إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / أبو القاسم الشابي، حياته وشعره









مولده ونشأته

مولده ونشأته

          ولد أبو القاسم الشابي على مقربة من تورز، في منطقة الجريد ـ ومعناها بلاد النخيل ـ من جنوب تونس، يوم الأربعاء 24 فبراير (شباط) عام 1909. ومنطقة الجريد في الجنوب التونسي عبارة عن أربع واحات هي: تورز، ونفتا، والعُديان، والحَمّة، وكلها تقع في البرزخ الذي يفصل السبختين[1] الكبريين: الجريد وغرسة، على تخوم الصحراء وقفارها المترامية. وهذه الواحات الأربع تلفت الأنظار، وتستهوي الأفئدة لما هي عليه من سعة، وما تتمتع به قراها الكبيرة من أهمية. فمياهها غزيرة وافرة، ونباتاتها وأشجارها باسقة رائعة، ومواقعها جميلة أخاذة.

          وقد احتل الرومان منطقة الجريد، في أعقاب حروبهم مع قرطاجة وسقوط هنيجل، وأقاموا فيها حامية من دون أن يختلطوا بأهلها. والأغلبية الساحقة من سكانها، الذين يبلغ عددهم اليوم نحو 50.000 نسمة، ينحدرون من أصول عربية أو مُسْتَعْرِبة منذ زمن طويل، موغل في القدم. وقد مرت هذه المنطقة، خلال القرن السادس عشر، بدور من الرخاء والازدهار، كانت فيه مضرب المثل، غير أنها لم تلبث أن منيت بالانحطاط، وتعرضت لبلاء شديد بسبب من الحروب والفتن، التي نشبت فيها، وأضعفت تونس برمتها.

          أمّا محاصيل هذه الواحات، فتكاد تقتصر على التمور، إذ يُقدّر عدد أشجار النخيل فيها بنحوٍ من مليون نخلة، وتقوم إلى جانب النخيل أشجار الفاكهة، والبقول على أنواعها. والبساتين هناك خصبة، أنيقة، مزخرفة، ويعود الفضل في خصبها إلى وفرة مياه الري، وكلها ترد من ينابيع ثرة، سائغة، كان يستخدمها أبناء تلك البلاد منذ عهود لا يذكرها التاريخ المعروف. وفلاحو تلك الديار ـ ويطلق عليهم اسم "المخمسين"، لأنهم يأخذون خمس الإنتاج ـ من أذكى وأنشط فلاحي العالم القديم.

          وهناك، إلى جانب النخيل وأشجار الفاكهة، واحات كبيرة واسعة استطاعت سلطات تونس أن تحميها أخيراً من الرمال المتحركة التي كانت تُهدد الواحات بالغزو المخرب، وكان من السلطات أن أحاطت الواحات بقطع كبيرة من الأرض العراء، فلم يبق للسوافي أن تؤثر في الأشجار، وانحصر أثرها في سياج تبلغ مساحته أكثر من 1000 هكتار.

          هذا هو العالم الذي نشأ فيه أبو القاسم، وذلك هو مسرح شاعريته، وميدان خياله، وتلك هي مغاني حداثته، فهل لنا أن نعجب ذلك "الألق الشفاف" بعد الذي يغمر بيانته، ويلف كيانه، ويهيمن على كلمة أو نبرة من كلماته ونبراته؟!

          لذلك كان للألفاظ، التي تتكرر على لسانه، وترددها أشعاره، للطبيعة فيها النصيب الأوفى، واليد الطولى: فأكثر أشعاره يدور في قاموسها الشعري ألفاظ مثل: فجر، أنشودة، صباح، شوك، غابة، جدول، نهر، واد، عصفور، ظلال، أزهار، غيوم، أمواج، ضباب، ربيع، جبل، طيور، نسيم، أنواء، ضحى، نجوم.

          هذه الألفاظ لم ترد على لسان الشابي لأنه انتقاها، أو فكر فيها، بل لأنها هي "العالم" الذي أحدق به، ونشأ في إطاره، فهي ليست في نظره، ولا في ذهنه "كلمات شعرية" وإنما هي "وقائع" و"حقائق" عايشها، وتقلب في أوساطها، وألف مناخها، ثم لم يعرف غيرها، فكانت تتردد عنده وتتكرر على غير وعي منه.

          عندما يُخاطب "طغاة العالم"، ينعى عليهم، أنهم أعداء للطبيعة وجمالها، يخاطبهم:

حبيب الفنـاء عـدوُّ الحـياهْ

ألاّ أيهـا الظالـم المسـتبـد

وكفُّك مخـضوبةٌ من دمــاه

سخـرتَ بأنّات شعب ضعيف

وتبذرُ شوك الأسـى فـي ربُاه

وعـشت تُدنِّس سحرَ الوجودِ

وصحوُ الفضاء وضوءُ الصباحْ

رويدك لا يخدعنـك الربـيعُ

وقصفُ الرعود وعصفُ الرّياح

ففي الأفق الرحب هولُ الظلامِ

فمن يبذرِ الشوكَ يجـنِ الجراحْ

ولا تهـزَأنْ بنَـوْحِ الضعيفِ

          ثم يُخاطب التي يحبّها، لأنها تمنحه ما يريد من جمال الطبيعة:

سِّحر تجلّـى لقلـبي المعـمود

أنتِ ما أنتِ فـجـرٌ من الــ

الدنيـا فتهتزُّ رائعـات الورود

أنتِ روح الربيع تخـتال فـي

ب وفي قـرب حسنـك المعبود

فدعيني أعيش في ظلّك العـذ

نٍ من اليأس والظـلام مشيـد

وارحميني فقد تهدّمتُ في كو

س تبسمت في أسىً وجـمـود

وإذا ما استخفّني عـبث النَّا

من الشـوك ذابـلات الـورود

بـسمة مـرّة كأنيّ أستــلّ

         الألفاظ واحدة، ولكن أجواءها تختلف أو تتناقض. وسرّ ذلك أن الشابي صدر في كلّ ما نظم ونثر عن عالم شعري واحد، اكتنف حياته من المهد إلى اللحد.



[1]    السبخة وجمعها سباخ: أرض ذات ملح ونز، ولا تكاد تنبت إلاّ بعض الشجر.