إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









الفصل الرابع

الفصل الرابع

الشعر في ظل الدولة العباسية

موضوعاته وأعلامه

      كان أبرز انتقال تحقق مع قيام الدولة العباسية، هو انتقال المجتمع المثقف من مجتمع بداوة إلى مجتمع مدنية وتحضّر، ومن المجتمع العربي إلى المجتمع الإسلامي. وهناك طرأت على المجتمع تغيرات جوهرية، ومن ثم كان طبيعياً أن يواجه شعراء ذلك العصر مطالب هذا الواقع الجديد، حين ينطلقون إلى التعبير عن تجاربهم الجديدة، ولكن وسائل هذا التعبير كانت قد استقرت على أشكال بعينها في العصر الأموي، ومن ثم كانت الأزمة الحقيقية التي واجهت شعراء العصر العباسي ماثلة في كونهم يعيشون نمطاً جديداً من الحياة على المستويين المادي والمعنوي، وهم، في الوقت نفسه، محاصرون بأشكال من التعبير، وقيم في الفن الشعري كانت ملائمة في يوم ما لتجارب أسلافهم، ولم تبق ملائمة لعصرهم. ولأن أديب ذلك العصر يريد التعبير عن تجربته الذاتية التي يعيشها، وأن يستجيب في ذلك لثقافة مجتمعه وذوقه العام، ولأنه كان كذلك، كان طبيعياً أن تنشأ بينه وبين تلك التقاليد الفنية المتوارثة أشكال من الصراع، وشيئاً فشيئاً استطاع الذوق الجديد أن يفرض نفسه ويؤكد وجوده.

      قال المرزباني: " أخبرني يوسف بن يحيى بن علي المنجم عن أبيه قال: حدثني علي بن مهدي قال: حدثني أبو حاتم السجستاني قال: قلت للأصمعي: أبشّار[1] أشعر أم مروان بن أبي حفصة[2]؟  قال: بشار أشعرهما، قلت: وكيف ذاك ؟ قال: لأن مروان سلك طريقاً كثر سُلاكه فلم يلحق بمن تقدمه، وأن بشاراً سلك طريقاً لم يسلكه أحد، فانفرد به وأحسن فيه، وهو أكثر فنونَ شعر، وأقوى على التصرف، وأغزر وأكثر بديعاً، ومروان آخذ بمسالك الأوائل".

      وهكذا بدأ الانقسام في المنحى الشعري بين شعراء العصر العباسي، فشعراء أرادوا أن يخلصوا لتجارب عصرهم، وشعراء وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضي.

      وقد كان طبيعياً أمام هذا الانقسام أن يتهم أصحابُ الذوق القديم الشعراءَ المحدثين بضعفهم وعدم اقتدارهم على الأشكال التقليدية.

      ومن أجل هذا قبل شعراء المذهب الجديد التحدي، لكي يؤكدوا للتقليديين أنهم قادرون على النسج على المنوال القديم.رووا أن بشاراً حضر يوماً مجلس عقبة بن سلم، وحضر المجلس عقبة بن رؤبة بن العجاج، وأنشد أرجوزة يمدحه فيها، فاستحسن بشار أرجوزته، فالتفت عقبة بن رؤبة إلى بشار وقال: هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك. فغضب بشار وقال: ألي تقول هذا ؟ والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك، ثم غدا على عقبة بن سلم بأرجوزته الدّالية التي يقول في مستهلها:

بالله خَبِّرْ كيف كنْتَ بعدى

يا طَلَل الحيِّ بذات الصمدِ

      وينهج بشار في أرجوزته نهج القصيدة التقليدية في المدح، من وقوف على الأطلال ونسيب، قبل أن يصل إلى الممدوح، والواقع أن أرجوزته، وإن كانت تجري من حيث الشكل والنهج الشعري مجرى النمط الشعري القديم، كانت تحمل نفَس الشعر الجديد وطابعه. يقول بشار:

أصبحت في سَكرات الموت سَكْرانا

أَمِنْ تَجَنِّي حَبيبٍ راح غضْبانا

كأنَّما لا ترى للنّاسِ أشجانا

لا تَعْرفُ النومَ، من شَوقٍ إلى شَجنٍ

إلا سلاماً يردُّ القلبَ حَيْرانا

أَوَدُّ من لم يُنِلْني من مَوَدَّتِه

والأذنُ تَعْشق قبل العين أحيانا

يا قوم، أُذُني لبعض الحيِّ عاشقةٌ

      ويعلق ابن المعتز على هذا فيقول: " وهذا معنى لم يسبقه إليه أحد".

      ولبشار، فضلاً عن شعره الجاد الذي يساير فيه روح الشعر القديم، ويتجه به إلى خاصة المتأدبين، شعر يخاطب فيه عامة الشعب. وقد برزت هذه الظاهرة ابتداء من بشار، وكثرت في أشعار أبي العتاهية وأبي نواس، ثم استفاضت لدى شعراء التحامق والكدية، ابتداء من أبي الشمقمق حتى ابن حجاج وابن سكرة وأضرابهما.

      فالعنصر الشعبي في العصر العباسي أخذ يفرض نفسه في مجال الأدب، ويؤثر بذلك في تشكيله مفاهيم الشعراء والكتاب الأدبية. لقد حرص الجاحظ في كتبه على أن يجمع دائماً بين الكلمة الجادة والنادرة اللطيفة، بين أقوال الزهاد ودعابات الحمقى. ومن هنا كان في كتبه ما يرضي الخاصة ويمتع العامة. وكل هذا كان بتأثير الأوضاع الاجتماعية وتكوين المجتمع الجديد في العصر العباسي.

      وقد كان من أبرز مظاهر الاتجاه إلى الذوق الجديد اشتقاق الشاعر موضوعات شعره مما يعانيه في حياته، ومن ثَمّ تنوعت موضوعات الشعر، فبعضها جاء امتداداً لموضوعات قديمة مع بعض التجديد الذي يساير روح العصر، مثل التنويع الذي طرأ على المدح والهجاء والرثاء ووصف الطبيعة ومظاهر الحضارة، والبعض الآخر جاء من مستحدثات العصر مثل شعرالزهد والتصوف والشعر المذهبي والشعر التعليمي والشعر الشعبي.



[1] هو بشار بن برد بن يرجوخ، ولد بالبصرة لأوائل العقد العاشر من القرن الأول للهجرة، وهو فارسي الأب رومي الأم، من موالي بني عقيل. وقد ولدته أمه أعمى، أعانته نشأته في بني عقيل على أن يتمثل السليقة العربية، كان يكثر من الترددعلى حلقات المتكلمين، كان مغرقا في مجونه وزندقته وشهد شهود موَثّقون على زندقته فأمر المهدي بجلده حتى الموت وذلك سنة 168 للهجرة.

[2] أصل جده من يهود خراسان، وُلِد مروان سنة 105 للهجرة، ونشأ باليمامة، وكان يتردد على بغداد، مدح معن بن زائدة الشيباني والخليفة المهدى والخليفة هارون الرشيد ويحيى بن خالد البرمكي،  ويروى عنه أنه كان يحوك القصيدة في سنة , توفي سنة 189 للهجرة