إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









الصراع بين القديم والجديد

الصراع بين القديم والجديد

      وعلى هذا النحو نشأ منذ بداية القرن العشرين صراع عام ممتد بين القديم والجديد، وتولدت عنه طلائع الحركة الوطنية التي ازدهرت بعد ذلك بسنين. وكان أول ما افتقده دعاة الجديد في امتداد حركة الإحياء الذاتية الطابع الوجداني، ذلك لأن المجددين من الرواد قد اتجهوا اتجاهاً موضوعياً اختفت فيه شخصياتهم وعبروا عن قضايا عصرهم تعبيراً غلب فيه الجانب الموضوعي على النزعة الوجدانية.

      وقد مثَّل الشاعر أحمد شوقي[1] تلك الموضوعية من خلال شعر الوقائع والمناسبات، مع الاحتذاء بأسلوب القدماء في الصورة الشعرية وبناء القصيدة. وهكذا قامت حول شعر شوقي حركة نقدية هاجم أصحابها القديم في أكبر ممثل له، وهي حركة تمثل إحساس طائفة من الناس بالتطور الحضاري والحاجة إلى شعر من لون جديد يمثل طبيعة ذلك التطور. وقد عبَّر العقاد عن هذه الحاجة في تقديمه لديوان المازني، وفي كتاب"الديوان"، كما عبَّر ميخائيل نعيمة في كتابه "الغربال " عن ضرورة الالتفات إلى الجانب النفسي والذاتي في الشعر.

      والحق أن شوقي – بوصفه ممثلاً للاتجاه الموضوعي- قد أسرف في تجاهل وجدانه، وأوغل في شعر السياسة والأحداث والمناسبات، فاتسم شعره بطابع كلاسيكي، وحتى عندما يصف الطبيعة يعتمد على ما كان يعتمد عليه أغلب شعراء العصر العباسي من وصف خارجي لمظاهر الطبيعة يقوم على الادراك الذهني.

      على أن موهبة شوقي العظيمة، لم تكن لتقنع بما فرضته عليها الظروف من اتجاه موضوعي يعبر عن القضايا السياسية والاجتماعية العامة، بعيداً عن دخائل النفس في مرحلة كانت تدعو إلى أن يلتفت الشاعر إلى هذه التجارب، فوجدت لها متنفساً في إطار جديد، يفرض بطبيعته الالتفات إليها، هو إطار المسرحية. المسرحية تفرض على الشاعر أن يتمثل عواطف شخصياتها وأزماتها النفسية. ولذلك نلمس فرقاً كبيراً بين شعره في دواوينه وشعره في مسرحياته من حيث الوصول إلى وجدان القارئ.

      حمل العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري من جانب، وخليل مطران من جانب آخر لواء تحرير الشعر، فكانوا أول دعاة للتجديد في شعرنا العربي المعاصر، واتجهت خطة هؤلاء، أول ما اتجهت، إلى تحطيم الصورة التي انتهى إليها شعر شوقي وحافظ اللذين كانا قد تربعا على عرش الشعر التقليدي بعد حركة البعث التي قام بها البارودي، وذلك بنقد طريقتهم التقليدية، ثم بسط آرائهم الجديدة البناءة في الشعر.

      وتنحصر حملات النقد التي شنها العقاد والمازني على أنصار القديم في مسألتين:

      الأولى: ذلك البناء التقليدي للقصيدة العربية الذي كان ينصرف عن موضوعات الحياة إلى أغراض الشعر القديمة من غزل ووصف وهجاء ومديح.

      والثانية: شعر المناسبات، الذي لم يكن يصدر فيه الشعر عن تجربة حية. على أن أبرز نقطة أثارتها هذه الجماعة، والتي تعد بحق نقطة تتبلور عندها جميع النقاط، هي قضية الوحدة العضوية أو الفنية للقصيدة.

      وقد احتل موضوع الوحدة العضوية اهتماماً كبيراً لدى النقاد المحدثين، وذلك منذ أثارها كولردج في كتابه (سيرة أدبية ).

      وحقق شعراء الديوان وشعراء أبوللو تغييراً جوهرياً في الشعر:

      أولاً: التخلص من شعر المناسبات

      ثانياُ: التحرر من التزام القافية الواحدة، مع التخفف من صرامة الوزن القديم، وسهولة تطويعه للتجربة الجديدة، فترى في شعرهم القافية المزدوجة، التي تتحد في كل بيتين، بل تخلص الشعر أحياناً من القافية، كالشعر المرسل، الذي نظمه عبد الرحمن شكري، وحافظ فيه على وحدة البيت العروضية، مع التحرر من القافية.

      ثالثاً: ظهور بعض ملامح المذهب الرومانتيكي على يد طائفة من شعراء الديوان وجماعة أبوللو، فغلبت عليهم نزعة القلق والأنين والشكوى من الحياة والتبرم بمحنها. فها هو المازني يصف رجل العصر بقوله:

      يتلقاك بالطلاقة والبشر وفي قلبه قطوب العداء.

      كالسراب الرقراق يحسبه الظمآن ماء، وما به من ماء.

      عاجز الرأي والمروءة والنفس، ضئيل الآمال والأهواء.

      ألفَ الذلَ، فاستنام إليه، وتباهى به على الشرفاء.

      ينسج الزور والأباطيل نسجاً، والأكاذيب ملجأ الضعفاء.

      وعند أبي القاسم الشابي والتيجاني والهمشري الكثير من هذه الروح المتبرمة الساخطة، التي ظهرت بظهور الفرد وشعوره بذاته.

      ويمكن الرجوع إلى قصائد " إلى الموت "، والاعتراف "، " والصباح الجديد " لأبي القاسم الشابي، فهي جميعاً تطفح بالهموم والأسى.

      رابعاً: أصبح تفاعل الشاعر مع الطبيعة تفاعلاً حياً. وهذا المذهب الذي يخلع فيه الشاعر على الطبيعة ما يجده في نفسه من مشاعر، واضح في قصيدة المساء لخليل مطران، والتي نظمها سنة 1902م يقول فيها:

والقلبُ بين مهابةٍ ورجاءِ

ولقد ذكرتك والنهارُ مودّعٌ

كَلْمَى كداميةِ السَّحابِ إزائي

وخواطري تبدو تِجاهَ نواظري

فوق العقيق على ذرى سوداءِ

والشمسُ في شفق يميل نضاره

وتقطرت كالدمعة الحمراءِ

مرت خلال غمامتين تحدُّراً

مُزِجَتْ بآخر أَدْمُعي لرثائي

فكأنَّ آخرَ دمعةٍ للكونِ قَدْ

فرأيت في المرآة كيف مسائي

وكأنني آنست يومي زائلاً

بكآبتي، متفردٌ بعنائي

متفردٌ بصبابتي، متفردٌ

فيجيبني برياحهِ الهوجاءِ

شاكٍ إلى البحر اضطرابَ خواطري

قلباً كهذي الصخرة الصّمّاءِ

ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ، وليتَ لي

ويفتّها كالسُّقْمِ في أَعْضائِي

ينتابها موجٌ كموجِ مَكَارِهي

كمداً كصدري ساعةَ الإمساءِ

والبرُّ خفّاق الجوانِب ضائقٌ

صعدتْ إلى عينيّ من أحشائي

تغشى البرية كدرةٌ وكأنّها

يغضي على الغمراتِ والأقذاءِ

والأفق معتكرٌ قريحٌ جفنهُ

 



[1] هو أحمد شوقي بك بن على بن أحمد شوقى بك، ينتهي نسبه إلى الأكراد من جهة الأب، وإلى الأتراك من جهة الأم، ولد في القاهرة على عهد الخديوي إسماعيل، وكان أبوه مبذراً، فكفَّلته جدته لأمه، وكانت من وصائف دار الإمارة. طلب الحقوق مدة سنتين، ثم التحق بقسم الترجمة التابع لمكتب الحقوق ونال الإجازة، فبعثه الخديوي توفيق إلى فرنسا ليدرس الحقوق سنة 1887م ونالها وعاد إلى مصر سنة 1891م، وأوفده الخديوى عباس مندوباً عن مصر لحضور مؤتمر المستشرقين في جنيف سنة 1894م وبعد عودته إلى مصر أصبح شاعر القصر، وقد أبعدته إنجلترا عن مصر عند اندلاع الحرب، وظل ببرشلونة حتى انتهائها. وفى سنة 1927م جاءته وفود الأدب من جميع الأقطار العربية وبايعته بإمارة الشعر، وأصبح لقبه أمير الشعراء. توفي 1932م.