إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / النتائج السياسية والاقتصادية لحرب تحرير الكويت





إجمالي الإنفاق والإيرادات في البحرين
إجمالي الإنفاق في الكويت
إجمالي الإنفاق في سلطنة عُمان
إجمالي الناتج المحلي لقطر
مخطط الموازنة السنوية للسعودية
الإنفاق مقارنة بالناتج في الإمارات
الناتج المحلي والإنفاق في السعودية




الفصل الحادي والثلاثون

المبحث الأول

النتائج السياسية الدولية لحرب تحرير الكويت

    يتطلب استيعاب النتائج الدولية للحرب، التمييز بين عدة جوانب رئيسية للعلاقات الدولية، مثل: بِنية تلك العلاقات، التأثير في مناخها العام، وانعكاساتها على الفكر الدولي، السياسي والإستراتيجي.

أولاً: انعكاسات الأزمة على بِنية العلاقات الدولية

    ينصرف مفهوم بِنية العلاقات الدولية، إلى تشكّل القوى وتلاؤمها، في الساحة الدولية. ويتناول الغرب هذا الجانب، بالتركيز في الموازين بين القوى الكبرى.

    وقد أفرزت أزمة الخليج نتائج مهمة، في صدد الإدراك الذاتي للقوة وتلاؤمها بين الأطراف الرئيسية للعلاقات الدولية، والتي لا تتحدد بالتوزيع غير المتكافئ لموارد القوة فحسب، بل بإرادة استخدامها، بشتى أشكالها ومناهجها، كذلك. ويمكن حصر النتائج، الناجمة عن أزمة الخليج، في ما يلي:

  1. التقليل من اندفاع القوة الأمريكية

    شهد النصف الثاني من العقد الأخير من القرن العشرين، إعادة هيكلة جذرية لعلاقات القوى العالمية. وكان الأثر الرئيسي لثورة جورباتشوف في العلاقات الدولية، هو سحب مظاهر القوة السوفيتية من الساحة الدولية، واستطراداً، من المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية في النفوذ والسيطرة على تلك الساحة. وأدى ذلك إلى تحوّل النظام العالمي بعيداً عن القطبية الثنائية، واقترابه من القطبية الأحادية.

    وعلى الرغم من ذلك، فقد دعت قوى أمريكية، داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسه، إلى الاعتكاف الأمريكي على الذات، والتقليل من الانشغال بالشؤون العالمية، في مصلحة الاتجاه نحو إعادة البناء الداخلي، الاقتصادي والاجتماعي، وبما يعني إعادة تخصيص الموارد، بعيداً عن القطاعَين الخارجيَّين، السياسي والإستراتيجي، في مصلحة القطاعَين الداخليَّين، الاقتصادي والاجتماعي.

    ولم يكن في وسع الولايات المتحدة الأمريكية، أن تتجه نحو الاهتمام السابق، قبل الانتهاء من الرواسب الإستراتيجية للحرب الباردة، التي تجسد الجانب الأساسي والأكبر منها، في سلسلة من اتفاقيات تخفيض الأسلحة، الإستراتيجية والتقليدية، خاصة في أوروبا، بين واشنطن وموسكو. وبات المتوقع أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة هيكلة اهتماماتها الخارجية، لكي تنصب، أساساً، على القضايا الاقتصادية الدولية، المرتبطة بمصلحتها في إعادة البناء الاقتصادي الداخلي.

    غير أن أزمة الخليج قطعت الطريق على هذا الاتجاه، بتوفيرها سبباً وقوة اندفاع جديدَين للانشغال الإستراتيجي، بشقَّيه، السياسي والعسكري، لهذه القوة العظمى، التي باتت وحيدة في الساحة العالمية؛ وتثبيت مكانتها، المادية والمعنوية، فيها. وهكذا، كان لحرب تحرير الكويت دور بارز في التقليل من الانصراف الأمريكي عن الشؤون العالمية.

    وتتَّضح هذه النتيجة، باتِّضاح عدد من النتائج الفرعية، أبرزها:

أ. إحياء خطر التهديد لدى الإدارة الأمريكية

    كانت الحجة الرئيسية لدعاة الانصراف الأمريكي عن الشؤون العالمية، وإعادة هيكلة الاهتمامات الخارجية الأمريكية، بعيداً عن مظاهر القوة الإستراتيجية، في مصلحة مظاهر القوة الاقتصادية ومقتضياتها ـ هي نهاية التهديد السوفيتي. غير أن أزمة الخليج، أيقظت مؤسسة الحكم الأمريكية، بكل قطاعاتها، لمصدر آخر للتهديد، تمثل في القوى الإقليمية، المنشقة أو الراغبة في تغيير الأوضاع، الإقليمية والعالمية، بالقوة. وصارت التهديدات الإقليمية، مصدراً جديداً لتهديد الأمن القومي الأمريكي؛ مما استدعى المبادرة إلى إستراتيجية، تعيد الولايات المتحدة الأمريكية إلى الساحة العالمية، وتحافظ على قوة اهتمامها الإستراتيجي العالمي

ب. حتمية القيادة الأمريكية للنظام العالمي الجديد

    أسباب شتى، مهدت لاستئثار الولايات المتحدة الأمريكية بوضع القوة العظمى الوحيدة. وبعضها تمخضت به أزمة الخليج. ومن أبرز هذه الأسباب:

(1)  استعادة الولايات المتحدة الأمريكية الثقة بقدرتها على العمل العسكري، في العالم كافة، خاصة في الأقاليم المهمة إستراتيجياً من العالم الثالث، متخطية عقدة فيتنام، في السيكولوجية الأمريكية. وهو ما أدى إلى مضاعفة دوافعها إلى الاستمرار في الاضطلاع بدور شرطي العالم، بغض النظر عن تقدير أهمية التهديدات الإقليمية لمصالحها، القومية والعالمية.

(2)  إقناع الحلفاء الغربيين بمعاملة الولايات المتحدة الأمريكية، من جديد، كقيادة ضرورية، وغير منازعة، في النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة. وقد ظهر ذلك واضحاً في المناظرات حول استمرار الدور العسكري لحلف شمال الأطلسي، واستمرار تقدير أهمية القوة العسكرية الأمريكية في إطار هذا الحلف. فمن ناحية، نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في تعميم الاهتمام بمصادر التهديد الإقليمية الجديدة، بين حلفائها الغربيين. ومن ناحية ثانية أدرك هؤلاء الحلفاء محدودية إرادتهم وقدراتهم العسكرية الفعلية على العمل العسكري العالمي، قياساً على ما جرى في أزمة الخليج. وهو ما يعني استمرار حاجتهم إلى القدرات العسكرية الأمريكية في مواجهة تهديدات، إقليمية أو عالمية، محتملة. وقد حال ذلك دون اضمحلال الدور العسكري لحلف شمال الأطلسي، والدور الأمريكي الكاسح فيه، في مصلحة استقلال أوروبا الغربية، الشريك الثاني في ذلك الحلف، إستراتيجياً وعسكرياً، عن الولايات المتحدة الأمريكية، في أعقاب نهاية الحرب الباردة.

(3)  خلق نوع من المشروعية لتنسيق أمريكي ـ سوفيتي (ثم روسي)، حيال قضايا السياسة الدولية. إذ مثلت أزمة الخليج أهمَّ أزمة، دولية وإقليمية، ظهر فيها هذا التنسيق، بعيداً عن الحرب الباردة. واستمر التنسيق، بعد ذلك، حيال قضايا دولية عديدة، أهمها قضية الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة، خاصة ما يتعلق بالبوسنة والهرسك. وهو ما أكد، بدوره، قدرة القيادة الأمريكية، غير المنازعة، والقدرة الأمريكية على ترتيب العلاقات بالقوى الإستراتيجية المهمة، في عالم ما بعد الحرب الباردة، بما يتلاءم مع رؤية واشنطن إلى القضايا والأزمات الدولية.

2. تزايد ضعف حركات العالم الثالث وهامشيتها

    على الرغم من نهوض حركات العالم الثالث، مثل: الحياد الإيجابي، وعدم الانحياز، ومجموعة الـ 77، بدور كبير في تحرير النظام الدولي من جمود القطبية الثنائية. فقد بدأ تأثير تلك الحركات وقيمتها المعنوية بالتراجع، في النظام الدولي ومؤسساته الكبرى، قبْل انفجار أزمة الخليج. وذلك لعدة أسباب، يأتي في مقدمتها فشل التنمية الاقتصادية، في أغلبية دول الجنوب؛ وتفاقم الصراعات فيما بينها، وداخل العديد منها وتأكّل مظاهر القوة الاقتصادية، الناجم عن التحولات الكبيرة في تكنولوجيا الإنتاج، وهو ما خفض من قيمة كثير من صادرات العالم الثالث الأولية إلى دول الشمال. فضلاً عن أن حرب تحرير الكويت، قد ضاعفت من شدة الاتجاه نحو تبعثر حركات العالم الثالث، وتراخي التضامن فيما بين دولها، في الساحة الدولية. ويعود ذلك للأسباب التالية:

أ. عُدَّت هزيمةُ العراق هزيمةً لدول العالم الثالث ككل، على ما في ذلك من مبالغة شديدة؛ إذ إن الغالبية الكاسحة من دول العالم الثالث، قد دانت الغزو العراقي للكويت، وساندت، سياسياً، التحالف الدولي المناهض له، بل أسهم بعضها بقوات عسكرية في حرب تحرير الكويت. بيد أن تلك النظرة، لم تخلُ من مصداقية، في ما يتصل بمسألة واحدة، هي أن الخيار، الذي اتبعته حركات العالم الثالث، طويلاً، وهو الضغط السياسي، قد صار دون قيمة تقريباً.

ب. تشجيع الدول الغربية الكبرى، على التحول إلى إستراتيجية الإشراف على النُظُم الإقليمية، في العالم الثالث. إذ تنبهت الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لخطر إهمال صراعات إقليمية معينة، بل ولخطر الابتعاد عن شؤون وتطورات داخلية، في دول ذات قيمة لمصالحها الخارجية. فنشطت واشنطن لضبط أو حلّ عدد من الصراعات الإقليمية، والحروب الأهلية، في أعقاب حرب تحرير الكويت مباشرة. وهو ما أوضحه الدور الأمريكي في إطاحة نظام منجستو هيلي ميريام، في إثيوبيا، وإحلال نظام أكثر مرونة فيها ناهيك السعي الأمريكي مع دول غربية أخرى، لضمان تحوّل سلمي في جنوب أفريقيا، خاصة بعد نجاح تجربة استقلال ناميبيا. وكذلك الاهتمام الأمريكي بتسوية قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ج. انهيار الدور الجماعي العربي في الحركات الأساسية للعالم الثالث، على أثر تصدّع النظام الإقليمي العربي، في أعقاب أزمة الخليج؛ حتى كاد يختفي، خاصة في حركة عدم الانحياز، ومجموعة الـ 77. وقد أسهم ضعف الدور الجماعي العربي في هذه الحركات، في البدء باضمحلال دورهما.

ثانياً: تأثير الأزمة في العلاقات الدولية

    عندما فرضت أزمة الخليج نفسها على الساحة الدولية، كان النظام الدولي يتيقظ، تدريجاً، لخطر انفلات ثقافة التعصب والكراهية العِرقيَّين، ولا سيما في العلاقات بين القوميات، التي ضمها الاتحاد السوفيتي. وإزاء تقلّب نظرة الغرب التقليدية، الناجم عن استمرار الغطاء السوفيتي، الكاتم لعوامل الغليان القوي، فإن الانتباه لما تجرّه تلك العوامل من كوارث، كان محدوداً. ولم يكن الغرب متنبهاً، أصلاً، لنشاط تلك العوامل، لأكثر من عقدَين من الزمن، في العالم الثالث عموماً، وفي أفريقيا بوجه خاص. وهكذا، كان لانفجار أزمة الخليج دوره المهم في إثارة الاهتمام الغربي بتلك الصراعات؛ إذ إن الغزو العراقي للكويت أثار الاهتمام بالمظاهر الخطيرة الأخرى للفوضى، التي تهدد بطوفان، قد يقتلع النظام والأمن العالمَّيين. ومن ثَم، كان الاهتمام بدور أزمة الخليج وتأثيرها في تكوين المناخ العام للعلاقات الدولية، والتي يمكن إيضاحها في الآتي:

1. مجتمعات الشمال

    أنذر انفجار أزمة الخليج باحتمال انفجار وشيك لعوامل الفوضى الدولية، في العالمَين، العربي والإسلامي، خاصة. ونمّت ردود الفعل حيال هذه الفوضى "الوشيكة"، بعقدة حصار فريدة، في سيكولوجية الغرب وثقافته. إذ صوِّر التصادم، إعلامياً وثقافياً، وكأنه صراع حضارات واصطدام بين أساليب حياة وثقافات مختلفة، حتى بدا العالم الثالث، من وجهة نظر الغرب، غابة مزدحمة بالبشر، وغارقة في المشكـلات والصراعـات والعنف، الناجمة عن سيادة ثقافات وعقائد وطرق حياة غريبـة، ولا عقلانية، لا تبالي بالتهذيب، ولا تحرص على الحياة الإنسانية، ولا تحترم القواعد والأصول، المراعاة بين الجماعات المتحضرة. وفي مواجهة هذا العالم، يقف نقيضه، الغرب خائفاً أن تحدِق به تلك المجتمعات الشيعة، غير المتحضرة، الزاحفة إلى حصار جزيرة الحضارة الغربية.

2. مجتمعات الجنوب

    تتضح إشكاليات الفوضى، في الجنوب، بأبعادها الحقيقة. ومن شأنها أن تؤثر في المناخ العام للعلاقات الدولية. وهي تتمثل في:

أ. فقدان الثقة بالنفس، خاصة في ما يتعلق بفاعلية الآليات التضامنية الجماعية للعالم الثالث.

ب. قبول النماذج الغربية، في السياسة والاقتصاد، وخاصة على المستوى الداخلي، بعد وضوح الفشل الذريع الذي منيت به التجارب الراديكالية البحت، للتطور في البلدان المتخلفة، بل ساد المناخ، الفكري والسياسي، في دول الجنوب، الاعتراف بالانتصار الثقافي للغرب.

ج. تدهور مصداقية الخطاب، الذي يشكل الأساس الفكري لحركات العالم الثالث الكبرى، مثل عدم الانحياز ومجموعة الـ77؛ مما أحدَث تحولات كبيرة في المناخ العام للعلاقات الدولية.

ثالثاً: انعكاسات الأزمة وتأثيرها في الفكر السياسي الدولي

    عُدَّت أزمة الخليج إنذاراً بما يمكن أن يؤدي إليه التسامح مع العدوان؛ وطرح هذا الإنذار ضرورة الدفاع عن النظام الدولي. وإزاء سنوح الفرص لتدريبات سياسة دولية جديدة، بحكم التعاون الأمريكي ـ السوفيتي، فقد طرحت فكرة النظام العالمي الجديد، كهدف مثالي، يعمم نموذج العمل الدولي المشترك لإنهاء أزمة الخليج، على ما قد يثيره، في المستقبل، من أزمات مماثلة. وكان هذا المفهوم قد طُرح قبل أزمة الخليج؛ إذ طرحت مجموعة الـ77، مثلاً، مفهوم نظام اقتصادي عالمي جديد. فضلاً عن الإعلان الشهير، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1974. كذلك طرح الرئيس السوفيتي، ميخائيل جورباتشوف، منذ منتصف الثمانينيات، مفهوم "الجماعة العالمية"، ساعياً بذلك إلى وضع ترتيبات جديدة للأمن العالمي، القائم على التعاون، لا على التنافس.

    غير أن الطرح، الذي قدّمه الرئيس جورج بوش، في 11 سبتمبر 1990، في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي[1]، ثم في خطابات لاحقة، في أبريل 1992 ـ بدا أن له مغزى سياسياً عملياً أعظم؛ إذ شكل إلزاماً معنوياً من جانب "القوة العظمى الوحيدة" في العالم، بعد الحرب الباردة، وبعد نهاية حرب تحرير الكويت.

    بيد أن أثر حرب تحرير الكويت، تجاوز ذلك المفهوم العام، إلى مستجدات أخرى في الفكر السياسي، والمبادئ العامة للقانون الدولي، يتمثل أهمها في مفهوم النظام العالمي الجديد، ومفهوم "حق التدخل الإنساني".

1. مفهوم النظام العالمي الجديد

    أثار طرح الرئيس الأمريكي تكهنات واسعة، ومتفاوتة، في الأدبيات السياسية، الدولية والعربية. وانفردت الأدبيات العربية، خاصة تلك المتأثرة بالفكر، القومي والراديكالي التقليدي، بنفورها الشديد منه، ورفضها إياه. ومالت كتابات عديدة إلى التوسع في معنى ذلك المفهوم ودلالته. فرأى بعضها أنه يعني الليبرالية، الاقتصادية والسياسية، داخل المجتمعات؛ مثلما يعني آليات معينة للسلام والاستقرار، في العلاقات بين المجتمعات والأمم.

    وأيّاً كانت المواقف، فإن المحتوى العملي للمبدأ، القانوني والسياسي، كما طرحه الرئيس بوش، يتوخّى تحقيق الأمن والسلم الدوليَّين، وإحياء دور الأمم المتحدة في صيانتهما، من خلال آليات الأمن التعاوني، كنقيض للأمن التنافسي، الذي ساد حقبة الحرب الباردة بالعمل مع الأمم الأخرى على ردع العدوان والتعاون عليه، وتحقيق الاستقرار والرخاء، والتسوية السلمية للمنازعات، وتخفيض الترسانات العسكرية، والمعاملة العادلة لكل الشعوب.

    بيد أن الإدارة الأمريكية، لم تمعن في طرح ذلك المفهوم، ولم تصرّ على كونه أحد أعمدة سياستها الدولية، في ظل حكم الرئيس بوش نفسه، بل إنها أغفلته كليةً، في عهد خلفه، الرئيس كلنتون. غير أنها أبدت، في العهدَين، رغبتها في العمل التعاوني الدولي، في مجال الأمن والسلم الدوليَّين، من خلال الأمم المتحدة.

    وما حمل الإدارة الأمريكية على موقفها، إلا خشيتها أن يؤدي التعاون الدولي الإيجابي، في ظل نظام عالمي جديد، إلى تقييد حريتها في العمل، على الساحة الدولية، على الصعيدَين، القانوني والمؤسسي، بما يقتضيه تقليص التناقض بين عمل الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، وهو ما اصطلح على تسميته، في الأدبيات العربية، بمفهوم "الكيل بمكيالَين". وإذ أمكن مفهوم النظام العالمي الجديد، الذي طرح في سياق أزمة دولية هائلة، مثل أزمة الخليج، أن يخلق، دولياً، تفاعلات وتداعيات سياسية إيجابية، فإن تقنينه أصبح ممكناُ؛ بل واجباً، بحدَّيه الأقصى والأدنى؛ وفي الحدّ الأقصى، تكاد ترجمة شعار "نظام عالمي جديد"، تعني إحياء مبدأ وآلية "الأمن الجماعي" وآليته، المنصوص عليهما في ميثاق الأمم المتحدة.

    وهكذا، يضع شعار "نظام عالمي جديد"، العالم بأسره أمام بديلَين رئيسيَّين، في السياسة العملية الدولية؛ إما تقييد الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى الوحيدة، بقيود قانونية ومؤسسية يخضع اتخاذها لغير جهة، أو الاضطرار إلى التكيف، على نحو أو آخر، مع حريتها في التصرف الدولي، بغض النظر عن تقيدها بقانون أو آلية التعددية في اتخاذ القرارات.

    وأيّاً ما كان الحال، فإن أطروحة النظام العالمي الجديد، قد تأكّلت في زمن قصير جداً. إذاً، فالآلية، التي نُفذت في مواجهة الغزو العراقي للكويت، كانت آلية استثنائية، غير مطروحة للتطوير.

2. مفهوم "حق التدخل الإنساني"

    منحت الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، حقاً قانونياً دولياً، وآلية مؤسسية محددة، لحماية حقوق الإنسان من الانتهاكات، التي ترتكبها الدولة ضد مواطنيها. وهو ما طبِّق في سياق العمل الدولي على مواجهة تداعيات أزمة الخليج، ولا سيما حماية الأقلية الكردية، والمواطنين الشيعة، من احتمالات الإبادة الجماعية، على أيدي نظام الحكم في العراق، بعد حرب تحرير الكويت. إذ أُعلنت منطقة شمال خط العرض 36 ْ منطقة آمنة، يمكن الأكراد اللجوء إليها، ولا تستطيع القوات العراقية تعقّبهم فيها. مما اقتضى تدخلاً عسكرياً من جانب دول غربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لضمان عدم تخطي تلك القوات ذلك الخط، أو اقتحامها منطقة الأكراد. وهكذا اتخذ التدخل "الإنساني" شكلاً عسكرياً. كذلك، أعلنت المنطقة الممتدة من خط العرض 32 ْ حتى الحدود الجنوبية، منطقة آمنة لشيعة العراق، ومحرمة على الطيران العسكري العراقي.

    والواقع، أن "حق التدخل الإنساني"، بشكله العسكري، لم يتقرر وفقاً لآليات الأمم المتحدة، ولم يقنَّن على نحو وثيق، مُحدد، بل ناقش مجلس الأمن تقنينه، في 30 يناير 1992، ولكنه لم يتوصل إلى نتيجة محددة.

    وأحبط الفشل في تطبيق بعض المستجدات في الفكر، السياسي والقانوني، الدولي، في سياق إدارة أزمة الخليج وتبعاتها ـ قد أحبط الآمال، أن يبعث دور الأمم المتحدة في النظام الدولي. ويمكن القول إن العديد من النتائج الإيجابية لأزمة الخليج، قد تلاشت، مع الزمن. وعادت السياسة الدولية إلى نمط علاقات القوة، وضوابط المصالح "القومية" الضيقة، والقصيرة المدى، التي لا تولي المشاكل والأزمات الدولية اهتماماً، إلا بقدر مصالح القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعاً: انعكاسات الأزمة وتأثيرها في الإستراتيجيات الدولية

    في المجال الإستراتيجي، تظهر الخصائص الأساسية لنمط السياسة العملية، التي لا يضبطها قانون عام. والنتيجة الأساسية لحرب تحرير الكويت، تمثلت في إدراك الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية الكبرى، أهمية الحدّ من التسلح، التقليدي وفوق التقليدي، في دول العالم الثالث. وحيازة العراق أسلحة كيماوية، وصواريخ متوسطة المدى، وبرنامجاً نووياً، يستهدف الحصول على أسلحة ذرية ـ كانت أكثر جوانب هذه الحرب مدعاة للقلق، الأمريكي والغربي عامة.

    غير أن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تضع في حسبانها حتمية الوصول إلى إنشاء نظام عام، أو أنظمة إقليمية، للحدّ من التسلح، سواء التقليدي أو فوق التقليدي، تتساوى فيه جميع الدول، دون استثناء، أي ما يسمى بالمدخل الشامل، للحدّ من ونزع التسلح. وإنما فضّلت آليات للحدّ من نزع تسلح الدول، التي لا تعدّها صديقة، تاركة الدول الصديقة حرة، عملياً، في اتخاذ ما تراه من إجراءات تسليحية، حتى في المجال النووي؛ والمعروف أن إسرائيل لديها برنامج نووي، وأنها طورت ترسانتها النووية، وأصبحت تماثل مقاييس الدول الكبرى. وسعت، الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك، إلى تطبيق اتفاقية الحدّ من الأسلحة الذرية (NPT) فقط، على تلك الدول "غير الصديقة"، وترك إسرائيل حرة، من دون ضغوط. وربما تكون أهم المبادرات الأمريكية، في هذا المجال، هي مبادرة الرئيس بوش، في خصوص وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل في العالم، في 29 مايو 1991[2].

    كما أن أهم التطبيقات العملية للضغوط، الأمريكية والغربية، المشتركة، هي تشديد آليات التنفيذ، في ما يتعلق بمعاهدة حظر إنتاج الأسلحة الكيماوية وتخزينها، والتي عرضت للتوقيع والتصديق، في يناير 1993. وعمدت الدول الغربية إلى الضغط بشدة، على عدد كبير من الدول العربية، للتصديق على تلك المعاهدة وتوقيعها، على الرغم من إعلانها رفض توقيعها، قبْل اتخاذ إجراءات نزع السلاح النووي الإسرائيلي.

    ولا شك أن أزمة الخليج، حفزت الدول الكبرى على التركيز في تطبيق الأفكار والبرامج الانتقائية، للحدّ من التسلح، التقليدي وفوق التقليدي، في منطقة الشرق الأوسط. وظهر ذلك، بوضوح، في مبادرة الرئيس بوش، في صدد ضبط التسلح في منطقة الشرق الأوسط، في مايو 1991، وبيان باريس، الصادر عن اجتماع الدول الكبرى المصدرة للسلاح، في شأن ضبط تسلح الشرق الأوسط، في أكتوبر 1991؛ ومبادرة الرئيس بوش، في خصوص وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، في يوليه 1992.



[1] تركز خطاب الرئيس بوش  حول أزمة الخليج ونتائج قمة هلسنكي، حيث ألقى خلاله الضوء على الاتجاهات العامة للسياسة الأمريكية إزاء أزمة الخليج في المرحلة المقبلة، وأكد بوش أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح لديكتاتور العراق بجني ثمار غزوه للكويت، كما أعلن بوش أن أزمة الخليج تعد فرصة نادرة للتقدم تجاه مرحلة تاريخية من التعاون ومحاولة إقامة نظام عالمي جديد متحرر من تهديد الارهاب وأكثر قوة في سعيه نحو تحقيق العدالة.

[2] طرح الرئيس بوش في 29 مايو 1991، مبادرة تحتوي على الخطوط العريضة لمشروع الحد من انتشار الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، جاء ذلك في كلمة ألقاها في حفل تخرج دفعة من الطيارين في كلورادو، واقترحت المبادرة: * دعوة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، الاتفاق فيما بينها وتنسيق سياساتها في مجال بيع الأسلحة، ومراقبة استعمالها بعد البيع، والاتفاق على قائمة من الأسلحة يحظر بيعها. * وقف بيع صواريخ أرض/أرض إلى دول المنطقة، على أن يتم استبعاد مثل تلك الصواريخ من ترساناتها في نهاية الأمر. * دخول جميع دول المنطقة في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إن لم تكن قد قامت بذلك فعلاً. * التوصل إلى معاهدة دولية لتدمير الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.