إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









رواية الشعر الجاهلي

رواية الشعر الجاهلي

          عرف العرب قبل الإسلام الكتابة، إذ يشيع في شعرهم تشبيه الأطلال ورسوم الديار بالكتابة ونقوشها. مثل قول المرقش الأكبر[1]:

الدارُ قفْرٌ والرسومُ كما                رَقَّشَ في ظَهْر الأديمِ قَلَمْ

          وقول لبيد في معلقته: ('لبيد هو أبو عقيل بن ربيعة العامري. وكان أبوه يعرف `بربيعة المقرنين ` لجوده وسخائه. نشأ لبيد كريماً مثله، وقيل إنه نذر في الجاهلية أن لا تهب الصَّبا إلا أطعم، وظل على نذره في الإسلام. وقد صمت عن قول الشعر بعد أن أسلم، وانتقل من البادية إلى الكوفة وأقام فيها حتى مات، وكان موته في أول خلافة معاوية بعد أن جاوز المائة.')

وجلا السُيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها        زُبُرٌ تجِدّ مُتونَها أقْلامُها

          وقول الأخنس التغلبي:

لابنةِ حطّانَ بنِ عَوْفٍ منازلُ         كما رقّش العنْوانَ في الرّقِ كاتبُ

          وعلى الرغم من معرفة الجاهليين بالكتابة، لم تنشأ عندهم فكرة جمع شعرهم في كتاب، إنما نشأ ذلك في الإسلام، وبمرور الزمن. أما في الجاهلية، فكانوا يعتمدون فيه على الرواية، ومن يرجع إلى شعرهم يجد شعراءهم يذكرون الرواية دائماً، وأنها وسيلة انتشاره في القبائل، فهي الوسيلة التي كانوا يعرفونها، وقد نفذ شعرهم من خلالها إلى آفاق الجزيرة.

          يقول المُسيِّب بن عَلَس:

فلأهديَنّ مع الرياح قَصيدةً         مِنّي مُغلْغلةً إلى القَعْقَاع

تَرِدُ المياهَ فما تزال غَريبةً         في القوم بين تَمَثُلٍ وسَمَاعِ

          ويقول عميرة بن جعل:

ندمْتُ على شَتْمِ العَشيرةِ بَعْدَما        مَضَتْ واسْتَتَبّتْ للرّواةِ مَذَاهِبُهْ

          فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيعة لنشره وذيوعه، وكان من يريد نظم الشعر وصوغه يلزم شاعراً يروي عنه شعره، ومازال يروي له ولغيره حتى ينفتق لسانه، ويسيل عنه ينبوع الشعر والفن. ونصَّ صاحب الأغاني على سلسلة من هؤلاء الشعراء الرواة، الذين يأخذ بعضهم عن بعض، وقد بدأها بأوس بن حجر التميمي، فعنه أخذ الشعر ورواه، حتى أجاد نظمه، زهير بن أبي سلمى، وكان له راويتان كعب ابنه والحطيئة، وعن الحطيئة تلقن الشعر ورواه هدبة بن خشرم العذري، وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة، وعن جميل أخذ كثير صاحب عزة. نحن إذن بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل في طبقات، وكل حلقة تأخذ عن سابقتها، وتسلم إلى لاحقتها.

          لقد كان الرابط الذي يجمع بين هؤلاء الرواة هو اتفاقهم على تقاليد فنية واحدة، نتيجة تمسكهم بنماذج أسلافهم، وهمّ كل شاعر أن يتقن معرفتها عن طريق ما يحفظ من شعر أساتذته وشعراء قبيلته. ولم يكن الشعراء وحدهم الذين يهتمون برواية هذا الشعر، فقد كان يشاركهم في ذلك الاهتمام أفراد القبيلة جميعهم؛ لأنه يسجل مناقب قومهم وانتصاراتهم في حروبهم، كما يسجل مثالب أعدائهم، ومن ثَمَّ قال عمر بن الخطاب: " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه".

          استمرت رواية الشعر الجاهلي في صدر الإسلام، ومع اشتعال الحرب بين علي ومعاوية، اشتعلت العصبيات وأخذت كل قبيلة تعنى برواية شعرها الجاهلي، الذي يصور مناقبها ومثالب خصومها. وقد حملته القبائل طوال القرنين الأول والثاني حتى أدوه إلى العلماء الذين عنوا بتدوينه.

          وكانت الدولة الأموية عربية النزعة، فعملت على حفظ هذا التراث. ولا نصل إلى نهاية العصر الإسلامي ومطلع العصر العباسي حتى تنشأ طبقة من الرواة المحترفين، الذين يتخذون رواية الشعر الجاهلي عملاً أساسياً لهم.

          وأهم هؤلاء الرواة أبو عمرو بن العلاء[2]، وحمّاد الرواية،وخلف الأحمر، ومحمد بن السائب الكلبي[3]، والمُفَضَّل الضَّبِّي[4]، وقد استقوا روايتهم من القبائل والأعراب البدو، وقد أظهروا في عملهم مهارة منقطعة النظير إذ تحولوا يجمعون المادة الجاهلية جميعها، وكان من أهم الأسباب في ذلك تفسير ألفاظ القرآن الكريم، ووضع قواعد العربية وجمع ألفاظها.

          ولا نكاد نمضي في العصر العباسي حتى يكون هؤلاء الرواة مدرستين متقابلتين: مدرسة في الكوفة، ومدرسة في البصرة وعرف عن رواة الكوفة أنهم لا يتشددون في روايتهم تشدد رواة البصرة، ومن ثم تضخمت رواياتهم، ودخلها موضوع ومنتحل، وربما كان السبب الحقيقي في تقدم البصرة على الكوفة في الرواية أن رأس رواتها، وهو أبو عمر بن العلاء، كان أميناً، بينما كان رأس الكوفة حماداً، وكان متهماً كثير الوضع، وكان أبو عمرو من مؤسسي المدرسة النحوية في البصرة، وأحد القراء السبعة الذين أخذت عنه تلاوة الذكر الحكيم. أما حماد رأس رواة الكوفة فكان من الموالي، وكان في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، ثم طلب الأدب والشعر ولغات العرب بعد ذلك. ومن رواة الكوفة الذين اشتهروا بالوضع: برزخ العروضي وجناد. ومن رواة الكوفة الثقات: المفضل بن يعلَى الضبي الذي قدم لنا " المفضليات"، وهي التي ضمت مجموعة كبيرة من أشعار الجاهليين.

          وفي البصرة في الحقبة التي تلت أبا عمرو بن العلاء، وجدنا خلفا الأحمر المشكوك في روايته، وقد تصدى له الأصمعي مراراً يتهمه بالوضع والنحل.

          والأصمعي[5] يقوم في البصرة مقام المفضل الضبي في الكوفة. وله مجموعة مشهورة من الشعر القديم هي الأصمعيات. ورويت عنه دواوين كثيرة أشهرها الدواوين الستة لامرئ القيس، والنابغة، وزهير، وطَرَفة وعنترة، وعلقمة بن عَبَدة الفحل.

          وخلف هؤلاء الرواة الذين تقدم ذكرهم تلاميذهم من رواة القرن الثالث، وعلى رأسهم أبو عمرو الشيباني[6] المتوفى عام 213هـ، وابن الأعرابي المتوفى 231هـ الكوفيان، وكان وراءهما كثير من الرواة في بلدتهم مثل محمد بن حبيب المتوفى عام 245هـ، وابن السِّكِّيت[7] المتوفى 244هـ وثعلب[8] المتوفى 291هـ. وانتهت الرواية في البصرة إلى أبي سعيد الحسن بن الحسين السُّكّري المتوفى 275هـ وإليه يرجع الفضل في جمع كثير من الدواوين الجاهلية. وهو يجمع بين الروايتين البصرية والكوفية.



[1]    من أقدم الشعراء الجاهليين، قيل إن طرفة بن العبد كان يروي للمرقش الأصغر عمه ويأخذ عنه، ويروي هذا عن عمه المرقش الأكبر ويحتذي على شعره. (لاحظ مفهوم الرقش وارتباطه بصنعة الشعر) وكان طرفة يروي عن خاله المتلمس الذي ربي في أخواله من بني يشكر.

[2]    مؤسس المدرسة النحوية في ا لبصرة، وأحد القراء السبعة للقرآن الكريم.

[3]     هو أبو الحكم الكلبي عوانة بن الحكم بن عياض من بني كلب، كان عالماً بالشعر والأنساب والأخبار، توفى عام 147 للهجرة'

[4]    هو أبو عبد الرحمن المفضّل بن محمد بن يَعْلى الضّبّي، ولد في فارس وكان شيعياً، وهو من فحول الكوفة في الرواية، ومن تلاميذه ابن الأعرابي، والفرّاء، وخلف الأحمر، وأبو زيد الأنصاري البصري. توفي في الكوفة عام 170 للهجرة.

[5]    الأصمعي عبد الملك بن قُريب ويكنى أبا سعيد، وينسب إلى أحد جدوده أصمع. ولد في البصرة عام 122، واختلط بالأعراب وأخذ عنهم، واجتمع له من الأشعار والنوادر والغريب شيء كثير، واتصل بالرشيد واختص به. وكانت وفاته بالبصرة أيام المأمون. ذكر له ابن النديم في الفهرست نحو أربعين كتاباً أكثرها في اللغة ثم الشعر، منها: ` الأصمعيات ` وهي مجموعة اختارها من شعر الشعراء المتقدمين، و`رجز العجاج ` وهو مجموع ما رواه الأصمعي للعجاج من الأراجيز، ومنها في اللغة: `كتاب أسماء الوحوش` و`كتاب أسماء الإبل ` و`كتاب الخيل ` و`كتاب الدارات` و`كتاب النبات والشجر` و` كتاب النخل والكرم `. توفي عام 216 للهجرة.

[6]    هو إسحق بن مرار الشيباني ولد عام 100هـ وتوفي عام 213هـ وهو كوفي من الموالي، وهو أحد رؤساء مدرسة الكوفة.

[7]    هو كوفي من أصل شيعي ولد عام 187هـ وتوفي 245هـ، من أصل فارسي عاش في بغداد وكان مؤدبا لأولاد الأمراء.

[8]    أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب، رئيس مدرسة الكوفة، عاش في بغداد، وهو من كبار القراء والنحاة، أوقف شطرا من حياته على جمع الشعر الجاهلي.