إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / أبو القاسم الشابي، حياته وشعره









موضوعات الشابي الشعرية

موضوعات الشابي الشعرية

          تدور أشعار أبي القاسم في إطار، أكثره من هذه التجارب: الحب اليائس، الذكريات الطليّة، العذاب النفسي، التأمّل الكوني، الانحطاط الاجتماعي. وليس في تاريخ الشعر العربي شاعر عبّر عن حياته بصدق، وتمثل في شعره ما كان يجول في كيانه الداخلي والخارجي، مثل أبي القاسم. فهو لم "يتعمّد" قط أن يكون شاعراً، وإنما ساقته تجاربه سوقاً نحو هذا الفن، وهي التي ألهمته كلّ ما قاله، ولم يُضِف إليها شيئاً من عنده.

          فقد ظهر حبه العميق، المفرط في عمقه، على سطح كلّ بيت شعر كتبه، وكل قصيدة قالها. وبدا للناس عارياً شفّافاً، لمِا يتسم به من طلاوةٍ وصفاء وطهارة:

وهمومـي، وروعتي، وعنائي

أيها الحب أنت سِـرُّ بلائـي

وسقامـي، ولوعتي، وشقائي

ونحولي، وأدمعي، وعـذابي

ن كؤوساً، وما اقتنصت ابتغائي

أيها الحبّ قد جَرَعتُ بك الحز

          وتبلغ رقته قمتها، عندما يخاطب التي يحبها:

عـبقـريّ من فنّ هذا الوجود

أنتِ ما أنتِ؟ أنت رسمٌ جـميلٌ

يا فـتهـتـزُّ رائعـاتُ الورود

أنت روحُ الربيعِ تختال في الدذـ

ر، ويدوي الوجودُ بالـتغـريدِ

وتهبُّ الحياةُ سكـرى من العطـ

بخطـوٍ مـوقّع كـالنشـيـد

كلما أبصرتْكِ عـينـايَ تَمْشِّين

رُ في حقلِ عـمريَ المجـرود

خفق القلبُ للحياة ورفّ الزهـ

وغـنّتْ كالبـلبـلِ الغـريـد

وانتشتْ روحي الـكئيبةُ بالحبِّ

          هذه أحاسيس شاعر يُعرف ما يضطرب في قلبه، ويعبر عنه بصفاء يبلغ حدّ الإشراق، ولا يخالجه ظلّ من "وهج البيان"، وإنما هو وهج العاطفة، الذي يشيع في هذه الكلمات. وشأنه في هذا، ينتظم جميع الموضوعات، التي تناولها في شعره، ومعظمها من "الوجدانيات"، التي يمتزج فيها الحبّ، عادة، بالتأمل والذكرى، وتظهر فيها روابط الحياة النفسية بمظاهر الطبيعة. وقد تكون قصيدته "الصباح الجديد" مثالاً لما يتردد في وجدانه من معانٍ وأخيلة وصور، ثم لما يأخذ به في حياته الوجدانية من أفكار، ويفرض عليها من اتجاهات، في نفسه وفي الطبيعة:

واسكتي يا شجونْ

اسكني يـا جراحْ

وزمانُ الجـنـون

مات عهدُ النواح

من وراء القـرون

وأطـلَّ الصّبـاحْ

قـد دفـنتُ الألـم

في فجاجِ الهوى

لـريـاح الـعـدمْ

ونثرتُ الـدّموع

معـزفـاً للـنغـم

واتخذتُ الحـياة

في رحـاب الزمان

أتغـنّى علـيـه

في جـمال الوجود

وأذبـت الأسـى

واحـةَ للنـشيـد

ودحـوت الفؤادْ

          ومأساة الشابي، أنه انطوى في تجاربه النفسية القاسية، على "مفكر" عميق التفكير، فكان لا يكتفي بأحاسيسه، وإنما يحاول دوماً أن يوجهها، أن يصرفها عن المرارة، أن يميل بها إلى "الحياة"، وهي التي انصرفت بطبيعتها نحو الأسى والكآبة، ووقفت عند "الموت" لا تريم، ولا تحول عنه ولا تزول. وهذا هو معنى قصيدته "إرادة الحياة"، التي شاعت وانتشرت، وأحبها كل قارئ عربي:

فلا بدَّ أن يستجيبَ القدَرْ

إذا الشَّعبُ يوماً أراد الحياة

ولابدَّ للقـيدِ أن ينكسـر

ولا بـدَّ لليـلِ أن ينجلـي

          وهذا هو أيضاً معنى ديوانه كله، وقد جعل عنوانه "أغاني الحياة". وهو معنى شاعريته نفسها في صميم العذاب، الذي أطبق على حياته، منذ أحب تلك التي ماتت، إلى أن أصيب بالداء العضال في قلبه. ذلك أن الآلام التي عاناها أبو القاسم، كان من شأنها أن تصدّه عن الحياة، عن الحب والأمل، عن كل ما هو فرح ومتعة وحماسة، ولكن قوة نفسه، وصلابة عوده، وتعلقه الأصيل بما يسمو على الأوصاب والآلام، أمور أيقظته على الفن الشعري لا في كيانه فحسب، بل في العالم كله، ونهض وسط آلامه من جهة، وتعلقه بالحياة من جهة، "شاعرا" يحدّث نفسه عن أفراح الدنيا وجمالها، ويتحدث إلى الدنيا عن عذابه وكآباته، وبهذا كان أقرب الناس من أبناء الشرق، إلى بيتهوفن الذي وفّق إلى استخدام الآلام جسراً عبر عليه إلى الفرح، من طريق الموسيقى، والشابي استخدم الموت الذي عرفه في فقد حبيبته، ثم في فقد والده، ثم في التفافه عليه حين مرض، سبيلاً إلى الحياة عن طريق الشعر:

معـبد للجـمـال

في فؤادي الرحيب

بالرؤى والخيـال

شـيّدتـه الحيـاة

في خشوع الظلال

فـتلوت الصـلاة

وأضأت الشمـوع

وحـرقت البخور

خـالـدٌ لا يـزول

إن سحر الحـياة

من ظـلامٍ يحـول

فعــلامَ الشّكـاة

وتمـرُّ الفصـول

ثم يأتـي الصباح

إن تقـضّى الربيع

سوف يـأتي ربيع

          قيل عن بيتهوفن: إنه كان يحمل روح نيتشه[1] بين جنبيه، لما أظهر من بطولة في تحمل العذاب، وجلد على المكاره، وقيل عن الشابي كذلك: إنه تأثر بنيتشه وآرائه، غير أن الحقيقة هي أن الشابي لم يصدر في شعره، وفي أفكاره، إلاّ عما أحسّ وجرب.



[1]'     نيتشه (فردريش) (1844 ـ 1900) فيلسوف ألماني أخذ بمذهب التطور، وقال إن الحياة ليست غير تنازع البقاء وبقاء الأصلح. وإن الإنسان الأعلى هدف يجب الوصول إليه. كان من مؤسسي العرقية الجرمانية. يتلخص مذهبه بما يُدعى `إرادة القوة`. من كتبه: `نشأة المأساة وروح الموسيقى`، `المسافر وظله`، `هكذا تكلم زرادشت`، `مدائح ديونيزوس`، `غدارة القوة`.