إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / الصحافة









الفصل السادس

الصحافة تختلق أحداثاً لا وجود لها

أحياناً تختلق الصحافة، كغيرها من وسائل الإعلام، أحداثاً لا أصل لها، خاصة في بلد، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي يعمل نظام الاتصال الجماهيري فيها، بطريقة خاصة، ومن أكثر الأمثلة شيوعاً، على ذلك، ما يطلق عليه دانييل، وشتايين، اسم "اللا أحداث".

ففي أوائل يونيه 1967، جاء اليكسى كوسيجين، رئيس الوزراء السوفيتي، رئيساً لوفد بلاده لحضور الاجتماع الخاص، الذي عقدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك وكان عمله يتصل بالأمم المتحدة فقط بصورة غير مباشرة. وكان السوفييت يضغطون لاتخاذ إجراءات لاسترداد الأراضي، التي استولى عليها الإسرائيليون من العرب، في بداية هذا الشهر، ولم يكن هناك شيء، في العمل الدبلوماسي التقليدي، يتطلب أي اتصال مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومن الناحية العملية فإن كوسيجين لم يكن في الولايات المتحدة، فلم يكن لديه أو جونسون (الرئيس الأمريكي وقتها) أي شيء مهم يقوله أي منهما للآخر.

ومع ذلك فقد كانت الضغوط، من أجل لقائهما، كبيرة بسبب ما تكهنت به وسائل الإعلام عن الإمكانيات التي سيتيحها هذا اللقاء، كما أن فرص الخسارة فيه ستكون ضئيلة نسبياً. وجرت مناقشات عديدة، عن هذا الاجتماع، وصوَّره البعض بأن أهميته تضارع أهمية مؤتمر فيينا. ودارت مناقشات استغرقت عشر ساعات حول المحادثات التي دارت بين الزعيمين على مدار يومين كاملين. هذا في الوقت الذي انتهز فيه الرئيس جونسون الفرصة وذهب إلى لوس أنجلوس، في حملة سياسية، وقام كوسيجين بنزهة إلى شلالات نياجرا.

اشترك، في تغطية هذا الموضوع، مئات الصحفيين، ومُنحت تسهيلات خاصة لممثلي وسائل الإعلام، ووزعت آلاف الصور، وأدرجت وكالة الاسوشيتد برس الموضوع، في المرتبة الخامسة، بين أكبر عشرة أحداث، لهذا العام !. لقد كان هذا، من أساسه، "لا حدث"، وبرز ذلك، في البيان الختامي، وفي تصريح جونسون عن الاجتماع، الذي قال فيه: "لقد حققنا تقدماً عظيماً، في الحد من عدم التفاهم على ما أعتقد، وفي تأكيد التزامنا المشترك بالبحث عن اتفاق". لقد أوضح هذا البيان كيف كانت الجلسات جوفاء من الناحية السياسية.

جائزة بوليترز.. لقصة وهمية!

في 28 سبتمبر 1980، نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" قصة صحفية، بقلم جانيت كوك، تحت عنوان مثير: "عالم جيمي: مدمن هيروين، في الثامنة، يعيش من أجل حقنة مخدرات".

تقول القصة: "جيمي يبلغ الثامنة، وهو جيل ثالث من مدمني الهيروين، غلام صغير نضج قبل الأوان، شعره بلون الرمال، له عينان بلون المخمل البني، وعلامات الإبرة تركت أثرها على البشرة الطفولية الناعمة لذراعيه السمراوين النحيلتين، إنه يقبع في مقعد كبير، لونه بيج، في غرفة المعيشة، بمنزله ذي الأثاث المريح، في جنوب شرق واشنطن وعلى وجهه الصغير المستدير تعبير شبه ملائكي وهو يتحدث عن: الحياة، والملابس، والنقود، وفريق بليتمور أوريولز، والهيروين؛ فقد كان مدمناً منذ الخامسة.

إنه يعقد يديه خلف رأسه، وفي قدميه حذاء رياضي لطيف، ويرتدي قميصاً مخططاً مغلق الصدر يتدلى، فهو هيكل هزيل. وقد قال لمخبر صحفي زاره مؤخراً: إنه رديء أليس كذلك؟ لدي ستة أخرى مثله. إن عالم جيمي هو عالم المخدرات العنيف، والمال السريع، والحياة الطيبة، التي يظن أنه، هو وأمه، قادران على توفيرهما. هذا المدمن الصغير يشترى الهيروين، من دون مبالاة، ومن دون ما تشعر أمه التي يعيش عشيقها معها، في غرفة الطعام، بمنزل جيمي. وهما "يطبخان"، في المطبخ، و"يتعاطيان" في غرفة النوم، ويقوم رون، أو شخص آخر، بإعطاء المخدر لجيمي، يغرس إبرة في ذراعه البارزة العظام، ويغيب تلميذ الصف الرابع عن الوعي تماماً".

وتمضي القصة الصحفية، في أكثر من عمودين، مصحوبة برسم دموي، يجمد الدماء، لغلام أسود ضئيل يجفل في ألم، بينما أمسكت يد كبيرة بذراع نحيله، ويد أخرى تغرس إبرة في أحد أوردته.

وفازت قصة جانيت كوك بجائزة بوليترز لعام 1979، ولكن الاحتفال لم يدم طويلاً، في "الواشنطون بوست". فقد ثبت أن القصة، برمتها مختلقة، ولا أساس لها من الصحة، واعترفت جانيت بأنه لا وجود لشخصية جيمي، وإن القصة كلها ملفقة. وكان رد فعل الواشنطون بوست هو نشر تحليل، من 18 ألف كلمة، عما حدث، بقلم وليم جوني، المكلف بالتحقيق في شكاوي المواطنين، عن انتهاكات حقوقهم، في الصحيفة، والذي عاد، منذ ذلك الحين، إلى منصبه الأكاديمي.

إضافة إلى ما سبق، حدث عند إعلان جوائز بوليتزر، أن تلقى مايكل هولمز، مراسل الاسوشيتدبرس، في توليدو، من صحيفة "توليدويليد" بلاغاً بأن معلومات الوكالة، عن سيرة حياة جانيت كوك، لا تتفق مع معلومات صحيفة البليد. وكانت الاسوشيتدبرس قد التقطت، ببساطة، ترجمة حياة الواشنطون بوست، وقدمتها مع مقدمة منها، وأذاعها في جامعة كولومبيا، مجلس جائزة بوليتزر، بعد أن أعدتها الآنسة كوك، وزعمت فيها أنها حاصلة على درجة الماجستير، من جامعة توليدو، بينما أظهرت المراجعة أنها تخرجت فعلاً، في الجامعة، ولكنها لم تحصل على الماجستير، وعندما أبلغ هولمز ذلك لمكتبه، في نيويورك راجعت وكالة الاسوشيتدبرس زعماً آخر من كوك، بحصولها على درجة من فاسار، وأنها درست بجامعة السوربون بباريس، وكانت النتيجة أنها لم تحصل على درجة من فاسار، وأنها لم تدرس في السوربون قط، بل إنها لا تستطيع حتى التحدث بالفرنسية.

وأخيراً قررت البوست استجواب جانيت كوك، فاعترفت أولاً، بأنها لفقت جزءا من سيرتها الدراسية (وهي حصولها على درجة الماجستير)، وبعد جلسة، دامت طوال الليل، وقعت البيان التالي: "إن عالم جيمي مختلق من أساسه. فإنني لم التق قط، أو أتحدث مع مدمن هيروين في الثامنة من عمره، وكان المقال الذي نشرته الواشنطون بوست في 28 سبتمبر 1980 تشويها خطيراً للحقائق أشعر حياله بأسف عميق. إنني اعتذر لصحيفتي، ومهنتي، ومجلس جائزة بوليتزر، وكل الباحثين عن الحقيقة، واليوم، وأنا أواجه الحقيقة، قدمت استقالتي". جانيت كوك.

وبعد أسابيع قليلة من إعلان هذا البيان السابق، أعلنت صحيفة نيويورك دايلي نيوز، في أسى، نبأ الاستقالة الإجبارية لأحد كتابها بعد أن اتهمته صحيفة بريطانية بتزييف قصة عن تبادل إطلاق النار، بين الجنود البريطانيين، وعصابة من الشبان، في بلفاست.

وخلال شهر، أعلنت صحيفة "تورنتو صان"، تحت ضغط التهديد برفع قضية قذف كبرى، إن أحد مخبريها قد فُصل من عمله، وأُجبر آخر على الاستقالة، بعد أن اعترفا بأنه ليست لديهما أية وثائق عن اتهامات، بأن مسؤولاً حكومياً كبيراً قد حقق أرباحاً، في البورصة، باستخدام معلومات حكومية.

اعترفت صحيفة النيويورك تايمز، في 22 فبراير 1982، على صفحتها الأولى، بأن كاتباً أمريكياً حراً ـ أي من خارج الصحيفة ـ في الرابعة والعشرين، اعترف بأنه لفق مقالاً، نشرته مجلة الأحد التي تصدرها الصحيفة، عن رحلة قام بها للحياة مع رجال حرب العصابات، من الخمير الحمر في كمبوديا وفضلاً عن ذلك، فقد اعترف الكاتب بأنه لفق المقال، من دون أن يغادر أسبانيا التي كان يقيم بها في ذلك الحين. وفي مقال افتتاحي بعنوان "كذبة في التايمز" قال أ.م.روزنتال رئيس التحرير التنفيذي للنيويورك تايمز "إننا لا نعتبر إعلاننا بأن الكاتب كان كاذباً وخادعاً ينفي مسؤوليتنا، فعملنا هو أن نكشف أي زيف أو أخطاء، وأنني آسف لكل هذه القصة الحزينة، والزلة، التي سقطنا فيها، فجعلت ذلك أمراً ممكنا".

سبق صحفي: تغطية انفجار بركان سانت هيلانه!

على بعد أقل من 35 ميلاً، من صحيفة لونجفيوديلي نيوز، بدأ بركان ضخم، هو بركان جبل سانت هيلانة، يصدر أصوات غليان تنذر بالشرر، في مارس 1980، وسارع بوب جاستون، رئيس قسم الأخبار بالصحيفة، إلى تغطية القصة، ولم يكن يعرف وقتها ماذا سوف يحدث، ولكنه كان يشعر بأن هناك كارثة وشيكة الوقوع.

نشرت الصحيفة توقعاتها، وتحقيقاتها حول هذا الأمر، وأوردت قصصاً، كانت إحداها تشير إلى أن الزلزال، الذي كان يهز جبل سانت هيلانه يشير، وفقاً لآراء العلماء، إلى تجدد النشاط البركاني، الذي لم يثر منذ سنوات عديدة.

وفي 17 مايو 1980 كان الصحفيون، على ذلك الجبل، يقومون بإجراء الأحاديث الصحفية، مع ثلاثة من السكان، الذين يعيشون على سفحه. وفي اليوم التالي، مزق انفجار قوي قمة البركان، مصدراً دوياً هائلاً ترددت أصداؤه، في جميع أنحاء المنطقة الريفية، المحيطة به. وكان الأشخاص الثلاثة الذين أدلوا بأحاديث صحفية، من بين أوائل، الذين لقوا مصرعهم، كما عثر على ضحايا آخرين، في وقت لاحق.

وأصاب الخراب عدة أميال، حول منطقة الزلزال، واختفت بحيرة بأكملها، وحدث شق طولي في الوادي، واكتسحت مياه الفيضان القرى والمزارع. وخلال ذلك كله، كان الصحفيون ينتقلون من مكان إلى آخر، بكل وسيلة ممكنة، بما في ذلك الطائرات الهليكوبتر، ليكتشفوا ماذا حدث ؟ بل إن أحدهم كان يتسلق أسطح المنازل، لإجراء أحاديث صحفية، مع أسرة هربت، من منزلها، الذي اكتسحته موجات الطين الذي خلفه الفيضان.

وعندما صدرت صحيفة لونجفيو ديلي نيوز، في صباح اليوم التالي، كانت تحمل قصة موجزة تغطي الخسائر، التي لحقت بالأرواح، والممتلكات، على الصفحة الأولى، إضافة إلى صور البركان وهو يقذف حمماً ونيراناً، يبلغ ارتفاعها عشرة أميال، وأن هناك، على وجه الخصوص، وصف لشاهد عيان، من دون توقيع، للدمار كما رآه من الطائرة الهليكوبتر، وكان العنوان، الذي اختير، بسيطاً ومعبِّراً: "الانفجار"، وعنوان آخر هو: "مشهد من الجحيم"، كان ذلك بالضبط ما شاهده الصحفيون، من الطائرة العمودية، التي كانت تقلهم.

وكان المشهد كما وصفه ليوبامفي، في المقدمة، التي كتبها في الصفحة الأولى، من الجريدة، "كارثة تركت جذوراً عميقة على التضاريس جنوب غرب واشنطن وسوف تبقى آثارها أعواماً طويلة، وأياماً طويلة". بعد ذلك، كان جموع الصحفيين العاملين في لونجفيوديلي نيوز يغطون أخبار أكبر سبق صحفي بالنسبة لهم في ذلك العام. وبعد أن انتهوا تماماً من تغطية كل شيء، في الفترة ما بين 24 مارس و31 ديسمبر 1980، كانت الجريدة قد نشرت 2200 قصة خبرية، و500 صورة للبركان.

وحصلت جريدة لونجفيوديلي نيوز على جائزة بوليتزر، للتغطية الصحفية المحلية، عن عام 1981، تقديراً للعمل الذي قام به الصحفيون العاملون فيها.

وقد وصفت هيئة، من الصحفيين المشهورين تلك التغطية الصحفية، بأنها "رائعة"؛ وذلك بقولها: "عندما انفجر البركان، مزجت تلك التغطية الصحفية، بين المأساة وعناصر العلم، والاهتمام الإنساني، وصاغت منها جميعاً قصصاً إخبارية مكتوبة بشكل جيد، وبُذل فيها قدر من التفكير، وكان عرض المادة الخبرية على درجة كبيرة من التأثير والإثارة. واستفاد العدد الصغير، نسبياً، من العاملين في الصحيفة، إلى أقصى درجة، من الموارد المحدودة، وواصلوا التغطية الصحفية البارعة، خلال الأسابيع، التي أعقبت الكارثة".

في عام 1984 انتهى أحد رجال الشرطة السريين من تناول وجبه الطعام، في المطعم الذي كان معتاداً على ارتياده، واستدعى الفتاة، التي تقوم بخدمة زبائن المطعم، وقال لها إنه، بدلاً من أن يعطيها "بقشيشاً"، فسوف يملأ ورقة يا نصيب معها، على أن يقتسما مناصفة، أي مكاسب تحققها هذه الورقة. وفازت ورقة اليانصيب بالجائرة الأولى بالفعل، ووفىَّ رجل الشرطة السري بوعده، واقتسم ملايين الدولارات، مع فتاة المطعم. واستحوذت هذه القصة على عناوين الصحف، في نيويورك لمدة عام كامل.

وفي نهاية عام 1984، وفي أحد قطارات مترو الأنفاق، بمدينة نيويورك أطلق أحد الركاب النار على أربعة شبان مما أسفر عن إصابة واحد منهم، كان قد حاول أن يسلبه نقوده، بجراح خطيرة. وظلت هذه القصة تتردد بشكل مستمر، أسابيع طويلة، وثارت مناقشات بين المواطنين، والصحفيين عما إذا كان ذلك الرجل بطلاً التزم جانب الحذر، أم معتدياً منتهكاً للقانون.

الصحافة نعمة ونقمة

الصحافة كغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري يمكن أن تكون أداة، من أدوات وأجهزة تثقيف الجماهير، وتوعيتها بحقائق العصر، الذي تعيش فيه، وحقائق المجتمع، الذي يرتبط مصيرها به، وتعليم هذه الجماهير شتى أنواع المعرفة، بدءاً من الحروف الأبجدية، إلى أحدث اكتشافات العلم والتكنولوجيا، وتزويدها بأنواع من الغذاء الوجداني والنفسي، من خلال نشر الإنتاج الأدبي والفني، الذي يبعث على الأمل، ويكون حافزاً للإنتاج والحركة.

ومن جهة أخرى، يمكن أن تصبح الصحافة سبيلاً لنشر الثقافة المدمرة، القائمة على الإثارة، والعنف، والعدوان، وإشاعة مناخ إحباطي هدام، استناداً إلى نظريات تهدف إلى محاصرة الجماهير، في متاهات الجنس، والعنف، والغرائز، وتجريدها تماماً من مزية اللجوء إلى العقل والمنطق؛ مما ييسر قيادها، والتحكم في مصيرها، مثلما حدث للجماهير الألمانية والإيطالية، قبل الحرب العالمية الثانية.

ويمكن، بناء على ما تقدم، التمييز بين مدرستين، في عالم الصحافة:

أولاهما: المدرسة التي تؤمن بأن للصحافة رسالة ثقافية، وتوجيهية، وإعلامية يجب أن تؤديها.

وثانيتهما: التي ترى إن الصحافة تجارة، همها الأول والأخير، كسب المال، وهمها، قبل كل شيء، زيادة التوزيع، ولو بتملق غرائز الجماهير، وإشباع فضولهم، وإقبالهم على الأخبار المثيرة المختلفة المواضيع.

ويستطيع القارئ أن يميز، بين هاتين المدرستين، بنظرة عابرة إلى الصفحة الأولى، من كل جريدة، وإلى العناوين الكبيرة فيها؛ فالمدرسة التي تهتم برسالة الصحافة الحقيقية تبرز، في عناوينها، الأحداث الوطنية والقومية والعالمية الجادة، وتركز الاهتمام عليها، بينما لا تختار المدرسة الثانية عناوينها إلاّ من تلك التي تتناول الأحداث التافهة المثيرة. ومع الأسف تزعم هذه المدرسة أنها تمثل تطورات الفن الصحفي !! وأنها تقيم هذا الفن على حقائق النفس البشرية، وحاجات الجمهور.

الصحافة الصفراء أو الإثارة بأي ثمن!

يطلق الخبراء ومؤرخو الصحافة اسم صحافة الجاز Journalism Jazz، أو الصحافة الشعبية، أو الصحافة الصفراء Yellow Journalism، على الصحافة، التي تخاطب غرائز الجماهير، وتسعى لإثارتها. وهي صحافة خبرية، أي تتخذ، من الخبر، منطلقاً أساسياً لها، وتعتمد على القارئ المتوسط الثقافة، ويغلب عليها طابع الإثارة، وتهتم بحاجة المواطن العادي اليومية المباشرة، في مختلف الأمور، أكثر من اهتمامها بتثقيف القارئ، وتوجيهه، وتولي عناية بالغة بنقل أخبار الممثلين والممثلات، والفنانين والفنانات والأغنياء، وكتابة القصص الكاذبة، وتتبع حوادث الدجالين، وأخبارهم، وتسلية القراء. ويقتصر وجود هذه الصحافة، على الدول الرأسمالية، وبعض بلدان العالم الثالث، وهي عادة تلقى توزيعاً وإقبالاً مذهلين.

ويقال إن سبب تسميتها بـ "الصحافة الصفراء" هو أن صحفياً أمريكياً، يدعى "ريتشارد"، ابتدع، أو اختلق شخصية "الطفل الأصفر Yellow Kidوهي عبارة عن شخصية كاريكاتورية، اتسمت بالانحراف الخلقي. وكان هذا الكاريكاتير ينشر، ويطبع باللون الأصفر. أمَّا انتشار هذا النوع، من الصحافة، وتشجيعه؛ فيرجع إلى كل من الصحفيين الأمريكيين، بوليتزر وهيرست، إذ أصدر هيرست صحيفة، سماها باسمه، بذل فيها عناية فائقة في الإخراج، وأولى أهمية كبرى لأخبار الجريمة، وفضائح الجنس، ونحو ذلك، من الأخبار، التي تحمل طابع الإثارة.

وتلعب هذه الصحافة دوراً ملحوظاً في التشجيع الدائم على الحروب، مصورة أن الحروب، بين الدول الكبيرة، والصغيرة، ستعود بالأرباح الطائلة، كما تركز على تلقف الأخبار الشخصية التافهة، وأخبار المؤامرات الحقيقية، والمزعومة، إلى جانب أخبار الممثلين والممثلات، ودور الرقص والملاهي، وأخبار الطبقة التي لا هم لها إلاّ السهر والسكر والمجون.

وتعتمد الصحافة الصفراء، أو صحافة الإثارة، من الناحية الفنية الصحفية، على:

1.   التلاعب، والتفنن بالعناوين، واللجوء إلى استعمال الألوان الكثيرة، كالأحمر والأزرق والأصفر، لا لشيء إلاّ لإثارة القارئ، ولفت انتباهه وبصره، بشكل قوي ومؤثر.

2.   التركيز، والتمييز، في استخدام الصور، وكثيراً ما تكون هذه الصور مفتعلة ومزيفة، ولا صلة لها بالحقيقة، وتشمل هذه الصور: الرسوم الكاريكاتيرية، والكرتون الصحفي، وما إليها، وغالباً ما تكون مشاركات من قراء هذا النوع من الصحف.

3.   تزييف الأخبار، وانتحال الأحاديث، واختراع التحقيقات التي لا وجود لها في الواقع، وذلك بغية تشويش الأذهان، وبلبلة الرأي العام، لغاية سياسية، أو اقتصادية، غير مشروعة.

4.   الإسراف في النكات والفكاهات والمداعبات، عن سوء قصد من الصحيفة، التي تلعب دوراً محدداً في العقول، حيث تبعد القراء عن واقعهم الحي.

5.   اختراع شخصيات لا وجود لها، لاستخدامها في توجيه الحكومة والمجتمع، وجهة خاصة، لا تتفق ومصلحة الوطن العليا، ولا تتوافق وصالح السلام والطمأنينة في العالم، ولا تتفق كذلك، والغرض الشريف من توجيه النقد للشعب، أو للحاكم.

6.   الركض خلف التافه من الأخبار، والسعي وراء الأسرار الشخصية، لا لغرض إلاّ لنشر الفضيحة، والإساءة لبعض الشخصيات المرموقة، وإنزال العظماء الحقيقيين عن عروشهم، وفرش الطريق بينهم وبين أفراد الشعب، المملوء إعجاباً بهم، بالأشواك.

والصحافة الشعبية، أو الصحافة الصفراء، لا هم لها إلاّ كسب المال ؛ عن أي طريق أتى؛ فغرضها الأول والأخير زيادة المبيع، من نسخها، ومضاعفة مساحة الإعلانات، التي تنشرها، فضلاً عن موارد أخرى سرية، وشبه سرية قد تحصل عليها.

والصفرة، في الصحف، درجات ومراتب. وقد لا تحجم بعض الصحف الصفراء، في سبيل الوصول إلى أغراضها، عن استخدام أشنع ضروب التهويل والافتراء، والإغفال والتجسيم. ومن أغرب ما قاله أحد الصحفيين إنه يجب، على كل صحيفة، أن تضم إليها (مجنوناً)، لكي يستنبط، بين حين وآخر، أشياء غير مألوفة، ليتحدث عنها الناس؛ وهذا هو سر الرواج !

ظلت الصحافة الأمريكية، طوال تاريخها، أبرع، من سواها، في هذا الميدان: فالمعروف ـ مثلاً ـ أن لكل نجمة سينمائية، وكيلاً يشرف على مصالحها، ويتولى استغلال مواهبها. وقد روى أحدهم إنه كان يتفق مع النجمة، لمدة ثلاث سنوات، فيشرع في الإعلان، مستعيناً بالصحف والصحفيين، ثم يتعاطى جانباً من الفرق، بين راتبها الأصلي، والراتب الذي وصلت إليه بمسعاه. ومن هذا القبيل، قصة جانيت ماكدونالد، وزوجها، ولي عهد إيطاليا فقد اخترعت هذه القصة اختراعاً، وشغلت الصحف، زمناً غير يسير. وكان مروجها يذكي الاهتمام بها، يوماً بعد يوم، فلم يمض شهر واحد حتى كانت جانيت ماكدونالد، بمقاييسهم الاقتصادية، أعظم نجمة تتألق في سماء السينما الأمريكية !

وقال أحد أرباب الصحافة الصفراء: "إن أفضل أنواع الأخبار، هي الأخبار الكاذبة، لأنها أولاً تحتكرها الصحيفة التي تنشرها، فلا ينافسها فيها منافس، وثانياً، لأن تلك الصحيفة تستطيع أن تكون أول من يكذِّبها.

ومن تلك النماذج الصحفية على الكذب والتلفيق، أن أديسون، المخترع الأمريكي العظيم، كان يتمشى، يوماً، في أحد حدائق فيينا، فعلم بأمره أحد الصحفيين، فأقبل عليه محدثاً، ولكن أديسون لزم الصمت، ولم يرد عليه بكلمة واحدة. وما كاد أديسون يرحل، حتى دبج الصحفي حديثاً مستفيضاً، بينه وبين أديسون، ونسب إليه أقوالاً كثيرة، في شؤون شتى. وكان عنوان المقال: "أديسون أعظم مخترع في العالم". فلما اطلع أديسون على هذا الحديث أرسل إلى الصحفي تلغرافاً، قال فيه: "أرجو التصحيح.. إن اعظم مخترع في العالم ليس أنا بل أنت..!!".

وعثر أحد الصحفيين الأمريكيين، يوماً، على عجوز زنجية بلهاء عمياء، لا تكاد تعني شيئاً بالنسبة إلىالقرَّاء، وكان، في ذلك اليوم، قد نضبت موارد الأخبار لديه. فخطر له أن يبهر الجمهور الأمريكي، إذ يقدم له تلك الزنجية ويزعم أنها مرضعة جورج واشنطن فمن يستطيع إثبات العكس؟ ولم يلبث أن أعقب هذا الاكتشاف المزعوم مناقشة حادة، في الصحف، بل إن الجمهور الأمريكي نفسه انقسم فريقين: فريق يؤمن بقصة المرضعة، وفريق ينكرها. وهذا الفريق الثاني كان، على الخصوص، من أعداء الزنوج فقد عز عليه أن يكون محرر وطنهم رضع لبن زنجية. وقد شغلت هذه القضية الصحف والجمهور، زمناً غير يسير.

نال هيرست، الذي كان، خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، يُلقَّب بملك الصحافة الأمريكية، شهرته الفائقة، على أثر عمل صحفي باهر، مازال الصحفيون في أمريكا يضربون به المثل: فقد حدث، في أثناء ثورة كوبا على الحكم الأسباني، أن انضمت فتاة جميلة، اسمها افنجلينا ستروس، إلى فريق الثوار، فما كان من ولاة الأمور الأسبان إلاّ أن القوا القبض عليها، وزجوا بها في السجن. وكانت الصحافة الأمريكية، وفي مقدمتها، صحف هيرست، تدافع عن أهل كوبا وحقهم في الاستقلال، وتحرض الحكومة الأمريكية على إعلان الحرب، على أسبانيا إلاّ أن الحكومة عارضت خوض هذه المجازفة، فلما أُلقي القبض على تلك الفتاة، استغل هيرست هذا الحادث إلى الحد الأقصى، فأوفد أحد أعوانه البارعين، في مهمة سرية وهي السعي في إنقاذ الفتاة الحسناء، وقد تم ذلك، فعلاً، بعد أسبوعين، وعاد الصحفي، ومعه الفتاة إلى أمريكا، فلقيا استقبالاً عظيماً، حتى اضطر رئيس الجمهورية الأمريكية نفسه، إلى استقبال تلك البطلة في البيت الأبيض. وبالطبع، كانت صحف هيرست، في تلك المدة، تستغل هذا الحادث، بتفاصيله، استغلالاً وافياً، فتضاعف الإقبال عليها، ولكن ذلك التهويل الصحفي كان في مقدمة العوامل، التي دفعت الولايات المتحدة إلى إعلان الحرب على أسبانيا.

وفي مقابل الصحافة الصفراء، أو الشعبية، التي هي نقمة على الجمهور، وعلى صناعة الصحافة، هناك الصحافة المحافظةQuality Journalism،  التي يطلق عليها صحافة الصفوة  Elite Journalism، وهي التي تلتزم بالجدية، والاتزان فيما تنشره، من أخبار، وموضوعات، وفيما تستخدمه من أساليب فنية، في الإخراج. وتلتزم بمحددات خاصة، في سياستها التحريرية، وهي:

1.  الاهتمام المتزايد بعناصر الأهمية، والمصلحة، والتوقيت، والتوقع، والضخامة في المواد الصحفية، التي تنشرها، وضعف الاهتمام بعناصر الإثارة، والشهرة، والتشويق، والغرابة والطرافة.

2.  الاهتمام الزائد بالشؤون السياسية والاقتصادية والعلمية، وضعف الاهتمام بالشؤون الاجتماعية والرياضية والجريمة والعنف.

3.  زيادة الاهتمام بالشؤون الخارجيـة.

4.  غلبة الأخبار الجادة Hard News، التي تحيط القراء بالأحداث البارزة، التي من شأنها التأثير في حياتهم اليومية، مثل أخبار الشؤون العامة، والمسائل الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية، والعلوم، وأخبار التعليم، وأصحاب الثروات المالية، والصحة.

أما المحددات الخاصة بأسلوب الإخراج الفني فهي:

1.  استخدام العناوين الهادفة، الممتدة على مساحة أكثر من عمود صحفي (المانشيتات)، وعدم تلوين تلك المانشيتات، إلاّ في الحالات النادرة.

2.  التحفظ في استخدام الصور، وخاصة في الصفحة الأولى.

وبين الصحافة الصفراء أو الشعبية، وبين الصحافة المحافظة، أو صحافة الصفوة، ثمة نوع ثالث من الصحافة، هو الصحافة المعتدلة، يحاول أن يقف، في الوسط، بين المدرستين؛ يأخذ من الأولى، أساليب التحرير والإخراج، لا المحتوى أو الهدف، ويأخذ من الثانية، المحتوى الهادف إلى ترقية ذوق الجماهير، بحيث تكون صحافة قادرة على جذب الجماهير، وإعلامهم، والترفيه عنهم، ولا تكون نقمة عليهم، في الوقت نفسه.