إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









صناعة الشعر

صناعة الشعر

          شاع بين الجاهليين مفهوماً الطبع والصنعة، ومما يؤكد ذلك ظهور مدرسة في الشعر الجاهلي، سميت بعبيد الشعر، تقوم على التجويد وإتقان صناعة القصيدة، واستغراق الزمن الطويل في إعدادها، في مقابل الطريقة الشائعة التي تقوم على الطبع وحده. وقد عرف عبيد الشعر قيمة الراوية والحفظ والتعليم، وساد هذا المبدأ بعد ظهور الإسلام. وكان التشبع بإنتاج القدماء شرطاً جوهرياً للتأكيد على أصالة الشاعر العباسي. ويؤكد أبو هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) هذا الاتجاه بقوله " ومن لم يكن راوية لأشعار العرب تبين النقص في صناعته".

          ويؤكد ابن خلدون في مقدمته على نفي فطرية الملكة الشعرية، فهي في رأيه مكتسبة بفضل الصناعة والارتياد شأن كل كفاءة ذات طبيعة لغوية، فمن الضروري اكتساب المقدرة على إدراك الواقع إدراكاً شعرياً. والوسيلة الأساسية في رأيه هي حفظ أكبر قدر من الآثار الشعرية.

          ومن اللافت للنظر اتفاق الشعراء والنقاد على النظر إلى الشعر باعتباره صناعة. ويغدو أمراً مألوفاً أن يتحدث الشاعر عن قصيدته فيجعلها نقشاً ونحتاً وسبكاً ونظماً ونسجاً وصياغة، وهو لا يتوانى عن إحكام الشبه بين إبداع الشاعر في صناعة الشعر وإبداع النسَّاج والرسَّام وصانع الحلي وضارب الدنانير.

          والربط بين الشعر وسائر الصناعات يؤكد القدرة على تجسيد المعنى، أي إخضاعه للتشكيل والتجسيد وحسن الصياغة. وإلى هذا المعنى أشار الجاحظ حينما ألح على كون "الشعر صناعة وضرباً من النسج وجنساَ من التصوير".

          والشاعر الحاذق - كما يقول ابن طباطبا، في كتابه "عيار الشعر"، شأنه شأن النسّاج الحاذق الذي يفوّف وشيه بأحسن التفويف ويسدّه وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه، وكالنقّاش الرقيق الذي يصنع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشيع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيون".

          وقد تشكك البعض في مفهوم الصنعة وفي أسباب نشأتها، وذلك من خلال مقابلتها بالطبع، مؤكدين على أن استهلاك الحوافز والتعبير هو الذي يدفع إلى الاحتماء بالصناعة وممارسة الأسلوب.

          ويؤكد الجاحظ في كتابه، "البيان والتبيين" هذه المقولة حينما يورد حكماً ليونس بن حبيب، رواه أبو عبيدة قال: "ومن تكسب بشعره والتمس به صلات الأشراف والقادة وجوائز الملوك والسادة، لم يجد بداً من صنع زهير والحطيئة وأشباههما".

          وعلى هذا النحو تكون الصنعة قرينة الرغبة في التجديد في المدح، والبعد عن المألوف في المأثور الشعري القديم.

          وتقترن الصنعة بالبديع والإفراط في استخدامه. ولقد نظر النقاد إلى البديع باعتباره حيلة يلجأ إليها الشاعر تخلصاً من المعاني الشعرية المستهلكة. فالبديع، كما يقول أبو هلال العسكري في الصناعتين، وسيلة للإغراب والتفنن؛ ذاك لأنه لما انتهى قرض الشعر إلى المحدثين ورأوا استغراب الناس للبديع على افتتانهم فيه، وأولعوا بتورده إظهاراً للاقتدار، وذهاباً إلى الإغراب، فمن مفرط ومقتصد، ومحمود فيما يأتيه ومذموم، وذلك على حسب نهوض الطبع بما يحمل، ومدى قواه فيما يطلب منه.

          يرتبط البديع بالإبداع، ويتشكل هذا الإبداع من خلال تحوير المادة القديمة، وتشكيل مادة تفوق جمالية المادة القديمة. لقد ألحّ الشعراء العباسيون في شعرهم على ربط الحداثة بالسّحر والتّحوّل والكيمياء، وهي صفات لا تنفصل بحال عن القدرة العجيبة للشاعر على إحكام صنعته من خلال تشكيل المادة القديمة وتحويرها، وهذه هي بحق وظيفة الصانع الماهر، أي الانطلاق من المواد الأولية التي قدمها الشاعر الجاهلي، ومحاولة تطوير هذه المادة وفق جماليات يفرضها الذوق العصري، كما تفرضها متطلبات الإبداع التي تُطابِق متطلبات الجمهور الذي يتلقى الأثر ويتفاعل معه ويتدخل بشكل مباشر في عملية إنتاج الشعر.

          لقد تكلم الشعراء عن مفهومهم للشعر، انطلاقاً من تصورهم لماهية الشعر ولصناعة القصيدة.

          ويسوق ابن رشيق القيرواني في (العمدة) قول أبي العباسي الناشئ المتوفى عام 293هـ.

م وإن كان في الصفات فنوناً

إنّما الشِّعْرُ ما تناسب في النظـ

قد أقامتْ له الصدورُ متوناً

فأتى بعضُهُ يُشاكلُ بعضاً

رُمْتَ فيه مَذاهبَ المُسْهبينا

فإذا ما مدحتَ بالشعر حرّاً

وجعلتَ المديحَ صِدْقاً مبيناً

فجعلتَ النسيبَ سَهْلاً قريباً

ـعِ، وإنْ كانَ لفظُهُ مَوْزونا

وتنكَّبْتَ ما تهجّن في السّمـ

عِفْتَ فيه مذاهبَ المُرْفثِينا

وإذا ما قَرضْتهُ بِهِجاءٍ

وجعلْت التَعْريضَ داءً دفينا

فجعلْتَ التصريحَ منه دَواءً

ـد وعيداً وبالصعوبةِ لينا

ثم إنْ كُنْتَ عاتباً شُبْتَ في الوَعْـ

حَذِراً آمِناً، عَزيزاً مهيناً

فتركْتَ الذي عَتبْتَ علَيْهِ

ـمِ، وإنْ كان واضِحاً مُسْتبيناً

وأصحََ القريضُ ما فاتَ في النَّظـ

          كما يسوق شعراً آخر للناشئ في معنى شعره الأول، يقول مجسداً مفهومه للشعر:

وشَدَدْتَ بالتهذيب أَسْرَ مُتونِه

الشعرُ ما قَوَّمْت زَيغ صُدورِه

وفَتَحْت بالإيجازِ عُورَ عيونِه

ورأبْت بالإطنابِ شعبَ صُدوعه

باينْتَ بين ظُهورِه وبُطونه

فإذا أردْت كِنايةً عن رُتْبةٍ

ببيانه وظُنونَهُ بِيَقِينِه

فجَعلْتَ سامعَه يشوب شكوكه

أدْمجْتَ شِدَّتَهُ له في لينِه

وإذا عتبْتَ على أَخٍ في زلةٍ

مُسْتَيئساً لِوعوثِه وحزونِه

فتركْتَه مُسْتأنساً بدماثةٍ

واشكْتَ بينَ مُحيلِهِ ومُبينِه

وإذا اعتذرْت إلى أخٍ مِن زلّةٍ

          فمن الواضح أن هناك تصوراً مجسداً لمفهوم الشعر، ولصنعة الشاعر، قد استقرت لدى الشعراء مع أواخر القرن الثاني الهجري.

شروط عمل الشاعر

          يفرد ابن رشيق القيرواني في (العمدة) باباً في آداب الشاعر من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الشاعر، وهي أن يكون (حلو الشمائل، حسن الأخلاق، طلق الوجه، بعيد الغور، مأمون الجانب، سهل الناحية، وطيئ الأكناف، وليكن مع ذلك شريف النفس، لطيف الحسن، عزوف الهمة، نظيف البزة؛ لتهابه العامة، ويدخل في جملة الخاصة، فلا تمجه أبصارهم).

                    والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة، لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عن سواه.

          وينبغي للشاعر أن يحفظ الشعر والخبر، ويعرف النسب وأيام العرب.

          وقد سئل رؤبة بن العجاج[1] عن الفحل من الشعراء، فقال: هو الراوية، يريد أنه إذا روى استفحل.

          قال يونس بن حبيب: "وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة".

          وقال الأصمعي: "لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ".

          وأول ذلك أن يعلم العروض؛ ليكون ميزاناً على قوله؛ والنحو، ليصلح به لسانه؛ والنسب وأيام الناس؛ ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب.

          ثم إن للناس فيما بعد ضروباً مختلفة: يستدعون بها الشعر، فتشحذ القرائح وتنبه الخواطر.

          قيل لكثيرِّ[2]: كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة؛ والرياض المعشبة، فيسهل على أرصنه.

          وكان جرير إذا أرد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً: يشعل سراجه ويعتزل، وربما علا السطح وحده فاضطجع، وغطى رأسه، رغبة في الخلوة بنفسه.

          قال ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء): وللشعر أوقات يسمح فيها أبيُّهُ: منها أول الليل قبل تغشي الكرى. وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار.

          وقال بعض أهل الأدب: حسب الشاعر عوناً على صناعته أن يجمع خاطره، بعد أن يخلي قلبه من فضول الأشغال، ويدع الامتلاء من الطعام والشراب. والفقر آفة الشعر، وإنما ذلك لأن الشاعر إذا صنع القصيدة وهو في غنى وسعة نقّحها وأنعم النظر فيها على مهل، وإذا كان فقيراً مضطراً رضي بعفو كلامه.

          وقد تعارف الشعراء على مجموعة من التقاليد الخاصة بنظم الشعر، جمعها أبو تمام في وصيته إلى البحتري, وقد ساقها ابن رشيق القيرواني في (العمدة). يقول أبو تمام:

"يا أبا عبادة، تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صِفر من الهموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه."

          وجملة هذه الوصايا تؤكد على التفات الشعراء لصناعة الشعر وجملة التقاليد المرعية لهذه الصناعة.



[1]    هو رؤبة بن عبد الله العجاج بن رؤبة. ولد عام 65هـ، كان يكثر من القياس في اللغة والتصرف فيها بالتفريع والتوليد، وبذلك تحولت أراجيزه إلى متون لغوية كاملة، وأخذ يفزع إليه الشعراء الذين كانوا يعنون بإدخال الغريب في أشعارهم، وتحول إليه يونس بن حبيب وأضرابه من علماء النحو يسجلون رجزه وما يأتي به من مستغلقات لغوية كان يحشدها في أراجيزه من أجلهم.

[2]    هو كثير بن عبد الرحمن بن أبى جمعة، شاعر حجازي من خزاعة، كان راوية لجميل بن معمر العذري، وقد تغزل بعزة بنت جميل المضرية حتى سمي ` كثيرِّ عزة `، وكان من شعراء الشيعة.