إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / ترتيبات الأمن في منطقة الخليج العربي، بعد حرب تحرير الكويت









الفصل الثلاثون

المبحث الثامن

رؤية بعض القوى، الدولية والإقليمية، لأمن الخليج

أولاً: رؤى بعض القوى الدولية

1. روسيا

    تتخذ روسيا إستراتيجية مستقلة، مُنافسة، وليس مواجهة، للإستراتيجية الأمريكية. فهي تتبنّى إستراتيجية ذات ذراعَين:

أولاهما دفاعية، مهمتها صدّ أي اختراق أمريكي، في أوروبا، يحاول توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي، شرقاً.

ثانيتهما هجومية، تحاول التوسع في آسيا، بتوطيد علاقتها بإيران؛ وفي الوقت نفسه، عدم تخلّيها عن العراق، حليفها القديم في المنطقة؛ وإنشاء علاقات، عسكرية واقتصادية، إن أمكن، بالدول العربية الخليجية؛ ومد جسور الثقة والعلاقات الاقتصادية بإسرائيل.

    وأصبح التحدي أمام السياسة الروسية، في ضوء المتغيرات الدولية، هو كيفية إدارة المعادلة الصعبة، في هذه المنطقة الحساسة، مع كافة الأطراف الدولية المتنافسة، ومع شتى الأطراف الإقليمية، المباشرة وغير المباشرة، بما يُحقق مصالح الأطراف كلها، في توازن دقيق، بعيداً عن التصادم. فعلى المستوى الدولي، كان على روسيا أن تدير المعادلة، ليس في مواجهة القوى الغربية فقط، الموجودة في المنطقة، بل في مواجهة القوى الجديدة (الصين واليابان)، الساعية إلى موطئ قدم في الخليج، يضمن تسويق منتجاتها فيه، وتدفق نفطه إليها.

    أما على المستوى الإقليمي، فإن روسيا لا تستطيع تجاهل نفوذ دول، لها مكانتها في المنطقة، كمصر وسورية، وهما طرفان غير مباشرَين، في معادلة أمن الخليج. وهي لا تريد، كذلك، أن تتجاهل طرفَين رئيسيَّين هما إيران والعراق؛ إذ إن علاقتها بهما مستمرة، وتشهد تقدماً ملموساً، خاصة على الجانب الإيراني.

    وقد قال أحد الخبراء الروس بشؤون العالم العربي قائلاً: "لا نريد أن يكون أحد محاور سياستنا في الخليج مباشرَين، نقيضاً للآخر. فروسيا تضع ضمن أولوياتها المزيد من الانفتاح على منطقة الخليج، الغنية بنفطها وأسواقها؛ والاهتمام بها، على جميع المحاور، وفي جميع المجالات، خاصة مجالَي الأمن والدفاع. وروسيا، بوصفها دولة بحْرية عظمى، وعضواً دائماً في مجلس الأمن، فهي مهتمة بأن تكون أحد ضامِني الأمن في منطقة الخليج".

    وتحاول روسيا، تبديداً لشكوك الكويت، ورغبة في استمالتها، ممارسة ضغوط على العراق، لإعلان اعترافه بالكويت، وإنهاء كافة المشاكل المعلقة. وتُعلن ضرورة عودة كل الأسْرى الكويتيِّين. وفي الوقت نفسه، تؤجل مطالبة العراق بدفع ديونه، التي تعّدت سبعة مليارات دولار.

    كما تحاول روسيا أن تجد تسويغاً لدعمها إيران، في المجالات العسكرية، وإمدادها بالمفاعلات النووية، مما يشكل خطراً على أمن الخليج، ويخلق مناخاً من عدم الاستقرار، في المستقبل. وإزاء ذلك كله، تدأب روسيا، من خلال انتهاجها منهج العلاقات المتوازنة، طمأنة للخليجيِّين، مساندتها وتأييدها أحقية دولة الإمارات العربية المتحدة في الجزر الثلاث.

    ومن ثَم، تحاول روسيا أداء "دورها التوازني"، في إطار هذه المعادلة الصعبة: الحفاظ على وجودها؛ بذل الجهد في تبديد شكوك الخليجيين في مواقفها؛ استمرار مصالحها في المنطقة، عسكرياً واقتصادياً؛ فضلاً عن مواجهة الدول الكبرى، من دون اصطدام، وبما يحفظ أمن الخليج العربي واستقراره.

2. فرنسا

    إن أفضل من عبّر عن مدى اهتمام فرنسا بأمن منطقة الخليج، هو قائد القوات الفرنسية في الخليج، حين حدّد أهداف قواته في المنطقة بالآتي:

·      حماية الجزر الفرنسية في المحيط الهادي.

·      حماية المصالح الفرنسية في منطقة الخليج، وعلى الأخص حماية مناطق النفط وطرقه، والذي يمثل حوالي 30% من حاجة فرنسا والدول الغربية الحليفة.

·      تدعيم التعاون مع دول المنطقة، لحمايتها واستتباب الأمن فيها.

·      تأمين انسياب التبادل التجاري بين دولها والدول الغربية، وبوجه خاص وصول النفط من الخليج إلى الأسواق، الغربية والعالمية، بأمن وسلام.

·      كسب المزيد من الخبرات، بالتدريب المشترك مع القوات المسلحة لدول الخليج.

ثانياً: رؤية بعض القوى الإقليمية

    زلزلت أزمة الخليج الثانية أعماق منطقته، وبدلت كثيراً من معادلاتها وموازينها. وخلطت كثيراً من الأوراق في منطقة الشرق الأوسط، فأسهمت في تصاعد الدور الفاعل لدول الجوار الجغرافي (إيران ـ تركيا ـ باكستان ـ إسرائيل).

1. الرؤية الإيرانية

    التزمت إيران، خلال حرب الخليج، موقف الحياد. وفي يناير 1991، وقبَيل بدء العمليات العسكرية، كان الرئيس الإيراني، علي أكبر هاشمي رفسنجاني قد شرح موقف بلاده من أزمة الخليج، بقوله: "إننا لن نسفك دماءنا، لكي تحقق الولايات المتحدة الأمريكية النصر. كما أننا لن نسفك دماءنا، لكي يبقى العراقيون في الكويت؛ ففي هذه الحالة، سيصبح الخليج الفارسي، غداً، الخليج العربي .. أليس ذلك هو الانتحار بعينه!".

    وعاد بالنفع على إيران موقفها المحايد من الأزمة، وعلى أكثر من صعيد. فمع وجود كلٍّ من تركيا وسورية والمملكة العربية السعودية ومصر، في التحالف الدولي، الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق، كانت إيران، هي الطرف الإقليمي الوحيد، الذي يمكنه إضعافه. ومن ثَم، فإن التزام طهران قرارات مجلس الأمن الاثني عشر، المتعلقة بالأزمة، وحيادها المعلن بين المعسكرَين، كانت قيمتهما كبيرة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها؛ وفي هذا الإطار، يمكن فهْم دوافع الجماعة الأوروبية إلى إلغاء كافة العقوبات المفروضة على إيران. ومن جهة أخرى، فإن دور الحياد، الذي أدته طهران بمهارة، سمح لها بأن تكون أحد مراكز الاتصالات المكثفة، التي جرت قبَيل الأزمة وأثناءها، مما أخرجها، عملياً، من عزلتها في المنطقة.

    وكانت أزمة الخليج سبباً لمكسب إيراني مباشر، أسفرت عنه المبادرة الشهيرة، التي اتخذها العراق، في 15 أغسطس 1990، رغبة منه في استمالة إيران إلى جانبه، والتي تضمنت تخلّيه عن المطالبة بالسيادة على ممر شط العرب المائي؛ وهي إحدى القضايا، التي كانت قد حالت دون تحقيق التسوية بين الدولتَين، بعد حوالي سنتَين من وقف إطلاق النار، في 20 أغسطس 1988.

    كذلك، زادت نتائج حرب الخليج، وما صاحبها من تحطيم الآلة العسكرية العراقية، احتمالات نمو النفوذ الإيراني في منطقة الخليج، المكشوفة أمنياً، فضلاً عن إعادة بندول التوازن في المنطقة، في مصلحة إيران.

    وكان من المفارقات، التي برزت على مدار عام 1991، ونصفه الثاني خاصة، أن إيران تمكنت من عقد تحالف قوي مع الدول، التي أيدت العراق خلال حرب الخليج، مثل السودان واليمن والأردن. ومع أنها سارعت إلى عقد ذلك التحالف، مستغلة عزلة تلك الدول، عربياً، فإنها استمرت تعتمد على علاقاتها الوثيقة بسورية. كما أدت السياسة الجديدة للدول العربية الخليجية الست، واعترافها بدور إيراني في أمن الخليج، إلى رفع درجة التنسيق السياسي الخليجي ـ الإيراني، وإخراج إيران من عزْلتها، وفتح أفاقٍ للتحرك الدولي أمامها. كما تبدل المنطق الأيديولوجي الإيراني، ليلتقي منطق دول الخليج، في الحديث عن الاستقرار؛ بل بدا أن طهران تحاول الدخول إلى المنطقة، كعنصر سلام.

    أما دول الخليج العربية، ممثلة في اجتماعَي وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، في مايو ويونيه 1991، فأعربت عن ضرورة التوصل إلى إعلان مبادئ مشتركة، بين الجانبَين، الخليجي والإيراني، لوضع أساس التنسيق والتعاون بينهما. كذلك، أكدت الجماعة الأوروبية الدور الإيراني في ترتيبات الأمن، المتعلقة بمنطقة الخليج.

أ‌.    التصور الإيراني للترتيبات الأمنية في الخليج

    عقب انتهاء حرب الخليج، حدد الرئيس الإيراني وجهة نظر بلاده، إزاء الترتيبات الأمنية في الخليج، وفقاً للركائز التالية:

(1)  استناد ترتيبات الأمن الإقليمية في المنطقة إلى العلاقات، التاريخية والدينية والاقتصادية، المشتركة بين دولها.

(2)  رفض التدخل الأجنبي في ترتيبات أمن المنطقة، تحت أي شكل من الأشكال.

(3)  ضرورة التعاون الشامل بين جميع دول المنطقة.          

    ومع تطورات الأوضاع المتسارعة في المنطقة، انبرى المسؤولون الإيرانيون يؤكدون البعد الذاتي في الخليج، ويستبعدون، في الوقت نفسه، أدوار القوى غير الخليجية، أياً كانت، عربية أو غير عربية. ففي تصريحات نائب وزير الخارجية الإيراني، أشار إلى أن تاريخ المنطقة، أثبت أن الأمن والاستقرار، وعدم وجود تهديد لها ولمصالحها، كانت رهناً بالوئام والوفاق بين بلدان المنطقة. وحينما تفتقدهما، تكون عرضة للتهديد، ويكون استقرارها وأمنها عرضة للخطر. وأكد أن أمن منطقة الخليج، يجب أن يكون بمشاركة جميع دوله.

    وفي شهر مايو 1991، دعا وزير الخارجية الإيراني، علي أكبر ولايتي، إلى ترتيبات إقليمية في الخليج، تشارك فيها إيران، وتستند إلى الركائز التالية:

(1)  إيجاد نوع من الترتيبات الأمنية في المنطقة، تضمن استقلال دول الخليج وسيادتها على أراضيها.

(2)  خلو منطقة الخليج من مخزونات الأسلحة التقليدية الأجنبية، وكذلك من الأسلحة، النووية والكيماوية والبيولوجية. وأن يكون عدد القوى الأجنبية في المنطقة أقل ما يمكن، ولفترة محدودة.

(3)  اضطلاع دول الخليج الثماني بمسؤولية في المنطقة. وهي إيران والعراق والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان والبحرين وقطَر والكويت.

(4)  استحالة الأمن في المنطقة، من دون تعاون مشترك بين جميع دولها.

    أما الرئيس الإيراني، رفسنجاني، فأكد "أن بلاده قادرة على النهوض بدور القوة، التي تدعم الاستقرار في المنطقة، وفقاً لقواعد العدل، واحترام حقوق الشعوب الإقليمية". ودعت جريدة "الجمهورية الإسلامية"، إلى إنشاء تحالف إيراني ـ خليجي جديد تكون اليد العليا فيه لإيران، بوصفها القوة المهيمنة.

    وفي حديث إلى جريدة "طهران تايمز"، المقربة من الحكومة الإيرانية، استبعد محمد علي بشارتي، النائب الأول لوزير الخارجية الإيراني، أي دور عسكري لمصر أو سورية، في الترتيبات الأمنية في الخليج؛ لأن دمشق منشغلة، على حد قوله، انشغالاً تاماً بالوضع في لبنان، وهي توليه اهتمامها. في حين أن القاهرة تعاني مشاكلها الاقتصادية المتفاقمة، وهي ليست مؤهلة لرعاية الأمن في المنطقة الخليجية. وشدد على أن أمن الخليج، هو من مسؤولية الدول المطلة عليه ولا سيما منها إيران والمملكة العربية السعودية والعراق.

ب. موقف إيران من "إعلان دمشق"

    وقفت إيران، من "إعلان دمشق"، موقفاً نقدياً حادّاً. ولدى صدوره انتقدت جريدة "طهران تايمز" اجتماع وزراء خارجية مصر وسورية ودول مجلس التعاون الخليجي، في دمشق، في 6 مارس 1991. وأكدت أن الإعلان، "لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد". ورأت أن وجود القوات، السورية والمصرية، في المملكة العربية السعودية، كان عملاً رمزياً. وقالت: "إن أي خطة أمنية، لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، ما لم توضح، صراحة، أن أي ترتيب، لا يتضمن إيران، بصفتها أقوى دولة في المنطقة ـ مآله الفشل". وسألت الجريدة: كيف يمكن سورية، التي عجزت عن استعادة هضبة الجولان، أن تبحث في ضمان أمن كل دول منطقة الخليج (الفارسي)؟

    وتوالت التعليقات الإيرانية الرسمية على "إعلان دمشق"، مُجْمِعَةً على أن وضع خطط، تفتقد إلى الشمول، ولا تخدم كافة دول المنطقة، ستلحق الضرر بمصالح تلك الدول، أكثر مما ستحقق الفائدة.

    وأكد حسين حبيبي، نائب الرئيس الإيراني، في تعليقه على "إعلان دمشق"، "أن بلاده ترفض تقسيم أمن الخليج، بين الدول العربية في الجنوب، وإيران في الشمال؛ لأن الخليج وبحر عُمان كيان واحد".

    ولم تكتفِ إيران بهذه التصريحات، لإعلان موقفها من "إعلان دمشق"، بل كان محتوى الإعلان موضع تفاوض بينها وبين سورية، مرتَين، خلال عام 1991. الأولى، كانت بين الرئيس السوري، حافظ الأسد، وحسن حبيبي، في دمشق، في نهاية مارس 1991. والثانية، كانت في العام نفسه، أثناء قِمة الأسد ـ رفسنجاني، حينما وجِّه لوم ضمني إلى سورية على إهمالها "مكانة إيران"، في "إعلان دمشق".

    وهكذا، ألقت التحفظات الإيرانية من "إعلان دمشق" مزيداً من الضوء على التصور الإيراني لمسألة الأمن في الخليج. فأوضحت أن إيران، تريد الأمن الخليجي أمناً إقليمياً، لا دور للعرب فيه، ولا سيما مصر وسورية، ولا للأطراف الدولية، كذلك. وأكدت إيران، أن الخليج سيكون غير مكتمل العناصر والعقوبات، ما دامت إيران مستبعدة منه، لكونها تطل على أكثر من نصفه. كما يرى الإيرانيون، أن المسؤولية الأكبر عن الأمن، يجب أن تكون من نصيبهم، من دون منافس، بحكم عوامل الجوار الجغرافي والتمازج الاجتماعي. وهم يبرهنون على هشاشة العلاقة بين الدور المصري ـ السوري والترتيبات الأمنية الخليجية، "بدور إيراني في الترتيبات الأمنية لقناة السويس".

    لقد استندت الدبلوماسية الإيرانية، في تحفّظها من "إعلان دمشق"، ومن الاتفاقية الأمنية بين الكويت والولايات المتحدة الأمريكية، وفي دعوتها إلى تحاور دول الخليج، للتوصل إلى ترتيبات أمن إقليمي مشترك، نابع من دول المنطقة ـ إلى البند الثامن من قرار مجلس الأمن، الرقم 598، في شأن وقف إطلاق النار، في الحرب العراقية ـ الإيرانية الذي ينص على أن يطلب مجلس الأمن من الأمين العام للأمم المتحدة، أن يدرس، بالتشاور مع إيران والعراق، ومع الدول الأخرى في المنطقة، إجراءات تعزيز أمن منطقتها واستقرارها. وينمّ ذلك برغبة طهران في الظهور بمظهر الطرف الدولي المسؤول، الذي يقبَل قرارات الأمم المتحدة، بالمشاركة في النظام العالمي الجديد، الآخذ في التشكل.

ج. موقف إيران من الاتفاقية الأمنية الكويتية ـ الأمريكية

    اعترضت إيران على اتفاقية التعاون الأمني، بين الكويت والولايات المتحدة الأمريكية، التي أبرمتاها في 19 سبتمبر 1991. فأكد أعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي، في طهران، أن توقيع الاتفاقية الأمنية، يتعلق بخطة أمريكية، تخلق صيغة تشريعية للتدخلات الأمريكية في شؤون المنطقة. وعمدت الخارجية الإيرانية إلى استدعاء السفير الكويتي، للإعراب عن احتجاجها على هذه الاتفاقية. وعبّر وزير الخارجية الإيراني، أثناء لقائه أمير الكويت، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في منتصف سبتمبر 1991، عن أن الوجود العسكري الأجنبي، لا يضمن الأمن في المنطقة؛ وأن أمن الخليج، لا يضمنه سوى دوله. ووصفت إذاعة طهران الاتفاقية بأنها خطة أمريكية، لإضفاء الشرعية على تدخّلات مقبلة في المنطقة. وأضافت: "إن حرب الخليج، أظهرت أن تدخّل القوى الأجنبية، أنقذ الكويت من الاحتلال العراقي؛ لكن التدمير، يذكرنا بحقيقة أخرى، مفادها أن الأمن، يجب أن يتأسس على التفاهم الإقليمي، وينجم عن التعاون المخلص بين دول المنطقة".

2. الرؤية التركية

    جهدت تركيا في إيجاد دور متميز لها، في منطقة الشرق الأوسط، وركيزته الأساسية، هي رغبتها في أن تكون القوة الاقتصادية العظمى في تلك المنطقة، وذلك من خلال تحركات، سياسية واقتصادية وعسكرية وإعلامية، ازدادت كثافة قبَيل نهاية الحرب وبعدها مباشرة. ويمكن تحديد أهداف التحركات التركية بالآتي:

أ. الرغبة في أن تكون تركيا القوة الاقتصادية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، في إطار سوق مشتركة، تجمع الدول العربية؛ إضافة إلى منظمة التعاون الاقتصادي (ECO) (بين إيران وتركيا وباكستان).

ب. تكوين تركيا ضلعاً من أضلاع المربع الإقليمي، الذي يحقق الاستقرار والتوازن الإستراتيجي في المنطقة. ويضم مصر وإيران وإسرائيل.

ج. اضطلاع تركيا بدور فاعل في الربط بين منطقة الشرق الأوسط والعالم الغربي، بكونها جسراً بينهما، وبحكم عضويتها المزدوجة في حلف شمال الأطلسي ومنظمة الدول الإسلامية، وازدواج انتماءاتها الحضارية، الإسلامية والغربية.

أ. التصور التركي للترتيبات الأمنية في الخليج

    تُفضّل تركيا صيغة أمنية، تشابه مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، والتي تتطلب حل المشاكل العالقة في المنطقة، أولاً؛ وهو ما يوافق الإستراتيجية التركية في جوانبها الأخرى، الهادفة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وعلاقات توازنية.

    وأعلن وزير الدولة التركي، كامران إينان، "أن الأمن في المنطقة، قد يُحقَّق عن طريق تدعيم التعاون، الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي، وليس عن طريق إقامة الأحلاف".

    ويستند التصور التركي لمسألة أمن الخليج، إلى الركائز الآتية:

(1)  إن أمن منطقة الخليج، هو شأن دولها، وحدها. ومن حقها اتخاذ التدابير والترتيبات، التي تراها ملائمة، لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة.

(2)  إذا كان لا بدّ من الترتيبات الأمنية، فيمكن أن تتخذ شكلاً دفاعياً ثنائياً مع دول المنطقة، مع الحرص على الابتعاد عن أي ترتيبات جماعية، وعدم مشاركة تركيا فيها.

(3)  إن أمن الشرق الأوسط، يتطلب إشراك الدول المجاورة للعراق، في ترتيبات الأمن المستقبلية في المنطقة، وهي: تركيا وإيران وسورية ومصر.

(4)  إن أمن الشرق الأوسط، يتطلب حل كافة المشاكل السياسية في المنطقة، ولا سيما القضية الفلسطينية، ومشكلة لبنان، والتفاهم حول نزع السلاح.

(5)  إن المدخل الرئيسي لترتيبات الأمن، يتطلب توسيع نطاق التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة، من خلال المشروعات المشتركة، وإلغاء القيود التجارية، وتدعيم فرص التكامل الاقتصادي.

(6)  سيادة الديموقراطية في دول المنطقة، بأسلوب الخطوة خطوة، وليس المستوى الأعلى منها، الموجود في الغرب.

    ينمّ التصور التركي لمفهوم الأمن، برغبة تركيا في إيجاد وضع، يمهد لها الدخول، كقوة اقتصادية، إلى منطقة الشرق الوسط. وما تأكيدها أحقية دول المنطقة في التفرد باتخاذ الترتيبات، التي تراها ملائمة، إلا تبديد لأي مخاوف أو شكوك عربية خليجية، في طموح أنقرة إلى الهيمنة أو التأثير في شؤون المنطقة. وبالتركيز في الديموقراطية، تتودد تركيا إلى دول الغرب، لضمان تأييدها التصور التركي لأمن المنطقة.

ب. التعاون الإستراتيجي التركي ـ الإسرائيلي، وتأثيره في أمن الخليج

    بدأ التعاون الإستراتيجي التركي ـ الإسرائيلي، في 24 فبراير 1996[1] حينما زار تل أبيب نائب رئيس الأركان التركي، الجنرال سيفيك بير، زيارة سِرية، وقّع خلالها اتفاقية للتعاون العسكري مع إسرائيل.

    وبعد يومَين، وقِّعت، بين الطرفين، في أنقرة، اتفاقية أخرى في مجال تحديث وتدريب القوات الجوية.

    وفي 4 أبريل 1996، أعلنت الجرائد التركية، أنه في إطار هاتَين الاتفاقيتَين، سيفتح المجال الجوي التركي، لتدريب الطيران العسكري الإسرائيلي. فبادر عدد من الدول العربية وإيران، إلى شن حملة، إعلامية ودبلوماسية على ذلك الإجراء، مؤكدة أنه يهدد أمن الدول العربية، ومنها دول الخليج، وأمن إيران. وهو ما يؤدي إلى عدم استقرار في المنطقة؛ إذ إن وجود الطيران الإسرائيلي في جنوبي تركيا، يتيح له سرعة التدخل، ليهدد أمن إيران وسورية، ودول أخرى.

3. الرؤية الباكستانية

    يشبه وضع باكستان، إلى حدّ كبير، وضع تركيا، في ما يتعلق بافتقاد أهميتها الإستراتيجية لدى الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء التحولات، التي حدثت في شرقي أوروبا. إذ كانت باكستان، قبْل هذه التحولات، وفي عهد ضياء الحق، تؤدي دور رجل الشرطة، في جنوبي شرقي آسيا، دفاعاً عن مصالح الغرب وإيقافاً للمدّ الشيوعي في المنطقة. وتزايدت أهمية باكستان، بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان، ومساعدة فصائل المجاهدين. إلا أنها افتقدت أهميتها الإستراتيجية وتدهورت، بعد الانسحاب السوفيتي. ولكن الفرصة، ما لبثت أن سنحت لها، بعد حرب الخليج لاستعادة دورها في المنطقة، وموازنة الدور الهندي، المنافس التقليدي، في جنوبي شرقي آسيا.

    وتتطلع باكستان إلى أداء دور في الترتيبات الأمنية في المنطقة، يساعدها على استعادة ثقلها الإقليمي المفتقَد، واتضح ذلك في افتتاح أعمال مؤتمر وزراء خارجية دول الإيكو" (ECO)[2]، التي كانت تضم، آنئذٍ، إيران وتركيا وباكستان والمنعقد في إسلام آباد، خلال مارس 1991، إذ أكد رئيس الوزراء الباكستاني، نواز شريف، أنه من "المُلحّ قيام بِنية مستقرة في المنطقة، لتفادي مغامرة أخرى، يقوم بها بلد مثل العراق، في حق جيرانه، الأصغر منه، والأكثر ضعفاً". وأضاف: "إنه يتعين أن يكون الأمن في الخليج، من مسؤولية دول المنطقة"، مؤكداً دور باكستان، في هذا الإطار. ورفض الاستجابة مطالب المعارضة الباكستانية، بسحب القوات الباكستانية، المقدَّر عددها بنحو 11 آلاف جندي، من الخليج، طمعاً بدور باكستاني في الترتيبات الأمنية الخليجية، خاصة أن ثمة اتفاقاً للتعاون الأمني، بين باكستان والمملكة العربية السعودية.

4. الرؤية الإسرائيلية

    على الرغم من أن إسرائيل، لم تكن طرفاً مباشراً في أزمة الخليج، إلا أنها حاولت، بطرق عديدة، وبضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكون لها دورها في الترتيبات الأمنية في المنطقة عامة، وفي الخليج خاصة. وانبرت تخطط هذا الدور، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، مستغلة الأوضاع الناجمة عن هزيمة العراق، وتفكك النظام العربي. ومن ثَم، فإن الدور الذي افترضته إسرائيل لنفسها، في تلك الترتيبات، هو أن تكون سنداً رئيسياً للولايات المتحدة الأمريكية، خلال مرحلة الفتح الإستراتيجي لقواتها، للتدخل في المنطقة. واستطراداً، فإن التفكير الإسرائيلي، توخَّى تحقيق الآتي:

أ. الحفاظ على القدرة على العمل المباشر في منطقة الخليج والإسراع فيه، من خلال عدد من مخازن الأسلحة والمعدات، تتركز في شمالي إسرائيل، اجتناباً للتحول في المواقف السياسية، في حالة وضع هذه المخازن في أي دولة عربية.

ب. ضمان حماية تلك المخازن من احتمالات الاستيلاء عليها، بإبعادها ما أمكن الإبعاد عن مسرح العمليات، بشرط أن تبقى قادرة، عند الحاجة، على تنفيذ عمليات الفتح الإستراتيجي، بسهولة.

ج. الحرص على أمن إسرائيل، من خلال السماح لها باستخدام ما تحتويه مخازن الأسلحة والمعدات (مخازن الطوارئ)، في حالة تعرض أمنها للخطر.

    وفي دراسة حديثة، نشرها دوري جولد، المستشار الرئيسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، في شؤون السياسة الخارجية، بعنوان "إسرائيل والخليج.. إطارات أمنية جديدة للشرق الأوسط"، كُشفت الكثير من أطماع إسرائيل في منطقة الخليج. يقول دوري جولد: "إن إسرائيل، يجب أن تكون جزءاً من نظام أمني جديد للمنطقة بأسرها، بما في ذلك منطقة الخليج".

أ. العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، في إطار ترتيبات الأمن في المنطقة

    بعد الحرب، وفي إطار الترتيبات الأمنية في المنطقة، تعهدت الإدارة الأمريكية لإسرائيل، بالآتي:

(1)  التزام أمريكي بزيادة حجم الدعم لإسرائيل، عسكرياً ومادياً، بما فيه إمداد صواريخ جيتس (السهم)، المضادّة للصواريخ الباليستية. وتعميق التحالف والتعاون معها، خاصة في المجال الإستراتيجي.

(2)  زيادة حجم المخزون العسكري الأمريكي، ليصل إلى حجم فِرقتين. إحداهما مدرعة، والأخرى آلية، تكونا قوة تدخّل سريع في منطقة الشرق الأوسط عامة، والخليج خاصة.

(3)  الامتناع عن ممارسة أي ضغط على إسرائيل، لإرغامها على اتخاذ مواقف لا تلائم مصالحها، ولا سيما الأمنية، خاصة ما يتعلق بانسحابها من الأراضي المحتلة، في إطار تسوية سلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، بعد الحرب، من خلال عقد مؤتمر دولي للسلام.

(4)  فرض قيود على تسليح الدول العربية، في إطار الترتيبات الأمنية، بعد الحرب، خاصة في مجال الأسلحة الإستراتيجية، وأسلحة الدمار الشامل؛ مع استثناء إسرائيل من هذه القيود، حتى يتحقق لها التفوق، والتفرد بالتسلح النووي في المنطقة[3].

    أسفرت تلك التعهدات عن اختلال في ميزان القوى الإقليمي، في مصلحة إسرائيل، بعد خروج إحدى القوى العربية المؤثرة (العراق)، من معادلة التوازن. كما تخطط الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكون لإسرائيل دور، في المستقبل، ضد إيران، في ترتيبات أمن الخليج.

    بل تسعى إسرائيل لدى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى[4] من أجل الحدّ من مبيعات الأسلحة، خاصة الحديثة منها، إلى دول الخليج العربية وإيران، حوؤلاً دون امتلاكها قدرات عسكرية، قد توجه، في المستقبل، ضد إسرائيل.



[1] وقعت إسرائيل مع تركيا الاتفاقيات التالية: * اتفاقية أمنية سرية في 31 مايو 1994. * مذكرة لتدريب طياري البلدين في سماء كلا بلديهما في 18 سبتمبر 1995. * اتفاقية في مجال التعاون للتدريب العسكري المشترك في 22 فبراير 1996. * اتفاقية للتعاون في مجال التصنيع الحربي في 28 أغسطس 1996.

[2] منظمة التعاون الاقتصادي (ECO) Economic Cooperation Organization: أُنشئت عام 1985، ومقرها طهران. الهدف من إنشائها: تنشيط التعاون الإقليمي في مجال التجارة والنقل والاتصالات والسياحة والتعاون الاقتصادي. تتكون المنظمة من: إيران، أفغانستان، أذربيجان، كازاخستان، قرقيزيا، باكستان، تركيا، تركمستان، أوزبكستان، طاجكستان.

[3] مبادرة الرئيس الأمريكي بوش في 29 مايو 1991، والتي تخدم بصفة أساسية أمن إسرائيل وتحد من القدرات العسكرية للدول العربية.

[4] حاولت إسرائيل مع كل من روسيا والصين لإيقاف مبيعاتها من الأسلحة إلى كل من إيران وسورية.