إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الخَنْسَاء









الخَنْسَاء

الخَنْسَاء

 

الخنساء بين بيئتها وعصرها ... المولد والنشأة

الخنساء هي تُماضر بنت عمرو، من آل الشريد، من قبيلة سُليم. وليس لها من إخوة غير معاوية شقيقها وصخر أخيها لأبيها. وصخر هذا هو الذي ملأت بذكره شعرها عويلاً، وأكثرت فيه الرثاء. ولم يُعرف لها أخوات، لا من أمها ولا من أبيها، فكانت الابنة الوحيدة لأبويها.

ويرجح د. محمد الحيني، الذي ساق الرأي السابق، أنها كانت بلا أخوات؛ "لأن شعرها قد خلا من ذكر أخوات تدعوهنّ للبكاء معها على أخويها، أو على أحدهما على الأقل. ولعل الذي يؤيد ذلك، أنها حين تبكي أباها أو أحد أخويها:معاوية أو صخر ـ لا تذكر أختاً تدعوها للنحيب أو لمشاركتها الحزن على ما نزل بها من فجيعة. وتكاد بقية المصادر والمراجع تدعم هذا الرأي؛ أنها بلا أخوات.

أما عن مولدها، فإن المصادر لا تكاد تجمع على تاريخ محدد لمولدها، حتى إن كل ما ورد في المراجع، التي أرخت لها، حول هذا الشأن، ما هو إلا اجتهادات. فالدكتورة بنت الشاطئ تذكر أنه: "لم يحدد القدامى عاماً بعينه لمولدها، وإنما اكتفوا بذكر أخبارها، التي تقطع، بأنها أدركت الإسلام، ومن أبنائها من بلغ مبلغ الرجال، "كالعباس بن مرداس"، الذي شهد مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة حنين، ومَن شارك في محنة الردة، كأبي شجرة".

وتورد د. بنت الشاطئ، حول مولدها، رؤىً للمستشرقين: "كرنكوف" و"جبريللي"؛ الأول يجد مشقة كبيرة في التوفيق بين التواريخ، متخذاً من حروب الردة، التي كانت عام 13هـ، والتي ارتد فيها ابنها أبو شجرة وكان في الثلاثين من عمره ـ مقياساً لأن يكون سنها بين الأربعين والخمسين؛ بل إن الثاني يحدد عام 575م أو نحوه تاريخاً لمولدها.

وحول التاريخ السابق 575م، يورد إسماعيل القاضي، رأي المستشرق "جبريللي" نفسه، متكئاً على رأي "كرنكوف"، بأنها كانت أسنَّ من الأربعين إلى الخمسين، فيكون مولدها سنة 590م. ولكن "القاضي" يرى: "أن مثل هذه التحديدات لتأريخ ميلاد الخنساء سرعان ما تنهار، أمام البحث والوقائع التاريخية الملموسة. إذْ لا يمكن أن تتفق معها بأي حال من الأحوال.

وتضيف د. بنت الشاطئ، رأياً له وجاهته، حول ميلاد شعراء الجاهلية بصفة عامة، بما فيهم الخنساء، يمكن أن يستفيد منه القراء؛ فهي ترى موافقة القدماء في أن الأولين كانوا أسلم منهجاً وأدق تناولاً؛ إذ ليس لنا أن نقطع، بيقين، في تاريخ مولد شاعرة جاهلية، على ما نعلم من فقر الأدلة المادية التي تعين على شيء من هذا. وما كان للأخبار النقلية التي دونت متأخرة، أن تحدد مولد شاعر من الجاهلية، وهو عادة يولد مغموراً لا يلتفت إليه أحد، ولا يعنى إنسان بتسجيل زمن ولادته، أو تتبع أخباره قبل أن تظهر شاعريته وتسلط عليه أضواء الشهرة. وهذا يفسر لنا اختلاف الأقوال في تاريخ مولد المشهورين من أعلام العرب، لا قبل عصر التدوين فحسب؛ بل بعده كذلك.

وقبل أن نسترسل في الحديث عن طبيعة هوية الخنساء اجتماعياً من حيث أزواجها وأولادها، يحسن أن نلقي نظرة على البيئة والعصر الجاهلي، وعن وضعها الاجتماعي بينهما، وهو جانب مهم أن يعرفه القارئ عن شخصية ثرية متعددة الجوانب كالخنساء.

شبّت (تُماضر) في بيئة جاهلية ذات شأن ـ كما سنعرف بعد قليل ـ، واسمها (تُماضر) يعني البياض، كما تشير المصادر التي أرّخت لها. أما لماذا سميت بالخنساء؟، فالمصادر تشير إلى أن "تماضر من ذوات الجمال؛ يدل على ذلك تلقبها بالخنساء. قالت صاحبة "الدرر المنثور في طبقات رباتِ الخدور" (ص109، بولاق، 1312هـ): "وتكنى أم عمرو؛ وإنما الخنساء لقب غلب عليها، وهي الظبية"؛ وتشبيهها بالظبية يوحي بما لها من جمال وفتنة. وقال صاحب "تاج العروس": (وأصل الخَنَس في الظباء، وأنف البقر أخنس لا يكون إلا هكذا).

وأبو الخنساء شريف بين قوم شرفاء في الجاهلية، شرفوا بدخولهم الإسلام ـ كما سنعرف بعد قليل ـ، فأبوها هو "عمرو بن الحارث بن الشريد بن رباح بن يقظة بن عُصيّة بن خُفاف بن امري القيس بن بُهثة (وقيل نهية) بن سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة (وروي حفصة) بن قيس بن عيلان بن مضر. وقد كان آلُها (آل الشريد) أشهر السُلَميين في الجاهلية، وظلوا كذلك في الإسلام مدة طويلة. وإن أباها كان فيمن أوفدهم النعمان بن المنذر إلى كسرى. وقال ابن خلدون: إن آل الشريد كانوا لهذا العصر (أي عصر ابن خلدون) من جملة مَنْ سكن إفريقية من بين سُليم، ولهم شوكة وصولة".

وسط هذه البيئة، وهذه الأسرة العريقة بمفهوم العصر الجاهلي، عاشت الخنساء. وربما يُشاع أن بيئات العصر الجاهلي، الذي عاشت فيه الخنساء، وسط هذه البيئة الصحراوية، كان يخلو من استقرار يشي بشيء من التحضر ـ كما يظن بعضهم؛ حيث البدو الرُّحل يهيمون على وجوههم، بحثاً عن الكلأ والمرعى؛ إن هذا زعم خاطئ، ترده د. بنت الشاطئ، على قائليه.

ترى د. بنت الشاطئ، أن الخنساء "لم تكن إذاً، تعيش هائمة على وجهها، ضاربةً مع قومها في مجاهل البادية؛ ولا جهلت الموطن الغالي، والدار، والمنزل، والحمى الذي لا يجوز أن يستباح. وإنما كانت تقيم مع العشيرة في ديارها "أرض بني سُليم". وحياة البدو لم تكن ـ على ما فهم كثير منا ـ حياة رعي فحسب؛ وإنما كان منهم التجار، وأصحاب الإبل سفن الصحراء، وكان منهم حرّاس القوافل وحماتها الذين يؤجرون لحراستها".

لقد نال البيئة التي عاشت فيها الخنساء، إذاً ـ شيء من التحضر بمفهوم عصرها، من حيث الاستقرار في بيئة طبيعية وسط أسرة ميسورة وأب يُعَدّ، بمقياس أيامنا هذه، سفيراً للملوك لدى القوى العظمى آنئذٍ كالفرس؛ لما كان لهم من شوكة وصولة ـ كما أخبرنا مؤرخ ذو قدر، كابن خلدون. ووجود الخنساء شاعرة بني سليم، وسط هذه البيئة ـ كان مما حدا بالقاضي، أن يقول: "إن شاعرتنا الخنساء نشأت في بيت كان على أعلى ما يكون من الرُقي؛ فهي بنت البيئة الطبيعية، من حيث الفطرة والتربية والحرية والأخلاق. فمن يتأمل حياتها الأولى؛ لا يجد غير النفس الطبيعية الهادئة والسلوك القويم.

زواجاتها:

حول زواج الخنساء ورغبة الخُطاب فيها، تُروي قصص طريفة، تكشف عن جانب مهم من شخصيتها، بل شخصية المكان المتحضر الذي تعيش فيه امرأة عصرية متحررة في فكرها وفي قرارها، بمفهومنا المعاصر، وكيف سمحت لها بيئتها أو لِنَقل: تسامحت معها، ممثلة في أبيها السمح، ذي الشخصية المرنة، الذي ربى ابنته على أن تتخذ قرارها ـ وإن كان مصيرياً يتعلق بزواجها ـ بنفسها.

ولم تكن الخنساء، وفق هذه الحرية، امرأة جانحة بهذه الحرية إلى ما يشين أو يستكرهه الناس منها؛ بل كانت حرية مقيدة ـ إن صح هذا التعبير ـ بوازع من واجب وعادات وتقاليد، تعلي من مكانة قبيلتها، وتعلو بها في الوقت نفسه.

يمكن أن نستشف تلكم المعاني وغيرها كثير، من القصة التي سردتها كتب التراث، وامتصتها المراجع المعاصرة تحليلاً، حول قصة خطبتها، أو محاولة خطبة عظيم من عظماء الجاهلية لها؛ وأعني به دريد بن الصمَّة، الفارس الشاعر الشريف المعروف، سيد بني جُشم وفارسها المظفر. إذ "ما كان لعربي أن يسأل: مَنْ يكون السيد؟ إذ ليس في العرب يومئذٍ من يجهل دريد بن الصمّة الفارس الشجاع، والشاعر الفحل، والقائد المظفر.

وتكاد كل المراجع المعاصرة تتفق ـ متوسلة ـ بما جاء في المصادر التراثية كالأغاني والإصابة، على ما كان من أمر خطبة دُريد بن الصمة للخنساء؛ فالدكتورة بنت الشاطئ تسوق القصة بأسلوب له مذاق خاص من سيدة أديبة تحلل ـ مسترشدة بالمصادر القديمة ـ شخصية سيدة من كبريات شواعر الجاهلية.

تذكر د. بنت الشاطئ مما تذكره من قصة تعرُّف ابن الصمة بالخنساء أنه: "في بادية الحجاز، أناخ الركب رواحلهم، وانطلق (دريد) على فرسه في رياضة قصيرة، فما أبعد حتى استوقفه مشهد آسر: فتاة شابة، لافتة الملامح، خنساء الأنف، ممشوقة القوام (تَهْنَأُ بعيراً لها وقد تبذلت حتى فرغت منه، فنَضّت عنها ثيابها واغتسلت وهي لا تشعر به)[1]، ومضت لسبيلها لا تلوي على شيء، وبقي هو يتبعها بصره وقد عرف فيها (تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُلمي، أخت صديقه معاوية، وقد لقبوها بالخنساء لخَنَس بالأنف)، حتى إذا غابت عنه وراء منعطف الوادي، أغمض عينيه في غفوة منتشية، نبهه منها صهيل فرسه".

تلك كانت بداية تعرف دريد بالخنساء.. إعجاب جسدي ـ في عصر لم يدركه الدين الإسلامي ـ بفتاة حسناء من قوم شرفاء يعرفهم ويعرفونه. ولم يكد يسفر الصبح، حتى كان دريد بن الصمة في ديار سُليم خاطباً للخنساء؛ فتلقاه عمرو بن الشريد أبو الخنساء، مرحباً به، وسائلاً إياه: أي ريح طيبة ساقتك إلى بني سُليم؟ فأخبره دريد بما جاء من أجله. فقال الأب في حرارة ومودة: مرحباً أبا مرّة، إنك لَلْكريم لا يُطعن في حسبه، والسيد لا يرد عن حاجته، والفحل لا يُقرع أنفه (أي لا يُنَال منه، لا يستطيع أحد أن ينال منه؛ لمكانته العالية وبأسه وسطوته). وسكت برهة، ثم أضاف متحرجاً، في صوته نبرة المعتذر والواثق معاً: ولكن لتماضر في نفسها ما ليس لغيرها. وأنا ذاكرك لها، وهي فاعلة. ولم يشأ عمرو أن يرجئ الأمر إلى غدٍ؛ بل استأذن السيد الضيف، ودخل على ابنته في فرحةٍ يقول: يا خنساء، أتاك فارس هوازن وسيد بني جُشم: دريد بن الصمَّة، يخطبك، وهو مَن تعلمين (أي تعلمين قدره ومكانته). فماذا كان رد الخنساء؟!

لقد كان ردُّها وردُّ أبيها، وفقاً لردها، على خطبة دريد، ما قد يكون للقارئ معه مواقف ورؤى، يستشفها من شخصية الخنساء. إذ لم تجب أباها بسرعة، ولكنها فكرت طويلاً، ثم أجابته قائلة: يا أبت، أتُراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرّماح، وناكحة شيخ بني جشم، هامةِ اليوم أو غدٍ؟ (أي هل أترك شباباً فتياً قوياً ينبض بالقوة والحيوية، وأتزوج من شيخ كبير سيحنيه الدهر اليوم أو غداً؟) فلم يملك أبوها إلا أن يرجع إلى ضيفه، ويقول معتذراً: ياأبا قرة، قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعد. ولم يكن عمرو يدري أن دريداً سمع جواب الخنساء، حتى قال رداً على الأمل الكاذب الذي تعلل به أبو تماضر: (قد سمعت قولكما.) وانصرف ولم يزد.

وإذا كانت المراجع الحديثة قد أوردت قصة خطبة دريد للخنساء، وما كان منها، فإن كثيراً منها لم يقف عند مغزى القصة تحليلاً، وما نستشفه فيما يدور حول شخصية الخنساء. وهذا أمر مهم تنبه إليه د. الحيني، الذي يرى أن موقف الخنساء ذو دلالة، تجعله يقدم عدة ملحوظات مهمة منها: أنها كانت تعتز بجمالها وصباها، مطمئنة إلى أن يفد إليها الزوج الملائم لشبابها، مثلها مثل أي فتاة جميلة في أي عصر، تلقى في بيت أبيها رعاية، ولا تلقى قلقاً نفسياً على مستقبلها كأنثى، ما يدفعها دفعاً لقبول أول طارق يطلب يدها.

ويضيف د. الحيني، أنها أبت أن تبيع جسدها لمتعة غيرها، لذلك الذي لم يجذبه إليها سوى مفاتن جسدها؛ كما أنها أقامت رأيها، على أساس فارق السن بينهما: هي شابة في مقتبل العمر، وهو شيخ أحنته السنون؛ فكيف يتلاقيان ذوقاً وروحاً وقلباً... هذا الفارق الخطير بينهما جعلها ترفض عرض دريد للزواج منها، وهي تعلم يقيناً ماذا ستلقى من أثر هذا الرفض؛ تعلم أنه شاعر، ورفضها يعرضها للتشهير بها، ومع ذلك أبت عليها نفسها إلاّ التكافؤ في السن؛ وهو مبدأ لا تسعى وراءه إلا الفتاة الممتلئة بشخصيتها، والتي تزن الأمور بعقلها.

بعد أن أعلنت الخنساء رفضها لسيد هوازن، دريد بن الصمّة، وتترك بني عمها كعوالي الرماح، لم يطل مكثها بلا خاطب جديد؛ إذ توافد لخطبتها بنو عمومتها. وهناك سؤال ألح على دارسيها ومورخيها، كبنت الشاطئ التي تتساءل ثم تجيب قائلة: "ولكن أي بني العم يكون زوجاً لتماضر الخنساء؟ أغلب الظن أنها لم تكن تعني أحداً منهم بذاته، حين قالت ما قالت، إذ يبدو من أسلوبها، ومن ملامح شخصيتها، ومن حديث أبيها عنها، أنها كانت تملك أمر نفسها، وتضبط عواطفها؛ بل أكاد أقول إنها كانت صارمة الإرادة، برزة متحررة، في تلك البيئة، التي قيل عنها إنها استعبدت الأنثى، وأنزلتها منزلة الهوان.

المهم أن المقام لم يطل بالخنساء طويلاً بلا خاطب أو زوج، بعد قصتها مع دريد، بل سارع إلى خطبتها بنو عمها، الذين لم ترضَ أن تتركهم كعوالي الرماح. وقد كان الفائز بخطبتها أولاً زوجها الأول. إن أول أزواجها من بني عمومتها كان اسمه رواحة بن عبدالعزَّى السلمي الذي ولدت له ابنه الوحيد البكر عبدالله المكنى بأبي شجرة. ويبدو من ذكر المصادر والمراجع التي أرخت للخنساء أنه لم يكن في جماع شخصيته كفئاً للخنساء. "إذ كان رواحة هذا شاباً جاهلياً، يلهو لهو هؤلاء الشبان الجاهليين، الذين منهم من كان يجد لذته في الخمر والنساء، كطرفة بن العبد.. ومن كان يرى لذته في الخمر وحدها مثل عنترة العبسي؛ أما رواحة فكان لهوه الميسر، يبذل فيه ما جمع حتى ينفد ما في البيت، كما يقولون، فتضطر الخنساء إلى الاستعانة بأخيها صخر، الذي كان يعطيها ما تريد".

وعن علاقة الخنساء بزوجها الأول رواحة، ترى د. بنت الشاطئ، بعد استقراء كتب التراث، وتحليل هذه العلاقة أن "الراجح كذلك، أنها كانت في حياتها الزوجية الأولى، تعاني من القلق والضيق وعدم الاستقرار، وأن الرواحي هو الزوج المقامر المتلاف الذي طالما شكته، ولعله ضاق بها غير مرة، فَهَمَّ بالرحيل عنها لولا أنها أمسكته إشفاقاً على ولدها، وقالت له وقد تهيأ للمضي: (أَقِمْ وأنا آتي أخي صخراً فأسأله) فأقام عبدالعزى وأتت أخاها، فشكت إليه حالها، وما تلقى من ضيق العيش، فما كان من صخر إلى أن شطر ماله شطرين، أعطاها خيرهما.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتلف فيها رواحة ماله. ولم تكن هذه المرة الأولى أيضاً، التي تلجأ فيها الخنساء إلى أخيها، شاكية ضيق ذات يدها، بسبب فعل زوجها المقامر؛ بل تكرر ذلك مرات عديدة. وفي كل مرة، كان صخر أخاً باراً كريماً سخياً، يشطر ماله، ويعطيها أحسن شطريه. حتى إذا كانت الرابعة، وهمَّ صخر بأن يشاطر أخته ما بقي من ماله، قامت إليه زوجه فعذلته قائلة: (إن زوجها مقامر، وهذا ما لا يقوم له شيء، فإن كان لابد من صلتها فأعطها أخس ما لك، فإنما هو متلف، والخيار فيه والشرار سيّان، فكان جواب صخر:

والله لا أمنحها شـرارها          وهي حَصَان قد كفتني عارها

ولو هلكتُ مزّقت خمارها          واتخذت من شَعَرِ صـدارها

ثم شطر ماله، فأعطى أخته أفضل شطريه، دون أن يدري أنه بهذا الذي قال وفعل، قد أثقل كاهل تماضر بدين باهظ الأداء، وفرض عليها أن تمزّق خمارها من بعده، وتتخذ من شعر صدارها....

إن موقف صخر من الخنساء يكشف عن خصوصية في العلاقة بين الأخوين، أسهبت فيها كتب التاريخ بعامة، وتاريخ الأدب بخاصة، وربما تكشّف عن الحوار السابق بعضً من هذه الخصوصية؛ التي كان من ثمارها ذلك المبدأ المفجع، الذي ألزمت به الخنساء نفسها، والمتمثل في حلقها لشعرها، ولبسه صداراً حتى قرب مماتها، حزناً على موت أخيها صخر. ولم يغير الإسلام من موقفها، تفجعاً على موت أخيها. كما سنعرف حين نفرد لهذه الخصوصية حديثاً، يلقي مزيداً من الضوء على تلك العلاقة المتميزة في جانب الأخوة. ربما بما يمكن أن نعده نموذجاً فريداً في تاريخ هذه العلاقة الإنسانية.

ولعل الموقف السابق يكشف عن نبل العلاقة بين الأخوين من جهة، والالتزام الأخلاقي نحو الزوج، وإن كان متلافاً، من جهة أخرى. إن صخر لم يستمع لنصيحة زوجه، معلياً ومتفهماً، في الوقت نفسه، لشخصية أخته الشريفة (الحَصَان) التي كفته بعفتها عارها، ثم إدراكه لطبيعتها المحبة لأخيها؛ حيث إن مات ستمزق خمارها، وتتخذ صداراً من شعرها، تضعه على صدرها؛ وهذا ما فعلته، حباً ووفاءً لأخيها.

المهم أن تلك العلاقة بين الخنساء وزوجها عبدالعزّى لم تدم على هذا التوتر طويلاً، وانتهت بالانفصال. وقد تباينت وجهات نظر المؤرخين للخنساء، حول أسباب هذا الانفصال. وكل ما سنفعله نقل رؤاهم، دون ترجيح رأي على رأي. فالدكتورة بنت الشاطئ، ترى أن حياتهما الزوجية لم يكن من الغرابة أن تنتهي بالانفصال، بعد أن طال بها التعثر والقلق، وطالت من الخنساء الشكوى والرغبة في الانعتاق. وتتساءل د. بنت الشاطئ ألم تكن تماضر تعرف داء زوجها، قبل أن ترضاه زوجاً؟ وبخاصة أنه غير غريب عنها؛ فهو من عشيرتها. ثم تجيب عن سؤالها، بما مفاده: أن داء المقامرة الذي كان سبباً رئيساً في الطلاق، لم يستفحل بالزوج إلا بعد أن تزوج. ومن الأسباب أيضاً التي تقدمها، أن الزوج قد فقد في حياته الزوجية ما كان ينشده من أنس وسكن، مفتقداً في زوجته لين الجانب ودماثة الطبع، ولطف المعاشرة، فمضى يتسلى بالمقامرة، حتى استعصى داؤه على المعالجة.

أما د. الحيني، فهو يرى أن داء الميسر لم يكن حكراً على عبدالعزى؛ ولكنه كان مرضاً من الأمراض الاجتماعية في العصر الجاهلي، يمارسه الشبان؛ ليدلل المقامر على أنه ذو ثراء ومن الطبقة الممتازة. ومن هنا، لا يظن د. الحيني أن هذا الداء استفحل عند رواحة وجعله ينشط بعد زواجه؛ لأنه كان مستفحلاً عنده من الأصل، شأنه في ذلك شأن هؤلاء اللاهين. وربما كان سوء الحظ، فيما يرى د. الحيني، هو الذي أساء إلى رواحة فجعله صفر اليدين. بل إن د. الحيني يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يرى أن الخنساء لم تكن لتضيق بهذا الخلق من زوجها؛ لأنه خلق جاهلي يتصف به السادة.

وخلاصة الأمر، أن الانفصال كان هو النتيجة النهائية لعلاقة غير مستقرة بين الخنساء وزوجها الأول. لينتهي بها المطاف من جديد في بيت أبيها، وهي "ما تزال فتية صالحة للزواج. ولا نستغرب أن يكون زوجها الثاني من بني العم أيضاً (مرداس بن أبي عامر السلمي)، وكان يلقب بالفيض لسخائه.

وإذا كان المؤرخون قد سكتوا عن ذكر طبيعة العلاقة بين الخنساء وزوجها الثاني مرداس؛ فإن المحدثين يرون أن حالها معه كان أفضل من حالها مع رواحة. ولعلهم يقدمون بطريق غير مباشرة دليلاً على هذا؛ مرثيتها فيه بعد موته، والتي يعدّونها ـ بحق ـ من عيون المرثيات في الشعر العربي. وإن كانت، على الرغم من روعتها، دون ما قدمته في أخيها صخر، الذي كان معروفه طاغياً في حضوره على حضور زوجها مرداس في حياة الخنساء كما تذكر د. بنت الشاطئ. تقول الخنساء في مطلع قصيدتها في رثاء زوجها مرداس:

ولما رأيـت البدر أظلـم كاسفاً               أرنَّ شـواذٌ بطنُـه وسـوائلُه

رنيناً وما يغني الرنين وقـد أتى               بموتك من نحو القُرَيَّةِ حاملـه

لقد خارَ مرداساً على الناس قاتِلُه               ولـو عـاده كنَّاتُهُ وحـلائله

وقلـن ألا هل مـن شفـاء يناله               وقد منع الشَّفَّاءَ من هو نائلـه

وفضَّل مرداساً على الناس حلمه               وأنْ كلُّ همٍّ همَّهُ فهـو فاعلـه

وإذا أردنا شرح الأبيات بما يجلو معناها، وما يحمله من ودٍ ومكانة لمرداس في قلب الخنساء؛ فإننا نقول: إنها تبدأ مرثيتها المتفجعة بذكرها، أنها لما رأت البدر قد أظلم لاحتجاب ضوئه وفق تصورها كاسفاً حزيناً؛ راودها إحساس غائم ينقبض له القلب، وقد عاد فرسان الحي، تثير حوافر خيلهم تراباً ـ يحجب وجه البدر الذي يبدو ـ في إحساس غائم بالتشاؤم ـ كاسفاً، متخيلة صدى صوت مرداس يرن في جنبات الوادي، حيث بطنه في وسطه، وجنباته ومجاري الماء فيه، وهي التي تعودت أن تشعر بمقدم هذا الزوج؛ ولكنه رنين كلا رنين؛ لأنه لا يغني على الموت شيئاً. وقد جاء ناعي الموت الذي نعاه من نحو القرية، يحمل خبراً حزيناً. ثم تنتقل الخنساء إلى وصف جانب من خصوصية شخصية مرداس، حباً ومكانة عند أهله. إن قاتله قد اختاره من بين الفرسان، والمسكوت عنه، وراء قولها، أنه اختاره لشجاعته وبأسه وافتخاره بقتل فارس مثله، ليخلف قتله فجيعة لأهله ممن أسرعن يداوينه من زوجاته ونساء أبنائه؛ ولكنه الجرح الذي لا برء منه. فقد حاولن ما وسعتهن المحاولة، متسائلين في لهفة (ألا هل من شفاء يناله؟!)؛ ولكن هيهات، وقدر الله نافذ لا محالة. ويبقى من المسكوت عنه خلف هذه الأبيات، تلك العاطفة المكنونة في قلب الخنساء حيال زوجها مرداس.

وتتضح قيمة مرداس أكثر، مع البيت الأخير، بوصفه فارساً، يجمع إلى جانب الفروسية ـ التي كانت الخنساء من عشاقها في رجال كأخيها صخر ـ حلماً تؤازره قوة إرادة من رجل إذا قال فعل. فهو مقتحم للصعاب بحلمه وخلقه الهادئ، غير هياب للمخاطر... وهكذا تستمر مع باقي أبيات القصيدة معددة صفاته، فارساً يجمع بين النفسي والجسدي، بما يمكن أن يكشف عن مكانة هذا الزوج في قلبها.

أولادها:

المتفق عليه بين مؤرخي الخنساء أن أولادها، فهذا كما يقول د. الحيني: "ما تفصح عنه المصادر ولا عبرة بقولة على لسان راوٍ متروك، خمسة، أربعة ذكور وأنثى واحدة. أما الذكور، فأولهم عبدالله المعروف والمكنّى بأبي شجرة وهو ابنها من زوجها الأول رواحة بن عبدالعزى. وكان هذا من المرتدين عن الإسلام، الذين انضموا إلى طليحة مقاتلاً ضد المسلمين؛ ولكنه عاد بعد ذلك إلى الإسلام. ومن شعره الذي قاله مرتداً منوهاً بحربه ضد خالد بن الوليد قوله:

ألسنا نعاطي ذا الطماح لجامـهُ               ونطعن فـي الهيجا إذا الموت أقفرا

وعارضة شـهباء تخطر بالقنا               ترى البلق فــي حافاتهـا والسَّنورا

فرويت رمحي من كتيبة خـالدٍ               وإني لأرجـــو بعدهـا أن أُعمَّرا

الأبيات تكشف إلى أي حدٍ كيف يعود المرتد إلى جاهليته بعد إسلام غير مستقر في القلب؛ فهي تكشف عن فخر جاهلي ضد كتيبة مسلمة، روّى رمحه من دمها، حتى إنه ليتمنى أن يُعَمَّر عمراً طويلاً؛ ليفتخر بهذا النصر على المسلمين. لكن ما يهمنا، أن ننوّه بأن أبا شجرة عاد إلى الإسلام، وكان بعد ذلك ضمن شهداء القادسية التي انتصر فيها المسلمون. فافتخرنا به مع الخنساء ضمن بنيها الأربعة.

وللخنساء غير أبي شجرة ثلاثة ذكور، هم: معاوية ويزيد وعمرو وابنة وحيدة هي عَمْرة؛ وكلهم من مرداس بن أبي عامر. ومعظم ما جاء من أخبار بنيها، وبخاصة الذكور، مختلف فيه بين المؤرخين: قدامى ومحدثين. فهي لم ترثهم بقصيدة، ولم تذكرهم. غير أن المؤرخين يكادون يتفقون على أنها فقدتهم شهداء في معركة القادسية، مرددين مقولتها مفتخرة بشهادتهم "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة".

وللخنساء مع ابنتها عمرة قصة طريفة ـ وإن شَكَّك فيها المؤرخون المعاصرون ـ يرويها لنا ناشر ديوانها حيث يقول: "حدَّث علقمة بن جرير، قال: أقبلتُ يوماً أسوق شارفة لي من الإبل، أريد نحرها عند الحي، فأدركني الليل بين أبيات بني الشريد، فإذا عَمْرة بنت مرداس عروس، وأمّها الخنساء عندها، فقلت لهم: انحروا هذه الجزور، واستعينوا بها، وجلستُ معهم، ثم أُذن لنا فدخلنا، فإذا هي جارية وضيَّة يعني عَمْرة، وأمها الخنساء ملتفة بكساء أحمر، وقد هرمت (كبر سنها)، وكانت تلحظ الجارية لحظاً شديداً، فقال القوم: بالله ياعمرة، إلا تحرشت بها (أي تعمدت إغاظتها وإثارتها)، فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه، فقامت الجارية تريد حاجة، فوطئت على قدمها وطأة أوجعتها، فقالت مغيظة: أفٍّ لك ياحمقاء، إنني كنت أحسن منك عُرساً، وأطيب ورساً (نبات له صبغ أصفر تزين به النساء)، وأبسط منك عرفاً (رائحة طيبة)، وأرق منك نعلاً، وأكرم منك بعلاً، وذلك إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، لا أذيب الشحم، ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنيع، لا مضاعة عند مضيِّع ـ فتعجب القوم من غيظها من ابنتها".

وعلى الرغم من طرافة القصة، فإن د. الحيني يشكك في صحتها، ويقدم لذلك أسباباً منها: أن القصة لم تتعرض لذكر زوج عمرة، وأنها تجعل الخنساء تظهر بلباس أحمر، وهي التي لم تخلع صدار الشعر بعد موت أخيها صخر. ولو فرضنا أنها تحللت منه يوم عرس ابنتها؛ ما يدل على الفرح، فهل يعقل أن تقول لابنتها ما قالته، غيرةً منها، في يوم عرسها؟ أما عقد المقارنة بين ما ابنتها فيه، وما كانت هي عليه ليلة عرسها، والمقارنة بين الزوجين؛ فأمر لم يكن هناك ما يثيره، وفشلت القصة في إيراده. وعلى الرغم من أن مكانة زوجها والد عمرة أعلى من مكانة زوج عمرة، فإن عمرة يسعدها ولا يغيظها أن تكون مكانة أبيها أعلى من مكانة زوجها. ثم يقدم د. الحيني، سبباً فنياً وجيهاً، يشكك في نسبة القصة للخنساء، يتعلق بالصياغة؛ ذلك أن العبارة مصاغة صياغة فنية، فيها تأنق وعناية باختيار الألفاظ، ولن يتأتى ذلك بالبديهة، وفيها من الجناس ما لم يكن يعرفه عصر الخنساء، كما يبدو في: عرساً، ورساً ـ نعلاً، بعلاً.

أخواها ... وخصوصية علاقتها بصخر:

لم تذكر مصادر التاريخ للخنساء غير أخوين، كلاهما مات مقتولاً في الجاهلية؛ وهما: معاوية وصخر. وقد كانا للخنساء عِوضاً حقيقياً عن محنة الترمل وفقد الزوج. وقد مر بنا كيف كفاها أخوها صخر مذلة الحاجة، بأن شاطرها ماله أربع مرات، على الرغم من تحذير زوجه له من مغبة إتلاف زوجها المال.

وقد روى الأصفهاني في الأغاني طبعة بولاق ج13 قصة هلاك الأخوين، وننقلها عنه معنىً لامتنّا. أما سبب قتل معاوية فكان النساءُ؛ إذ كان فتى مزهواً بجماله وفروسيته. وبينما هو يسير، لقي "أسماء المرية" فأعجبه جمالها، فدعاها لنفسه، وكان يحسبها بغياً ساقطة، ولم يعرف أنها شريفة. فامتنعت عليه قائلة: أما علمت أني عند سيد العرب: هاشم بن حرملة الغطفاني؟، فقال وقد أثارته بردها: أما والله لأقارعنه عنكِ، فهزّت كتفها قائلة في تحدِ: شأنك وشأنه. ومضت الجارية لتخبر سيدها بما كان من أمره. وانطلق هاشم مغضباً إلى معاوية، يسأله عن الخبر؛ فأثار معاوية غضبه بأن قال له: "لوددت أني قد سمعت بظعائن يندبنك"؛ (أي يتمنى قتله فتبكيه النساء الظعائن؛ أي اللواتي يركبن في الهوادج). فما كان من هاشم إلا أن أشار إلى لِمَّة معاوية (أي مجتمع شعر رأسه) متمنياً قطعها: "والله لوددت أني قد بَريت الرّلهبة". فما انفض الموسم إلا وقد عقد معاوية العزم على غزو بني مرة، فنهاه صخر؛ لكنه أبى إلا أن يمضي، لولا أنه تشاءم ـ على عادة الجاهليين ـ من ظبي سنح له. فدعاه فرسان بني سليم للعودة، وألحّوا عليه، فعاد. فقال هاشم: "ما منعه من الإقدام إلا الجبن".

فلما أغار عليهم معاوية في عام قادم، سنح له الظبي؛ ولكنه أصر على الغزو، فعاد من معه من الفرسان، إلا تسعة عشر فارساً، ثبتوا معه. فلما علم بذلك هاشم من امرأةٍ، شاهدتهم عند عين ماء؛ خرج فباغت معاوية، فقتله.

فلما علم صخر بمقتل أخيه، لم يهدأ إلا قليلاً، بعد أن علم أن فرسان بني سليم قتلوا بأخيه معاوية سيداً من بني مرة هو مالك بن الحارث. ولم يرض صخر بذلك. ولم يسترح، حتى غزا بني مرة، وقتل واحداً من قاتلي أخيه؛ وهو دريد المرِّي أخو هاشم الذي نجا من القتل. وعاد صخر إلى قومه، بعد أن خرج بنو مرة لطلبه، بعد أن تصدى لهم العباس بن مرداس، كما يروي صاحب الأغاني.

وقد كان مقتل صخر، كما تنقل بنت الشاطئ عن (أيام العرب، ط الجلبي 1942م ص399) حين خرج (يوم ذي الأثل) قائداً لبني خفاف، فأصابوا في بني أسد بن خزيمة غنائم وسبياً. وأصابت صخراً، يومئذٍ، طعنة في جنبه، فرقد جريحاً، مدة سنة ونصف، بين الموت والحياة. وكانت تبرز من جنبه كتلة دم تشبه الكبد، قطعوها له قطعاً؛ مات بعدها.

وقد كان مكوث صخر، على هذه الحالة، بين الموت والحياة، بمثابة اختبار لمكانته بين نساء بيته، ممثلاتٍ في زوجه وأمه والخنساء، بين ضيق وإشفاق حزين، وتفجع؛ على الترتيب. أما زوجه فقد مثّل موقفها خير تمثيل ردها على أحد العواد: كيف أصبح صخر الغداة؟ فأجابت: بشرّ حالٍ: لا حي فيرجَى، ولا ميت فينعى، ولقد لقينا منه الأمرين. وسمعها صخر؛ فكان ذلك أشد عليه من ألم الجرح ومحنة العجز. إذاً، فقد ثقل على امرأته التي أحبها جهد الحب.

أمّا أمُّه، فشأنها شأن كلّ أمِّ عطوفٍ حنون. كان موقفها مبايناً لموقف زوجته. إذ قد مرّ عائد آخر، وهي على باب الخباء، فسألها عن حاله : كيف أصبح الغداة وكيف بات البارحة؟. أجابت: بأحسن حال. ما كان قد اشتكى خيراً منه اليوم، ولا نزال بخير ما رأينا سواده فينا.

وتصوّر د. بنت الشاطيء، بقلمها، ذلك الموقف الذي أشارت إلى قسماته ـ نقلاً عن الأغاني ـ بقولها: "فلمست كلمتها قلب الفارس العاجز، وأذابت حرارة حبّها ذلك الركام الثلجي الذي كان يكفّنه، منذ سمع مقالة سلمى، وأنشأ يقول:

أرى أمَّ صخرٍ لا تملُّ عيادتـي               وملّت سليمى مضجعي ومكاني

لَعَمْري لقد نبّهت مَنْ كان نائماً               وأسمعت مَنْ كانت لــه أذنان

وأيُّ امـرئٍ ساوى بأمٍّ حـليلة               فلا عـاش إلاّ في شقا وهـوان

والأبيات ناطقة بفارق عاطفي بين أمّه وزوجه، التي صَغَّرها لصغر شأنها (سُلَيمَى). فالأم لا تساوي، بحالٍ من الأحوال، الزوجة: موقفاً وصلة رحمى.

أمّا الخنساء فقد أحبت صخراً، لا مشاحَّة في ذلك ولا ريب، فقد حفظت معروفه في حياته. وملأت عليه الدنيا عويلاً شعرياً حارّاً، بعد موته ـ كما سنعرف بعد قليل. وعن موقفها وشعورها من مرضه، وقد علمت بعملية قطعهم لما نتأ من جرحه؛ فإنّ د. بنت الشاطئ تصوره على النحو التالي: "إذاً، فالمسكينة لم تطق أن تشهد العملية؛ بل انتظرت بعيداً على أحرّ من الجمر. حتى إذا انصرفوا من عنده، بعد أن قطعوا ما قطعوا، سألت في لهفةٍ وتوجّع: "كيف كان صبره؟".

وكان فضل صخر فارقاً في حياة الخنساء نفسياً واجتماعياً؛ بل على كل الأصعدة الإنسانية، وكأن حياتها الآمنة الهانئة قد انتهت بموت صخر. ليعلن موته، من منحى إيجابي، مولد أهم شواعر العرب شغلاً لرؤى نقّادها، وهم يقرأون مراثيها في صخر، تسيل عاطفةً حارقة، ومؤجَجة لمتلقيها. "إنّ نفسية الخنساء المحبَّة لأبيها وأخويها: معاوية وصخر ـ ظلّت كتيار الماء الهادئ الرائق تتخلّل غابة الحياة. حتّى إذا ما وصلت مفترق الطرق من الزمان عند موت أخيها صخر، فاصطدمت بالمصيبة، عاد ذلك التيار مضطرباً كدراً. وهكذا، لم يتيسّر له الهدوء. حقيقةً أنها كانت قد حزنت لقتل أخيها معاوية، إلاّ أنها كانت ترى وجود أخيها صخر خير عزاء لها، وخير عوض، خاصة أنَّ دم معاوية لم يذهب هدراً، بالنسبة إلى ما تعارفوا عليه من عادات، إذ كان القوم قد أخذوا بثأره.

ويكفي المتلقي أنْ يعايش طائفةً من أبياتها المتفجّعة على أخيها صخر؛ ليستبين له صدق المعنى والإحساس يلتقي مع صدق فنّ الرثاء. تقول الخنساء، وقد تلقّت نبأ وفاة أخيها:

لقدْ صوَّت النَّاعي بفقد أخي النَّدى               نـداءً لَعَمْري ـ لا أبالك ـ يُسْمَع

فقمتُ  وما كادت  لروعة  هُلكـِه               وإعزازه  نفسي  من  الحُزنِ تتبَعُ

البيتان بسيطان وناطقان، في الوقت نفسه، بتأثير صدمة فقد أخيها على نفسها؛ حتى إنها جعلت لصوت الناعي عويلاً يسمعه كل الخلق، كادت نفسها ـ لمصيبة فقدها عزيزاً على قلبها الحزين ـ أن تهلك وتتبعه مّيتةً. ولا يفوتنا بساطة تشبيهها له وروعته في تشبيه بليغ بالنّدى، أي الكرم. غير ناسية في حومة الحزن، أن تعدّد من صفاته أكرمها، وصنائعه معها، أيّام سقطات زوجها المقامر، فكان السخيّ المعطاء. ولا تخلو قصائد كثيرة للخنساء، في رثاء صخر، مِنْ ذكر هذه الصفة. فهي القائلة في قصيدة أخرى، تعداداً لصفاته:

يا عينُ بكِّي على صَخّرٍ لأشجانِ               وهاجس في ضمير القلب حرَّانِ

إنّي ذكـرت ندى صخرٍ فهيجني               ذكْر الحبيبِ على  سُقْمٍ وأحزانِ

فابكـي أخاكِ  لأيتام أضرَّ بـهم               رَيْبُ الزمانِ وكلُّ الضُّرَّ أغشاني

إنها تتجاوز بكاءها على أخيها، إلى طلب عينها أنْ تبكِّي لمكانته العالية غيرها، لأحزانها وجرحها، وهواجس في نفسها (أي ما تحدّث به نفسها)، يكتمها قلبها الحران، الذي يزداد لهيبه، كلما ذكرت كرم أخيها الحبيب الذي خلّف موته لقلبها الأمراض والأوجاع. ولكي تزيد من إيلامها وإيلامنا، طلبت أنْ تبكي أخاها لدواعٍ إنسانية أخرى، منها تركه لأيتام أمام مصائب الزّمان، حتى غَشيها الضرّ والهمّ أمام مصابهم.

ولا يقف رثاء الخنساء عند ذكر النّدى من مناقب صخر وصفاته؛ بل إنه يتعدى هذه الصفة إلى صفات أُخر، جمعتها في قصيدة مشهورة، يرددها كثيرون؛ منها تلك التي تقول في مطلعها:

أعينيَّ جـودا ولا تَجْمُـدا               ألا تبكيان لصخر النّدى

ألا تبكيان الجريءَ الجميعَ               ألا تبكيـان الفَتى السِّيّدا

رفيعُ العمادِ طويلُ النجـاد               سادَ  عشـيرتَهُ  أمْرَدا

مرّة أخرى، تطلب الخنساء من عينيها أن يجودا بالدمع ولا يجمدا. وكيف لا تبكي لصخر الكرم. الذي يجمع إلى صفة الكرم، الجرأة إذا هاب غيره المخاطر؛ وكذلك صفة الجميع، وهي صفة يقول عنها شارح الديوان: "أي المجتمع القلب، لا يذهب قلبُه شَعَاعاً من الفرق. والشّعاع هو المتفّرق المنتشر؛ وذهب قلب فلانٍ  شَعَاعاَ: أي تفرقت هممه. أما الفرَق، فهو الخوف. ثم تقسّم الخنساء، على بحر المتقارب، صفات صخر الأخر، عبر كنايات تبرز مكانته. "فهو رفيع العماد: أي أنَّ بيته طويل العمد واسع ... أي بيته بيت رجل موسع، يطعم تحته ويقري". فهذه كناية عن صفَة الكرم والشرف؛ لأن العرب كانوا يستحسنون البيت مرتفع العمد، عند السادة الشرفاء.

أمّا طول النجاد، فهو ـ كما يرى شارح الديوان ـ "كانت حمائل سيفه طويلة ... قال الأصمعي: طويل النجاد، أرادت أنه طويل الجسم. وإذا كان كذلك؛ لم يكن نجاده إلا طويلاً". وهذه كناية عن الفروسية. لأنَّ العرب كانت تعتدّ بفروسية الطويل من الرجال، ليليق عليه السّيف. لذلك قالت الخنساء بعد ذلك: إنه ساد عشيرته، منذ كان صبياً أمردا، لم تنبت له لحية.

وكم كان د. أنور أبو سويلم، محقق ديوانها، محقاً، حين وقف عند رثائها وتفننها فيه قائلاً: "بلغت الخنساء أقصى مراتب الشهرة، برثائها الحزين ونشيجها المؤلم، ولوعتها التي لا تنقضي؛ وجالت في أعماق النفس تجتلي الضعف الإنساني أمام الموت الهائل، مستسلمة حيناً، ورافضة في أكثر الأحيان، تمجد القوة والنصر، وتبتغي الحياة فلا تلقى إلاّ دماراً وهلاكاً وموتاً زؤاماً. وقد ملأت الدنيا انتحاباً ودموعاً وعويلاً؛ وحفرت أشعارها حفراً في قلب كل موتور حزين؛ وعبّرت بأشعارها الرقيقة أصدق تعبير عن مرارة الثكل، وألم الموت؛ وصوّرت التجربة الإنسانية المؤلمة أدقَّ تصوير، فكان شعرها خالداً نحسّه، ونتجاوب معه، وننفعل به".

حزن الخنساء والإسلام:

عرفنا، من المصادر التاريخية، أنَّ الخنساء دخلت الإسلام مع قومها من بني سُليم. وعلى الرغم من حسن إسلامها؛ فإن الإسلام لم يغيّر من حزنها شيئاً، فبقيت نادبة تبكي السادات من مضر ـ على حدّ قولها ـ لم تستمع في حقّ قصرها البكاء عليهم ـ لنصيحة ناصح، ولو كان في مقام عمر بن الخطاب، وعائشة ـ رضي الله عنهما.

أمّا موقفها مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، "فلا أدلّ على ذلك من أنّها حين قدمت مرّةّ حاجَّةً، ومرت في المدينة، ومعها ناسً من قومها، كانوا يتألمون لها، ويرثون لحالها؛ أتوا عمر بن الخطاب، فقالوا: هذه الخنساء لم تزل تبكي على أبيها وأخويها في الجاهلية، حتى ذهبت وأدركت الإسلام، وقد قرحت مآقيها، فلو وعظتها يا أمير المؤمنين: فقام حتى أتى إليها؛ فإذا هي على ما وُصِف له، فقال: يا خنساء ما الذي قرّح عينيك؟ قالت: البكاء على السادات من مضر. قال حتى متى يا خنساء؟ اتقي الله. إنَّ الذي تصنعين ليس من صنع الإسلام؛ وأنه لو خلدّ أحدٌ لخلّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ وإنّ الذين تبكين هلكوا في الجاهلية. قالت: ذلك أطول بعويلي عليهم" ... ويمكن أن يفهم من قولها إنَّ طول عويلها عليهم، كان بسبب عدم إدراكهم نور الإسلام.

ولعلّ عمر لم يعنّفها وأخذها باللين، تأسياً بالرسول ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ، الذي كان يرقّ لشعرها. ذلك أنه كما تذكر بنت الشاطئ، نقلاً عن كتب السيرة والتاريخ "استنشدها ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ شعرها في صخر، فراحت تنشده، وهو يصغي إليها بقلبه الكبير، ويستزيدها قائلاً: "هيه يا خُناس" ويومئ بيده. وأبت عليه رحمته وإنسانيته أن يلومها أو يزجرها؛ أنْ لم تتسلَّ بالإسلام عمَّن فقدت".

وعن موقفها مع السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تضيف د. بنت الشاطئ، قائلةً: "وكذلك استقبلتها السيدة (عائشة أم المؤمنين) فقالت لها في رفق، وقد أحزنها أن تراها حليقة الرأس، مرتدية صداراً من شعر تدبّ من الكبر على عصا: أخناسُ!. أجابت الشيخة الحزينة، وقد هزّها الدعاء: لبيَّك يا أماه. قالت تستثير فيها إرادة التصبّر والتجمّل بالعزاء: أتلبسين الصّدار وقد نهى الإسلام عنه؟ قُبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فما لبست هذا. فخفضت رأسها، وهي تجيب في أسى وضعف: لم أعلم بنهيه. فكفَّت السيدة عن ملامتها، وأقبلت عليها تسألها مترفقة: ما الذي بلغ بك ما أرى؟، أجابت وهي تشهق بدمعها: موت أخي صخر ... ولمست الحزينة صدارها، ثم رفعت رأسها إلى أمّ المؤمنين قائلة: واللهِ لا أخلفِ ظنّه، ولا أكذب قوله ما حييتُ. فإن يكن الإسلام قد نهى عن مثل هذا؛ فرحمة الله واسعة.

وتروي كتب التاريخ، التي أرخت للخنساء، تلك التي لم تتسلّ بالإسلام عن حزنها ـ قصة طريفة تستحق الذكر هنا، حول عودتها لشيء غير قليل من الصواب، مجافاة وكفاً عن الحزن، استنبطها من قراءاته إسماعيل القاضي، يذكر ذلك قائلاً: أمّا كيف قد اصطدمت بالحقيقة، فعرفتها، ثم رجعت إلى الصواب؛ فكان ذلك نتيجة حادثة بسيطة... وإليك هذه الحادثة البسيطة، التي كانت سبباً لاتضاح الأمر وانكشاف الضلال. وتتلخص في أنها خرجت يوماً (فإذا امرأة تنوح، فظنت أن بها مثل ما بها، فمضت تساعدها على البكاء حتى انتهى. فسألتها على أي شيء تنوحين؟ فقالت: على جروٍ كلب لي هلك. فكان هذا الجواب مفتاح الفرج وسبب ذلك الانتباه؛ إذ رجعت به الخنساء إلى نفسها، وجمعت تفكيرها ثم قالت: (لا بكيتُ بعد بكائي على جروها أبداً). وهكذا فإنها تركت البكاء، حين وجدت أن لا قيمة له في حقيقة الواقع.

ويضيف القاضي، معلقاً على عقلانية الخنساء، التي ثابت إلى رشدها أخيراً، قائلاً ـ فيما يمكن أن يوافقه عليه المتلقي ـ: وكيف لا؟ وقد وجدت أنها إنْ بكت صخرها لحبها إياه وتقديرها له؛ فإن هذه المرأة قد بكت جرو كلب أحبته، وقد هلك، وإذاً، فأي قيمة للبكاء، وما لها تبكي وتؤذي نفسها، إن كان هذا هو قدر البكاء؟!. يا لها من مفارقة كبيرة بين موقفها من عمر وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ .. وموقفها مع المرأة باكية جروها؟!

وفاتها:

اختلف المؤرخون في تاريخ وفاة الخنساء. ولو وقفنا عند خلافهم، لكتبنا حول هذه القضية صفحات. ولكن ما يمكن أنْ يستراح إليه في شأن وفاة الخنساء، هو ما يمكن أن يستراح إليه في تواريخ ميلاد ووفاة كل أو جل الشعراء الجاهليين. فمن هذه الآراء: ما يعزو وفاتها إلى أول عهد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، ومنهم من يطيله زمناً إلى عهد معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ.

الدكتورة بنت الشاطئ، التي تتحدث عن اختلافات المؤرخين في تاريخ وفاتها، فترى أنها "عاشت بعد مقتل بنيها سنين كثيرة، لا نكاد نسمع خلالها خبراً عنها، حتى ماتت في البادية. أمّا متى ماتت؟، فقد كان المظنون ألا تختلف الأقوال في تحديد عام وفاتها، بعد أن ذاعت شهرتها، وبعد صيتها، وقيد اسمها في (ديوان بيت المال)، بوصفها صحابية، أم شهداء، تأخذ رزق بنيها الأربعة.

ولعل هذا ما يحسن أن نختم به بحثنا هذا. ومعه دعوة للاطلاع على ديوان شعرها، نستجلي من خلاله، فنياً وأدبياً، أروع صفحات الرثاء، مع واحدة من أهم شواعر العرب، يسري النسق الوجداني الحزين الشفيف في شعرها، الذي بكى وأبكى، شاهداً لصحابية شاعرة.

 



[1] معنى نَضَّت: خلعت، ومعنى تهنأ بعيراً؛ أي تطليه بالقطران.