إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات جغرافية وظواهر طبيعية / الموسوعة الجغرافية المصغرة









سادساً: الجغرافيا التاريخية Historical Geography
أ. تغيرات المناخ البلايوستوسينية

انفردت مناطق العروض العليا في البلايوستوسين بالظاهرة الجليدية، إذ ترتب على البرودة القاسية في هذا العصر أن زحف الجليد على مناطق واسعة في شمال كل من أوروبا، وآسيا، وأمريكا الشمالية. وقد أصبح الثلج مستقراً طوال السنة فوق الأرض، فلا ينقشع صيفاً أو شتاءً.

(1) التوزيع الجغرافي للغطاءات الجليدية البلايوستوسينية

غطى الجليد مساحات كبيرة في شمالي أوروبا في البلايوستوسين، وكانت أهم مراكزه في شبه جزيرة اسكنديناوة حيث تميز بسمك كبير امتدت منه ألسنة نحو الجنوب، ليغطي معظم الجزر البريطانية، وهولندا، وبلجيكا، وشمالي ألمانيا، وبولندا، كما امتد نحو الشرق ليغطي مساحات كبيرة من شمال روسيا، وفي قارة آسيا تمركز الغطاء الجليدي في سيبيريا، وإن تميز بسمك أقل من الغطاء الجليدي في أوروبا، أما في أمريكا الشمالية فقد اتخذ الجليد ثلاثة مراكز رئيسية، في الشرق امتد غطاء، لبرادور، وفي الوسط غطاء الباتريش، وفي الغرب غطاء كيواتين، وإضافة إلى هذه المراكز الرئيسية، غطى الجليد مساحات أخرى في قارات العالم المختلفة، خاصة في مناطق الجبال والهضاب، كما هو الحال في جبال البرانس، والألب، والبلقان في أوروبا، وجبال الروكي وبعض مناطق الأبلاش في أمريكا الشمالية، وهضبة بتاجونيا في أمريكا الجنوبية، وجبال أطلس، وهضبة الحبشة، وقمم جبال كينيا وكلمنجارو، والجن في أفريقيا، ومرتفعات شرق استراليا.

ولا يعرف بالتحديد مساحة الجليد الذي غطى اليابس أثناء أقصى امتداد له في البلايوستوسين، فبعد أن بذل بعض الباحثين جهداً طيباً في هذا المجال توصلوا إلى بعض التقديرات ـ وإن شابها عدم الدقة في أغلب الأحيان ـ التي تعطي فكرة عامة عن مدى اتساع الجليد وضخامته في هذا العصر، وهي فكرة لها أهميتها في تفسير الهبوط، الذي طرأ على منسوب سطح البحر، بسبب تحول كميات ضخمة من مياهه إلى جليد، وعلى النقيض يفسر أيضاً الارتفاع الذي حدث في منسوب سطح البحر نتيجة لانصهار الجليد في فترات الدفء. وتعد تقديرات بينك A. Penk من أفضل التقديرات في هذا المجال، وهو ما يوضحه (جدول تقديرات بينك A. Penk لمساحة الجليد وسمكه وحجمه أثناء البلايوستوسين (العصر الجليدي))

ويتضح من أرقام الجدول أن الحجم الكلي للجليد زاد عن ستين مليون كيلو متر مكعب، وغطى مساحة تصل إلى خمسين مليون كيلومتر مربع، وبحكم الموقع والمساحة تفوقت أمريكا الشمالية على أقاليم العالم من حيث مساحة الجليد وإن تفوقت عليها القارة الجنوبية القطبية في حجم الجليد وسمكه.

(2) أدوار الجليد البلايوستوسيني

من الخطأ الاعتقاد بأن عصر البلايوستوسين كان ثلجياً باستمرار، ففي بعض الفترات هبطت درجات الحرارة وتراكم الجليد، وتميزت هذه الفترات بأدوار الجليد Glacial Periods، وبين كل فترة أو دور جليدي وآخر تحسن المناخ، وارتفعت درجات الحرارة وعرفت بأدوار الدفء أو غير الجليدية Interglacial Periods.

وكان لجبال الألب الدور الهام في تصنيف العصر الجليدي وتقسيم أدواره، إذ اكتُشف فيها أول آثار العصر الجليدي من ناحية، وفيها أيضاً أجريت أول الأبحاث والدراسات، التي أدت إلى تقسيم العصر الجليدي من ناحية أخرى. ومن أهم هـذه الأبحاث والدراســات ما قام بها كل من الألماني بينك A. Penk، والنمساوي بركنر Brueckner، والألماني ايبرت Ebert.

وتتابع أدوار الجليد خلال العصر الجليدي من الأقدم إلى الأحدث على النحو التالي:

دور جونز Guenz وتحديده غير واضح، ودور مندل Mindel (استغرق الفترة من 430000 قبل الميلاد ـ 370000 قبل الميلاد أي نحو ستين ألف سنة)، ودور ريس Riss (استغرق الفترة من 30000 قبل الميلاد ـ 100000 قبل الميلاد، أي نصف طول دور مندل) وأخيراً دور فورم[1] Wuerm وهو أقل أدوار الجليد الأربعة عمراً، إذ استغرق الفترة من 40000 ـ 18000 قبل الميلاد. وبين أدوار الجليد ـ سابقة الذكر ـ ظهرت فترات دفء ثلاث هي: جونز ـ مندل، مندل ـ ريس، وريس ـ فورم

وفي شمال ألمانيا ظهر تقسيم آخر لأدوار الجليد، إذ أمكن تمييز ثلاثة أدوار جليدية أيضاً وهي من الأقدم إلى الأحدث على النحو التالي: ألستر Elstre، وسالي Saale، وفايكسل [2]Weichsel ، ولم يستدل على فترات الدفء بين هذه الفترات الجليدية الثلاث. وقد خلصت الدراسات، التي أجريت في قارة أمريكا الشمالية إلى وجود أربعة أدوار جليدية مرت بها القارة خلال العصر الجليدي، وهي من الأقدم إلى الأحدث على النحو التالي: دور نبراسكا Nebraskan، ودور كانسان Kansan، ودور الينوي Illionian، وأخيراً دور ويسكونسن Wisconsin، وقد أمكن تمييز فترات الدفء بين هذه الأدوار الجليدية الأربعة وهي: فترة أفتونيا Aftonian بين دوري جليد نبراسكا وكانسان، والثانية يارموث Yarmouth بين جليد كانسان وجليد الينوي، والثالثة والأخيرة سانجامون Sangamon.

يتضح مما سبق أن دور فورم كان يمثل آخر أدوار الجليد في جبال الألب، يقابله في شمال أوروبا دور فايكسل، وفي أمريكا الشمالية دور ويسكونسن، ولم يتراجع جليد الأدوار الثلاثة دفعة واحدة بل تم على مراحل تتفق مع التغير المناخي.

(3) الأحوال المناخية في البلايوستوسين في نطاق العروض العليا

لم تصل الدراسات، التي أجريت عن الفترة، التي استغرقها الزمن الجيولوجي الرابع إلى صورة دقيقة عن الأحوال المناخية في أدوار الجليد أو أدوار الدفء، لكن تتفق معظم الدراسات في حدوث انخفاض كبير في درجات الحرارة خاصة في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية، إذ قُدر الانخفاض في درجات الحرارة بحوالي عشر درجات مئوية أثناء الأدوار الجليدية عما هو عليه في الوقت الحاضر.

ويمكن إيجاز أهم التغيرات في الأحوال المناخية في البلايوستوسين فيما يلي:

(أ) مال المناخ خلال دور جونز إلى البرودة التدريجية، وترتب على ذلك تراكم الجليد فوق جبال اسكنديناوه والألب، مما أدى إلى تكوين نطاق ذات ضغط مرتفع، خرجت منه الرياح القطبية شديدة البرودة، لتهب على جزء كبير من قارة أوروبا.

(ب) عاد المناخ للتحسن التدريجي خلال فترة الدفء الأولى (جونز ـ مندل) فأصبح معتدلاً في معظم شمال أوروبا، ويُعتقد أن الإنسان نجح في الوصول إلى هذه المناطق وعاش على أطراف الجليد.

(ج) تغير المناخ مرة أخرى فمال إلى البرودة وغطى الجليد مساحات كبيرة من قارة أوروبا، إذ امتد من اسكنديناوه غرباً إلى جبال الأورال شرقاً، واستمر حتى غطى مساحات كبيرة من سيبيريا، وتمثل دائرة العرض 40  شمالاً أقصى امتداد للجليد ناحية الجنوب.

(د) تقهقر جليد اسكنديناوه في فترة الدفء الثانية (مندل ـ ريس) وانقطع اتصاله بجليد إنجلترا، وساد في العروض العليا خلال تلك الفترة مناخ معتدل استمر قرابة ربع مليون سنة.

(هـ) لم يكن المناخ في دور جليد ريس بقسوة مثيله خلال دور جليد مندل، وسادت في العروض العليا رياح باردة، ويُرجح أن الإنسان استطاع أن يعيش على أطراف الجليد في أوروبا. وبعد انتهاء هذه الدور الجليدي تحسن مناخ أوروبا خلال فترة الدفء ريس ـ فورم، وعاش الإنسان (إنسان نياندرتال Neanderthal Man ) صاحب الحضارة الموستيرية (العصر الحجري القديم الأوسط) في مناطق أطراف الجليد، إذ سكن الكهوف وغطى جسمه بفراء الحيوان.

(4) العصر الجليدي الأصغر The Little Ice Age

وهي فترة قصيرة بصفة عامة، إذ استغرقت الفترة بين عامي 1430 ـ 1850م على وجه التقريب، وفي تقدير آخر بين عامي 1550 ـ 1850م، وقد تميز مناخ هذه الفترة بالبرودة، إذ اتسعت الغطاءات الجليدية، وانخفضت درجات حرارة مياه المحيط الأطلسي الشمالي إلى الشمال من دائرة العرض 50  شمالاً، بما يراوح بين درجة واحدة وثلاث درجات مئوية عنها في الوقت الحاضر، كما تغير منسوب بعض البحار والأنهار، فارتفع منسوب بحر قزوين، كما زاد تصريف نهر النيل بسبب زيادة مياه الأمطار على هضبة الحبشة، كما ترتب على انخفاض درجات الحرارة في إقليم وسط أوروبا هبوط مستوى نمو الغابات فوق الجبال. وكان معدل درجات الحرارة في السواحل الجنوبية لجرينلاند أقل من نظيره في الوقت الحاضر بنحو درجتين مئويتين.

واختلف الوضع في نصف الكرة الجنوبي إذ تأخرت بداية هذه الفترة الباردة حتى سنة 1800م، كما اقتصر انخفاض درجات الحرارة على بعض المناطق دون مناطق أخرى.

وفي أواخر العصر الجليدي الأصغر تحسنت الأحوال المناخية بعض الشيء، ويكشف عن هذا التحسن انتشار نمو بساتين العنب في غرب أوروبا ووسطها لمسافات أبعد من مناطق انتشارها في الوقت الحاضر بما يراوح بين 4 ـ 5 دوائر عرضية، ويُقدر كذلك أن الحد الأعلى لنمو الغابات على منحدرات الألب كان أعلى بما يراوح بين 70 ـ 200 متراً فوق مستواه الحالي، وعلى أساس هذه التوزيعات يقدر البعض أن درجات الحرارة كانت تزيد في معدلاتها بنحو درجة مئوية على الأقل على معدلاتها الحالية.

ويمكن القول إجمالاً بأن هذه الفترة ـ رغم قصرها ـ تميزت بانخفاض واضح في درجات الحرارة، وربما يكون مصطلح عصر الجليد الأصغر صحيحاً وأقرب إلى الواقع المناخي الذي ساد أثناء تلك الفترة.

وفي نهاية العصر الجليدي الأصغر، تراجعت النطاقات المناخية مرة أخرى إلى مواقعها الحالية، ليمر العالم بفترة دفء مازالت مستمرة حتى الوقت الحاضر، مما أدى إلى تراجع الغطاءات الجليدية وسيادة الدفء بصفة عامة منذ سنة 1900م مع وجود بعض التباينات من مكان إلى آخر، ففي شمال سيبيريا وشرق كندا وألاسكا ـ على سبيل المثال ـ زادت درجات الحرارة ما بين درجتين إلى ثلاث درجات، وكانت درجة الحرارة أعلى من ذلك في غرب الولايات المتحدة وشرق أوروبا واليابان، وبلغت الزيادة في درجة الحرارة على مستوى العالم بين 2 ـ 3 درجة مئوية في المائة سنة الأخيرة.

 



[1] أسماء هذه الأدوار هي أسماء لنهيرات صغيرة تجري في المقدمات الشمالية لجبال الألب.

[2] اتخذت هذه الأدوار مسمياتها من أسماء نهيرات صغيرة تجري شمالي ألمانيا.