إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / السيناريو الفني





مفهوم الشخصية
بناء وخلق الشخصية
حل العقدة




الفصل الأول

المبحث التاسع عشر

أسس اللغة السينمائية

أولاً: الإيجاز:

الإيجاز بمعناه البسيط هو: إيصال المعنى إلى المتلقي، بأقل قدر من التفاصيل المعبرة عنه، أو من خلال التركيز فقط على التفاصيل الرئيسية المكونة له.

وفي السينما، يقدم الإيجاز دوراً بالغ الأهمية، في اللغة السّينمائية. فهو في شكله الشائع يُوظف في اختيار أهم عناصر الحدث، أو التفاصيل ذات الدلالة فقط، دون ذكر التفاصيل التي يمكن فهمها ضمناً، ولا تُمثل أهمية خاصة، وذلك بقصد الاحتفاظ بانتباه المشاهد في حالة تركيز مستمر، على مدار الحدث وتطوراته، إضافة إلى التحكم في إيقاع الفيلم. والإيجاز، بهذا المعنى، ركناً أساسياً في طبيعة اللغة السينمائية، بحيث يصبح توظيفه ممثلاً لضرورة رئيسية.

ولكن على الرغم من أن الإيجاز ـ بهذا المفهوم ـ يمثل شكلاً شائعاً أو عاماً، في اللغة السينمائية، فإن له وجهاً آخر يمثل ركناً مهماً من أركان البلاغة السينمائية. ذلك أن للإيجاز وظيفة تأثيرية خلاّقة، من حيث توظيفه للتأثير في عواطف المتفرج وإحساسه، بهدف خلق الشعور بالمتعة لديه، ووضعه في حالة شوق دائم لتتبع الرواية وتطورها. وبينما الإيجاز في الشكل الشائع، يعني التركيز على التفاصيل المهمة لإظهارها في شكلها التأثيري الخلاق، فإنه يعني أيضاً حذف أو إخفاء بعض التفاصيل، أو الوقائع المهمة المحددة، أو جزء أو أجزاء منها، بهدف إخفاء القوة التأثيرية على معناها، أو آثارها ونتائجها. وعلى ذلك فإن عملية الحذف أو الإخفاء، تصبح هدفاً وإجراءً فعالا؛ يضفي على المعنى قوة تأثيرية، أو قوة بلاغية، قد لا تتأتى في حالة إظهار التفاصيل المخفاة أو المحذوفة. ومن هنا يتبين أن للإيجاز وظيفتين أساسيتين، هما:

1.   الاختيار السليم لأهم التفاصيل، أو كل ما له دلالة فقط . وبعبارة أخرى، اختيار الأزمنة المؤثرة أو الفعالة من التدفق الزمني الطبيعي (الواقعي) لحدث ما، مع حذف الأزمنة الضعيفة منه، وذلك بهدف التركيز على نقاط الحدث فقط.

2.   تعمد حذف أو إخفاء بعض التفاصيل المهمة، لإضفاء قوة تأثيرية على المعنى، فتؤثر، من ثم، على المُشاهد وتجعله أكثر استمتاعاً بأسلوب السرد، مما لو أظهرت هذه التفاصيل، أو وصل المعنى إليه بطريقة مباشرة.

وسواء كان توظيف الإيجاز، في شكله الشائع، القائم على التركيز على أهم التفاصيل، أو كان في شكله التأثيري، القائم على إخفاء أو حذف بعض التفاصيل المهمة، فإن هناك قاعدة أساسية ينبغي مراعاتها، هي:

أن كل ما يحذف من تفاصيل، ينبغي أن يكون مفهوماً ضمناً، أو يُوحي بمعناه. ذلك أن عدم الالتزام بهذه القاعدة، قد ينتج عنه نوع من الغموض أو الإبهام، أو يمثل نقصاً حقيقياً في التفاصيل اللازمة للسرد. فعملية الحذف أو الإخفاء، لا تُمارس كهدف في حد ذاتها، ولكنها تمارس لأهداف فنية، أو درامية محددة.

وبهذا التأسيس لمعنى الإيجاز في اللغة السينمائية، والقواعد التي تحكمه، فإن دراسته تتضمن التّعريف بأنواع ثلاثة رئيسية له، هي: الإيجاز الفني، والإيجاز الدرامي، والإيجاز لأسباب اجتماعية أو إنسانية أو رقابية. وفيما يلي شرح لكل نوع منها:

1. الإيجاز الفني:

ويقصد به "ذلك النّوع من الإيجاز القائم على الطبيعة العامة للغة السينمائية". وويجري من خلاله اختيار أهم التفاصيل والأزمنة القوية، مع حذف الأزمنة الضعيفة. والإيجاز، بهذه الصورة، يرتبط بطبيعة فن الفيلم، من حيث المرونة في تشكيل كـل من عنصري الزمان والمكان الخاصين بالفيلم، بما يخدم السرد السينمائي.

ومثل هذا النوع من الإيجاز يمكن تصوره، مثلاً، في الوقائع البسيطة، كانتقال شخص من مكان إلى مكان، ولا يهم في هذه الواقعة إلاّ التقرير بانتقاله بين المكانين، أي لا توجد تفاصيل مهمة أخرى، خلال المسافة الزمنية والمكانية، بين نقطتي الانتقال.

فلو أن شخصاً ينتقل من مسكنه إلى مكان عمله، فإن هذا الانتقال في الواقع، يرتبط بمعايشة كل المسافة اللازمة للانتقال إلى المكتب، كما يرتبط بكل المسافة المكانية المختلفة بينهما. لكن التصور السينمائي لهذه الواقعة يختزلها اختزالا كبيراً، وقد يتم ذلك على النحو الآتي:

أ.  أن تُصور واقعة الانتقال في عدد من اللقطات: تتناول مغادرة الشخص مسكنه، ثم هو في الشارع، ثم هو يدخل من باب مكتبه.

ب. أن تختزل الواقعة أكثر من ذلك، فنرى الشخص يغادر باب مسكنه، ثم نراه وهو يدخل مكتبه.

ج. أن يكون الاختزال في صورة أكثر من الصورتين السّابقتين، فيقتصر فقط على رؤية خروج الشخص من كادر الصورة وهو في مسكنه، ثم رؤيته وهو يدخل في كادر جديد داخل مكتبه.

والاختيار بين أي من هذه الاستخدامات، يتوقف على الهدف الذي يُسعى إليه. فإذا كان الهدف محدد فقط في أن الشخص، قد انتقل من مسكنه إلى مكتبه، فإن استخدام الأخير يصبح محققاً للغرض. لأن اللقطات الممثلة له تعطينا المضمون المراد، بأقل قدر من التفاصيل المعبرة عنه، وفي أضيق حيز زمني ممكن. لكن تقدير هذا المضمون البسيط، ونقله إلى المُشاهد، يرتبط من الناحية الأخرى بإيقاع اللحظة أو المشهد، الذي تحدث فيه هذه الواقعة. وعلى ذلك فإن إيقاعاً بطيئاً نسبياً، قد يدعو إلى استخدام الصورة الثانية من الصور الثلاث السابق شرحها، وبالمثل فإن إيقاعاً بطيئاً ملحوظاً قد يدعو إلى الاستخدام الأول، حيث تكثر لقطاته ويزداد حيزه الزمني، عن أي من الاستخدامين الثاني والثالث.

وعلى ذلك، فإنه على الرغم من أن كل ما يُراد توصيله إلى المُشاهد، هو فقط انتقال الشخص من نقطه إلى نقطه، فإن الهدف المحدد قد يتسع ليتجاوز ذلك، عندما يكون لعنصر الإيقاع تأثيره على اللحظة. وواقع الأمر أنه في بعض الحالات قد يراد تهدئة الإيقاع، لسبب أو لآخر، أو زيادة خلق شعور بالبطء أو الملل، ومن ثم فإن ذلك يكون له تأثيره على الشكل النهائي، الذي يأخذه الإيجاز الفني.

ومن ثم يصبح الإيجاز الفني، على هذا النحو، عنصراً أساسياً، يوجد ويوظّف في العديد من نقاط الفيلم. ومن الملاحظ أن السينما الحديثة توظّفه، بشكل أوسع كثيراً من السينما القديمة، لأن أسلوب السينما المعاصرة هو الميل إلى الاقتصار، على أقل التفاصيل الممكنة، لنقل المضمون إلى المشاهد، ومن أجل الاحتفاظ بانتباه في حالة تركيز مستمر على الحدث وتطوراته، فضلاً عن التحكم في الإيقاع الفيلمي.

2. الإيجاز الدرامي:

ويقصد به ذلك النوع من الإيجاز، الذي تتطلبه دواعي البناء الروائي، من تأثيرات درامية، تتمثل في إيجاد التأكيد والتشويق والمفاجأة والإثارة والقلق والتوتر. وبعبارة أخرى، فإن ذلك النوع من الإيجاز، يُعطي للمعاني الدرامية قوة تأثيرية، ويقدمها إلى المشاهد بأسلوب غير مباشر، حتى لا تفقد قوتها أو قيمتها إذا قدمت بأسلوب مباشر، أو صريح.

ويعتمد الإيجاز الدرامي على إخفاء، أو حذف تفاصيل، أو أجزاء منها، تكون مهمة في حد ذاتها ـ عكس الإيجاز الفني ـ لكن هذا الحذف أو الإخفاء، هو الذي يضفي عليها قوة تأثيرية، يكون تأثيرها الكبير على المشاهد.

وعلى سبيل المثال، يورد مارسيل مارتن، في كتابه "اللغة السينمائية"، مثالا على الإيجاز الدرامي جاء فيه:

"وفي فيلم "الملاحقة العجيبة"، حيث تدور في الشارع الرئيسي لمدينة من مدن الغرب، معركة بين شاب شجاع وثلاثة من المجرمين، تنتقل الكاميرا إلى حانة ينتظر فيها الزبائن في حالة من الرعب نتيجة القتال. ثم تُسمع طلقات نارية، ويفتح الباب فجأة، ويظهر أحد المجرمين؛ لكنه ما أن يخطو بضع خطوات، حتى ينهار ميتاً، بينما يصل البطل سليماً ومعاف".

وواضح من المثال، أن السيناريو قد أخفى أهم تفاصيل المعركة الدائرة بالخارج، وخاصة تلك اللحظة الحاسمة التي ينتصر فيها البطل، إلى درجة أوهمت المشاهد للحظة أن البطل قد قُتل. ثم تأتى المفاجأة الكبيرة نتيجة لهذا الإخفاء، عندما يتبين المشاهد أن البطل سليم منتصر.

وقد يُخفي السيناريو لحظة حاسمة في الحدث، ليُرسِّب في إحساس المشاهد مضموناً ما، يجعله في حالة اطمئنان مؤقت، أو زائف، ثم يفاجئه بشكل متناقض تماماً. وقد حدث ذلك في فيلم (انتظر حتى يحل الظلام)، عندما تُفاجأ بطلة الفيلم الضريرة "أودرى هيبورن"، بشخص يداهمها في منزلها لقتلها، وهي في غرفة النوم. وبعد صراع رهيب بينهما تتمكن البطلة من تشويه عينيه، بينما تسرع بالهرب نحو الصالة من خلال الممر الموصل بين جناح النوم والصالة. ويبدو للمشاهد أن ما قامت به البطلة كان شيئاً معجزاً للرجل، بينما ينقلنا المخرج على أثر ذلك مع البطلة وهي تدخل الصالة، مما يرسّب في إحساس المشاهد أنها استطاعت أن تنجو من هذا الخطر المباغت، خاصة وأن الزاوية الجديدة للكاميرا لا تُظهر عمق الممر، ومن ثم لا يُرى الشخص الذي حاول قتل البطلة. لكن هذا الإحساس بالطمأنينة يزول فجأة، عندما يُفاجأ المشاهد بالرجل وهو يقفز قفزة هائلة من الممر، في محاولة يائسة للتعلق بجسم البطلة ولكنه يخطئها، وتكون تلك هي محاولته الوحيدة، التي لا يقوى بعدها على إعادتها.

وقد يوظّف الإيجاز الدرامي، ليُفاجأ المشاهد في لحظة انتظاره لتطور أمر ما إلى نهايته، بأن الجزء الأخير منه محذوف، ويصل إلى النتيجة فجأة، وبأسلوب غير مباشر. وعلى سبيل المثال: في فيلم "مسألة براءة" إخراج جارى جرين: "تُرى البطلة الصغيرة "هيلى ميلز"، عند حمام سباحة في سنغافورة، وهي تحذّر عمتها الثرثارة الشرهة، من النزول إلى حمام السباحة مباشرة، بعد وجبة ضخمة التهمتها سريعاً. لكن العمة تقوم من مكانها ساخرة من تحذير الصغيرة لها، ثم تخطو في خيلاء وتنزل إلى حوض السباحة وتغطس تحت الماء .. ثم تمر لحظات يبدو فيها القلق على الفتاة، فتقف ترتقب ظهور عمتها من تحت سطح الماء .. وبينما المشاهد هو أيضاً في لحظة انتظار ظهور العمة، فإن المنظر يتغير فجأة إلى سيارة الإسعاف وهي تسرع بينما يتعالى صوت نفيرها". ويدرك المشاهد فجأة بأن العمة قد أصابها مكروه، ولكن المعنى لم يصله صراحة عن طريق المشهد الدائر في حمام السباحة، بل يُدركه من الانتقال المفاجئ من حمام السباحة، إلى عربة الإسعاف.

3. الإيجاز لأسباب اجتماعية، أو إنسانية، أو رقابية:

ويقصد بهذا الإيجاز توظيفه، لتجنب التصوير المباشر، لمواقف القسوة والعنف والحوادث الأليمة، أو مشاهد المحرّمات الاجتماعية، أو الأخلاقية. وتجنب التصوير المباشر لمثل هذه المواقف قد يكون مرجعه، مجافاتها للذوق السليم، أو التقاليد الاجتماعية، أو أنها قد تؤذى الشعور الإنساني بشكل أو بآخر. ومن ناحية أخرى، فقد يكون هناك توقع باعتراض الرقابة عليها، وعدم السَّماح بظهورها على الشاشة. وفي مثل هذه الحالات فان الإيجاز يصبح الوسيلة الأساسية، التي يتم توظيفها للإيحاء بالمعنى المراد، أو خلق الإحساس المتعلق به.

ففي مشهد للقتل مثلاً، يُرى القاتل وهو يهوى بسكين أو آلة حادة نحو ضحيته، ثم تُرى نتيجة الطعنات كرد فعل على وجه القتيل، أو في حركة من يده أو جسمه، دون أن يُظهر مكان الطعنات نفسها.

وفي مشهد جنس مثلاً، قد تبدأ الكاميرا في التحرك بعيداً عن المنظر، وتركز على رمز دال، أو تتحرك مع حركة الشخصية حتى يعترض الرؤية جزءً أو عنصر من الديكور، فتتوقف الكاميرا عنده.

ويُصور هذا النوع من الإيجاز بوسائل وطرق متعددة، وهي، في الوقت نفسه، تُعد وسائل مستخدمة عند توظيف الإيجاز الدرامي أيضاً، وأهم هذه الأساليب هي:

أ.  إخفاء الحدث، أو جزء منه، وراء عنصر الديكور، بمعنى أن يلم المشاهد ببداية الحدث، ثم يُخفى الجزء المهم والرئيسي منه وراء أحد عناصر الديكور، سواء من خلال الحركة الفعلية للشخصية أو الشخصيات، بينما الكاميرا ثابتة في مكانها. أو تتحرك الكاميرا لاتباع حركة الشخصية، حتى يبدو عنصر من الديكور وكأنه يدخل مجال الرؤيا بطريقة طبيعية، وتتوقف الكاميرا مركزة عليه.

ب. أن يدور الحدث وراء عدد من قطع الديكور، بحيث تظهر لمحات منه فقط، فتصبح هذه اللمحات في مجموعها هي الأجزاء المكونة للحدث، على الرغم من إخفاء أجزاء مهمة أخرى منه.

ج. أن يظهر الحدث عن طريق الظلال المنعكسة، على حائط بالديكور.

د. إظهار الحدث عن طريق الظلال المنعكسة على سطح لامع أو زجاجي بالديكور، بحيث تصبح الخطوط الرئيسية لصورة الحدث مشوهة، أو متعرجة، أو غير حادة في تكوينها العام.

هـ. أن يدور الحدث في مكان شبه مظلم، إلاَّ من بعض البقع الضوئية المتناثرة في المكان، بحيث لا يظهر من الحدث لمحات منه، نتيجة لحركة الشخصيات في المكان، أو عند مرورها بهذه البقع الضوئية. وقد يتم ذلك بهدف إخفاء تفاصيل معينة من الحدث، أو بهدف تخفيفه.

و. التعبير عن الحدث عن طريق جزء من جسم الإنسان، مثل انفراج يد شخص في سرعة وشده، للتعبير عن طعنة قاتلة.

ز. نقل جزء من الحدث، أو لحظة حاسمة منه، بطريقة غير مباشرة، كرد فعل على شخصية أخرى غير الشخصيات الرئيسية للحدث. ويحدث ذلك في حالة الانتقال من المنظر الرئيسي، عند لحظة حاسمة، إلى شخصية أخرى خارج بيئة الحدث، وقد أظهر التعبير البادي منها أو عليها، معنى ما يدور خارج الكادر، أو أن يتم ذلك عن طريق عنصر الصوت في لحظة حاسمة، فتنقل الكاميرا إلى شخصية أخرى، وهي في حالة رد فعل، لسماعها الصوت الدال على الحدث.

ح. توظّف حركة الكاميرا للإيحاء بالحدث، وذلك عندما تتحرك الكاميرا من أمام العنصر الرئيسي في الحدث مبتعدة عنه، لتدعو المشاهد إلى استنتاج ما يدور خارج الكادر. وقد تنتهي الحركة، في بعض الأحيان، بالتركيز على رمز يجسّد المعنى المراد إيصاله للمشاهد.

على كلٍ، فالإيجاز مفهومه العام، كعنصر أساسي في اللغة السينمائية، بصرف النظر عما يتخذه من أشكال وأساليب متباينة.

ثانياً: الرمز:

اكتسب الرمز السِّينمائي أهمية خاصة، كأحد دعائم اللغة السينمائية، التي تعتمد في تعبيرها على الصورة بالدرجة الأولى، للإيحاء بالمعاني المراد إيصالها إلى المشاهد. وبهذا المفهوم فإن الإيجاز في واقع الأمر متعلق بنوع من الأشكال الرمزية في السينما، من حيث أن أسلوب الإيجاز، القائم على الحذف أو الإخفاء، لواقعة أو شيء ما، يتبعه بالضرورة، أو يرتبط به، نوع من الإيحاء الرمزي بحدوث الواقعة، أو وجود معنى ما جرى حذفه، أو إخفاؤه، كلياً أو جزئيا.

إلاّ أن الرمز السينمائي بمعناه الدقيق، لا يقوم على الحذف أو الإخفاء، بل يستمد وجوده مما هو ظاهر في الصورة. وفكرة الرمز في الصورة السينمائية، بهذا المعنى، تقوم على قدرة الصورة في احتوائها على مضمونين في آن واحد، أحدهما ظاهر أو مباشر، بينما الآخر مستتر أو غير مباشر. بعبارة أخرى، فإن الصورة السينمائية، بجانب تقديمها إلى المُشاهد بمعناها البسيط المباشر، فإنها يمكن تحميلها، في الوقت نفسه، بمعنى أعمق وغير مباشر، بحيث يشعر المشاهد بوجود آفاق أخرى وراءها غير ظاهرة. فيصبح المعنى المباشر البسيط مُمثلاً لما قد يُسمى بالبعد الأول، بينما يُمثل المعنى الآخر غير المباشر (الأعمق)، ما قد يُسمى بالبعد الثاني.

وفكرة المْعنَيين، المباشر وغير المباشر، أو البسيط والرمزي، للشيء الواحد، توجد أساساً في كثير من الصور الواقعية، التي نعيشها في الحياة. فلو تأملنا مثلاً، صورة شخص وهو يأكل أو يدخن، فإن هذه الصورة البسيطة قد لا تتعدى معناها المباشر البسيط، كما أنها قد تُصبح رمزاً لمعنى أعمق يتجاوز معناها الظاهري. ذلك أنّ واقعة الأكل أو التدخين لشخص ما، قد تصبح رمزاً لحالة نفسيه، أو عقلية، في موقف محدد أو ظروف معينة. فهي قد ترمز إلى معنى التوتر أو القلق، كما قد ترمز إلى معنى المتعة، أو الانسجام، أو قد ترمز إلى لحظة من لحظات التفكير أو الشرود… الخ، وذلك وفقاً للأسلوب الذي تقع به، وفي حدود الظروف التي تجرى فيها. فمثل هذه الوقائع البسيطة تتلون بمعان رمزية، طبقاً للموقف أو الإطار، الذي تدور فيه، فتكتسب معنى رمزياً معيناً يتجاوز معناها الظاهري. ولكنها وإن كانت توضح ما يُقصد بفكرة المعنيين المباشر وغير المباشر، فإنها لا تقول كل ما تعنيه بالرمز السينمائي، بمعناه الدقيق.

فالرمز السينمائي بمعناه الدقيق، يهدف إلى التأثير في المشاهد، عن طريق الإيحاء له بمعنى أعمق من المعنى المباشر البسيط للصورة. وبعبارة أخرى، فإن الصورة تقدم معناها البسيط في بعدها الأول، إضافة إلى ما تضمنه من معنى رمزي غير مباشر، في بعدها الثاني.

فالمبدأ أن يُنظر إلى الصورة السينمائية، باعتبار ما تحتويه أولاً من معنى مباشر بسيط، ثم نحاول أن نضمّنها المعنى الرمزي الأعمق، لزيادة التأثير في المشاهد، وتقوية المعنى العام للصورة، وذلك في المواقع ذات الدلالات العميقة، أو المعاني المهمة والرئيسية في الفيلم.

فتوظيف الرمز السينمائي لا يُعد هدفاً في حد ذاته، أو أمراً يمكن ممارسته بلا قيود أو حدود، بل هو يوظف لضرورة فنية محددة، وفي ظروف خاصة، لأن المعنى الرمزي يتطلب دائماً قدراً من المشاركة الذهنية من جانب المشاهد، وفي غياب هذه المشاركة، فإن الرمز المستخدم لا ينتج أثره.

ويتوقف وصول المعنى الرمزي إلى المشاهد، على تفاعل عدد من العناصر ترتبط بتكوين المشاهد مثل:

1.   درجة الحساسية، أو الذكاء، أو التصور لديه.

2.   البيئة الاجتماعية أو القومية.

3.   المستوى الثقافي.

4.   الأيديولوجية والمعتقدات.

5.   خبرات الحياة وتجاربها.

    وعلى ذلك يمكن التقرير، بأن المعنى الرمزي، الذي قد يقصده كاتب السيناريو أو المخرج، قد يدركه كل المشاهدين أو غالبيتهم أو بعضهم فقط، وذلك تبعاً لمدى المشاركة الذهنية من قبل المشاهد، التي تتوقف إلى حد كبير على التكوين الشخصي والعوامل، التي تؤثر في استعداده لإدراك المعنى الرمزي. ومن هنا يمكن القول إِنّ بعض الرموز، التي قد يقصدها كاتب السيناريو أو المخرج، قد لا يدركها بعض المشاهدين أو جميعهم، إذا كانت معانيها مستمدة من أيديولوجية أو بيئة قومية معينة، أو من أسلوب الحياة في دولة معينة، بحيث يصبح الرمز بعيداً عن إدراك مشاهدي بيئة أو أرض أخرى. وبالمثل فإن الرموز، التي تتطلب حداً أدنى من الثقافة، أو ثقافة معينة، فإنها قد لا تصل إلى الطبقة الشعبية من المشاهدين.

1. الشكل العام للاستخدامات الرمزية

يتمثل الشكل العام للاستخدامات الرمزية في نوعين، هما: الاستعارة الرمزية، والمعنى الرمزي. وسنوضحهما فيما يلي:

أ. الاستعارة الرمزية:

(1)  تقوم الاستعارة الرمزية الناتجة عن تتابع لقطتين، على تشابه أو تنافس شكل أو مضمون لقطة ما (اللقطة الأولى)، بشكل أو مضمون (اللقطة التالية) ، بحيث ينتج المعنى الرمزي من التماثل بين معنى اللقطتين، أو من التناقض بينهما. وبعبارة أخرى، فإن اللقطة الثانية تمثل نوعاً من الاستعارة أو التورية، في الشكل أو المضمون، يتم إضفاؤه على شكل أو مضمون اللقطة الأولى. فعلى سبيل المثال:

(أ) أن يتم القطع، مثلاً، من لقطة لأب يضرب ابنه بقسوة، إلى لقطة أخرى لشخص يهوى بكرباج على حصانه (تشبيه بالتماثل في شكل الفعل).

(ب) أن تتابع لقطتان الأولى لشخص يأكل بشراهة، والثانية لكلب يقضم قطعة من العظم (تشبيه بالتماثل).

(ج) أن تقطع من لقطة لمجموعة من الشباب، تتدرب على أعمال المقاومة الشعبية استعدادا للحرب، إلى لقطة لمجموعة من الشباب العابث، وهم يهرجون ويرقصون (تورية بالتناقض).

(2)  أنواع الاستعارة الرمزية:

يُقسِّم مارسيل مارتن في كتابه (اللغة السينمائية)، الاستعارة الرمزية إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

(أ) الاستعارة التشكيلية:

ويقصد بها تلك، التي تقوم على تشابه أو تناقض بين اللقطتين موضوع الاستعارة، وذلك من حيث الشكل الخاص بكل منهما. ويمثل مارتن لذلك بمثالين: الأول من فيلم بعنوان (على ذكر مدينة نيس) حيث تقوم الاستعارة على لقطة لوجه امرأة في منتصف العمر، ضنت عليها الطبيعة بالجمال، ولكنها تعاني من خيلاء وتعاظم قليل، ثم تتبع هذه اللقطة لقطة أخرى، نرى فيها نعامة متعاظمة. أما المثال الثاني الذي يورده مارتن فهو من فيلم بعنوان (.. وسقينا الفولاذ ..) حيث يقدم في اللقطة الأولى حيوان الماعز، ثم تتبعها لقطة ثانية بها وجه آدمي، ينتهي بلحية مدببة.

(ب) الاستعارة الدرامية:

إذا نظرنا إلى الاستعارة التشكيلية، على أنها توظف كنوع من التعليق، على صفة أو وضع لشئ ما، فإن الاستعارة الدرامية تؤدي دوراً أكبر من ذلك، لأنها تؤدي دوراً تفسيرياً في الدراما، وهو دور يتجاوز التشبيه أو التناقض الشكلي فقط بين شيئين أو عنصرين.

ولتوضيح المقصود بالاستعارة الدرامية، نسوق مثالا شهيراً يُعد من الأمثلة الرائدة في هذا المجال، وهو من فيلم (الإِضراب) لـ" ايزنشتين " حيث تُرى لقطة للعمال بينما يطلق عليهم الجيش القيصري نيرانه الرشاشة، ثم تتبعها لقطة المجزرة المحتوية على الحيوانات المذبوحة. فتوظيف اللقطتين بهذه الكيفية، أُريد به أن يرمز إلى معانٍ تتعلق بصلب دراما الفيلم، وهي إيجاد نوعٍ من التشابه بين الصورتين.

(ج) الاستعارة الأيديولوجية:

أما الاستعارة الأيديولوجية فتُمثل نوعاً أعمق من الاستعارة الدرامية، حيث تحمل، غالباً، وجهة نظر فلسفية أو فكرية، تتجاوز مضمون الدراما نفسها، لتوحي بمعانٍ رمزية تتعلق بالحياة، أو الإنسان عموماً، أو معتقدات معينة، أو وجهة نظر شخصية، يضيفها كاتب السيناريو أو المخرج على صورة معينة.

ويقدم مارسيل مارتن، في كتابه "فن كتابة اللغة السينمائية"، بعض الأَمثلة على ذلك من فيلم "الأزمة الحديثة"، حيث يصف افتتاحية الفيلم، التي تُظهر صورة لقطيع من الغنم، يتبعها صورة لجمهور خارج من فوهة المترو الأرضي. وفي مثال آخر من فيلم بعنوان "على ذكر مدينة نيس"، يشير إلى لقطة لموكب الجنود، تتبعه لقطة لقبور في جبانة.

(3)  حدود واستخدام الاستعارة الرمزية:

يتطلب استخدامُ الاستعارة الرمزية، قدراً من الحذر عند توظيفها، حتى لا تبدو مفتعلة لدى المُشاهد. ويرجع ذلك إلى طبيعة تركيبها من لقطتين متتابعتينْ، مما قد يشعر المشاهد بأن توظيفها يبدو مصنوعاً أكثر منه طبيعي. وواقع الأمر أن رد فعل المشاهد يكون سلبيا، عندما تبدو الاستعارة في شكل مقحم أو مفروض على السياق، أما إذا جاءت نابعة من التسلسل المنطقي للقطات، فإن المُشاهد يستجيب لها ويتذوقها.

وقد كان استخدام الاستعارة الرمزية شائعاً في عهد السينما الصامتة، كوسيلة أساسية في اللغة السينمائية. وكان المخرج يشعر بحرية كبيرة في اختيار اللقطة الثانية للاستعارة، ولو من خارج السياق الدرامي، طالما أنها تُحقق له المعني الرمزي المراد توصيله. أما في السينما المعاصرة، فإن الاستخدام المؤثر للاستعارة، يبني أساساً على عناصر رئيسية في الدراما، أو على التسلسل المنطقي للقطتي الاستعارة.

ب. المعنى الرمزي:

يمثل الرمز الناتج من اللقطة الواحدة، أو الوحدة الواحدة، مستوى أعمق من الرمز الناتج من الاستعارة، أو التورية الناتجة من تتابع لقطتين. وسبب ذلك أن تتابع اللقطتين، قد يشعر المشاهد بأنه يتلقى معنى رمزياً مصنوعاً، يشعره بوجود شخصية المخرج، بينما في حالة الرمز الناتج من اللقطة الواحدة، يشعر المُشاهد بأنه يشارك مشاركة إيجابية في استخلاص المعنى الرمزي. وبعبارة أخرى، فإنّ المشاهد في حالة الاستعارة الرمزية، يشعر كما لو أن المخرج يوجّه فكره ومشاعره توجيهاً محدداً، بينما في حالة رمز اللقطة الواحدة، أو الوحدة الواحدة، يشعر بأنه هو الذي يكتشف المعنى الرمزي بنفسه.

(1)  تكوين المعنى الرمزي:

يتطلب تكوين المعنى الرمزي، داخل اللقطة الواحدة أو الوحدة، احتواء اللقطة أو الوحدة موضوع الرمز، في عنصرين أو شكلين أو مضمونين، يتفاعلان مع بعضهما، أو يربط بينهما المُشاهد بما يُتمم المعنى الرمزي. وهذان العنصران قد يوجدان بأحد شكلين، هما:

(أ) أن يكونا موجودين معا، في الوقت نفسه، داخل اللقطة الواحدة كعنصرين مرئيين، أو أحدهما مرئيا والآخر مسموعاً، وذلك كما لو كان أحد العنصرين مُمثلاً في إحدى الشخصيات، والعنصر الآخر ممثلاً في جزء من الديكور، أو قطعة إكسسوار. مثل فيلم "القاهرة 30"، في لقطة تضم شخصية وقطعة إكسسوار، هي عبارة عن رأس ذي قرنين. وهنا نجد أن العنصرين ممثلين في شخصيتين متماثلتين، أو مختلفتين، أو أن أحد العنصرين ممثلاً في فعل ما تقوم به إحدى الشخصيات، والعنصر الآخر ممثلاً فيما نسمعه من حوار، أو أصوات في خلفية الصورة أو من خارجها، وهكذا.

(ب) أما الصورة الأخرى لوجود العنصرين، فإنها تعني، في الحقيقة، وجود عنصر واحد مرئي أو مسموع في لحظة معينة، بينما يستحضر المشاهد في ذهنه العنصر الآخر، مما سبق أن شاهده في سياق الفيلم، من المعنى العام للفيلم أو القضية التي يطرحها؛ أو أن يرتبط العنصر المضمّن في اللقطة ارتباطاً رمزياً بمعنى من الحياة، أو الحضارة الإنسانية، أو بثقافة معينة، أو إيديولوجية محدّدة.

(2) أنواع المعنى الرمزي:

ينتج المعنى الرمزي في اللقطة، أو الوحدة، نتيجة لتفاعل عنصريهما، سواء بالتشابه (التماثل)، أو بالتناقض (المفارقة)، وذلك بأن يربط المشاهد بينهما فيدرك الرمز الكامن في الصورة. وإدراك المُشاهد لهذا المعنى يتوقف على درجة التّصور، أو الذكاء، أو على المستوى الفكري والخبرة. والرمز مثله مثل الاستعارة الرّمزية، يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، هي:

(أ) الرمز التشكيلي:

وهو الرمز الذي ينتج من التماثل، أو التناقض الشكلي، بين عنصرين في الصورة، أو بين عنصر موجود فيها، بينما يستحضر ذهن المشاهد العنصر الآخر. بمعنى أن تحتوي اللقطة، أو المشهد، على تكوين أو تشكيل لشيء ما أو حركة، فيرتبط ذلك بتكوين أو شكل لعنصر آخر موجود في الصورة نفسها. فيوحي هذا الارتباط بمعنى رمزي معين، أو أن يُذكّر تكوين أو شكل العنصر الموجود في الصورة، بتكوين أو شكل عنصر آخر سبق وروده في السياق الروائي، أو يتعلق بخبرتنا في الحياة، أو يوحي بمعنى رمزي أعمق من المعنى البسيط الماثل في الصورة.

ويورد مارسيل مارتن، في كتابه "اللغة السينمائية"، مثالا من فيلم "السيمفونية" فيقول:

ترمز الأوراق، التي تتطاير في جميع الاتجاهات، عندما يفتح القس الباب الخاص بمكتبه، إلى هروب الفتاة، وفي الوقت نفسه إلى المفاجأة القلقة، التي أصابت الرجل. وإضافة إلى مثال مارتن، فإن الأمثلة التفصيلية الآتية تساعد على توضيح أكثر، لما يعنيه الرمز التشكيلي:

ففي فيلم بعنوان " المبعوث المنشورى"، يقدم المخرج جون فرانكهمير مشهداً يظهر فيه لورانس هارفي، الذي تعرض لعملية غسيل مخ من الشيوعيين، عندما كان أسيراً لديهم أثناء الحرب الكورية. ويُقدم هارفي على قتل والد زوجته، صاحب النشاط السياسي، تنفيذاً لتعليمات من الشيوعيين صدرت إلى هارفي عن طريق أحد عملائهم بأمريكا. ويتقدم هارفي نحو الضحية حاملاً مسدسه، وهو يبدو في حالة أقرب إلى النوم مغناطيسياً. ويصدف أن يكون الضحية قادماً من المطبخ، وهو يحمل إناء كرتونياً مُحكماً مليئاً باللبن، قد استخرجه لتوه من الثلاجة. ويفاجأ بنية هارفي قتله، فيرفع زراعية في سرعة وكأنه يحاول تحاشى الرصاصات الموجهة إليه، لكن الرصاصات تصيبه وتنفذ إحداها إلى جسده، بعد أن تخترق إناء اللبن الكرتوني. وعندما يسقط القتيل، وفي يده الإِناء المحكم إلاّ من ثقب الرصاصة، فيبدأ اللبن في الانسياب على الأرض بجوار الجثة بدلاً من الدم. ويكون لشكل انسياب اللبن معناه الرمزي، الذي يجسد بشاعة الجريمة، وضحيتها البريئة.

ومن الفيلم نفسه، يقدم فرانكتهيمر في لقطة أخرى توظيفاً رمزياً آخر، عندما يحاول تأكيد صفة الدَّجل السّياسي لإحدى شخصيات الفيلم. فيعكس صورته في لحظة اندماجه في ممارسته للدجل السياسي، على السطح الزجاجي اللامع لإطار صورة كبيرة للزعيم الأمريكي إبراهام لينكولن، وهي معلقة على الحائط. وينتج الرمز التشكيلي، ليُبرز التناقض الواضح بين صورة ذلك الدجال، مع صورة الشخصية الوطنية لإبراهام لنكولن.

ومن فيلم " بيتى ديفيز" اخراج روبرت الدريتش، يُرى ختام مشهد يصور سيطرة وكراهية ديفنز (الاخت الكبرى)، لجون كرافورد (الاخت الصغرى) .. المصابة بالشلل، وهي تمثل لأُختها الكبرى عنصر مرارة، نتيجة لامتيازها وتفوقها عليها في سنوات الطفولة والشباب. وعلى ذلك فعندما تصاب جون بالشلل، ولا تستطيع الحركة إلا على دراجة المعوقين، فان بيتى ديفنز تمارس تجاهها سلسلة من الإذلال النفسي لتُنفس به عن مكبوتات الماضي. وفي المشهد الذي يُقدم في ذروة الأحداث، يُصعد المخرج ذلك المعنى إلى قمته، عندما تتحرك بيتى ديفنز، أمام أختها في خيلاء، لتنظر من شباك الحجرة المُغطى بأعمدة حديدية، وتنسحب الكاميرا أمام حركتها حتى تحتوي أعمدة الشِّباك في مقدمة الصورة، بتشكيل يجعلها تبدو أشبه بقضبان السِّجن، بينما تقف ديفنز قريبة من الشباك وهي تملأ الصورة. وتبدو جون كرافورد في خلفية ضئيلة لا حول لها ولا قوة، إزاء قسوة أختها.

والصورة بهذا التكوين، قُصد بها أن تصبح تجسيداً رمزياً للسّجن النفسي، الذي تعانيه جون كرافورد من أختها، التي نصّبت من نفسها سجّانة عليها.

(ب) الرّمز الدرامي:

إِن أهم ما يميّز الرمز الدرامي عن الرمز التشكيلي، هو أنه يلعب دوراً رئيسياً في تطور الحدث الدرامي وتفسيره. فإذا كان الرمز التشكيلي يعمل على المعنى وتعميقه بشكل رمزي، فإن الرمز الدرامي ينقل إلى المشاهد، أو يشرح له، معنى ما يُفسر الموقف، أو يدفع الحدث إلى الأمام، أو يوحى بما قد يحدث مستقبلاً.

ومن أمثلة ذلك:

في فيلم "مكان للعشاق" إِخراج فيتورى دى سيكا، وبطولة فاي دوناواي ومارسيللو ماستروياني، تظهر البطلة الخائفة من إجراء عملية جراحية خطيرة، نتيجتها غير مضمونة، وإن كانت قد تُنقذها من موت مؤكد، إذا كُللت بالنجاح. وفي مشهد حاسم نرى فاي تقف مع ماستروياني، الذي أصبحت تحبه من أعماقها، بأعلى جبل، في لحظة من لحظات خوفها من الموت، الذي يتهددها باختطافها من أيام السعادة، التي تعيشها مع ماسترويانى، وتبدو وهي في قمة تعلقها وتمسكها بالحياة من أجل حُبها، وتنظر فأي حولها نحو الزهور، التي تُغطى المنطقة، وتلمح لافتة مثبتة بجوار الزهور، وقد كتب عليها كلمات باللغة الإيطالية، التي يتقنها ماسترويانى بينما هي لا تعرفها. فتسأله عن معناها، فيترجمها ماستروياني بأنها تعني تحريم قطف الزهور من المنطقة. ومع ختام كلماته تُفاجأ فأي حين ينحني ماستروياني في سرعة لقطف الزهور، فتشعر بخوف مباغت، وهي تتابعه وتحاول منعه من قطفها بصرخة مكتومة سريعة، لكن صرختها تجئ متأخرة، عندما يكون ماستروياني قد اقتطف الزهور فعلاً، ووضعها في يدها. وتنظر إلى الزهور في يدها، وتتأملها في خوف، وقد اكتسى وجهها بمسحة يأس وألم.

والرمز هنا يوحى ويفسر حالة فاي دوناواي من حيث تجسيد مخاوفها من الموت، وشدة تعلقها بالحياة، وحبها لماسترويانى، ثم شعورها بتغليب احتمال موتها على استمرار حياتها.

ومن فيلم "الفهد"، إِخراج فيسكونتي وتمثيل بيرت لانكستر، نرى مشهداً ختامياً للفيلم وقد بدأ فيه بيرت لانكستر، أمير صقلية، وهو يعاني من آلام نفسية كبيرة على الرغم مما يعيش فيه من رغد مادي. ثم يتوجه عقب حفل كبير في قصره ـ استمر حتى مطلع الفجر ـ إلى خارج القصر شارداً حتى يقف أمام كنيسة تقع في زقاق ضيق من منطقة فقيرة، ويركع أمام بابها يطلب الرحمة من ربه، ويسأله أن يأخذه من هذه الدنيا ومظاهرها ليشعر بالراحة جواره، ثم ينهض من صلاته، ويسير مبتعداً في بطء وانكسار إلى الناحية البعيدة من الزقاق، التي تتدرج في ظلام شديد. ومع ابتعاده التدريجي من تلك المنطقة المظلمة، يُرى وهو يختفي شيئا فشيئاً، حتى لا يبقى ظاهراً منه إلاّ ياقة قميصه المرتفعة حول رقبته، التي سرعان ما تختفي هي الأخرى، كما لو كانت ضوءاً يُعبّر عن الأثر الأخير للأمير.

ويتمثل الرمز هنا في تأكيد آلام الأمير، والتنبؤ بتعاسة مستقبله، الذي يبدو غامضاً مبهماً.

(ج) الرمز الأيديولوجي:

يُعبّر الرمز الأيديولوجي عن معاني، أكثر عمقاً، حيث تبرز أساساً وجهة نظر السينمائي، إزاء معنى إنساني أو خلقي. كما تتصف بنظرة شمولية تتعلق بالحياة عموماً، أو بمعنى له دلالة في الخبرة الإِنسانية.

ومثل هذا المستوى من الرمزية قد لا يُدركه بعض المشاهدين أو أكثرهم بسهولة، نظراً لأن إدراكه قد يتطلب حداً أدنى من الثقافة أو الخبرة، ذات الطابع الخاص.

ومن الاستخدامات في هذا المجال، الأمثلة الآتية:

في فيلم "يوم طفت الأسماك"، إخراج "مايكل كاكويانسى"، نلاحظ تأكيد كاكويانسى لخطر التهديد الذرى للبشرية في عدد من المشاهد. فمن ذلك محاولة الراعي فتح الصندوق المحتوى على شحنة المتفجرات الذرية، الذي كان قد عثر عليه، واعتقد أنه يحتوى شيئاً ثميناً. وفي هذه المشاهد، التي يحاول فيها الراعي فتح الصندوق، تُرى في خلفية الصورة طفلة الراعي وهي تلعب تارة في براءة، تبكى تارة أخرى، وكأن كوكايانسي يشير إلى الخطر الذي يهدد مستقبل البشرية.

ومن فيلم "المبعوث المنشوري"، أو "المرشح المنشوري" مثالان يعكسان توظيفاً جيداً للرمز الإيديولوجي.

ففي المثال الأول يُرى مشهد يُجرى فيه اختبار أخير من الشيوعيين، على بعض الأسرى الأمريكيين الذين مروا بعملية غسيل مخ للتأكد من فعاليتها، قبل تسليمهم كأسرى، وتمهيداً لتوظيفهم في مهام اغتيال سياسي عند عودتهم لأمريكا. وفي المشهد يُصدر المشرف على عملية غسيل المخ لهؤلاء الأسرى، توجيهاته إلى أحدهم كي يأخذ مسدساً من زميل له، ثم يقتل به زميلاً ثالثاً. ويُنفذ الأسير التوجيهات بدقة، كما لو كان منوماً مغناطيسياً، وفي لحظة إطلاقه النار نحو رأس زميله، ينفجر الدم في قطرات سريعة تتناثر إلى أعلى نحو الحائط القريب، لتستقر على صورة معلقة عليه، تتكشف عن صورة ستالين. والرمز الأيديولوجي هنا يبدو وكأنه إدانة دامغة للنظام الشيوعي، ممثلاً في ستالين كمسؤول رئيسي.

أما المثال الثاني، فمن الفيلم نفسه، ويصور أحد معاهد المزايدات الحزبية في أمريكا، حيث يُرى حفل سياسي يبدأ بمنظر كبير لتورتة تملأ الصورة، وقد صمم سطحها على كل علم الولايات المتحدة. ثم تدخل يد الشخصية السياسية المحتفي بها، وهي تحمل سكينا تندفع به في الصورة وتهوى بها في منتصف التورتة تقسمها إلى قسمين، على نحو يشبه عملية الذبح، أكثر من أنه قطع التورتة، إيذانا ببدء الحفل. ثم يتضح المعنى الرمزي، عندما يُفتتح المنظر في لحظة قطع التورتة، ويُرى أنّ قاطع التورتة هو إحدى الشخصيات، التي قُدمت في الفيلم من قبل، كرجل سياسي وانتهازي كبير.

وفي فيلم "الحرام" إخراج بركات، تتابع الكاميرا طابوراً من عمال التراحيل، وهم يسيرون على الضفة البعيدة لإحدى الترع، في استسلام كامل، بينما توحي مسيرتهم بالبؤس والضياع وهم مساقون نحو مكان العمل. ومع متابعة الكاميرا لهم يظهر بالتدريج في مقدمة الصورة، طابوراً من الجاموس يسير في الاتجاه نفسه، وإيقاع الحركة نفسها، التي يسير بها طابور عمال التراحيل.

ويقدم مارسيل مارتن، في كتاب اللغة السينمائية، رمزاً أيديولوجياً في فيلم الروسي "الأرض"، من إخراج دوف ينكو، فيقول:

"وفي اللحظة، التي تتقدم فيها جنازة سائق الجرار الشاب الذي قتله أعداء الثورة، نحو الجبّانة، تنتاب آلام المخاض امرأة عند مرور الجنازة، وهي تعني هنا أن الحياة تولد من الموت بلا توقف. ويسترسل مارتن معلقاً بأن هذه اللفتة، كثيرة الظهور في السينما الروسية. فالرجال يختفون في المعركة الثورية، ولكن رجالاً آخرين يولدون دائماً، ليكون عليهم أن يجهّزوا حصاد المستقبل".

وعلى سبيل المثال أيضاً ينتهي: "فيلم المحادثة"، إخراج فرنسيس فورد كوبولا، بمشهد بليغ، حيث يوظف الرمز أيديولوجياً ودرامياً وتشكيلياً في وقت واحد، عندما يشعر بطل الفيلم، الخبير البارز في مجال التصنت، والمعتمد على قمة ما توصل إليه العقل البشرى في هذا المجال، أنه هو نفسه قد وقع فريسة لعملية تصنت من آخرين. ويحاول عبثا اكتشاف بؤرة التصنت في منزله، وتتدرج محاولته من البحث الهادئ، إلى البحث بطريقة عصبية تجعله ينتزع أجزاء كثيرة من مسكنه، حتى يُصبح كل ما به حطام، دون العثور على بؤرة التصنت.

والرمز هنا، بجانب كونه درامياً، يعتمد على التشكيل الموجود في الصورة. فهو فوق ذلك، وفي مستوى أعمق، يبدو كرمز أيديولوجي يقول كلمته لما يتفق مع العقل الإنساني من مخترعات، تُوظف في غير صالح البشرية وبأساليب غير أخلاقية، فتصبح في النهاية وبالاً عليه.

(3) حدود أو استخدام توظيف الرمز:

عموما ينبغي النظر جيداً إلى حدود الاستخدام الرمزي، حتى لا تنقلب محاولة توظيفه إلى نوع من الغموض أو الإبهام، أو يُصبح رمزاً بعيداً عن إدراك المشاهد. ويقول مارسيل مارتن في هذا المجال:

"الواقع أن عدداً من الأفلام النادرة حقاً، تُظهر قالباً عجيباً للقيم، وجهلاً بجوهر السينما. فهذه الأفلام تحول مظهر الحدث الدرامي، الواضح وضوحاً مباشراً (أول درجة في وضوح الفيلم، أي البعد الأول) إلى دعامة بسيطة، موجودة بافتعال، هدفها إبراز معنى رمزي (الدرجة الثانية في الوضوح، أي البعد الثاني)، يأخذ المكان الأول في الأهمية. والواقع أن هذه الأفلام تقلب بذلك القاعدة الفنية السينمائية، التي تتطلب أن تكون الصورة أولاً كتلة من الواقع، ذات معنى مباشر، ثم يُمكن بعد ذلك، وبشكل إضافي واختياري، أن تكون الصورة وسيطاً لمعنى أعمق وأعم. وتتعرض هذه الأفلام، نتيجة لذلك، إلى مخاطر متنوعة، ليس أقلها أن يُصبح الحدث مفتعلاً، وغير قابل للتصديق".