إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / النتائج السياسية والاقتصادية لحرب تحرير الكويت





إجمالي الإنفاق والإيرادات في البحرين
إجمالي الإنفاق في الكويت
إجمالي الإنفاق في سلطنة عُمان
إجمالي الناتج المحلي لقطر
مخطط الموازنة السنوية للسعودية
الإنفاق مقارنة بالناتج في الإمارات
الناتج المحلي والإنفاق في السعودية




الفصل الحادي والثلاثون

المبحث الثاني

نتائج حرب تحرير الكويت وتأثيرها في النظام العربي والقضية الفلسطينية

أولاً: مفهوم "النظام العربي"

    كانت حرب تحرير الكويت هي أشد نقاط التحول خطراً، في تطور العلاقات العربية ـ العربية، حيث تعتبر هذه الحرب من أقوى أحداث التاريخ العربي المعاصر خطراً، وأعمقها تأثيراً في العلاقات، البيئية والإقليمية والدولية، للدول العربية. فثمة قِيم ومبادئ ومفاهيم، كان مأمولاً استقرارها، لكن حرب تحرير الكويت أثبتت أن ذلك الأمل، كان مبنياً، في الغالب، على أساس غير متين. كما كانت هياكل وبِنىً ومؤسسات، في طور التشكل، أو في مرحلة العمل، تعرضت جميعها، بدرجات متفاوتة، لهزة عنيفة، من جراء تلك الحرب العربية الكبرى. كذلك، لم تسلم أوضاع الاستقطاب، الأيديولوجي والسياسي، في العالم العربي، من آثار الزلزال العنيف.

    وبإيجاز، إن كافة ما ارتبط بالعلاقات العربية ـ العربية، منذ أوائل الخمسينيات، من قِيم ومبادئ ومفاهيم، وبِنًى وهياكل ومؤسسات، وتحالفات وائتلافات واستقطابات ـ قد تزلزلت، فانكسر بعضها، وتحطم آخر، وثبت بعضها الثالث ثباتاً، ربما كان غير فاعل. وانبثق من كل ذلك أوضاع جديدة، داخل النظام العربي.

    ومفهوم "النظام العربي"، استند إلى مفهوم النظام الدولي الفرعي، أو "النظام الإقليمي"، المشهور في أدبيات التحليل المنظِّم للعلاقات الدولية. وهو يتسم بتماسك دوله، في تعاملاتها إزاء التحديات والتهديدات؛ وتجانسها، إلى حدٍّ معقول، في النمو الاقتصادي، والتقدم السياسي، وطبيعة الأنظمة السياسية، والتقدم التقني، والبِنية الاقتصادية ـ الاجتماعية.

    غير أن "النظام العربي"، لم يعهد التماسك إلاّ في فترة محدودة جداً، تمثّل استثناءً، وتمتد بين عامَي 1967 و1973. وعدا ذلك كان تماسكه تماسكاً معنوياً، شكلياً، في أوقات الأزمات، اقتصر على التساند اللفظي، الدعائي؛ فكان ضرره أكبر من نفعه، في غير مناسبة.

    كذلك عرف النظام العربي، قبل حرب تحرير الكويت، معدلات مرتفعة، للاتصال والتعامل والتفاعل. وتجسدت في الاتصال والتفاعل الشعبيَّين، وحركة انتقال الأفراد، وفي الاتصال والتفاعل الشكليَّين، بين مسؤولي الدول العربية (تبادل الزيارات). أما في المجالات الفاعلة، الاقتصادية والمالية والتجارية والعسكرية، فكانت الاتصالات والتفاعلات، بين الدول العربية والعالم الخارجي، أكبر وأقوى، منها بين تلك الدول بعضها مع بعض.

    وعلى الرغم من تميز الدول العربية ببعض السمات الخاصة، إلا أن هناك تعاوناً ملحوظاً بينها، في خصائص أنظمتها السياسية، ودرجة نموها الاقتصادي، وتقدم هياكلها، الاجتماعية والثقافية؛ فضلاً عن الإيديولوجيات الحاكمة والمُسيطرة، والسياسات الاقتصادية المنتَهَجَة.

    وليس بخاف أن الجامعة العربية، ومؤسساتها الفرعية والمتخصصة، على تنوّعها، وتعقّد تنظيمها، وجهدها الجاهد في تشخيص المشاكل والتحديات ـ لم تفلح في إنتاج سياسات عربية مشتركة فاعلة، ونافذة، في مجالات الأمن والتنمية؛ فضلاً على أن بناءها المؤسسي، لم يشمل بعد مجالات مهمة للعمل العربي المشترك، مثل المجال النيابي (البرلماني) والمجال القضائي.

    ولكل ما تقدَّم، لا يَحْسُنُ الإفراط في استخدام "النظام العربي"، للتعبير عن مجمل تفاعلات العلاقات العربية ـ العربية، بل يَجْمُل الاحتراس والتحفظ منه. ولكن، يمكن استخدامه، على الأقل، كمفهوم نظري، كأداة تحليلية كلية لواقع معقد ومتشابك، وإن كان لا يعكس واقعاً مؤسسياً، لتبيين كيف أثرت فيه حرب تحرير الكويت، والتغيرات، التي طرأت عليه وعلى مكوناته.

ثانياً: الحرب والبِنية الرسمية لقِيم "النظام العربي"

    منذ تأسست جامعة الدول العربية، و"النظام العربي"، يشيد بِنية رسمية للقِيم والمبادئ والمعايير، توافق مبادئ الشرعية القانونية الدولية[1]، لتطور النظام الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية.

    ناهيك أن ميثاق الجامعة وقراراتها المتعاقبة قد كرست المبادئ والقِيم الأخلاقية، المتعلقة بالأخُوّة العربية، والتضامن والنضال المشترك، ووحدة الآمال والتحديات، وتوافق الغايات، ووحدة المصير؛ فضلاً عن مفهوم المصلحة المشتركة للعلاقات العربية ـ العربية.

    زِدْ أن معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، بين دول الجامعة العربية، وملحقها العسكري، والتي وافق عليها مجلس الجامعة، في جلسته المعقودة في 13 أبريل 1950 ـ قد أضافت إلى بِنية قِيم "النظام العربي"، مبدأ الدفاع العربي الجماعي عن النفس (Collective Self Defence)، في مواجهة أي عدوان خارجي على إحدى الدول العربية الموقعة المعاهدة، ولم تقصُر المعاهدة الالتزام بالدفاع عن دولها الأعضاء، على صد عدوان دولة غير عضو، بل تخطته إلى صد أي عدوان، من دون أن تحدد مصدره، أعربياً كان أم أجنبياً؛ وهو ما يعني، ضمناً، مواجهة أي اعتداء على دولها الأعضاء، ولو اجترحته دولة عربية أخرى. هكذا، أضافت معاهدة 1950 مبدأ "الأمن الجماعي" ومفهومه (Collective Security)، إلى البِنية القانونية لعمل "النظام العربي"؛ وهو ما يشبه المبدأ، الذي تستند إليه نصوص الفصل السابع، من ميثاق الأمم المتحدة.

    إذاً، كانت بِنية القِيم، القانونية والأخلاقية، لـ "النظام العربي"، واضحة ومحدَّدة، وتوافق مبادئ الشرعية الدولية. وشكل التمسك بمجمل المبادئ والقِيم الآنفة؛ والدعوة إلى احترامها، جزءاً عضوياً في الخطاب السياسي العربي، الرسمي والشعبي. ولكن السلوك الفعلي للدول العربية، لم يكن يعكس، دائماً، تلك المنظومة من القيم والمبادئ، التي ظلت، غالباً، حبيسة الأَلْسُن والوَرَق. والحق، أن عدداً من اتفاقيات الدفاع المشترك، الثنائية قد عقدت بين بعض الدول العربية، ولكنها لم تتحول إلى أجهزة وتنظيمات دفاعية، قادرة على تنفيذ التعهدات الواردة فيها.

    وإذا كانت القوة قد استخدمت، أحياناً، في إدارة العلاقات العربية ـ العربية، مثل: (المغرب والجزائر عام 1963 ـ أزمة أيلول الأسود 1970 ـ مصر وليبيا عام 1977 ـ أزمة لبنان ـ المناوشات بين البحرين وقطَر، في شأن الجزر المتنازع عليها) ـ فإن استخدامها كان محدوداً، وفي إطار حرب أهلية، أو قوات ردع أو سلام عربية. ولكن القوة العسكرية، لم تعتمد، وحدها، قبْل حرب تحرير الكويت، في إدارة العلاقات والصراعات العربية ـ العربية، على الرغم من وهن "النظام العربي"، ناهيك استخدامها في إزالة دولة عربية مستقلة، هي عضو في الجامعة العربية؛ إذ إن بعضاً من النزاعات، التي استخدمت فيها القوة، قد سُويت بالوسائل، السياسية أو الدبلوماسية.

    ولا شك أن التناقض بين القول والفعل، بين المبدأ المُعلن والحركة الفعلية، قد اعترى "النظام العربي"، حتى أمسى مرضاً طالما عانته السياسة العربية. فقْبل حرب تحرير الكويت، لم يملّ العراق، مثلاً، ترديد منظومة قِيم عدم التدخل، واحترام السيادة الوطنية، والتضامن العربي، والأخوّة العربية، في وثائقه السياسية، وفي خُطب رئيسه وتصريحاته. ولكنه تنكر، فجأة لتلك القِيم، بل نقض تعهده لأطراف عربية، بعدم استخدام القوة العسكرية ضد الكويت.

    هكذا، فضح الغزو العراقي للكويت، منظومة القِيم، القانونية والأخلاقية، التي حاول "النظام العربي" أن يجعلها أساساً لتحركات أعضائه وعلاقاتهم المتبادلة. وهو ما استتبع آثاراً غير محددة، ليس في قِيمه فقط، بل في هيكله وتحالفاته وعلاقاته بالمنظمات، الإقليمية والدولية، الأخرى. إذ راود دولاً عربية شك في مصداقية قِيم الشرعية العربية، بل في وجود تلك الشرعية. فأطّرحتها، وركنت إلى الشرعية الدولية، في تحالفاتها وعلاقاتها المستقبلية.

ثالثاً: الحرب والبِنية المؤسسية للمنظمات الإقليمية العربية

    عرف "النظام العربي" تعدداً في المؤسسات الإقليمية. فثمة جامعة الدول العربية، المنظمة الإقليمية العامة، وعدة منظمات عربية متخصصة، حكومية وشعبية، سرعان ما تزايد عددها وتنامى حجم عضويتها ونطاق أنشطتها؛ فضلاً عن تجمعات حكومية فرعية، إقليمية (مجلس التعاون لدول الخليج العربية 1981 ـ اتحاد دول المغرب العربي 1989)، وغير إقليمية (مجلس التعاون العربي 1989).

    واللافت هو تداخل هذه المؤسسات المتعددة. فالفرعية منها، أُنشئت لتضطلع بالأنشطة والأهداف، والوظائف والاختصاصات نفسها، التي تضطلع بها الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة؛ وإن كان على نطاق جغرافي أضيق. أضف إلى ذلك افتقاد التنسيق الواضح أو المحدد، بين بِنَى "النظام العربي" المؤسسية المتعددة؛ ومصداق ذلك، أن مسألة علاقة تجمعات الثمانينيات بالجامعة العربية، التنظيم الأًم، موضع تساؤل ونقاش، على المستوى العربي، من دون أن تُعرف إجابات مقنعة محددة.

    وطالما عانى "النظام العربي" عدم توافق قواه الاقتصادية مع القوى الأخرى، العسكرية أو البشرية، وانفصامهما. وتميزت تحالفاته بالمرونة التي سهّلت الانضمام إليها، والانسحاب منها؛ وربما كان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، هو الأقل مرونة بين التجمعات والائتلافات العربية. والتحالفات المرنة، تكون، غالباً، قابلة للتغيير، بل للتفكك السريع؛ وهو حال معظم التحالفات العربية الفرعية، وبخاصة في مجالات الأمن والسياسة.

    ولئن تميزت الائتلافات العربية الفرعية، بين الحكومات، بالتغيير وقصر العمر، فإن الاستقطاب السياسي، على مستوى القوى، الشعبية وغير الرسمية، قد عرف درجة عالية من الثبات والاستمرارية، قبْل حرب تحرير الكويت. ويمكن تمييز تيارات أربعة رئيسية، استقطبت القوى الشعبية الفاعلة في العالم العربي، هي: التيار القومي العلماني، "بروافده الناصرية والبعثية"؛ والتيار الإسلامي؛ والتيار العسكري الراديكالي، "بما فيه القوى الشيوعية"؛ ثم التيار التقليدي المحافظ.

    وإذ لفّت حرب تحرير الكويت هيكل "النظام العربي" بالغموض، فإنها أسفرت عن حقيقتَين جليَّتَين، هما:

1. ضعف المؤسسات الإقليمية العربية

    لعل أبرز صور هذا الضعف، هو عجز الجامعة العربية عن إيجاد تسوية سلمية عربية للأزمة، قبْل تحوُّلها إلى حرب شاملة مدمرة؛ وهي التي كانت قد عجزت عن ردع العراق وإقناعه بالعدول عن استخدام القوة ضد الكويت؛ وما ذلك إلاّ لغياب نظام الثواب والعقاب. وقصورها، بعد الحرب، عن الاضطلاع بمهام إعادة صياغة أُسُس وقواعد عقلانية رشيدة، للعلاقات العربية ـ العربية، بل عجزها عن تمرير مشروع أمانتها العامة، الرامي إلى إصلاح نظام الجامعة وهيكلها، وتأسيس محكمة عدل عربية.

2. هشاشة التجمعات العربية الفرعية

    أمارات شتّى، نمَّت بتكل الهشاشة؛ فمجلس التعاون لدول الخليج العربية، لم تنعقد قِمته، إلا بعد أكثر من أربعة أشهر على الغزو العراقي للكويت[2]؛ ومجلس التعاون العربي، قد تجمد، من الناحية الفعلية؛ واتحاد المغرب العربي، تفاوتت مواقف دوله، بين مساند للعراق مساندة تامة (موريتانيا)، ومناهض له، كالمملكة المغربية، التي أرسلت قوات رمزية إلى المملكة العربية السعودية، وبينهما مواقف متغايرة للجزائر وتونس وليبيا.

    أما النتائج التي تمخضت بها حرب تحرير الكويت، فأبرزها:

1. تغيّر مكامن القوة داخل "النظام العربي"

    ذهبت الحرب بقوة العراق العسكرية الضخمة، ودمرت قاعدته، الاقتصادية والتكنولوجية؛ فكَلَّت أظافيره عن تهديد جيرانه. في حين خرجت المملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي، من الحرب بانتصار سياسي كبير. وطفقت تخطط لإعادة بناء وتسليح قواتها المسلحة، بما يحقق لها القدرة على ردع المعتدي؛ وهو ما يستغرق وقتاً، ويستنزف نفقات، على نفقات الحرب الضخمة، المالية والاقتصادية، في وقت انخفضت فيه سيطرة الأوبيك، والدول الخليجية، على سوق النفط وأسعاره، نتيجة لآثار الحرب، وللوجود الأمريكي المباشر في مناطق الإنتاج وما حولها. أما مصر وسورية، فقد خرجتا من الحرب أقوى منهما قبْلها، في توازن القوة العربي؛ ولا سيما مصر، التي تخفَّفت من نصف ديونها، بعد اطَّراحه عنها، أثناء الحرب.

2. تغيّر خريطة التجمعات الفرعية العربية

    قضت الحرب على مجلس التعاون العربي. وأسهمت في متاعب اتحاد دول المغرب العربي، الناجمة عن توجهات مناطقه الطرفية؛ إذ أضحت ليبيا أكثر ارتباطاً بمصر منها ببقية دول الاتحاد المغاربي. وموريتانيا ناصرت العراق على حربه؛ وهي من ناحية ثانية، وبحكم عوامل الجغرافيا، أكثر ميلاً إلى الدول الأفريقية، غير العربية، منها إلى زميلاتها في الشمال، أعضاء الاتحاد المغاربي الآخرين. وبات طرفا اتحاد المغرب العربي، هذان، يمثلان نقطة ضعف واضحة في عملية التكامل الإقليمي، الذي يسعى إليه. واستعر الخلاف بين دول الاتحاد المغاربي حتى طاول توزيع هيئاته ومؤسساته ومراكزه، بين دوله الأعضاء. لكن الأدهى، هو دعوة بعض أعضاء دول الاتحاد المغاربي، إلى ربط أمن المغرب العربي بأمن أوروبا أو بأمن شماليها المقابل لها[3].

    أما دول مجلس التعاون الخليجي، فانبرت لتضييق مفهوم أمنها، ليصبح أمناً خليجياً بحتاً، بدلاً من كونه جزءاً من الأمن الوطني العربي الشامل. إلا أن آراءها تباينت في وسيلة الأمن؛ إذ رأت عُمان، أنها تتمثل في بناء قوة عسكرية خليجية مستقلة. بينما رأت الكويت والبحرين، أنها تكمن في ارتباطات دفاعية تعاقدية، ثنائية، مع الولايات المتحدة الأمريكية. في حين قدّر بعض دول المجلس، ولا سيما عُمان وقطَر، أن صيغة "إعلان دمشق"، أو التعاون والتنسيق مع إيران، قد يكونا هما وسيلة الأمن المثلى. وثمة من قال إنها تلك الآليات مجتمعة، على افتراض أنه ليس ثمة تناقص بين مستوياتها.

    هكذا، أحدثت حرب تحرير الكويت تغييراً جوهرياً، في الإدراك والمفهوم  والهدف والارتباط، في صدد قضية الأمن في التجمعات الفرعية العربية، والتي ضعضعت مفهوم الأمن الوطني العربي الشامل، وعزّزت مفاهيم نُظُم الأمن، الفرعية أو الإقليمية.

رابعاً: تغيّر التحالفات العربية الرسمية

    ساعدت حرب تحرير الكويت على انبثاق تحالفَين عربيَّين جديدَين يتقاطع كلٌّ منهما مع التجمعات القائمة قبْل الأزمة. فكاتف العراق على حربه كلٌّ من الأردن واليمن وفلسطين والسودان وموريتانيا؛ في مواجهة التحالف المضادّ، المكوّن من دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومصر وسورية والمملكة المغربية ولبنان وجيبوتي. أما ليبيا وتونس والجزائر، فقد دانت الغزو العراقي للكويت؛ ولكنها دانت، كذلك، الوجود العسكري الأمريكي على أرض المملكة العربية السعودية والخليج. وبقيت الصومال غارقة في حربها الأهلية، من دون موقف. وكان هذا الاستقطاب العربي الحادّ، إلى جانب التعنت العراقي، من الأسباب الرئيسية لفشل الإدارة العربية في تسوية الأزمة تسوية سلمية، في إطار عربي.

    وبعد انتهاء الحرب، انفض من حول العراق حلفاؤه، الذين شرعوا يتلمسون طريقهم إلى تطبيع علاقاتهم بدول التحالف العربي المضاد، الذي بقي متماسكاً، بل سعى إلى صيغة ترسخه، فكان توقيع "إعلان دمشق" في 6 مارس 1991. غير أن تزايد اهتمام دول الخليج بالبعد الخليجي لأمن منطقتها، أدى إلى تعديل الإعلان تعديلاً جوهرياً، أقِرَّ في الكويت، في 19 يوليه 1991. وقضى بحذف النص القائل: إن "وجود القوات، المصرية والسورية، على أرض المملكة العربية السعودية، ودول عربية أخرى، في منطقة الخليج، تلبية لرغبة حكوماتها، بهدف الدفاع عن أراضيها، يمثل نواة لقوة سلام عربية، تُعد لضمان أمن وسلامة الدول العربية، في منطقة الخليج؛ ونموذجاً يحقق ضمان فعالية النظام الأمني العربي، الدفاعي، الشامل".

    ولا شك أن اتجاه بعض دول الخليج العربية، إلى ترتيبات ثنائية، دفاعية وأمنية، سرية، مع الولايات المتحدة الأمريكية، ورغبة هذه الدول جميعها عن استبعاد إيران من ترتيبات أمن الخليج ـ قد أدّيا إلى تخفيف تماسك التحالف العربي المضادّ للعراق الذي أنشأته الحرب. بيد أن غياب تحالف عربي مقابل، قوى ومتماسك، بعد انهيار تحالف العراق، واقتصار الاتحاد المغاربي على نطاق جغرافي فرعي، وعجزه عن تغطية المنطقة العربية برمّتها، ساعد على بقاء التأثير الأكبر للتحالف المضادّ وبخاصة للدول الثلاث: المملكة العربية السعودية  ومصر وسورية".

خامساً: اضمحلال حدود "النظام العربي"

    على الرغم من تأثر "النظام العربي" بمؤثرات، "شرق أوسطية" أو "متوسطية" وتأثيره فيها؛ وعلى الرغم من نفاذ تأثير القوى الخارجية إلى داخله، فإن فاعلياته، حرصت على إبقاء الحدود واضحة، بينه وبين غيره من الأنظمة الإقليمية؛ وعلى المحافظة على هويته العربية، والاعتزاز بها، على ما يتعريه، من المعوقات والنقائص والمشاكل.

    ولكن حرب تحرير الكويت، كانت، أساساً، بين طرفَين عربيَّين، فأضعفت، إلى حدٍّ كبير، ذلك الحرص على أواصر عروبة النظام، ووضوح حدوده، والفوارق بينه وبين غيره من الأنظمة الأخرى. أضف إلى ذلك أن قوى من خارج "النظام العربي"، حاربت مع الكويت والمملكة العربية السعودية، ضد العراق، حتى أمكن تحرير الكويت. أي أن تلك الحرب، أحدثت تداخلاً بين "النظام العربي" وأنظمة دولية أخرى، غير عربية. وازداد تأثير هذا العامل، بفعل تزايد الاعتماد المتبادل، واتجاه النظام الدولي إلى العالمية؛ وازدياد ضعف الأنظمة الدولية الفرعية في العالم الثالث، في عالم أصبح يسوده قطب دولي واحد.

    كذلك أسفرت حرب تحرير الكويت عن ازدياد الخلل في توازن القوى الإقليمي، لتخف كفة الدول العربية، في مصلحة القوى الإقليمية غير العربية. إذ أدى التدمير الكامل لآلة الحرب العراقية ومصانعها؛ وتوقف المساعدة لها ولمخزون العراق من أسلحة الدمار الشامل، والمواد الداخلة في صنعها؛ وتدمير القاعدة، الاقتصادية والتكنولوجية، لدولة العراق؛ ومعاناة المجتمع العراقي بعد الحرب، الصراعات، العرقية والطائفية، والحصار، الاقتصادي والتكنولوجي، الدولي الصارم ـ أدى كل ذلك إلى اطِّراد قوة الدول غير العربية في الشرق الأوسط، في علاقتها بالعراق المدمر أو في علاقتها بالمنطقة العربية عامة. فتركيا، مثلاً، تحتل شريطاً داخل حدود العراق، وتنتهك، من آن إلى آخر، عمق أراضيه، متذرعة بالقضاء على حزب العمال الكردستاني. وإيران تطالب بأن يكون أمن الخليج خليجياً. وتُعرب، صراحة، عن رغبتها في عدم مشاركة أي دولة عربية، غير خليجية، في ترتيبات أمنه. أما إسرائيل، فقد أضحت القوة العسكرية الإقليمية الكبرى، الوحيدة، التي تمتلك كافة صور أسلحة الدمار الشامل، بما فيها الأسلحة النووية.

    إن هذا الخلل الإستراتيجي، في مصلحة تلك الدول الثلاث، أدى إلى تعقد ميزان القوى، ليس في منطقة الخليج فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط عامة.

    إن تلاشي الحدود بين "النظام العربي" و"نظام الشرق الأوسط"، كنتيجة لحرب تحرير الكويت؛ وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة صياغة العلاقات، العالمية والإقليمية، في المنطقة ـ من شأنه أن يضع مفاهيم العروبة وقِيمها، في مواجهة صريحة، ومباشرة، مع فكرة الشرق الأوسط ومفهومه. وهو ما اتضح في دعوة الولايات المتحدة الأمريكية اثنتَين وثلاثين دولة، لحضور المرحلة الثالثة من المفاوضات متعددة الأطراف، الناجمة عن عملية السلام في الشرق الأوسط، والتي تعالج القضايا الإقليمية، كالمياه والتسلح والبيئة والتعاون الاقتصادي[4]. 

    وفي إطار الاهتمام المكثف بترتيب أوضاع الشرق الأوسط، على نحو يضمن الاستقرار والأمن للمصالح الأمريكية في المنطقة وفي العالم ـ قررت الولايات المتحدة الأمريكية بدء مفاوضات السلام من أجل تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبخاصة القضية الفلسطينية وقد استجاب لها كل الأطراف. وبدأت عملية التفاوض، بتوجيهها وقيادتها ورعايتها، وبمشاركة شكلية من الاتحاد السوفيتي (السابق)، ثم روسيا، بعد ذلك.

    ولا شك أن الاتجاه العام نحو بناء نظام شرق أوسطي، في ظل مفاوضات متعددة الأطراف، أو محاولات لاتفاقيات ثنائية، بين إسرائيل وأطراف عربية، مثل الفلسطينيين والأردن وسورية ولبنان ـ أدى إلى إحداث مفهوم جديد في المنطقة، كان له تأثير سلبي في المكون العربي، إذ أسفر عن:

1.     تزايد دور الدول، غير العربية، في الشرق الأوسط، التي اتُّفق على تسميتها بدول الجوار، في تشكيل تطور المنطقة.

2. الضعف النسبي في وزن التيار القومي العربي وتأثيره، نتيجة لتزايد معدلات الاتصال والتعامل والتفاعل، مع قوى ودول وتيارات، غير عربية، اقتصادية وثقافية وسياسية.

3. إضعاف بعض النُظُم، التي كانت تتخذ من القضية الفلسطينية شعاراً، للتأثير في الشارع العربي، بل حرمانها أهم أوراقها في تجميع قوى الشعب من حولها. ومن ثم، بادرت تلك النُظُم إلى خلق أُسُس جديدة لشرعيتها، عمادها الانفتاح السياسي، وحكم القانون، والعقلانية، واستيعاب القوى الجديدة في النظام الإقليمي، وتسوية الصراعات تسوية سلمية.

سادساً: مكانة العرب والعلاقات بينهم

    تبدو أزمة الخليج، وكأن تأثيرها كان طفيفاً، في المسار الرئيسي لتطور العلاقات العربية ـ العربية، والنمط التسلطي، في الجوهر، للسياسة الداخلية، في معظم الأفكار العربية؛ بينما كان يطرّد تفكك تلك العلاقات وتدهورها، قبْل أزمة الخليج. والنتيجة المباشرة للأزمة، تمثلت في تكوين تحالفَين رئيسيَّين متضادَّين. غير أنهما ما لبثا أن مالا إلى التفكك؛ وصار من الممكن، بعد عام واحد من نهاية الحرب، تحقيق مصالحات ثنائية، بين دول وأطراف عربية، اصطدمت مواقفها من الأزمة. فضلاً عن أن مكانة العرب الدولية، كانت قد بدأت تتدهور، قبْل الأزمة. كذلك شهدت عدة أقطار عربية تحولات مهمة، في مجال الانفتاح السياسي الداخلي، أدت إلى انتقالها إلى نماذج تعددية مقيدة، وليس إلى نظام ديموقراطي. وربما كان دور أزمة الخليج في تلك التحولات محدوداً، باستثناء حالة الكويت؛ وآية ذلك ضآلة انعكاسات الأزمة على النمط الرئيسي للسياسة الداخلية العربية؛ وناهيك بقاء نظام صدام حسين في السلطة، داخل العراق، على الرغم من مسؤوليته عن الأزمة والحرب، وعن مآسي الشعب العراقي.

    وربما يمكن تفسير الضآلة النسبية لانعكاسات أزمة الخليج ونتائجها، في مجال المسار الشكلي للسياسة العربية، بمختلف مجالاتها، بأنها نتيجة حتمية لعوامل بنيوية، مثل التخلف، الاقتصادي والاجتماعي، والحالة الثقافية السياسية، المستترة نسبياً؛ صعُب على أزمة الخليج، أن تؤول فيها إلى تغييرات فجائية ولكنها تمكنت من إفراز تغييرات عميقة في مضمون السياسة العربية، قد تؤول إلى تحولات بِنيوية في تكوينها.

    وتتمثل التضمينات بعيدة المدى، للتغيير، الذي طرأ على الجوانب والمجالات المختلفة للسياسة العربية، في انهيار مكانة العرب الدولية، وتفكك تحالفاتهم مع كتل العالم الثالث، وتهميش "النظام العربي" وانكماشه، وإنهيار الثقة بآلياته:

1. انهيار مكانة العرب الدولية

    بدأت مكانة العرب الدولية تتردّى، منذ نهاية السبعينيات، حين سادت الغرب رؤية، قوامها أنهم أصحاب نمط ثقافي ـ سياسي، يتسم بالتسلط والعنف؛ ويقطنون في منطقة، لا تعرف الاستقرار. إذ شهدت أربع حروب ضارية، على الأقل، وهي حرب يونيه 1967، وحرب أكتوبر 1973، واجتياح لبنان 1982، والحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، إضافة إلى ما يَعُدّه الغرب إرهاباً وصل إلى عقر داره، مهدداً نمط الحياة والحضارة الغربيتَين.

    أن هذه الصورة للمنطقة والسياسة العربية تعتبر ظالمة ومجحفة، وربما تكون عكس الحقيقة كما يراها العرب. أما العرب، فقد رأوا أن كل صور العنف، التي شهدتها المنطقة، إنما هي نتيجة لعدوان إسرائيل. وخلال الفترة بين 1988 ـ 1990، تصارعت الصورتان، العربية والغربية، في الإعلان الدولي. وكادت تنتصر الصورة العربية، الخاصة بتفسير العنف في المنطقة، وذلك بفضل دعوة عربية منسقة، لسلام عادل، ووقف مظاهر معينة للإرهاب، وانتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وانفجار الانتفاضة الفلسطينية، التي أوضحت، أول مرة، للعالم الغربي، مدى القمع والعنف الإسرائيليَّين.

    غير أن الغزو العراقي للكويت، أفسد على العرب جهدهم. وعاد على العرب المقيمين بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي بلاد أوروبية كثيرة بمعاملة تمييزية، في سياق الأزمة والحرب.

2. تهميش "النظام العربي"

    بعد عجز "النظام العربي" ومؤسساته عن ردع العدوان العراقي على الكويت والإخفاق في اتخاذ موقف جماعي حازم، اتخذت الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، قراراً إستراتيجياً، في شأن تهميشه؛ إذ دعت واشنطن لإنشاء "بِنية أمنية شرق أوسطية"، مهمتها ردع أعمال عدوان مماثلة للغزو العراقي للكويت. كما يُعد سلب "النظام العربي" وظيفته الأمنية، ونوطها بترتيبات إقليمية أخرى، خاصة مشروع إنشاء نظام إقليمي شرق أوسطي ـ تهميشاً شديداً لذلك النظام؛ إذ إن الترتيبات الأمنية، حتى لو كانت مجرد تقاليد، هي حجر الزاوية، بالنسبة إلى أي نظام إقليمي.

    إن إنشاء نظام شرق أوسطي، بديل من "النظام العربي"، هو أمر يتسم بدرجة عالية من عدم اليقين، نظراً إلى إصرار الغرب على أن تنضم إليه إسرائيل، التي يباعدها عن العرب ميراث طويل من الصراع والعداء والشكوك، في المجال الأمني. واستطراداً، فإنه من الصعب عليهم، وغير مقبول لديهم، تجسيد هذا المشروع على أرض الواقع، على الرغم من إحياء "النظام العربي"، كنظام إقليمي وقومي، ربما لا يكون يسيراً.   

3. تفكك التحالفات العربية مع العالم الثالث

    إن امتداد الصورة الغربية عن العرب و"النظام العربي"، إلى العالم الثالث وشيوعها فيه، أدّيا إلى إخفاق شديد لتحالفات العرب مع الكتل الرئيسية من العالم الثالث، خاصة مع الدول الأفريقية، وكتلة عدم الانحياز. ويتجلى ذلك الإخفاق، في مواقف ومجالات شتى. منها عجز العرب عن الحؤول دون قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في شأن إلغاء مساواة الصهيونية والعنصرية[5]؛ وعجزهم عن منع، أو الحدّ من ازدهار العلاقات الإسرائيلية بكثير من دول العالم الثالث، التي كانت حليفة تقليدية للعرب.

    وعلى الرغم من أن هذا التفكك الذي اعترى العلاقات العربية بكتل العالم الثالث، قد سبق حادث غزو العراق للكويت، إلا أن المدى، الذي وصل إليه، يعكس التدهور الشديد لمكانة العرب الدولية، بعد أزمة الخليج.

4. استهداف "دول عربية" بمعاملة خاصة

    يتّضح الاتجاه الغربي إلى التحيز ضد العرب ومصالحهم، ومعاملتهم معاملة، هي دون معاملة سواهم، من خلال عدد متلاحق من المؤشرات والتطورات؛ إذ إن الدمار، الذي لحق بالعراق، أثناء الحرب، لا يوافق ما أصبح تقاليد عالمية. فمثلاً، المادة "5/ب"، من الفصل الثاني من الملحق الأول لاتفاقيات جنيف، والمتعلق بحماية ضحايا النزاعات الدولية المسلحة ـ تقضي بعدم إجازة "الهجوم، الذي يمكن أن يتوقع منه، أن يسبب خسارة في أرواح المدنيين، أو إنزال أضرار بالمرافق المدنية". في حين تفيد التقارير، الدولية والأمريكية، أن القصف، الجوي والصاروخي، الأمريكي للعراق، قد أدى إلى إصابة شبكات كاملة، من المرافق المدنية العراقية، بأضرار ضخمة. والتفسير الوحيد لذلك التدمير البالغ، أنه تلويح بالردع لأطراف أخرى، إذا ما فكر أي منها، في المستقبل، في تحدي الإدارة الأمريكية.

    كذلك معاملة ليبيا معاملة شديدة القسوة، كرد فعل لاتهامها بالمسؤولية عن مأساة طائرة لوكيربي. في حين لم تعامل إسرائيل المعاملة نفسها، أو قريباً منها، عند إسقاطها طائرات مدنية عربية.

    بيد أن جوانب الاستهداف والتمييز المعاديَين للمصالح العربية، إنما يتمثل في تبنِّي وجهة النظر الإسرائيلية، في صدد إجراءات التفاوض ومضمونه، من أجل السلام بين العرب وإسرائيل عامة، وحل القضية الفلسطينية خاصة.

    كما يظهر التمييز واضحاً، في تعقّب الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من الدول، مثل باكستان وكوريا الشمالية المشتبه في تطويرهما برامج إنتاج أسلحة ذرية، وتهديد واشنطن بتطبيق عقوبات شديدة ضدها، مع استثناء إسرائيل من هذا الإجراء. وتفسير ذلك التمييز، هو موافقة الغرب على بقاء العرب تحت رحمة الابتزاز النووي الإسرائيلي.

5. انكماش النظام العربي

    كانت علامات الانكماش في "النظام العربي" واضحة، قبْل أزمة الخليج. وعلى الرغم من ازدهار عملية إصلاح ذلك النظام ومؤسساته، عبْر أربع مؤتمرات استثنائية للقمة العربية (عمان 1987 ـ الجزائر 1988 ـ الدار البيضاء 1989 ـ بغداد 1990) فقد شهدت سني هذا العقد جموداً وشللاً فيه، بتأثير عوامل عديدة، تتصدرها أزمة الخليج الأولى (الحرب العراقية ـ الإيرانية). غير أنه كان من المعروف أن "النظام العربي"، قد يتخبط في شأن متطلبات الإحياء المنهجي، ودعم آليات العمل العربي، وذلك منذ مؤتمر الدار البيضاء، عام 1989. هكذا، يصعب أن تعزى ظواهر الانكماش والتفكك، التي أعقبت أزمة الخليج الثانية (الغزو العراقي للكويت)، كلية، إلى هذه الأزمة. وعلى هذا، فإن "النظام العربي"، عاد إلى مسار التدهور، بعد فترة انقطاع قصيرة جداً، لم تسفر عن تقدم حقيقي، على صعيد الترتيبات المادية والمؤسسية، وإن كانت قد ولدت شيئاً من الآمال.

    غير أن التدقيق في علامات الانكماش والتفكك، يبدي ملامح جديدة، للعلاقات العربية ـ العربية، بعد أزمة الخليج، تكشف انهيار الثقة بالترتيبات التعاقدية، التي حكمت، قانوناً وعرفاً، العلاقات العربية ـ العربية، واستعداد الدول العربية لاطْراحها، وقبول تحوُّل "النظام العربي" من ترتيب سياسي ـ إستراتيجي، عماده مبدأ ترابط المصير، خاصة في مجال الأمن، إلى ترتيب ثقافي، قوامه الاعتراف فقط بالتجانس، الثقافي والديني. وفي أفضل الأحوال، بدأ ينظر إلى "النظام العربي" ومؤسساته، من قِبل الدول العربية، فرادى، على أنه خط دفاع أخير.

6. انهيار الثقة بآليات "النظام العربي"

    قبْل حرب تحرير الكويت، كان ممكناً الحديث عن تدهور منظم للثقة بجدوى الآليات والترتيبات المؤسسية، المقننة لذلك النظام، ولا سيما آليات الدفاع المشترك. ولكن ما تبقى منها، كان كافياً للحيلولة دون استخدام القوة الشاملة، لتسوية المنازعات العربية ـ العربية، مع الاتفاق على رأي شبه موحد، في القضايا المصيرية المهمة.

    ولكن وضح جلياً، بعد الحرب، انهيار ثقة بعض الدول العربية بذلك النظام، خاصة تلك التي تضررت بحرب تحرير الكويت.

7. الانصراف التام عن الترتيبات الأمنية

    وأهم مظاهر أزمة الثقة الناشئة عن حرب تحرير الكويت، هو الانصراف شبه التام عن ترتيبات الأمن العربية، سواء كانت مقننة، تحديداً في اتفاقية الدفاع المشترك، أو غير مقننة، ومصداق ذلك استبعاد الجزء الأمني من "إعلان دمشق" في 19 يوليه 1991، وهو ما يكشف بدوره عن عمق أزمة الثقة بين البلدان العربية. امتداداً لأزمة الثقة، بدأت غالبية الدول العربية، تغفل التوجهات العربية في سياستها العربية. وأصبحت تدرك، منذ حرب تحرير الكويت، أن المحيط العربي، هو مصدر للمشاكل، أكثر منه مصدر دعم لحلّها.

سابعاً: علاقات "النظام العربي" بالنظام العالمي

    كانت علاقات "النظام العربي" بالنظام العالمي، قبْل حرب تحرير الكويت، متعددة الأبعاد، وإن كانت، في معظمها، ذات طبيعة سلبية. فمن ناحية، كان التطور في النظام العالمي الجديد، يحدث من دون مشاركة فعلية من الدول العربية، بل إن المخاوف والهواجس والمصالح الأمنية للمنطقة، لم تؤخذ في الحسبان عند صياغة النظام الأمني الجديد، في أوروبا. أي أن ثمة تجاهلاً، حكم نظرة النظام العالمي إلى المنطقة العربية واهتماماتها وهواجسها الأمنية. ومن ناحية ثانية، كانت دوافع تطور النظامَين، العالمي والعربي، متناقضة فالأول قد عرف اتجاهاً متزايداً نحو نبذ العنف، كوسيلة لإحداث التغيير. والثاني شهد سعي بعض أطرافه، من أجل التغيير، ولو باستخدام القوة. وبينما أخذ مبدأ توازن المصالح يترسخ في الأول، استمرت سيطرة مبدأ توازن القوى على حركة الثاني. في حين تزايد اتجاه النظام العالمي إلى توظيف مبدأ تسوية المنازعات الدولية وآلياتها بالوسائل السلمية، استمر النظام العربي، على عادته، في محاولة كتمان الصراعات العربية وكبْتها، وإبقائها تحت السطح، والتعامل معها بقدر من الاستخفاف.

    وفي الوقت الذي أخذ النظام العالمي يسعى إلى ضبط التسلح، بل نزع بعض أنواع الأسلحة، وإلى إنشاء نظام صارم للرقابة على تكنولوجيا الصواريخ؛ فإن بعض قوى "النظام العربي"، اتجهت إلى مزيد من التسلح، وامتلكت ترسانة لا بأس بها من أسلحة الدمار الشامل. ولذلك كان التسلح العراقي أحد الموضوعات الرئيسية على جدول أعمال "النظام العالمي"، حتى قبْل نشوب أزمة الخليج.

    إضافة إلى ذلك، فإن بعض أطراف النظام العربي، بخاصة العراق، جهلت حقيقة دلالات التطور في النظام العالمي، وتصورت، خطأً، أن النظام يمر بحالة فوضى شديدة، تمثل فرصة تاريخية للسعي من أجل تغيير جوهري في بِنية أحد أنظمة "النظام العربي" الفرعية، ولو باستخدام العنف الشامل، من دون أن يستطيع النظام العالمي، في مرحلة الفوضى والاضطراب تلك، أن يواجه المحاولة أو المشروع العراقي، بحسم وجدية. ولذلك كانت إثارة العراق لأزمة الخليج 1990، جزئياً، وليدة حسابات خاطئة. العلاقة، إذاً، بين "النظام العربي" والنظام العالمي، في السنوات الثلاث السابقة للحرب، كانت معقدة ذات أبعاد ثلاثة أساسية، هي: "التجاهل"، و"التناقض"، و"الجهل".

    ولئن خففت حرب تحرير الكويت، بل أزالت بعدَي التجاهل والجهل، فإنها عمقت البعد الخاص بالتناقض في القيم والمعايير والتصورات.

    إذ أثبتت حرب تحرير الكويت خطر تجاهل النظام العالمي الجديد للمنطقة العربية، ومشكلاتها وهواجسها ومصالحها الأمنية الإستراتيجية. فبرهنت على أن ترْك تلك المشكلات والهواجس، من دون حل أو تسوية، قد يفجر الوضع العالمي، ويخلق مشاكل غير محدودة، تعوق آفاق تطور النظام العالمي الجديد، وتخلخل توازناته الجديدة. لذلك، وما أن انتهت حرب تحرير الكويت، حتى بذلت قيادة النظام العالمي كثيراً من جهدها وطاقتها ووقتها، للتعامل مع القضية الفلسطينية، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، والقضايا الإقليمية، الأمنية والاقتصادية.

    كما أدت حرب تحرير الكويت إلى إضعاف وزن القوى العربية، الرافضة لأُسُس النظام العالمي الجديد؛ في الوقت الذي تزايد فيه نفوذ وتأثير القوى العربية المعتدلة، المتوافقة مع ذلك النظام، والمندمجة فيه. ومن ثَم، فإن القوى العربية، الرافضة أو الجاهلة، قد خاضت تجربة مريرة، مثلت درساً قاسياً، ستضعه في حسبانها دائماً، في تعاملها المستقبلي مع النظام العالمي الجديد.

    وبينما بدأ النظام العالمي بالتعامل مع صراعات الشرق الأوسط، التي تشارك فيها دول عربية، كأطراف، على أساس مبدأ التسوية السلمية للمنازعات، فإن "النظام العربي"، لا يزال غير قادر على تسوية صراعاته تسوية سلمية؛ فمشروع محكمة العدل العربية، ما برح حبيس الأدراج؛ وصراعات الحدود لم تُسَوَّ، باستثناء الاتفاق السعودي ـ العُماني، الذي صدِّق عليه، في أواخر عام 1991. يحدث ذلك، على الرغم من أن أحد دروس حرب تحرير الكويت، يتمثل في أن تأجيل المشاكل وكتمان الصراعات، يؤديان إلى انفجارات هائلة، تكاد تطيح "النظام العربي".

    وقد اشترعت الحرب وجوداً عسكرياً أمريكياً مباشراً، بالقرب من آبار النفط، تنظمه اتفاقيات ثنائية سِرية، مع بعض دول الخليج؛ وهو ما جعل سقف الوجود الأمريكي مفتوحاً فتحاً تاماً.

ثامناً: نتائج الحرب، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية

    تحدد موقف منظمة التحرير الفلسطينية، منذ البداية، بالانحياز إلى العراق. إلا أن التضارب، الذي سيطر على مواقف القيادات الفلسطينية، واختلاف الرؤى الفلسطينية، عكس حالة من الارتباك، في بيانات تلك القيادات وتصريحاتها؛ مما انعكس على الأوضاع في الأراضي المحتلة، وعلى الفلسطينيين في منطقة الخليج، وعلى مساهمات دول الخليج، كذلك، في دعم المنظمات الفلسطينية، سياسياً وإعلامياً واقتصادياً.

    ناهيك أن أزمة الخليج، أوقعت منظمة التحرير الفلسطينية في مأزق، بين المؤيدين والمعارضين؛ وعاد ذلك، سلباً، على المنظمة والقضية الفلسطينية معاً.

    وكان من أبرز الآثار السلبية، التي ترتبت على الغزو، هو ما انعكس على الانتفاضة الفلسطينية، التي كادت تصبح نقطة تحوُّل رئيسية، في مستقبل القضية الفلسطينية، فإذا بها عرضة للاهتزاز، بعد أن انتقل الاهتمام الإعلامي بالانتفاضة إلى المرتبة الثانية، على المستويَين، العربي والدولي. وهكذا، أصبحت الانتفاضة، ومعها القضية الفلسطينية، أول ضحايا الأزمة.

    وتأثر الآلاف من الشعب الفلسطيني، الذين يعيشون في دول الخليج، ومنها الكويت، بما فرض عليهم من قيود مالية، وإنهاء تصاريح الإقامة، التي منحهم إياها بعض هذه الدول. كما تغيرت المواقف تجاه منظمة التحرير الفلسطينية. وتراجعت قوة الدفع السياسية لمسيرة الانتفاضة الفلسطينية. وفقدت منظمة التحرير قدراً كبيراً من التأييد والدعم المعنوي، عربياً ودولياً. وازدادت معاناة الشعب الفلسطيني، من جراء الآثار المادية، التي فرضتها هذه الأزمة.

    وتنفيذاً لقرارات مؤتمر القمة العربي التاسع في بغداد، في 2 نوفمبر 1978، كانت الدول العربية المصدرة للنفط، تساعد المنظمة بمبلغ 250 مليون دولار، ودعم الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بمبلغ 150 مليون دولار. وقد توقف هذا الدعم عن المنظمة، بعد موقفها من أزمة الخليج، وظهرت مؤثرات الأزمة المالية، التي واجهتها، في ما اتخذته من إجراءات، لخفض نفقاتها بنسبة 30 %.

    فضلاً عن الضرر السياسي، الذي لحق بالعلاقات الرسمية، بين المنظمة وعدد من الأنظمة العربية، المؤثرة في مسار القضية الفلسطينية؛ حتى إن ضعف المنظمة استُغل، فيما بعد، في الحصول على المزيد من التنازلات، المطلوبة من أجل التسوية السياسية.

    ولا شك أن حرب تحرير الكويت أضعفت موقف "النظام العربي" التفاوضي، في مواجهة إسرائيل، وهو ما أدى إلى حدوث تنازلات عديدة، في مسار القضية الفلسطينية، في مصلحة إسرائيل، بل في ازدياد حجم الاستيطان الإسرائيلي بالأراضي المحتلة، وفي تجميد عملية السلام، على المسارَين، السوري واللبناني، في ظل دور أمريكي شكلي، مؤيد تأيداً تاماً لإسرائيل، ومتفقاً معها على أن لأمنها الأولوية، في إطار هذه التسوية.



[1] تتمثل هذه المبادئ في: * احترام السيادة الوطنية والاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول. * عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. * الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية. * احترام المساواة بين الدول، وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، والالتزام بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية.

[2] عقد أول اجتماع لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ـ بعد الغزو العراقي للكويت ـ خلال الفترة من 22 ـ 25 ديسمبر 1990، في الدوحة، بدولة قطر.

[3] الدليل على هذا الاتجاه، هو اجتماع عرف باسم (5+4) أي اجتماع الدول الخمس أعضاء اتحاد المغرب العربي: ليبيا، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، مع الدول الأوروبية الأربعة المطلة على البحر المتوسط قبالة سواحل المغرب: فرنسا، إيطاليا، أسبانيا، اليونان، في مدينة الجزائر في منتصف عام 1991.

[4] شملت هذه الدعوة دول مجلس التعاون الخليجي الست ولبنان ومصر وسورية والأردن وفلسطين ودول المجموعة الأوروبية واليابان وكندا وتركيا ودول الاتحاد المغاربي. واستثنى منها بعض الدول مثل ليبيا والسودان وإيران.

[5] في الدورة السادسة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بتاريخ 18 سبتمبر 1991، دعا الرئيس الأمريكي بوش إلى إلغاء قرار الجمعية العامة الرقم 3379، الذي صدر في 10 نوفمبر 1975، باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتميز العنصري. ومن المعروف أن هذا القرار صدر بعد سلسلة من الإدانة المتتالية للصهيونية التي تبلورت ـ قبل صدور هذا القرار في قرارين آخرين أهمهما القرار الذي صدر في 20 نوفمبر 1963 الذي يؤكد أن أي مذهب يقوم على التفرقة العنصرية، يعد مذهب خاطئ علمياً والقرار الصادر في 1973، الذي أدان بشدة التحالف بين العنصرية في جنوب أفريقيا والصهيونية في إسرائيل.