمي يتصل بالعمل مباشرة، أو قد تكون ذات طابع غير رسمي يتصل بالصداقات والعلاقات الاجتماعية، التي يفرضها التفاعل مع محيط العمل. ومهما كان مستوى التفاوض، فإنه يحتاج من الإنسان قدرات ومهارات، تعينه على مختلف المستويات، وإن من الخطورة عدم إدراك الإنسان أنه في وسط موقف يقتضي التفاوض. وإذا حدث ذلك، فإنه لن يستطيع تحسين النتائج لصالحه، لأنه إذا لم يخطر في باله، أن هذه الصفقة يدخل فيها بالتفاوض، ولم يكن مستعداً، فإن النتائج غالباً سوف تكون خطيرة وغير مرضية له.

      وقد تضمن النص القرآني حالات كثيرة من الحوار والجدل، تمثل شكلاً من أشكال التفاوض، وتأطيرا لما ينبغي أن يكون عليه الأخذ والعطاء في سبيل أن تمضي حياة الإنسان على نحو، يحقق له بلوغ غاياته، متخلصاً من مثالب المكابرة والمعاندة والمغالطة والسفسطة والمشاغبة.

      وقد ارتبطت خلافة الإنسان في الأرض بتوضيح رباني للملائكة عن هذا الخليفة، سبحانه وتعالى، جاء في قالب شائق، يتمثل في قوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون((البقرة، 30). وفي هذه الآية الكريمة يخبر، تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه، بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، بقوله: )وإذ قال ربك للملائكة( أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك…"، "وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وهنا أعلمهم بأنه سيخلف في الأرض خلقاً، وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء(؟ الآية. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف، لله الحكمة في ذلك. يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء؟ فإذا كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، أي نصلي لك، ولا يصدر منا شيء من ذلك، هلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً عن هذا السؤال: )إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد، التي ذكرتموها، ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل منهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويكون منهم الصديقون، والشهداء والصالحون، والعُباد، والزُهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم".

      ويشاء الله، سبحانه وتعالى، أن تبدأ حياة أبينا آدم بابتلاء، حينما دخل في عملية مفاوضات خبيثة مع الشيطان، الذي وسوس لآدم وحواء، وجعلهما أمام خيار حسَّنهُ في أعينهما ونمَّقه لهما. فقال لهما: ما نهاكم الله عن هذه الشجرة إلا لوجود فوائد عظيمة فيها، تتمثل هذه الفوائد في إمكانية الخلود. ولأن ابن آدم يحب الحياة وطول الأمد، ولا يرغب في تغيير ما يعتقد أنه وضع مؤقت، فقد وقع ضحية وساوس الشيطان، وعصى ربه بالأكل من الشجرة. وكانت نتيجة هذه المفاوضة، بإذن الله، نزول آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، وما يحمل هذا النزول في طياته من ابتلاء.

      وقد جاءت غواية إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة في صورة مصيبة واقعة )وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ( (البقرة، 35 ـ 36).

      وجاء في التفسير: " يبين الله تعالى، إخباراً عما أكرم به آدم، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس، أنه أباحه الجنة، ليسكن منها، حيث يشـاء، ويأكل منها ما شاء رغداً، أي هنيئاً واسعاً، طيباً.. وأما قوله )ولا تقربا هذه الشجرة(، فهو اختبار من الله تعالى، وامتحان لآدم.. وقوله تعالى: )فأزلهما الشيطان عنها(، يصح أن يكون الضمير في قوله عنها، عائداً إلى الجنة.. فيكون معنى الكلام، فأزلهما، أي: فنحاهما) فأخرجهما مما كانا فيه( أي: من العيش، والمنزل الرحب، والرزق الهنيء، والراحة. )وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلـى حين(، أي قرار وأرزاق وآجال، إلى حين، أي إلى وقت مؤقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة".

      أما عن دخول إبليس الجنة، لإغواء آدم وحواء، فقد قيل: إن المنع في دخوله مكرماً؛ أما عن طريق السرقة والإهانة، فلا يمتنع، كما قيل: إنه يحتمل أنه وسوس لهما، وهو خارج باب الجنة.

      وبعد أن تاب الله عليهما، كان الهبوط من الجنة. "ويخبر الله تعالى، بما أنذر به آدم، وزوجته، وإبليس، حين أهبطهم من الجنة، والمراد والذرية؛ أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل. ومن أقبل على ما أنزلت من الكتب وأرسلت به الرسل، )فلا خوف عليهم( (البقرة:38) أي: فيما يستقبلون من أمر الآخرة، )ولاهم يحزنون( (البقرة:38) على ما فاتهم من أمور الدنيا". ومن القصص القرآني، الذي فيه ذلك الأخذ والعطاء، والتفاعل الاجتماعي، بين بني البشر، قصة قابيل وهابيل، إذ يقول تعالى:)وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ((المائدة27 ـ 31). وتبين هذه الآيات "عاقبة البغض، والحسد، والظلم، في خبر ابني آدم، وهما قابيل وهابيل، كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله، بغياً عليه وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة، وتقبل القربان، الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام، والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل، ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين". وكان، من رحمته سبحانه وتعالى، أن "بعث غرابين أخوين اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه. فحفر له، ثم حثا عليه". وفي هذا تصوير لما في الحياة من صراع، حتى بين الأخوين، مما يقتضي تخفيف حدته وإزالة أسبابه، ولا يكون ذلك إلا بالحوار والتفاوض للوصول إلى بناء جسور من التفاهم، يقوم على الاتفاق حول المصالح المشتركة.

      وتضمن النص القرآني، من قصص مترعة بالعبر والعظات، ما يعين الإنسان على فهم الحياة بكل أبعادها، بما فيها من سلم ووفاق وتعاون، وحرب ونزاع وصراع، واشتمل، كذلك، على المبادئ والقيم، التي تأطر سلوك الإنسان، وتوجهه في مختلف الأحوال؛ ليحيا متفاعلاً مع محيطه الاجتماعي، بكل عنفوان وقوة، متسلحاً بالتوجيه الرباني؛ ليتجاوز به وسوسة إبليس، كما في قصة آدم وحواء، ووسوسة النفس الأمارة بالسوء، كما في قصة قابيل وهابيل، ومستصحباً قيم الجدل بالتي هي أحسن.