إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









موضوعات الشعر الجاهلي وأعلامه

موضوعات الشعر الجاهلي وأعلامه

      من المرجح أن موضوعات الشعر الجاهلي قد تطورت عن أناشيد دينية، كان الجاهليون يتجهون بها إلى آلهتهم ويستعينون بها على حياتهم، فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم، كما نشأ شعر الرثاء من تعويذات للميت حتى يطمئن في قبره، وفي أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة، ومعنى هذا كله أن موضوعات الشعر الجاهلي قد تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلهة إلى موضوعات مستقلة.

الهجاء

      اقترن الهجاء في الجاهلية باللعنات الدينية الأولى في الشعائر، ومن أجل ذلك كانوا يتطيرون منه وكان المغيرون إذا أغاروا ونهبوا إبلاً، بينها إبل شاعر، وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطروا إلى ردّها أو، على الأقل، رد مال الشاعر وإبله. وفي ذلك ما يصور أثر الهجاء في نفوس العرب. وكانوا ينتهزون فرصة تلاقيهم في الأسواق، وخاصة سوق عكاظ، فينشدون أهاجيهم لتذيع. ودار هجاؤهم على كل ما يناقض مثلهم وفضائلهم، وهي الشجاعة والكرم وحماية الجار والوفاء والنجدة وطلب الثأر، وكانوا يقذفون في الأعراض ويطعنون في الأنساب.

      لقد اشتهر الأعشى[1] بهجائه الساخر، فيقول:

أباثُبَيتٍ أما تنفكُ تأْتكِل

أبلِغْ يزيدَ بني شيبان مألُكةً

ولستَ ضائرها ما أطّتْ الإبلُ

ألستَ منتهياًعن نحت أثلتِنا

فلم يضرْها وأَوْهَى قرنه الوعلُ

كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهِنها

      ويعرّض بعلقمة بن علاثة موازناً بينه وبين خصمه عامر بن الطفيل[2]:

الناقض الأوتارَ والواتر

علقمَ ما أنت إلى عامر

كم ضاحكٍ من ذا وكم ساخر

يا عجب الدهر متى سُوِّيا

وإنّما العزةُ للكاثرِ

ولستَ بالأكثر منهم حصىً

عِرضك للواردِ والصادرِ

علقمَ لاتَسْفَهْ ولا تجعلَنْ

ولستَ في الهيجاء بالجاسر

ولستَ في السِّلْم بذي نائلٍ

      وكان الأعشى أشد إيلاماً لعلقمة في قوله:

تبيتون في المشتى مِلاءً بطونُكم          وجاراتكم غَرْثَى يَبِتْن خمائصاً

      ولم يكن الهجاء يأتي مستقلاً في القصيدة، بل كان يأتي في تضاعيف حماستهم، والحماسة، أهم باب استنفد قصائدهم، فهي ديوانهم، الذي يسطر تاريخهم وأمجادهم. ويتحدث الشاعر عن أيام قبيلته مشيداً بحسبها وصبرها في الملمات، وكرمها وحمايتها للجار وإغاثتها للملهوف.

      ومن روائعهم في هذا الباب معلقة عمرو بن كلثوم[3] يقول:

يكونوا في اللقاءِ لها طَحينا

متى ننقلْ إلى قومٍ رحانا

ونَضْرِبُ بالسيوفِ إذا غُشينا

نطاعنُ مَا تراخى الناسُ عَنّا

نُطاعنُ دونَه حتى يَبِيْنَا

وَرِثْنا المجدَ قد علمتْ مَعَدُّ

فما يَدْرُوْنَ ماذا يتَّقونا

نجذُّ رؤوسَهم في غير وِتْرٍ

مخاريقٌ بأيدى لاَعِبِيْنَا

كأن سيوفَنا فِيْنا وفِيْهِمْ

خُضِبْنَ بأُرْجوانٍ أو طُلينا

كأن ثيابنا مِنَّا ومنْهم

      ومن الموضوعات التي تتصل اتصالاً واضحاً بالحماسة، الرثاء، فقد كانوا يرثون أبطالهم في قصائد حماسية

      وقام بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه النساء، ومن خير ما يصور ذلك كتاب "مراثي شواعر العرب" للويس شيخو

      وتعد الخنساء[4] أشهر هؤلاء، إذ قُتل أخوها معاوية، ثم قُتل أخوها صخر، فندبته قائلة:

ودَوّنَه من جديدِ الأرضِ أستارُ

فالعينُ تَبْكي عَلَى صَخْرٍ وحُقَّ لها

لها حنينان: إصغارٌ وإكبارُ

بكاء والهةٍ ضلّتْ أليفتُها

كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ

وإنّ صخراً لتأتمّ الهداةُ بهِ

      ولم يؤبِّن الجاهليون أبطالهم من القتلى فحسب، بل أبّنوا أشرافهم الذين ماتوا حتف أنوفهم، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كلدة الأسدي، وفيها يقول:

إنَّ الذي تَحْذَرِيْنَ قَدْ وَقَعَا

أيَتُها النفسُ أجْمِلى جَزَعَا

جْدةَ والحزمَ والقوى جُمعا

إنّ الذي جمَّع السماحة والنَّـ

ظنَّ كأنْ قَدْ رأى وَقَدْ سَمِعَا

الألمعيّ الذي يظنُّ لك الـ

يُمْتَعْ بضعفٍ ولم يَمُتْ طَبِعا

المُخْلِفَ المتلفَ المرزّأَ لم

شيءٍ لمن قد يحاول البِدَعا

أَوْدَى وهل تنْفع الإشاحةُ من

      وبجانب هذا الرثاء كان عندهم مديح واسع بمناقب قبائلهم. ومع أواخر العصر الجاهلي يفد الشعراء على السادة المبرزين، وملوك المناذرة والغساسنة يمدحونهم وينالون عطاياهم، واشتُهر بذلك زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وحسان بن ثابت. أما زهير[5] فاختص بأشراف قومه، وأما حسان[6] فاختص بالغساسنة، وأما النابغة[7] فخص النعمان بن المنذر. وتصادف أن وقع بعض قومه أسرى في أيدي الغساسنة، فأقبل عليهم يمدحهم، ويتشفع فيهم؛ مما كان سبباً في غضب النعمان بن المنذر عليه، فأخذ يقدم له اعتذاراته الشهيرة.

      وخير مدائحه في الغساسنة قصيدته البائية، وهو يستهلها بوصف طول الليل والأحزان، يقول:

وليلٍ أُقاسيهِ بطيء الكواكب

كلينى لِهَمٍّ يا أميمةَ ناصبٍ

وليس الذي يَرْعَى النّجُوْمَ بآيبِ

تطاولَ حتّى قلتُ ليس بِمُنْقَضٍ

تضاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ

وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همِّهِ

      وهي براعة استهلال منه، ثم خرج من ذلك إلى مدح عمرو بن الحارث الغساني وعشيرته، ووقف عند تصوير جيوشه قائلا:

عصائبُ طَيْرٍ تهتدي بعصائب

إذا ما غزوا بالجيش حَلَّقَ فوقهم

من الضاريات بالدماء الدوارب

يُصاحبْنهم حتى يُغِرْن مغَارَهم

جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانب

تراهُنَّ خلف القوم خرْزاً عيونُها

إذا ما التقى الجمعان أول غالب

جوانِح قد أيقَنَّ أن قبيلَه

بِهنّ كلومٌ بين دامٍ وجالب

على عارفاتٍ للطعان عوابس

بأيديهمُ بيضٌ رِقاقُ المضارب

فهم يَتَساقون المَنِيَّةَ بينهم

بِهنّ فلولٌ من قِراع الكتائبِ

ولا عيب فيهم غير أن سيوفَهم

      ثم انتهى فن المديح إلى الأعشى، فأصبح على يديه حرفة خالصة للتكسب[8]

      يقول في مديحه لهوذة بن علي سيد بنى حنيفة:

أُرَجِّي نوالاً فاضلاً من عطائكا

إلى هَوْذَةَ الوهَّابِ أهديتُ مِدْحَتي

فأَدْليْتُ دَلْوِى فاستقتْ برِشائكا

سمعتُ برحْبِ الباعِ والجودِ والندى

وأنت الذي آويْتني في ظِلالكا

وأنت الذي عَوَّدْتني أن تَرِيشني

بخيرٍ وإني مولَعٌ بثَنائكا

وإنَّك فيما نابني بي موزعٌ

وطَلْقاً وشيبانَ الجوادَ ومالكا

وجدتَ عليًّا بانياٌ فورِثْتَهُ

تجودانِ بالإعطاء قبل سؤالكا

وما ذاكَ إلاّ أنّ كفَّيْكَ بالنّدى

وأدرَكْتَ شَأْوَ السبق دون عنائكا

وربَّيْتَ أيتاماً وأنْعشْتَ صِبْيةٍ

ولا ذو إِنًى في الحيّ مثل إنائكا

ولم يسْعَ في العلياء سَعْيَك ماجدٌ

أما الغزل:

      فهو موزع بين ذكريات الشاعر لشبابه ووصفه للمرأة. ونراهم يقفون عند المرأة فيصفون جسدها، ويتعرضون لجبينها وخدها وعنقها وصدرها وعينها وفمها وريقها وساقها وثديها وشعرها.

      وكانوا كثيراً ما يصفون ظعنها، وهي ترحل في الجزيرة من موضع إلى آخر، وكانت الرحلة أساساً في حياتهم، فهم يرحلون وراء منابت الغيث، وينتقلون معها حيث حلت، وفي معلقة زهير وصف طويل لهذا الظعن.

      وقد يصور الشاعر مغامراته من أجل الوصول إلى المحبوبة، مصوراً كيف اقتحم إليها الأهوال والأحراس، وكيف انتحى بها ناحية من الحي يتبادلان فيها الصبابة والغرام. وقد انفرد امرؤ القيس بهذه المغامرات، يقول في معلقته:

تمتّعْتُ من لهوٍ بها غَيْرَ مُعجلِ

وبيضةِ خدرٍ لا يُرام خباؤها

عليَّ حِراصاً لو يُسِّرُّون مَقتلى

تجاوزْت أحراساً وأهوالَ معشرٍ

تعرُُّضَ أثناء الوشاح المفصَّلِ

إذا ما الثُّريّا في السماء تَعرَّضَتْ

لدى السِتر إلا لِبسةَ المُتفضِّلِ

فَجِئْتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابَها

وما إن أرى عنك العَمايةَ تنجلي

فقالت يمينَ الله مالك حيلةٌ

نسيم الصَّبا جاءت برَيّا القَرنْفُلِ

إذا التفتتْ نحوي تضوَّع مسكُها

      فهو يذكر خدرها وأحراسها ومنعتها، وكيف وصل إليها وقد استعدت للنوم، وما كان بينه وبينها من حوار، ومن يقرأ هذه المغامرات الليلية القصصية عند امرئ القيس، تفد على ذهنه مغامرات عمر بن أبي ربيعة في غزله من حيث حواره مع النساء وحكايته لأحاديثهن وكلامهن، ومن حيث وصف الدبيب إليهن في الليل ومنعة أحراسهن.

      وقد كان امرؤ القيس أول من سبق إلى هذا الغزل الفاحش الصريح الحافل بالقصص الغرامي، ونماه من بعده الأعشى، ثم كان العصر الأموي فتعلق به عمر بن أبي ربيعة وأضرابه.

      ومن الموضوعات المهمة في القصيدة الجاهلية الوصف: فقد وصف الجاهليون كل شيء وقعت عليه أعينهم في الصحراء، وفي العادة يذكرون ذلك بعد غزلهم وتشبيبهم إذ يخرج الشعراء إلى وصف رحلاتهم في الصحراء، فيتحدثون عن قطعهم للمفاوز البعيدة، فوق إبلهم، ويأخذون في وصفها وصفاً مسهباً على نحو ما هو معروف عن طرفة في وصفه لناقته بمعلقته، التي لم يترك فيها عضواً ولا جزءاً من دون وصف وتصوير. والمفضليات والأصمعيات تزخر بأحاديثهم عنها ومقدار ما كانوا يرون فيها من جمال، وكانوا يشبهونها بالقصور ويشبهون قوائمها بالأعمدة، وقد يشبهونها بالسفن والقناطر، ويشبهون قوائمها بجذوع الطلح ويديها بالصخر الغليظ، وخفافها بالمطارق، وقد يشبهونها بالجبل، ويشبهون صدرها بالطريق.

      وكانوا يشبهونها بكثير من الحيوان، مثل الظليم، والثور، وحمار الوحش، وحينئذ يستطردون إلى وصف هذه الحيوانات وما يكون من عراك بينها وبين كلب الصيد.

      وعلى نحو ما أكثروا من وصف الإبل أكثروا من وصف الخيل، وشبهوها بضروب من السباع المنعوتة بالمخالب وطول الأظافر. ولامرئ القيس بمعلقته وصف بديع لفرسه الذي اتخذه للصيد:

بمُنْجَردٍ قيدِ الأوابد هَيْكَل

وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتها

كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِن عَلِ

مِكَرٍ مِفَرٍ مُقْبِلٍ مُدبرٍ معاً

كما زلَّتْ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزِّلِ

كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حال مَتْنِهِ

أثَرْنَ غُباراً بالكديد المُرَكَّل

مِسَحٍ إذا ما السابحات على الوَنَى

إذا جاش فيه حَمْيُه غَلْي مِرْجَلِ

على العَقْب جيّاشٍ كأنّ اهتزامه

ويُلْوي بأثواب العنيف المُثَقّل

يُطيْر الغلامُ الخِفَّ عن صهواته

تَقَلُّبُ كفّيْهِ بخَيْطٍ مُوَصَّلِ

دريرٍ كَخُذروف الوليد أمَرَّهُ

وإرخاءُ سِرْحانٍ وتقريب تَتْفُلِ

له أيطلا ظبْي وساقا نعامةٍ

      وعلى نحو ما وصفوا الحيوان والزواحف، وصفوا الطير، وكانوا يذكرون الغراب، والقطا، والجراد، والحمام ونوحه. وقد أفاض الجاحظ، في كتابه "الحيوان"، فيما جاء على ألسنتهم من وصف ذلك كله وتصويره، وقد استرعى الجاحظ كثرة ما جاء على ألسنتهم من وصف فلواتهم ووصف البرد وقوارصه، والحر وهواجره، وما يجري في ديارهم أحياناً من خصب بعد مطر غزير. وفي معلقة امرئ القيس قطعة طويلة يصف فيها سيلاً نزل في مواطن بني أسد، بالقرب من تيماء، ويتردد هذا الوصف في شعره وشعر عبيد بن الأبرص.

      يقول إمرؤ القيس في وصف السيل والبرق:

كَلَمْع اليدين في حَبىً مُكَلَّل

أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضه

أهان السليطَ في الذُّبال المُفتَّلِ

يُضيء سناه أو مصابيحُ راهبٍ

يَكُبُّ على الأذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ

وأضحى يسُحُّ الماءَ عن كل فِيْقَةٍ

ولا أُطُماً إلا مَشِيداً بجَنْدلِ

وتيماءَ لم يترك بها جِذْعَ نَخْلةٍ

مِن السّيل والغُثّاء فَلْكَةُ مِغْزَلِ

كأن طَمِيّةَ المُجَيْمِر غدوةً

كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ

كأن أباناً في أفانين وَدْقِهِ

نُزُولَ اليماني ذي العِياب المُخَوَّل

وألقى بصحراء الغَبيط بَعاعَهُ

بأرجائه القُصوى أنابيشُ عُنْصُلِ

كأنّ سِباعاً فيه غَرقى غُدَيّةً

فأنزل منه العُصْمَ من كلِّ منزلِ

أَلقى ببُسْيانٍ مع الليل بَرْكَه

      ولامرئ القيس مقطوعة في الغيث والسيل تلتقي في معانيها مع ما جاء في معلقته عن المطر والسيل يقول:

طَبَقُ الأرض تحرَّى وتَدُرّْ

دِيمَةٌ هطلاء فيها وَطَفُ

كَرؤوسٍ قُطٍّعَتْ فيها الخُمُرْ

وترى الشَجْراء في ريِّقِهِ

ساقطُ الأكناف واهٍ مُنْهمرْ

ساعةً ثم انتحاها وابلٌ

فيه شؤبوبُ جنوبٍ منفجرْ

راحَ تَمْريه الصّبا ثم انتحى

      فالمطر ينهمر حتى يعم الأرض من حوله، وهو يدر لها ويدنو منها بأهدابه، وحينا يقلع فتبدو الأوتاد من الأرض لا يلبث أن يعود، وتكثر سيوله فتتوارى عن الأنظار، وما تزال السيول تتدفق حتى تغمر الأشجار، فلا يبدو منها إلا أعاليها.

      وهذه الموضوعات التي سبق ذكرها جميعا كانت تتداخل في القصيدة الطويلة، وقد يضيف بعض الشعراء إليها بعض الحكم والمعاني التهذيبية، كما فعل عبيد بن الأبرص في معلقته، وكما فعل زهير بن أبى سلمى في تضاعيف شعره.

      ومن الموضوعات الشعرية أيضاً، الفروسية والصعلكة، فمن فرسانهم المشهورين عامر بن الطفيل فارس بني عامر بن صعصعة أقوى عشائر هوازن وأشدها بأساً. ولعامر بن الطفيل ديوان نشره لايل مع ديوان عبيد بن الأبرص في سلسلة "جب" التذكارية، وهو فيه دائم الحديث عن فروسيته وحسن بلائه في حروب قومه مع ذبيان.

      ولعلّ أهم فارس في الجاهلية هو عنترة بن شداد العبسي، وكان من أغربة العرب، ولذلك لم يعترف شداد به. ويصور عنترة شجاعته وجرأته قائلاً:

أصبحْتُ عن غرض الحتوف بِمَعْزلِ

بَكرَتْ تُخوِّفني الحتوفَ كأنني

لابدّ أن أُسْقَى بكأس المَنْهَل

فأجبتُها إن المَنِيّةَ مَنْهلٌ

أنى امرؤٌ سأموت إنْ لمْ أُقْتَلِ

فاقْنيْ حياءِكِ لا أبالك واعلمي

      وقد يشرب الخمر، ولكنها لا تفسد مروءته، وإذا دعاه داعي المكرمات لبّى باذلاً كل ما يملك عن طيب نفس.

      يقول في معلقته مخاطباً ابنة عمه:

سمْحٌ مخالقتي إذا لم أُظْلمِ

أثْني علَىّ بما علمْتِ فإنني

مُرٌّ مذَاقتُه كطعم العَلْقَمِ

فإذا ظُلِمْتُ فإن ظلمي باسلٌ

مالي، وعِرْضى وافرٌ لم يكْلَمِ

وإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ

وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي

وإذا صحوتُ فما أقصِّرعن ندًى

      وهو يتصف بالرقة والرحمة، فيقول:

حتى أُوَفّي مهرَها مولاها

ما استمتُ أنثى نفسَها في موْطنٍ

وإذا غزا في الحرب لا أغشاها

أغْشى فتاةَ الحي عند حَليلها

حتى يُوارِي جارتي مأواها

وأغضُّ طرْفي ما بدتْ لي جارتي

لا أُتْبِعُ النفسَ اللَّجوج هواها

إنِّى امرؤٌ سَمْحُ الخليقة ماجدٌ

      وعلى هذا النحو تكاملت فروسية الحرب وفروسية الخلق.

شعر الصعلكة

      الصعاليك هم الفقراء الذين يتجردون للغارات وقطع الطرق، ومنهم الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم، وقد يكونون من أبناء الحبشيات السود، وتتردد في أشعارهم جميعا صيحات الفقر والجوع، ويمتازون بالشجاعة والصبر عند البأس وشدة المراس وسرعة العدو. ومن الصعاليك: أبو خراش الهذلي، وتأبط شراً[9]، والشنفرى[10]، ومنهم عروة بن الورد العبسي[11]، الذي اتخذ من صعلكته باباً من أبواب المروءة والتعاون الاجتماعي بينه وبين فقراء قبيلته وضعفائها، فهو لا يغزو للغزو والنهب كالشنفرى وتأبط شراً، والطريف أنه لم يكن يغير على كريم يبذل ماله للناس، وكانت إغارته على الشحيح، ولخصاله الكريمة كانت قبيلته تأتم به. وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: " لوكان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم". أما عبد الملك بن مروان فكان يقول: "من زعم أن حاتماً أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد".

      وكان يقول أيضا: ما يسرني أن أحداً من العرب ولدني ممن لم يلدني إلا عروة بن الورد، لقوله:

وأنت إمرؤٌ عافي إنائك واحدُ

إنِّي امرؤٌ عافى إنائي شِرْكةٌ

بجسمي شحوبَ الحقّ، والحقُّ جاهدُ

أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى

وأَحْسُو قَراحَ الماءِ، والماءُ باردُ

أُفَرِّق جسمي في جسومٍ كثيرةٍ

      ويعرض عروة بن الورد صورتين للصعلوك: صورة الصعلوك الخامل، حسبه أن ينال الكفاف ولا يطعم أهله، وصورة الصعلوك الشريف صاحب الإرادة:

مُصَافي المُشاش آلفاً كلَّ مجزرِ

لَحَى اللهُ صُعلوكاً إذا جنّ لَيْلُه

أصابَ قِراها من صديقٍ مُيسَّرِ

يَعُدّ الغِنَى من دَهْرِهِ كُلّ ليلةٍ

يحُتُّ الحَصَا عن جَنْبِهِ المتعفّرِ

يَنَامُ عِشاءً ثم يُصبح قاعِداً

فيُضْحي طليحاً كالبعيرِ المُحسَّرِ

يُعينُ نساءَ الحي ما يَسْتَعِنَّه

كضوءِ شهابِ القابسِ المتنوِّرِ

ولله صعلوكٌ صحيفةُ وجهه

بِساحَتِهِمْ زَجرَ المنيحِ المشهَّرِ

مُطِلاً على أعدائه يَزْجُرونَهُ

تَشَوُّفَ أهلِ الغائب المُتَنظَِّّرِ

وإن بَعُدُوا لا يأمنون اقترابه

حَميداً، وإن يَسْتغنِ يوما فَأجْدِرِ

فذلك إنْ يَلْقَ المَنِيّةَ يَلْقَهَا

      وعلى هذا النحو كان عروة صعلوكاً شريفاً، واستطاع أن يرفع الصعلكة وأن يجعلها ضرباً من ضروب السيادة والشرف.



[1] اسم الأعشى ميمون بن قيس بن جندل، وإنما سمي الأعشى لضعف بصره، شاعر مخضرم، عاش في أواخر العصر الجاهلي، وكان يسمى صنّاجة العرب، وربما لأنه كان يتغنى بشعره، كان كثير التنقل في أنحاء الجزيرة يمدح ساداتها، وكان يعيش أيضا لقبيلته ومنازعاتها مع بكر ضد الفرس، أدرك الإسلام ولكنه لم يسلم، وقد طرق الأعشى جميع فنون الشعر فأجاد المدح والهجاء، كما أجاد وصف الخمرة والتشبيب بالنساء.

[2] هو يشير في الأبيات إلى حكم هرم بن قطبة حين تنافر إليه علقمة وعامر، فسوى بينهما في عبارته المأثورة: ` إنكما كركبتى البعير الفحل، تقعان على الأرض معا. ` والأعشى يرد هذا الحكم وينقضه قائلا: أين الثرى من الثريا؟

[3] هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي، وأمه ليلى بنت المهلهل أخى كليب وائل، وأبوه كلثوم من سادات تغلب، نشأ فخوراً بمناقب أبيه وأخواله، فساد قومه صبياً في الخامسة عشرة. وضرب المثل بعمرو بن كلثوم في الفتك فقيل: ` أفتك من عمرو بن كلثوم.

[4] هي تماضر بنت عمرو بن الحرث، ينتهي نسبها إلى مضر، وتكنى أم عمرو وقد أدركت الإسلام، وتوفيت عام 24هـ.

[5] هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني. كان أبوه شاعراً، وكذلك كان خاله بشامة بن الغدير، وأختاه سلمى والخنساء، وورث عنه الشعر ابناه كعب وبجير. تحدث في شعره كثيراً عن حروب داحس والغبراء مشيداً بهرم بن سنان والحارث بن عوف، سيدي بني مرة اللذين حقنا دماء عبس وذبيان.

[6] هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، من بني النجار من قبيلة الخزرج، ينتهي نسبه إلى قحطان، فهو يمني الأصل يثربي النشأة. وقد لقي حظوة عند ملوك الغساسنة فمدحهم واسترفدهم. ولما ظهر الإسلام،وهاجر النبي إلى يثرب، أسلمت الأوس والخزرج، وأسلم حسان معهم فكان في جملة الأنصار. وأصبح شاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم، والدعوة المحمدية.

[7] هو زياد بن معاوية بن ضباب، ويرتفع نسبه إلى غيظ بن مرة ثم إلى ذبيان ثم إلى غطفان. قيل: إنه سمي بالنابغة لنبوغه في الشعر، وقيل: لأنه قال الشعر بعد أن كبرت سنه ومات قبل أن يذهب عقله. وقد قرن ابن سلام النابغة إلى امرئ القيس وزهير والأعشى، وجعل الأربعة مقدمين على سائر الشعراء في الجاهلية.

[8] ذكر ابن سلام أنه ` أول من سأل بالشعر واستجدى بالقريض`.ومن أهم ما يميز مديحه قياساً بالجاهليين كثرة إسرافه فيه بحيث يعد مقدمة لمبالغات العباسيين في مدائحهم

[9] هو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي، لُقِّب بتأبط شراً لأن أمه رأته ذات يوم يخرج من خيمته، فلما سُئلت أين ثابت ؟ أجابت: لا أعلم، لقد تأبط شراً وخرج

[10] الشنفرى من عشيرة الأوس بن الحجر الأزدية اليمنية، ومعناه الغليظ الشفاه، أمه حبشية وقد ورث عنها سوادها، ولذلك عُدّ في أغربة العرب، ويقال إن الذي روَّضه على الصعلكة وقطع الطرق تأبط شراً. وللشنفرى ديوان شعر صغير طبع في لجنة التأليف والترجمة والنشر بمجموعة الطرائف الأدبية، ومما اشتهر له `لامية العرب`، وقد تكون منحولة

[11] كان أبوه من شجعان عبس وأشرافهم، وكان له دور بارز في حرب داحس والغبراء، أما أمه فكانت من نهد من قضاعة، وهي عشيرة وضيعة، فآذى ذلك نفسه ودفعه إلى الثورة على  الأغنياء، ولكن قبيلته لم تخلعه لمروءته. ولعروة ديوان برواية ابن السكيت.