إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الشعر









حركة الأدب الجديدة والاتجاه الواقعي

حركة الأدب الجديدة والاتجاه الواقعي

      بدأ كفاح الإنسان يتجه نحو معركة الحياة، والواقع الاجتماعي، وأخذ الشباب العربي ينهض بعبء وطني تجاه قضايا الوطن، وتجاه القضايا الإنسانية، وأساسها النهوض بالملايين الكادحة من أبناء الشعوب العربية.

      وشعراء هذه الحركة يعنون بالحياة والمجتمع، فلم يبق الجمال في الشعر غاية لذاته، يقول عبد الوهاب البياتي في قصيدته " أحزان البنفسج ":

الملايين التي تكدح، لا تحلم في موت فراشه،

وبأحزان البنفسج،

أو شراع يتوهج،

تحت ضوء القمر الأخضر في ليلة صيف،

أو غراميات مجنون بطيف.

الملايين التي تكدح،

تعـرى،

تتمـزّق،

الملايين التي تصنع للحالم زورق،

الملايين التي تصنع منديلاً لمغرم،

الملايين التي تبكي،

تغنـي،

تتـألم،

في زوايا الأرض في مصنع صلب أو بمنجم،

إنها تمضغ قرص الشمس من موت محتم،

إنها تضحك من أعماقها،

تضحك،

تغـرم،

لا كما يغرم مجنون بطيف،

تحت ضوء القمر الأخضر في ليلة صيف،

الملايين التي تبكي،

تغنّـي،

تتـألم،

تحت شمس الليل باللقمة تحلمْ.

      ومن أهم خصائص هذا الشعر الجديد أنه لا يأنف من الخوض في شؤون الحياة العادية أو اليومية، أو مشكلات الطبقات الدنيا، ولذلك فإن مفرداته وصوره وأساليبه أصبحت تتسع لكل الموضوعات. لقد ارتبطت القصيدة الواقعية بأهداف بعينها، فهي تنحو إلى تعرية الواقع وإبرازه في صورته الحقيقية، ولو أدى ذلك إلى خدش الجمال أو الإخلال بكمال الأسلوب، كما أنها تبصرنا بما في حياة الطبقات الكادحة من تعاسة، وما في حياة رجل الشارع البسيط من كفاح، وإرجاع هذا إلى أخطاء في بناء المجتمع ذاته.

      وأمثلة هذا كثيرة عند عبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وبدر شاكر السياب، ومحيي الدين فارس وغيرهم.

      وفي قصيدة بدر شاكر السياب "المومس العمياء " يعرض الشاعر مشكلة متصلة بالبناء الاجتماعي. فالشاعر يعالج مشكلة امرأة اضطرتها ظروف المجتمع إلى ممارسة البغاء، وهو يصور مأساتها فيعري الحقيقة بلا إشفاق، وهو لا يكتفي بإلقاء المسؤولية عليها وحدها، وإنما يحمل العراق كله هذه المسؤولية، عندما يصورها تستأجر المصباح الذي تدفع ثمن زيته من سهاد مقلتها. في الوقت الذي يفيض فيه العراق بالزيت العميم. يقـول:

يا ليتك المصباح يخفق ضوؤه القلق الحزين

في ليل مخدعك الطويل، وليت أنك تحرقين،

دماً يجف فتشترين،

سواه: كالمصباح والزيت الذي تستأجرين

عشرون عاماً قد مضين، وشبت أنت وما يزال

يذرذر الأضواء في مقل الرجال

لو كنت تدخرين أجر سناه ذاك على السنين

أثريت

هاهو ذا يضيء فأي شيء تملكين ؟؟

ويح العراق ! أكان عدلاً فيه أنك تدفعين

سهاد مقلتك الضريرة

ثمناً لملء يديك زيتاً من منابعه الغزيرة

كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟؟

      ومن هذا اللون أيضاً قصيدة "شنق زهران" لصلاح عبد الصبور التي تصور فلاحاً مصرياً مكافحاً من قرية "دنشواي" أحب الحياة، وثار على الظلم، فلم تشأ قوى الاستبداد القاهرة إلا أن تقتل الرجل. والقصيدة على هذا النحو رمز لتمجيد الكفاح، كفاح فلاح بسيط من أبناء الشعب. يقول:

كان زهران غلاماً

أمه سمراء، والأب مولد

وبعينيه وسامه، وعلى الصدغ حمامة

وعلى الزند أبو زيد سلامة

ممسكاً سيفاً، وتحت الوشم بنش كالكتابة

اسم قرية (دنشواي)

* * * * * * *

شب زهران قوياً

ونقياً،

يطأ الأرض خفيفاً

وأليفاً

كان ضاحكاً ولوعاً بالغناء

وسماع الشعر في ليل الشتاء

ونمت في قلب زهران …. زهيرة

ساقها خضراء من ماء الحياة

حينما مر بظهر السوق يوماً

واشترى شالاً منمنمْ

ومشى يختال عجباً مثل تركي معممْ

ويجيل الطرف ما أحلى الشباب

عندما يصنع حباً

عندما يجتهد أن يصطاد قلباً

* * * * * * *

كان يا ما كان أن زُفّتْ لزهرانَ جميلة.

كان يا ما كان أن أنجب زهران غلاماً…. وغلاماً

كان يا ما كان أن مرت لياليه الطويلهْ

ونمت في قلب زهران شجيرهْ

ساقها سوداء من طين الحياهْ

فرعها أحمر كالنار التي تحرق حقلاً

عندما مر بظهر السوق يوماً

ذات يوم.

مر بظهر السوق يوماً

ورأي النار التي تحرق حقلاً

ورأى النار التي تصرع طفلاً

كان زهران صديقاً للحياهْ

مدّ زهران إلى الأنجم كفاً

ودعا يسأل لطفاً

ربما سورة حقد في الدماء

ربما استعدى على النار السماء

* * * * * * *

وضع النطع السكة والغيلان جاؤوا

وأتى السياف (مسرور) وأعداء الحياهْ

صنعوا الموت لأعداء الحياهْ

وتدلى رأس زهران الوديعْ

قريتي من يومها لم تأتدم إلا الدموعْ

قريتي من يومها تأوي إلى الركن الصديعْ

قريتي من يومها تخشى الحياهْ

كان زهران صديقاً للحياهْ

مات زهران وعيناه حياهْ

فلماذا قريتي تخشى الحياهْ؟

      وعلى هذا النحو يتراءى من الأمثلة السابقة أن واقعية شعرنا الحر تتصل بأزماتنا ومشكلات حياتنا وشعوبنا، غير أن الالتزام بقضايا المجتمع وواقعه لم تحل دون التعبير عن مشكلات الشاعر الخاصة: أفراحه أحزانه بل هي أصيلة فيه.

      والمثال على ذلك أن عبد الوهاب البياتي، رغم التزامه الواقعي، نجد آثار الرومانتيكية بارزة في ديوانه الثاني (أباريق مهشّمة)، وذلك في حنينه المتصل إلى الطفولة وعزوفه عن حياة المدينة.

      ونجد هذه الثنائية في محتوى القصيدة ظاهرة عند صلاح عبد الصبور في ديوانيه (الناس في بلادي) (وأقول لكم)، وعند أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه (مدينة بلا قلب).

      ويركز عبد القادر القط في كتابه (الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر)[1] على هذه الثنائية. مؤكداً أن الذي يحدد طبيعة الشعر الوجداني هو الموقف الحضاري الذي يقفه الشاعر من ظروف البيئة والمشكلات التي يواجهها ويعبر عنها في شعره، مما يجعل للشعر فيما يقول المؤلف مستويين (أحدهما مرتبط بحدود التجربة في الواقع الخارجي، والآخر ناطق بأشواق الإنسان العامة وإحساسه بالكون والحياة والمجتمع).

      وقد أخذ المؤلف يدرس نشأة هذا التيار الوجداني في الشعر العربي الحديث ويتابع تطوره، من خلال التمييز بين أربع مراحل مر بها:

      المرحلة الأولى (مرحلة الإحياء وعودة الذاتية) والثانية مرحلة (الريادة والتجديد) والثالثة مرحلة (الازدهار والنضج) أما المرحلة الأخيرة فيخصصها لدراسة التيار الواقعي الجديد الذي تطور إليه الوجدان الشعري، الذي أخذ، عند جيل من الشباب وطائفة من الشعراء بدؤوا بداية وجدانية، يتجه إلى رصد الواقع في صيغة شعرية جديدة تواكب الواقع الحضاري الجديد هي صيغة (الشعر الحر).

      وقد اختلف شعراء (الشعر الحر)، فيما بينهم، من حيث النشأة والثقافة والبيئة والمزاج الفني، إلا أن هذه الاختلافات جميعاً ثمرة أزمة مزدوجة بين الشاعر وذاته من ناحية، وبين الشاعر والحياة من ناحية أخرى ذلك أن الشاعر الوجداني يعتقد أنه صاحب رسالة تقوم على مثل عليا من الأخلاق والسلوك، لا سبيل إلى سعادة المجتمع بدونها، وهو مدفوع إلى بلاغ هذه الرسالة بما يحس في وجدانه من وجود روحي يسمو به على شهوات الحياة وأطماعها، ويفتح عينيه على ما في حياة الناس حوله من انعدام المحبة والسعي وراء المال، وعلى ما في مجتمعه من مآسٍ وفقر. ولما كان تحقيق هذه الرسالة يتوقف على تأكيد هذا الوجود الذاتي للشاعر، فإن كل مايؤكد هذا الوجود وينميه ويهيئ له السعادة يصبح مدار التجربة الوجدانية ومنطق الشاعر في اختيارها وتصويرها، ويصبح كل ما يعوق هذا الوجود بغيضاً لدى الشاعر. وقد تنوعت بسبب ذلك تجارب الشعراء وتكررت من شاعر إلى آخر حتى أصبحت الشعائر الموضوعية التي يتلوها جميع الشعراء.

بعض الظواهر الموضوعية المشتركة بين الشعراء

1. ظاهرة المدينة

      جاء الاهتمام بهذا الموضوع نتيجة لتأثر الشعراء المعاصرين بنماذج من الشعر العربي، وبقصيدة (الأرض الخراب) لإليوت على وجه الخصوص، بما يشيع فيها من نقمة على وجه الحضارة الحديثة وما أحدثته من تمزق للنفس الإنسانية. وقد ظهر هذا التأثر مبكراً، وذلك في قصيدة (الملك لك) لصلاح عبد الصبور في ديوانه الأول (الناس في بلادي)، ثم شاع بعد ذلك بين الشعراء. يقول أحمد عبد المعطي حجازي

رسوتُ في مدينةِ من الزجاج والحجرْ

الصيفُ فيها خالدْ، ما بعده فصولْ

بحثتُ فيها عن حديقة فلم أجدْ لها أَثَرْ

وأهلها تحت اللهيبِ والغبارِ صامتون

ودائماً على سَفَرْ.

لو كلموكَ يسألونَ …. كم تكونُ ساعتك

      فالشعراء يجسدون من خلال الحديث عن المدينة الشعور بالضياع والوحدة، كما يجسدون سمة الزينة الزائفة، يقول محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدة (نرجس والمدينة):

مدينتي من الصباح للمساء

تظل في المرآة

فنحن يا حبيبتي نعيش في حضارة المرآة

في البيت في الصبح، في الشارع الكبير

في السقف والحانون، في المقهى

2. ظاهرة الحزن

     وهي تؤكد الإدراك الشعري لمأساوية الحياة.

    تقول نازك الملائكة في قصيدة (يحكى أن حفارين):

طالما حفرا في التراب

حفرا في الضباب

ربما حفرا في شعوب الخريف

أو عبوس الشتاء المخيف

طالما شوهدا يحفران

يحفران، يظلان في لهفة يحفران

وهما الآن فوق الثرى ميتان

      فتجسد الشاعرة المفارقة بين حب الحياة والعمل من أجلها وبين الفناء بصفته مصيراً محتوماً لكل البشر.

      فالشعراء يجسدون نوعاً من مواجهة الذات للوجود والتمرد عليه، ويدركون أنهم جزء من هذا الكون وأنهم يتحركون في إطار نظامه الخاص، وأن ما يحدث من مفارقة بين ظواهر الوجود تنسحب بالضرورة عليهم.

3. ظاهرة الحب والحزن

      يؤكد الشعراء على فقدانهم الأمل في الحصول على سكينة الذات عن طريق الحب يقول صلاح عبد الصبور في قصيدته " رسالة إلى سيدة طيبة ":

أشقى ما مر بقلبي أن الأيام الجهمة

جعلته يا سيدتي قلباً جهماً

سلبته موهبة الحب

وأنا لا أعرف كيف أحبك

وبأضلاعي هذا القلب



[1] حصل عبد القادر القط بتأليفه هذا الكتاب على جائزة الملك فيصل، وخصصه لدراسة التطور الوجداني الذي أخذ يجدّ على هذا الشعر منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى كتابة مؤلفه.