إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









1

1. القصيدة والشعر العمودي

      لم يعرف الجاهليون من فنون الشعر سوى القصيدة، وهي أبسط الشعر، وهي عدة أبيات على قافية واحدة من بحر واحد، فإن لم تتجاوز سبعة أبيات سميت مقطوعاً، وقيل المقطوع إلى عشرة، وتتألف القصيدة من مجموعة من الأبيات المتساوية في الوزن والمتحدة في الحرف الأخير من كل بيت، ويسمي الحرف الأخير روياً وقافية، وينفرد كل بيت بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام مستقل عما قبله وما بعده، ومن أجل هذا قال النقاد إن البيت هو وحدة القصيدة.

      ويتميز مطلع القصيدة باحتوائه على التصريع، وهو اتفاق نهاية العروض ونهاية الضرب في القافية والروي. وفضلاً عن التصريع في أول القصيدة، يلجأ الشاعر إلى التصريع عند الانتقال من غرض إلى غرض. وقد درج الشعراء على النظم في مجموعة من الأغراض داخل القصيدة الواحدة، فيفتتح الشاعر عادة قصيدته بالوقوف على الأطلال والتشبيب والنسيب وذكر رحيل المحبوبة، ثم وصف المكان الخرب بعد أن هجرته، ويسترجع أيام الوصل معها، ثم يمهد بعد ذلك للانتقال إلى غرض آخر بالرحيل إلى الصحراء ووصف البيئة الصحراوية ووصف حيوانها، ويركز على وصف دابته، ثم ينطلق بعد ذلك إلى الغرض الأساسي للقصيدة من مدح أو فخر أو هجاء.

      وقد اتفق جميع الشعراء في هذه التركيبة، ولم يشذ عنها شاعر ؛ فلم يحدث أن شاعراً ختم قصيدته بالنسيب أو الوقوف على الطلل، ولذلك غدا هذا البناء مثار تساؤل النقاد المحدثين لأنه يشكل ظاهرة تخضع للتأويل والتفسير الرمزي.

      وقد قنن ابن قتيبة هذه الظاهرة في مقدمة كتابه "الشعر والشعراء" حينما قال:" سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى واشتكى وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب؛ ويصرف إليه الوجوه وليستدعي إصغاء الأسماع، لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فإذا استوثق من الإصغاء إليه عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة وهزه للسماح".

      وقد التفت الكثير من الباحثين إلى نموذج ابن قتيبة النظري للقصيدة باحثين عن وظيفة محددة لهذا النموذج لاتتغير من قصيدة إلى أخرى، فرأوا في النسيب تعبيراً عن الغنائية ونقلاً لحالات النفس، ورأوا في الرحيل والرحلة في الصحراء رحلة وتموضعاً في العالم، أما المديح فإنه تثبيت لقواعد الخطاب الجماعي.

      وبناء على هذا يصبح النسيب خالصا للتعبير عن ذات الشاعر، ويكون الرحيل موقفاً وسطاً، وانتقالة طبيعية من ذات الشاعر إلى ذات الممدوح.

      ويذهب باحث آخر إلى القول: إن القصيدة التقليدية احتفظت بطبيعتها الإنشادية حين شغلت بالمديح، وإن شعراء الحداثة قبلوا هذا النموذج في خطوطه العامة، وحاولوا في الوقت نفسه أن يخضعوا هذا النموذج لمشاعرهم الذاتية، وبذلك انقسمت القصيدة إلى قسمين: فالمقدمات بما فيها من غزل ووصف هي للشاعر، والقسم المدحي هو لإرضاء الممدوح وإذاعة صيته، وقد توسّع الشعراء في القياس، فإذا كان الغزل لاستمالة القلوب، فلابأس أن يكون القسم الغزلي كأنه قصيدة قائمة برأسها.

      وقد يبدو الأمر كما لو كان الشاعر ينظم القصيدة استجابة لذوق الممدوح، وكأن القيمة الجمالية للمقدمة تنحصر في التغيير المحض دون حاجة إلى رابط يربطها بالغرض الثاني العملي وهو المدح، فكأننا في الواقع أمام قصيدتين مختلفتين لايجمع بينهما إلا وحدة الوزن والقافية.