إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









أولاً: الموضوعات المجددة

أولاً: الموضوعات المجددة

1. شعر الغزل الصريح

      غرق الحجاز في ألوان من الترف، وتحضرت المدينة ومكة بتأثير ما صب فيهما من أموال الفتوح والرقيق الأجنبي، وكأنما فرغت المدينتان الكبيرتان للغناء، وبذلك كادت تختفي منهما الموضوعات الأخرى للشعر فقلما نجد فيهما مديحاً أو هجاءً، وأخذ الغزل يشيع على كل لسان، وأخذ يتطور بتأثير الغناء، إذ أصبحت كثرته مقطوعات قصيرة، وعدل الشعراء إلى الأوزان الخفيفة، كما عدلوا إلى مجزوءات الأوزان الطويلة ومالوا إلى تجزئة الأوزان الخفيفة. ولم يختلف هذا الغزل الجديد عن الغزل الجاهلي القديم في صورته الموسيقية فحسب، فقد أخذ يختلف في صورته المعنوية، إذ أصبح تصويراً لأحاسيس الحب التي سكبها المجتمع في نفوس الشعراء، مما أدى إلى شيوع الغزل بين شباب الطبقة الثرية الفارغة، كما نرى عند عمر بن أبي ربيعه في مكة، وعند الأحوص في المدينة، والعرجي[1] في الطائف. والجديد في هذا الغزل أنه لم يبق كما كان الغزل في الجاهلية، مقدمات تقليدية في مفتتحات القصائد، وإنما أصبح موضوعاً قائماً بذاته، وإن كان امتداداً لغزل امرىء القيس.

      وقد عاش عمر بن أبى ربيعة[2] حياته للغزل الصريح، ويسّر له ثراؤه هذه المعيشة، وكان المغنون والمغنيات من أهل مكة يلزمونه ويغنون شعره. وهو في غزله يخضع ملكاته لفن الغناء الذي عاصره، إذ يستخدم الأوزان الخفيفة والمجزوءة.

      وعمر لا يشكو الغرام والعشق، بل محبوبته هي التي تشكو ذلك. يقول مصوراً حالها:

ما تأمرين؟ فإنَّ القلب قد شُغِلا

قالت على رِقْبةٍ يوماً لجارتها

بِرَجْع قولٍ وأمْرٍ لم يكن خطِلا

فجاوبتْها حصانٌ غيرُ فاحشةٍ

فلسْتِ أولِ أُنثى عُلِّقَتْ رجلا

اقْنَي حياءَكِ في سِتْرٍ وفي كرمٍ

إنِّى سأُكْفيكه إن لم أمُتْ عَجلا

لا تظهري حُبَّه حتى أراجعَهُ

      ومن أهم ما يطبع غزله هذا الحوار القصصي على لسان محبوباته يصفن فيه لجاراتهن حبهن له. ونراه يعمد أحياناً إلى تصوير اقتحامه لليل والأهوال لبعض صواحبه على نحو ما هو معروف في رائيته:

غَدَاةَ غدٍ أم رائحٌ فمُهجِّرُ

أمن آل نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِر

      واشتهر أيضاً الأحوص الأنصاري[3] بغزله الصريح، غير أنه فيما يظهر لم يكن ثرياً، ومن ثم كان يرحل كثيراً إلى دمشق يمدح خلفاء بنى أمية، وينال عطاياهم الجزيلة. وكان الأحوص يتغزل في الإماء والجوارى وهو في هذا الغزل يختلف عن عمر بن أبى ربيعة، الذي كان يتغزل بالحرائر النبيلات من القرشيات والعربيات.

2. الغزل العفيف

      وفي بوادي نجد والحجاز ذاع الغزل العذري العفيف، وقد عاش المسلمون هناك حياة بدوية هذبتها تعاليم الإسلام. وكانت نفوسهم ساذجة لم تعرف الحياة المتحضرة في مكة والمدينة، وهى لم تعرف الحب الحضري، فقد كانت بداوتها ودينها الحنيف يعصمانها من مثل هذا الحب.

      وصورة هذا الحب، نتيجة لكل هذا، مأساة حزينة، بدايتها أمل ونهايتها يأس، ويسيطر عليها الحرمان والأحزان، ويسودها الوفاء والإخلاص والعفة، وتتسامى عن رغبات الحس وأهوائه إلى عالم مثالي وروحاني خالص.

      ومن أشهر الشعراء العذريين، عروة صاحب عفراء، ومجنون ليلى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وقيس لبنى.

      يقول قيس بن ذريح[4] في صاحبته لبنى، مصوراً حبه العفيف:

حجابٌ منيعٌ ما إليه وصولُ

وإنْ تكُ لُبْنَى قد أتى دُوْنَ قُربِها

ونُبْصِر قَرْنَ الشمسِ حين تزولُ

فإنّ نسيمَ الجوِّ يجمعُ بيننا

سماءٌ نرى فيها النجومَ تجولُ

وتجمعنا الأرضُ القرارُ وفوقنا

      ويصور ما يلاقيه من بلاء:

ولوعةُ وجْدٍ تترك القلبَ ساهيا

وبين الحشا والنّحر منّي حرارةٌ

وُلوعي بها يزدادُ إلا تماديا

تمُرُّ الليالي والشهورُ ولا أرى

      ويصور جميل بن معمر[5] حبه لمعشوقته بثينة فيعبر عن أسمى المعاني وأرق المشاعر على شاكلة قوله:

بوادي القُرى إنّي إذن لسعيدُ

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً

تَجوُد لنا مِن وُدِّها ونَجُوُد

وهل ألقيَنْ فرداً بثينةَ مرةً

إلى اليوم يَنْمِي حبُّها ويزيدُ

علقتُ الهوى منها وليداً فلم يزل

وأبْلَيْتُ فيها الدهرَ وهو جديدُ

وأفنيْتُ عمري في انتظار نوالِها

من الحبِّ قالتْ ثابتٌ ويزيدُ

إذا قلتُ ما بي يا بثينةُ قاتلي

مع الناس قالت ذاك منك بعيدُ

وإن قلتُ رُدِّي بعض عقلي أَعِشْ به

ولا حُبُّها فيما يَبِيْدُ يَبِيْدُ

فلا أنا مردودٌ بما جِئتُ طالباً

ويَحْيَا إذا فَارَقْتُها فَيَعُوْدُ

يموتُ الهوى منِّي إذا ما لقيتُها

      ومن الطبيعي أن يستقل الغزل بالقصيدة، وأن تتعدد المقطوعات الغزلية التي تصور ذلك الحب. ولذلك لا نجد في مكة أو المدينة شاعراً ينظم القصيدة على أسلوب فحول الجاهلية، فكأنّ المدن قد عرفت التخصص في موضوعات الشعر وفي طريقة النظم. فإذا انتقلنا إلى الشام في عهد بني أمية وجدنا قريض الشعر هناك يجرى مجرى فنون الشعر الجاهلي، ويعلل كارل نالينو ذلك بأن معظم أهل الشام من غير الناطقين بالضاد، فلم يمكنهم تعاطي الشعر العربي ولا فهم محاسنه، فكان من الضروري أن ينفرد به هناك العرب المقيمون ببادية الشام من زمان قديم أو المرتحلون عن الأنحاء الشامية في عهد الفتوح وبعدها.

      إنّ الأعراب المهاجرين إلى الشام والعراق لم يزالوا هائمين ببوادى أوطانهم كارهين عيشة المدن والإقامة فيها، فإن كان الأمر كذلك لم نتعجب أنّ الشعراء الوافدين إلى بلاط بنى أمية في القرن الأول صاغوا نظمهم في قالب شعر من سلف من فحول شعراء الجاهلية، ونهجوا طرقهم في عمل القصائد على الأسلوب القديم في المديح، والافتخار، والحماسة، والنسيب، والهجاء، وذكر الخمر.

3. شعر المديح

      وَفَدَ كلٌ من الأخطل والفرزدق وجرير على خلفاء بني أمية يمدحونهم ويفوزون بعطاياهم. ويدور ديوان الأخطل[6] حول مدح الخلفاء والأمراء من بني أمية، وهجاء أعدائهم من العلويين والأنصار وأصحاب عبد الله بن الزبير. ويُعدّ عصر عبد الملك بن مروان العصر الذهبي للأخطل، فقد نزل منه منزلة الشاعر الرسمي للدولة، وآثره على جميع معاصريه من الشعراء، وأمر من يعلن بين الناس أنه شاعر بني أمية، وشاعر أمير المؤمنين؛ ونرى مدائح الأخطل لعبد الملك تمتلئ بالدعوة السياسية للأمويين. ومن مدائحه الشهيرة القصيدة التي مطلعها:

وأزعجَتْهم نَوىً في صرفها غِيَرُ

خفَّ القطينُ فراحوا منك أو بكروا

      ويقول فيها:

حُشْدٌ على الحقِّ عَيَّافو الخَنا أُنُفٌ

إذا ألمّتْ بهم مكروهةٌ صبروا

وإن تدجّتْ على الآفاق مظلمة

كان لهم مخرجٌ منها ومُعْتَصَرُ

أعطاهم الله جَدًّا يُنْصَرون بهِ

لاجَدّ إلا صغيرٌ بعد مُحْتَقَرُ

شُمْسُ العداوة حتى يُسْتقادَ لهم

وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قدروا

      وممن برع في المدح أيضاً الفرزدق[7]، ولقد ظلّ طويلاً لايفد على قصر بني أمية في دمشق، وأول من وفد عليهم من خلفائهم سليمان بن عبد الملك، فمدحه وبالغ في إضفاء هالة من القدسية والبِّرعليه يقول:

في ناطق التوراة والزُّبْرِ

أنت الذي نعت الكتابُ لنا

بخلافة المهديّ أو حَبْرِ

كم كان من قَسٍّ يخبِّرنا

بُرْءَ القروح وعصمةَ الجَبْر

جعل الإلهُ لنا خلافته

      والفرزدق يتخلف في مديحه عن جرير والأخطل لخشونة نفسه وصلابتها. أما جرير[8] فقد مدح الحجاج بن يوسف حين كان والياً على العراق، كما مدح عبد الملك بن مروان، ومن خلَفه من خلفاء بني أمية إلى هشام بن عبد الملك، فأدرج في تلك المدائح، أحياناً، عبارات دينية، وإشارات قرآنية، مثلما فعل الفرزدق، وأكثر مدائحه تجري مجرى شعر الجاهلية في مدح سادة القبائل والأشراف.

      ومما لاشك فيه أن شعر المديح، منذ ظهور الإسلام، قد بدأ يهتم بالفضائل المعنوية، التي يمتاز بها الخليفة، كما أصبح مسوغات وحججاً وأسانيد يؤيد بها الشاعر حقّ الخليفة في ولاية أمر المسلمين.

      ومن شعراء المديح نُصَيْب[9]، الذي نظم المدائح في عبد العزيز بن مروان، وما زال معه حتى تُوفى سنة 85 للهجرة، فبكاه بكاءً حاراً، ومدح يزيد بن عبد الملك وأخاه هشاماً.

      ومنهم أيضاً القطامي[10]، الذي وفد على الوليد بن عبد الملك، فقيل له: إن الشعر لا ينفق عنده، وهذا عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك سيبرُّك إن مدحته، فكان أول ما مدحه به قصيدته:

وإن بليت وإن طالت بك الطِيَلُ

إنّا مُحِبُّوك فاسْلَم أيها الطَّلَلُ

4. الهجاء

      والهجاء من الموضوعات الشعرية المأثورة التي استمر الشعراء الأمويون في الحديث عنها، فقد احتدم الهجاء في هذا العصر احتداماً شديداً بتأثير العصبيات القبلية، التي اشتعلت نيرانها في كل مكان، وعملت بجانب هذه العصبيات أسباب شخصية كثيرة على اندلاع نيران الهجاء، فمن ذلك أن ينتصر أحد الشعراء لزميله في تهاجيه مع زميل آخر، وقد يبطئ الممدوح على مادحه بمكافأته فيتحول إلى هجائه، وقد لا تقوم مكافأة الممدوح في رأي المادح بما قدّم له في مديحه فيهجوه.

      ومن أشهر من نظموا في الهجاء، يزيد بن مفرغ الحميري[11] وثابت قطنة الخرساني[12] والحكم بن عبدل[13].

      ومع استعار العصبيات واشتعال الهجاء طوال العصر الأموي، ظهر شعر النقائض، ومما ساعد على تألقه، نمو العقل العربي ومرانه الواسع على الحوار والجدل والمناظرة في النحل السياسية والفقه وشؤون التشريع.

شعر النقائض[14]:

      أدت النقائض دوراً مهماً في تجسيد تفاعل الشاعر مع ماضيه، إذ اضطر الشعراء في أثناء تهاجيهم وتناظرهم إلى الكشف عن ماضيهم، وإذا الشعر كله يعيش في ظل الحسب والنسب، وتنمية العصبية.

      انبثقت النقائض من فن الهجاء، والهجاء قديم في الشعر العربي منذ الجاهلية، وقد أوجدته المنافسات القبلية والحروب المستمرة بين القبائل وبطونها، وكانوا يتهاجون هجاءً مراً. ولما جاء الإسلام، وحاربت المدينة تحت لواء الرسول، صلى الله عليه وسلم، مكة، تقاذف حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة مع عبد الله بن الزبعرَي، وأبي سفيان بن الحارث، وضرار بن الخطاب قصائد الهجاء، نظموها في ظلال الأيام والغزوات مثل يوم بدر وأحد وغزوة الخندق.

      وفي هذا كله، سواء في العصر الجاهلي أو في أيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان الهجاء فناً غير معقد، إذ كان يقف الشاعر عند أفكار عامة من الجبن والقعود عن الثأر، وقد أضاف شعراء الدعوة الإسلامية، خاصة عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت الحديث عن الإيمان والكفر.

      والملاحظ في كل صور الهجاء، التي سبقت عصر بني أمية، أنها كانت في أكثرها صوراً بسيطة، فالشعراء لا يتقيدون دائماً بأن يردوا على خصومهم بقصائد من نفسه الوزن والقافية التي صاغ فيها الخصوم شعرهم وهجاءهم. إنّ الهجاء المتبادل الذي كان يأخذ شكل حرب لسانية بين القبائل بجانب الحرب الحقيقية لم يعرف إلا في عصر بني أمية، عندما استقرت القبائل في مدينتي البصرة والكوفة، حينئذ يتحول فن الهجاء من فن وقتي متقطع إلى فن دائم مستمر، وأصبح الغرض الأساسي من الهجاء هو الرغبة في إعجاب الجماهير من الخصوم وغير الخصوم. ومن ثم تحول الهجاء إلى حرفة أو مهنة.

أ. نقائض جرير والأخطل

      كان الأخطل التغلبي النصراني لسان قومه تغلب، بينما اتخذت قيس في المربد جريراً القيسي المسلم لسانها، فكان من الضروري أن يصطدم اللسانان المعبران عن الطرفين.

      ونقائض هذين الشاعرين استنفدت جهداً غير قليل منهما.

      وقد تألفت من حيث الشكل، من قصيدتين قصيدتين، وفي العادة ينظم أحد الشاعرين المتناقضين قصيدة من وزن خاص وقافية خاصة، فيأتي زميله فينقض القصيدة بقصيدة أخرى من وزنها وقافيتها، وكأنه يريد أن يثبت تفوقه عليه من حيث الموسيقى والصياغة الفنية، كما يتعرض لمعاني زميله فيرد عليها معنى معنى يحاول أن ينقضها. والجو الذي ألفت فيه نقائض جرير والأخطل كان جواً جديداً فيه مناظرات العلماء ومناقشاتهم ومحاوراتهم، وفيه هذا الوضع غير المألوف، وهو أن شاعراً عربياً يدافع عن قبيلة أخرى غير قبيلته.

      كان جرير والأخطل يدرسان تاريخ القبائل التي يتحدثان عنها؛ ليحيطا علماً بكل ما يتصل بها، فالنقائض قصائد تحتاج ثقافة واسعة بتاريخ القبائل العربية في الجاهلية.

      وتتصل بهذه الظاهرة التاريخية ظاهرة سياسية، إذ كان الشاعر حين يهجو خصمه، يلاحظ السياسة القائمة في الدولة العربية، وما يتصل بها من ظروف طارئة لم تكن معروفة في القديم.

      وبهذه الطريقة أصبحت النقيضة تحوي فخراً وهجاءً ومديحاً وسياسة عصرية، ويقدّم الشاعر، لذلك كله، ببكاء الأطلال، ووصف رحلته في الصحراء.

      وقد كانت ديانة الأخطل سبباً في أن يهجوه جرير بنصرانيته، وما يؤديه قومه من صدقة أو جزية، وهو يندّد بملّتهم وصلبانهم، وما يأكلون من خنازير، وما يشربون من خمر. يقول جرير:

رغمٌ لتَغْلب في الحياة طويلُ

إن النبوةَ والخلافة والهُدى

بجزا الخليفةِ والذليلُ ذليلُ

خالفْتُمُ سُبُل النُبُوَّةَ فاخْضَعُوا

      ويقول:

قرعَ النواقيسِ لا يَدْرون ما السُّورُ

رِجْسٌ يكون إذا صَلُّوا، أذانُهمُ

بئسَ الجزور وبئس القومُ إذ يسَروا

والمُقْرعين على الخنزير مَيْسِرَهُم

وهل يضيرُ رسولَ الله أن كفروا

جاء الرسولُ بدينِ الحقِّ فانتكثوا

      وقد لجأ الشاعران أيضاً إلى الإقذاع في الهجاء، ومحاولة السخرية، وإضحاك الجماهير، وذلك من خلال نقض الصفات المأثورة من كرم ووفاء وغير ذلك. يقول الأخطل:

قالوا لأمِّهمُ بُولي على النارِ

قومٌ إذا اسْتَنْبَحَ الأضيافُ كَلْبَهمُ

      ومن هنا تنوعت النقيضة، وكان الشاعر يقبل على نقيضة خصمه وكأنه يقبل على مناظرة.

ب. نقائض جرير والفرزدق

      شغلت النقائض جريراً والفرزدق نحو خمسة وأربعين عاماً، بينما شغلت الأخطل وجريراً نحو عشرين عاماً. وأتاح هذا الزمن لنقائض جرير والفرزدق أن تكون أكثر عدداً، وأكمل فناً، وأتم صناعة.

      لقد قرنت الحوادث يربوعاً وشاعرها جريراً مع قيس منذ غلب ابن الزبير على العراق، وأيضاً فإن الحوادث وضعت الفرزدق ضد ابن الزبير والقيسيين معه، فإن قومه هم الذين قتلوا ابن الزبير بعد موقعة الجمل، وقد اصطدم بابن الزبير في مكة، كما اصطدمت تميم بقيس في خراسان.

      كانت نقائض هذين الشاعرين مناظرات أدبية تستهوي الجماهير التي تتحلق حول الشاعرين، وتتذبذب بينهما. وقد فهم خلفاء بني أمية هذه النقائض على أنها لعبة القبائل الجديدة في العراق، وتمضي فيها أوقات فراغها، فلم يجدوا حرجاً في أن يضمن هؤلاء الشعراء مديحهم شيئاً من هذه المناظرات.

      وكانت نقائض جرير والفرزدق مناظرات مكتوبة، ودليل ذلك أن الشاعر كان يرد على معاني النقيضة الأولى معنى معنى، وينظر في أفكارها فكرة فكرة، ولعل هذا يحل اتفاق الأسلوب أحياناً بينهما. لقد تطورت النقيضة عند جرير والفرزدق تطوراً واسعاً، لأنهما حينما نهضا بهذا العمل استعانا فيه بكل ما يمكن من توليد للمعاني وتركيب فيها. أما من حيث تركيب المعاني، فقد أدخلا عليها معاني جديدة اجتلباها من الإسلام، ومن المسائل العقلية التي اصطرع فيها العلماء والناس، وأما من حيث التوليد؛ فإن المعنى الذي كان يدور في نقائضهما كانا يعرضانه في صور مختلفة.

      ومن المؤكد أن فن الهجاء فنٌ أموي النزعة والنشأة، فقد بزغ ناضجاً على أيدى جرير والفرزدق والأخطل، ثم اختفى هذا الفن مع مطلع القرن الثانى للهجرة.

5. وصف الطبيعة والطرديات

      مضى شعراء العصر الأموي، على سنّة آبائهم؛ يستلهمون صحراءهم، مزاوجين بين حب الطبيعة وحب المرأة، إذ يفتتح الشاعر قصيدته بوصف أطلال الديار التي قضى بها شبابه مع محبوبته، ثم يتحدث عن رحلته في الصحراء مسهباً في وصف ناقته أو فرسه. ورغم أن جمهور الشعراء لهذا العصر عاش في بيئات متحضرة، فإن الصحراء لم تجف ينابيعها في شعرهم، على نحو ما نجد عند مشاهير الشعراء أمثال جرير والفرزدق والأخطل.

      والحَقّ أن ذا الرُّمّة[15] يعدّ أكبر شاعر يتغنى بالصحراء العربية، فقد عشقها، وعشق رمالها، وأعشابها، وأشجارها، وحيوانها، وطيرها، وسحابها. وبائيته في مطلع الديوان تؤكد هذا العشق، فيقول مطلعها:

كأنّهُ من كُلًىً مَفريّةٍ سَرِبُ

ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ

      فهو يتحدث عن محبوبته، ثم ينتقل إلى مشهد الصحراء، فيصور، في نحو مائة بيت، ثلاثة مشاهد رائعة من مشاهد الصحراء، أولها مشهد أتن الوحش وحمارها في يوم حار، يتعرض لها صائد مختفِ وراء الأشجار بسهامه فتفر على وجهها، ودائماً تطيش هذه السهام في شعر ذي الرّمّة حبّا للحيوان. والمشهد الثانى مشهد ثور الوحش محتمياً من المطر، ومع أول ضوء للنهار، يخرج للرعي، فتهاجمه كلاب صائد، فينتصر عليها ويمزقها فيزول روعه. والمشهد الثالث؛ مشهد الظليم وصاحبته يرعيان بعيداً عن أفراخهما، ويكفهر الجو، فيسرعان إليها خيفة أن يسقط عليها برد السماء أو بعض السباع.

      لقد صوّر الشاعر في الثور، حين هاجمته الكلاب، شعوره بعزته، وكأنه يمثل فيه البدوي وإحساسه بكرامته، كما صوّر في الظليم وصاحبته، عاطفة الأبوة والأمومة الرحيمة. ولعلّ هذه أهم خاصية تميز وصف الحيوان الوحشي عند ذي الرمة، إذ يحمّله عواطف الإنسان ومشاعره. ومن أروع ما يصوّر ذلك عنده قوله في ظبية وابنها:

تنحّتْ ونَصّتْ جِيْدَها بالمناظرِ

إذا استودعتْه صفصفاً أو صَريماً

بكل مَقيلٍ عن ضِعافٍ فواترِ

حِذاراً على وسْنانَ يَصْرعه الكَرَى

وكم من محبٍّ رهْبةَ العين هاجرِ

وتهجرُه إلا اختلاسًا نهارَها

به وهْي إلا ذاك أضعفُ ناصرِ

حذارَ المنايا رهْبةً أنْ يفُتْنَها

      وعُني طويلاً بوصف همس الفلوات، وما يسمع في حنادسها من أصوات مدوية، كانوا ينسبونها إلى الجنّ، ونراه يشبهها بتراطن الرّوم، وتضراب الطبل، وصياح الضرائر، وأصوات السمر.

      وفي أواخر القرن الأول، وأوائل الثاني، بدأت هواية الصيد تأخذ مكانها في المجتمع العربي، وتنتشر بين الطبقة الأرستقراطية، وفي البيئات المترفة الغنية، ولم تكن تتابع في هوايتها ما كان موجوداً في العصر الجاهلي من أنواع الصيد وطرقه، ولكنها كانت متأثرة بالحضارة الجديدة التي شاعت، والتي اقتبست فيما اقتبسته ـ من مظاهر الترف المادي عند الأمم الأجنبية ـ هواية الصيد ووسائلها وأدواتها. والذي يكشف لنا ذلك ما يذكره ابن النديم من كتب مؤلفة ومترجمة في فن الصيد ووسائله، منها كتاب الجوارح، وكتاب "البزاة" للفرس، وكتاب "البزاة للترك"، وكتاب "البزاة للروم"، وكتاب "الجوارح واللعب". ويتضح من هذه الكتب تأثرها بفن الصيد عند الفرس، والروم، والترك، على السواء.

      وكان بعض الشعراء يشهدون رحلات الصيد ويشاركون فيها، ويصورون ما يحدث في هذه الرحلات من صيد الحيوان، وإنضاجه على النار، ووصف أنواع الطير والحيوان المدربة التي يستخدمونها في صيدهم.

      والملاحظ على شعر الطّرد أنه نظم في بحر الرَّجّز، ويرجع ذلك إلى أن شعر الطرد أقرب إلى الحياة البدوية، وبحر الرجز هو أقرب الأوزان إلى البدوي.

      وأول الشعراء، الذين ذكرت لنا المصادر المختلفة اهتمامهم بشعر الطّرد؛ هو الشمردل بن شريك، الذي كان معاصراً لجرير والفرزدق، الذي يقول عنه صاحب الأغاني: إنه كان صاحب قنص، وله في الصّقر والكلب أراجيز كثيرة. ومن هؤلاء أيضا أبو نخيلة، وله أرجوزة في طرد عشر نعائم يقول فيها:

وَردًا طِمِرًّا مُدْمجَ السَّاةِ

أنعتُ مُهْراً سَبَط القَراة

نعائماً عشْرًا مطرَّدات

يغدو بِنَهْدٍ في اللجام عات

فانصاع وانصعْنَ مُوَلِّيات

صُكَّ العراقيب هُجنَّعات

حتىاجْتمعْن مُتَناغصات

ما كان إلا هاكَهُ وهاتِ

واختلّ حُضْنا هيقة شوشات

بالسهْبِ والغَدْ ر من الحَماةِ

بِغَيْرِ تكْبير ولا صَلاة

فانعقرت من آخر الهيْقاتِ

                              كأنها خالفة السّراة

      ولبعض رُجّاز العصر الكثير من الأراجيز في الطرد، وتتميز بالإغراب في لغتها، وبقربها من البداوة الجاهلية، كما يجعلها ذلك أقرب إلى المتون التعليمية.



[1] هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان من أهل مكة، لُقب هذا اللقب لضيعة له قرب الطائف تسمى العرج، كان ينزل بها.

[2] مكي من بني مخزوم، ولد في سنة 23هـ وتوفى سنة 93 للهجرة.

[3] هو عبد الله بن محمد بن عبدالله بن عاصم بن ثابت، أوسي من الأنصار من أهل المدينة، ولّقب بالأحوص لحوص كان في عينيه، توفي سنة 110 للهجرة.

[4] من قبيلة كنانة، كانت عشيرته تسكن في ضواحي المدينة، وعرف بأنه رضيع الحسين بن علّي.

[5] 'نشأ في منازل عذرة بوادى القرى، وكان كثيِّر عزَّة راوية له، وشعره لذلك أوثق شعر العذريين. تلقن الشعر عن هدبة بن الخشرم تلميذ الحطيئة.

[6] وُلِد في بادية الحيرة سنة عشرين للهجرة، وهو من قبيلة تغلب، نصراني الديانة، وكان يكثر من هجاء الناس ولذلك لقبه شاعر قبيلته كعب بن جُعيل الأخطل ومعناه السفيه. أما اسمه فغياث، وكان يكنى بأبي مالك، وهو أكبر أبنائه.

[7] هو همام بن غالب، من بني دارم، وُلِد سنة 23 للهجرة، وكان علوياً غير أن ميله للعلويين لم يمنعه من مدح الأمويين. وتُوفِى على الأرجح سنة 112 للهجرة.

[8] هو جرير بن عطية بن الخطفى من بني كليب (حيّ من تميم) من أهل اليمامة، وبها مات سنة 111 للهجرة.

[9] شاعر حجازي، نوبي الأبوين، وكان مُسْتَرقاً لرجل من كنانة وفزع إلى عبد العزيز بن مروان فردّ إليه حريته فنظم فيه المدائح الرائعة.

[10] القطامي لقب غلب على عُمير بن شييم التغلبى، وهو من بني الفدوكس عشيرة الأخطل، ومن ثمّ نشأ نصرانيا، غير أنه فيما يظهر دخل الإسلام، وقد اشترك في الحروب التي نشبت بين قبيلته تغلب وقيس في أثناء فتنة ابن الزبير.

[11] هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، كان يتقن الفارسية، وكان من حفدة الفرس الذين نزلوا اليمن قبل الإسلام، نشأ بالبصرة وصبّ هجاءه على أسرة زياد بن أبيه تُوفِي سنة 69 للهجرة.

[12] هو ثابت بن كعب من بني العتيك الأزديين ولُقِّبَ قُطْنة لأن سهماً أصابه في إحدى عينيه في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قُطْنة، وهو من فرسان المهلب المشهورين، وقد علا نجمه في ولاية يزيد بن المهلب على خراسان، إذ كان يولّيه أعمالاً في الثغور، وكان من المُرَجّئة.

[13] من بني أسد نشأ بالكوفة، يمدح ويهجو، وكانت فيه فكاهة جعلته يتصعلك في بعض مدائحه، وكان الحكم أعرج لا تفارقه عصاه، فترك الوقوف بأبواب الولاة، وصار يكتب على عصاه حاجته، ويبعث بها مع رسوله.

[14] تبدو أهميتها الخاصة من خلال دفاع الشاعر عن عشيرته وهجومه على خصومه، فالشاعر يُضطر إلى تعداد مساوئ أعدائه وذكر الأيام التي توالت بين قومه وقبائل الذين يهجوهم، فكأن هذه النقائض تاريخ، فمنها نعلم أحوالهم ونطّلع على أخبارهم ونعرف رجالهم المشهورين وفرسانهم المذكورين ونتحقق الأزمنة والأمكنة التي عاشوا فيها.

[15]  هو غيلان بن عقبة من بني عدي بن عبد مناة، لُقِّب بذي الرّمَّة لقوله، في بعض شعره، يصف الوتد: ` أشعث باقي رمة التقليد ` والرّمّة القطعة البالية من الحبل، وأضيفت إلى التقليد لأن الوتد يتقلد بها. وُلِد عام 77 للهجرة بصحراء الدهناء بالقرب من بادية اليمامة،، وكان كثير الاختلاف إلى مجالس الوعاظ والمتكلمين في عصره، فاعتنق مذهب الجبرية. توفي عام 117 للهجرة.