إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / النتائج السياسية والاقتصادية لحرب تحرير الكويت





إجمالي الإنفاق والإيرادات في البحرين
إجمالي الإنفاق في الكويت
إجمالي الإنفاق في سلطنة عُمان
إجمالي الناتج المحلي لقطر
مخطط الموازنة السنوية للسعودية
الإنفاق مقارنة بالناتج في الإمارات
الناتج المحلي والإنفاق في السعودية




الفصل الحادي والثلاثون

المبحث الرابع

النتائج الاقتصادية لحرب تحرير الكويت على الصعيد الدولي

    هبط معدل نمو الاقتصاد الدولي، عام 1991، إلى أدنى معدلاته، منذ الكساد، الذي ساد العالم، في أوائل الثمانينيات. ولئن توقعت السلطات الاقتصادية، في الدول الصناعية الغربية، انتهاء الكساد خلال العام نفسه، فإن النمو الاقتصادي، ظل محدوداً، ولم يتجاوز 1%، على المستوى العالمي. وكان الهبوط الحاد في أسعار الأسهم؛ واستمرار تدهور الدولار في السوق الأمريكية، في الأسبوع الثالث من نوفمبر، واستشراؤه في أسواق العالم الرئيسية الأخرى ـ دليلاً قوياً على ضعف النمو الاقتصادي، وإمكانية انتكاسه، لدى مواجهة أي صعوبات مفاجئة.

   وشهدت الفترة، التي تلت الحرب، اضطراباً عاماً في النظام الاقتصادي العالمي، ناجماً عن تفكك الاتحاد السوفيتي وانهياره، ولجوء كل جمهورية من الجمهوريات الخمس عشرة، التي كانت تكوّنه، إلى انتهاج طريق خاص لها في إدارة اقتصادها. فكل جمهورية تريد السيطرة على مواردها الطبيعية. وكل جمهورية تريد إنشاء مصرف مركزي يشرف على إصدار عملتها وسياساتها النقدية. وكل جمهورية تريد أن تَتَّجِر مع العالم، بالطريقة التي تلائمها، وتستدين مباشرة من الخارج، وتكون لها سياستها المالية والنقدية المستقلة، لإعادة بناء نفسها من جديد.

   وأدى ذلك الاضطراب إلى تغيّر أولويات الدول الصناعية الغربية، الرئيسية، ومؤسسات التمويل الدولية. وأصبحت سلامة ما كان يعرف سابقاً بالاتحاد السوفيتي، هي الضرورة الأولية، التي تتقدم جهود حل أزمة ديون العالم الثالث، أو إصلاح النظام التجاري العالمي، أو تأمين البيئة.

   كما شهدت الفترة نفسها تحوّلاً ملموساً في اتجاهات تقديم المعونات الاقتصادية إلى دول العالم الثالث، من طريق رهن تلك المساعدات باحترام حقوق الإنسان، والتزام إجراءات الإصلاح الديموقراطي. ولذلك، انخفضت المساعدات الاقتصادية لعدد من الدول، مثل هاييتي وكينيا وبورما، التي كانت تحصل عليها، لإغرائها باحترام حقوق الإنسان.

   وأدت تطورات الاقتصاد العالمي خلال الفترة عينها، كذلك، إلى تحوّل الدول العربية النفطية، الغنية، إلى دول مقترضة في أسواق المال العالمية، في الوقت الذي انخفضت فيه موارد التمويل الدولية، القابلة للانتقال إلى العالم الثالث، نتيجة لكساد الاقتصاد، الذي أدى إلى تخفيض الإنفاق الداخلي، وتقليص الموارد القابلة للتصدير. كذلك، كانت إحدى الأمارات المهمة، بالنسبة إلى العالم العربي، هو توجيه ضربة إلى إحدى أجهزة التمويل العالمية، التي نجحت في إنشائها إحدى الدول الخليجية (الإمارات العربية المتحدة)، متمثلة في مصرف الاعتماد والتجارة الدولي، الذي أغلق في أوائل يوليه 1991.

    حظي الجانب الاقتصادي لأزمة الخليج، بتغطية واسعة النطاق، من جانب الصحافة، العربية والدولية. وطَغَي على هذه التغطية المتابعات، الصحفية والتقديرية، للدوافع الاقتصادية للحرب، والانعكاسات المباشرة على أسواق النفط والمال؛ وما يتصل بتمويل الحرب من نفقات وأعباء، والتوقعات المتضاربة، حول كفاية العقوبات الاقتصادية، وحدها، كطريق لإنهاء الغزو، بالمقارنة مع اختيار الحرب؛ وغير ذلك من قضايا ذات اتصال مباشر بتداعيات الغزو والحرب.

   غير أن المعالجة، الأكاديمية والمنهجية، للبُعد الاقتصادي من النتائج الدولية للحرب، لا بدّ أن تقف عند ظاهرتَين:

1.  الفارق بين المعالجة العالمية ونظيرتها العربية، في ما يتصل بتقديم أهمية البُعد الاقتصادي، في تداعيات الأزمة والحرب.

2.  طغيان منظور الأمد القصير، في المعالجة، سواء كانت من المنظور الصحفي أو الأكاديمي الدولي، للجوانب الاقتصادية من أزمة الخليج.

    فمن الملاحظ، مثلاً، أن الصحافة العالمية، قد اهتمت بالبُعد الاقتصادي للأزمة؛ ولكنها مالت إلى النظر إليه كأحد الأبعاد، وليس البُعد الوحيد، بل ليس الأهم في تقدير دوافع الأزمة ونتائجها. في حين مالت الأدبيات الصحفية العربية، إلى المبالغة في إسهام هذا البُعد في توليد الأزمة وعواقبها؛ فلم تَرَ في حرب تحرير الكويت إلا حلقة في الصراع حول النفط، بالتحديد.

   غير أن المثير في الأزمة، أن الغزو العراقي للكويت، وحرب تحريرها، أديا إلى مؤثرات هائلة في أسواق النفط والمال، خلال فترة إدارة الأزمة، أي خمسة أو ستة أشهر فقط؛ حتى بدا، في إطار شكلي على الأقل، أن حرب تحرير الكويت، لم تفضِ إلى تغيير كبير في المسار المتوقع لسوق النفط، على المدى الأطول.

   ومن الطبيعي، أن تؤثر أي حرب كبيرة، إقليمية أو دولية، في سوق السلع، خاصة النفط. فكان أن ارتفع سعر برميل النفط من 18 دولاراً، قبَيل الأزمة، إلى نحو 40 دولاراً، في أكتوبر 1990، أي بعد نحو شهرَين من الغزو العراقي للكويت.

   واللافت أن إدارة الأزمة، نجحت في تخفيض سريع للأسعار، بعد ذلك. ولم يدم ارتفاعها سوى ساعات قليلة، بعد انفجار حرب تحرير الكويت، في 17 يناير 1991، ليسجل نحو 30 دولاراً، ثم ينخفض من جديد، ليواصل مساره العادي.

    والملاحظ أن حِدّة التذبذبات في أسواق المال، ذات الحساسية الشديدة للحرب، كانت منخفضة جداً، حتى إن بورصة الأوراق المالية، في نيويورك، حققت ثاني أعلى مكسب لها في التاريخ، في اليوم التالي لحرب تحرير الكويت.

   أما نفقات الحرب، فإنها راوحت بين 80 و100 مليار دولار، توزعتها، بتفاوت، الدول المشاركة في التحالف الدولي، المناهض للعراق.

    وتناولت الأدبيات الأمريكية، بقدر من الحسرة، ما يقال عن تحقيق الولايات المتحدة الأمريكية ربحاً صافياً من الحرب، يقدر بنحو 10 مليارات دولار، هو صافي الفارق بين تقدير النفقات 40 ـ 45 مليار دولار)، وصافي إسهامات الدول الأخرى في تمويل الجهد الحربي الأمريكي في الخليج (المقدر بنحو 53.5 مليار دولار). وهو ما يلفت إلى تحوّل الولايات المتحدة الأمريكية، للمرة الأولى، إلى الارتزاق من حرب خارجية.

    وفي صدد الأعباء المباشرة للأزمة، يُشار إلى أن أبرز الدول، التي لم يمكن تعويضها من أعباء الأزمة، هي من بلدان دول العالم الثالث وأوروبا الشرقية، والتي نشأت خسائرها، أساساً، عن ارتفاع أسعار النفط، في سياق نصف العام، الفاصل بين الغزو والحرب.

   ولقد ناقشت المصادر الدولية مسألتَين مهمتَين، بالنسبة إلى الاقتصاد الدولي، أثارتهما أزمة الخليج؛ وهما أثرها في تعميق الانكماش السائد في الاقتصاد العالمي، خلال عام 1991؛ وكون حرب تحرير الكويت حلقة أولى من سلسلة متوقعة من حروب الموارد. وانتهت الدراسات إلى نفي هذَين الجانبَين؛ فالأدلة المتاحة، لا تشير إلى دور ملموس لأزمة الخليج في توليد الميول الانكماشية أو تعميقها، في الاقتصاد الدولي، خلال دورة الهبوط، التي بدأت في نهاية الثمانينيات. كما أن فائض العرض في معظم السلع، يبعِد حرب تحرير الكويت عن أن تكون مقدمة لما يسمى بحروب الموارد.

    وفي المقابل، فإن ميل الصحافة العربية إلى الغلو في تسييس القضايا الاقتصادية، قد يكون هو ما حملها على النظر إلى أزمة الخليج، كمقدمة لصراعات إقليمية، في شأن الموارد؛ حتى إنها أذاعت بمصطلح "حرب المياه" في الشرق الأوسط، وربما في العالم، بعد نهاية حرب النفط في الخليج.

    ولا شك أن "هيكل الاقتصاد العالمي" قد تأثر بظواهر، سيكون أثرها طويل الأمد.

الظاهرة الأولى

    وهي تتعلق بالمضامين الاقتصادية للنتائج الإستراتيجية للأزمة. ويلفت فيها عاملان مهمان.

1.  أولهما يتصل بنشوء موجة عالية من التسلح، في منطقة الخليج، بعد الغزو العراقي للكويت، استمرت بعد الحرب، وقد يطول استمرارها. وأدت إلى ازدياد متفاقم لحاجة دول الخليج إلى المال؛ ولن يمكن إشباعها، إلا بالمحافظة على مستوى مرتفع من كميات النفط المصدرة، بما يحد كثيراً من مرونة العرض، في الوقت الذي اتسم فيه الطلب بقدر كبير من المرونة. هكذا، أصبحت منظمة الأوبيك، تواجه مشكلات كبيرة في ضبط التنافس في حصص التصدير، مما يؤدي إلى ميل أسعار النفط إلى الهبوط، أو على الأقل الركود، ويعتبر هذا التطور معاكساً للتوقيت السائد والتي كانت تؤكد اتجاه مسار أسعار النفط للصعود التدريجي من جديد بدءاً من منتصف التسعينيات؛ لأسباب تتصل بقرب نفاذ احتياطي المصدرين الكبار خارج الأوبيك، وخارج منظمة مجلس التعاون عموماً.

2. وثانيتهما يتعلق بتلاؤم القوى الاقتصادية بين الدول الكبرى. فعلى الرغم من إسهام الدول العربية الكبرى، مالياً وعسكرياً، في التحالف الدولي المناهض للغزو العراقي للكويت، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، خرجت من حرب تحرير الكويت بمكاسب شتى، خاصة في منطقة الخليج نفسها، إذ مالت دوله، في مجال التعاون الاقتصادي الدولي، إلى التمييز، سياسياً، في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، التي استأثرت بغالبية العقود، ذات القيمة الكبيرة، في مشروعات إعادة أعمار الكويت. كذلك، فازت بعقد، يجدّد، بموجبه، أسطول شركة الطيران السعودية، وتقدَّر قيمته بنحو 6 مليارات دولار. ولا شك أن تعزيز الدور الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية في الخليج، لا يكفي لوقف هبوط مكانتها الاقتصادية؛ إلا أنه يُسهم إسهاماً بارزاً في تخفيض معدلات الهبوط، وينعش الاقتصاد الأمريكي.

الظاهرة الثانية

    وهي تتمثل في تعدد الجوانب الاقتصادية، للنتائج السياسية العالمية، لحرب تحرير الكويت. ومن أبرزها حسبان هزيمة العراق نوعاً من الهزيمة السياسية لحركات العالم الثالث؛ ككل، وضعف الموقف التفاوضي لحركات ذلك العالم ومنظماته، في قضايا الشمال والجنوب المعلقة مثل قضية المديونية، ونفقات صيانة البيئة العالمية وإنعاشها والتي تسبب التنازع في توزيعها بفشل مؤتمر "ريودي جانيرو"، عام 1991. وليس تمكّن الإدارة الأمريكية، خلال أزمة الخليج، من نقْل جزء كبير من النفقات غير المباشرة للأزمة، إلى طائفة كبيرة من دول العالم الثالث، وعدم تعويضها من هذا العبء ـ إلا مظهراً من مظاهر التحول الهيكلي، في الموازين السياسية لعلاقات الشمال والجنوب.

الظاهرة الثالثة

    وهي تختص بعلاقات العرب ودورهم في الاقتصاد العالمي. إذ كثرت المؤشرات إلى انهيار مكانة العرب الدولية، عقب الغزو العراقي، قد مثل إشارة والبدء باقصائهم عن الاقتصاد العالمي، وقطاعه المالي خاصة.

    ففي أعقاب حرب تحرير الكويت، بدأت سلسلة من الضغوط والمواقف الأوروبية السلبية، ضد مؤسسات العرب، المالية والاقتصادية، في أوروبا الغربية. ومصداق ذلك فضيحة مصرف الاعتماد والتجارة، التي تضمنت موقفاً سياسياً، فضلاً عن جوانبها المالية والمحاسبية. كما أن قرارات لجنة "بال"، في خصوص ضوابط الأداء المصرفي، تكاد تكون إعلاناً بنهاية مسألة التدوير للفوائض النفطية، التي استأثرت بالاهتمام، الأوروبي والأمريكي، لأكثر من عقد من الزمان؛ إذ تؤدي تلك القرارات، بالضرورة، إلى القضاء على عدد كبير من المؤسسات المالية العربية، في أوروبا، والإساءة إلى الجدارة الائتمانية لعدد من الدول العربية، بين مؤسسات الائتمان الدولية.

أولاً: تراجع النمو الاقتصادي العالمي

    لا يمكن القول إن حرب تحرير الكويت، كانت السبب الرئيسي لتراجع النمو الاقتصادي العالمي؛ إذ تظاهرت عليه عوامل عديدة. وليس أدل على ذلك من تفاوت معدلات النمو بين منطقة وأخرى، بل إن تفاوتها بين دولة وأخرى، في المنطقة الواحدة، كما أن عام 1991، طاوله الكساد، الذي كان قد بدأ في النصف الثاني من عام 1989، ولم تنجُ منه دول معروفة بقدرتها الفائقة على مقاومة صعوبات النمو، مثل اليابان. كما كان لتفكك الاتحاد السوفيتي تأثيره الشديد في معدلات النمو العالمية، الناجم عمّا أحدثه من خلل، ولو لفترة محدودة، في التوازن الاقتصادي العالمي.

    وبحسب تقديرات خبراء صندوق النقد الدولي، عام 1991، فإن معدل نمو الاقتصاد العالمي، في الفترة التي تلت الحرب (1991 ـ 1992)، بلغ أضعف متوسط له منذ عام 1982؛ إذ لم تتجاوز نسبته 1%.

    أما في دول منطقة الشرق الأوسط، ونتيجة للدمار الناشئ عن حرب تحرير الكويت، وعلى الرغم من بدء عمليات الإعمار وإعادة البناء، خلال عام 1991 ـ فإن معدل النمو الإجمالي، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، قد تناقص عن نسبة 0.7%، التي حققها عام 1990، وتباعد عن نسبة 4.6%، التي حققها عام 1989.

    وإزاء تقلّب أسعار الصرف، وتراجع أسعار النفط، فإن الميزان التجاري، الذي حقق فائضاً، قدره 10 مليارات دولار، عام 1990 ـ مُنِىَ بعجز صافٍ، عام 1991، قيمته 43 مليار دولار. وترافق ذلك ارتفاع معدلات التضخم في دول المنطقة، من 13%، في المتوسط، عام 1990، إلى 15.5%، عام 1991.

    ومع ذلك، تفاقمت معدلات الأداء الاقتصادي، في منطقة الشرق الأوسط، فاستمر قوياً في المملكة العربية السعودية، بينما عانت ضعفه دول أخرى، مثل مصر والأردن واليمن.

    طاول عام 1991 الكسادُ، الذي كان قد بدأ في النصف الثاني من عام 1989، في كلٍّ من دول أمريكا الشمالية وبريطانيا. وشمل أجزاء من العالم، عُرفت بقدرتها على مقاومة صعوبات النمو. وقد أسفر الكساد الاقتصادي، في الدول الصناعية الغربية، عن ارتفاع حادّ في مُعدل البطالة، في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بلغ 7.1% من إجمالي القوى العاملة، مقابل 6.2%، هي نسبته عام 1990. وكانت نسبة ارتفاع معدل البطالة، وفق تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ـ بين عامَي 1990 و1991 ـ في الولايات المتحدة الأمريكية، من 5.4 إلى 6.9%، وفي بريطانيا من 6.9 إلى 9.4%، وفي دول جنوبي أوروبا، مثل أسبانيا واليونان، من 11.3 إلى 11.7%.

    ولم يقتصر تأثير الكساد على العمال، وإنما امتد إلى رؤوس الأموال ورجال الأعمال. واطَّرد الإفلاس التجاري، في الدول الصناعية المتقدمة، فارتفعت نسبته، في بريطانيا، إلى أرقام قياسية، لم تعرفها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وسجلت الإفلاسات التجارية ارتفاعات، في اليابان، بلغت 60%، مقارنة بما كانت عليه عام 1990.

    وترك الكساد صورة اجتماعية كئيبة، بخاصة في دول أمريكا الشمالية وبريطانيا، حيث أدى عجز أرباب الأُسَر عن دفع أقساط المساكن، التي يقيمون بها إلى طردهم منها.

    وإذا كان الكساد قاسياً، على الصعيد الاجتماعي، بالنسبة إلى أصحاب الأعمال والعمال على السواء ـ فإنه كان قاسياً، كذلك، على صعيد عملية صنع السياسة الاقتصادية، وفي مجالات السياسة المالية خاصة. إذ يؤدي انخفاض الأرباح، وازدياد حالات الإفلاس، يعني من الناحية العملية هبوط دخْل الحكومة من الضرائب المفروضة على الأعمال. كذلك، يؤدي تزايد البطالة، الناجمة عن انخفاض النشاط الاقتصادي، إلى تزايد الانفاق الحكومي على خدمات الرعاية الاجتماعية وتعويضات البطالة.

    وقد أحبط ذلك محاولات الولايات المتحدة الأمريكية تخفيض عجزها المالي الداخلي. وفي بريطانيا، حيث نعمت ميزانيتها العامة بفائض ملموس، خلال السنوات الأخيرة، ناجم عن عمليات بيع الصناعات المملوكة للدولة ـ تسرب العجز في خزينتها، حتى إن الحكومة استقرضت الجهاز المصرفي، من أجْل تمويل برامج الاستثمار والخدمات، نظراً إلى انخفاض الإيرادات المحصلة، عام 1991.

    ومن أجْل مكافحة الكساد، عملت الدول الصناعية الغربية، على استخدام أدوات السياسة، المالية والنقدية، معاً، بغرض تنشيط الطلب الداخلي وتشجيع الاستثمار. وواصلت جهودها، من أجْل فتح الأسواق أمام صادراتها، سواء في أمريكا الشمالية وغربي أوروبا وجنوبي شرقي آسيا.

    ومن أبرز ملامح السياسات النقدية، المنتهجة خلال الفترة التي تلت الحرب، تخفيض أسعار الفائدة على الودائع قصيرة الأجل؛ في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 5.5%، على الدولار الأمريكي. وفي بريطانيا 10.5%، على الجنية الإسترليني[1]. ومع ذلك، فإن الطلب الاستهلاكي، ظلّ بعيداً عن القوة المطلوبة لإعادة الثقة إلى المنتجين، وحفزهم على زيادة الإنتاج.

    وكانت الإصلاحات الضريبية، هي حافز رجال الأعمال على الاستثمار، في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة. وقد وجهت المؤسسات المصرفية العالمية الكبرى، انتقاداتها إلى السلطات النقدية في الدول الصناعية، لمسؤوليتها عن انخفاض معدلات الادّخار، العام والخاص، وانخفاض مستوى الاستثمارات العامة، الأمر الذي كاد يُهدد إمكانات استقرار الاقتصاد العالمي، ويؤثر في قدرة الدول الغربية على توفير الموارد، المطلوبة لتمويل التنمية، في دول شرقي أوروبا.

ثانياً: تزايد نمو الناتج العالمي بعد عام من الحرب

    استطاع الاقتصاد العالمي، أن يحقق نمواً متواضعاً، في الفترة التي تلت الحرب، قدرت نسبته بنحو 1%؛ وإن كانت أقل نسب نموه، على مدار العقدَين الأخيرَين. لكن هذا النمو ظل أسيراً للمشاكل والعقبات الهيكلية المعوقة. فقد استمر العجز الهيكلي، في الميزانية الأمريكية. واضطرت ألمانيا إلى اتّباع سياسة نقدية متشددة، تسهيلاً لتمويل الاندماج الاقتصادي بين شطريها؛ وقد دفعت الدول الأوروبية ثمن تلك السياسة. واستمر، كذلك، عدم التوازن المالي، واضطراب أسعار العملات وأسعار الفائدة. وكل أولئك يعرقل إمكانات انطلاق الاقتصاد العالمي إلى آفاق نمو أرحب.

    وعلى الرغم من ذلك، استطاعت الدول الغربية التغلب على عدد من العقبات المعوقة، فحققت معدلات تضخم وأسعار فائدة، لم تتأتَّ لها منذ الستينيات. وتمكنت من تخفيض أسعار الأصول العقارية، في عدد من الدول، ولا سيما بريطانيا، إلى المستويات التي كانت عليها في أوائل الثمانينيات، في إطار السعي لتخفيض الضغوط التضخمية في هيكل الاقتصاد.

    وواكب النمو الاقتصادي ازدياد النزاعات التجارية، بين الكتل النقدية العالمية الثلاث (الدولار والمارك والين)، الذي حال دون التصديق النهائي على جولة أورجواي، لتحرير تجارة السلع الزراعية والخدمات؛ وأثار، كذلك، خطر نشوب حروب تجارية على جانبَي كلٍّ من المحيطين، الأطلسي والباسيفيكي، من خلال فرض إجراءات تجارية انتقامية، بخاصة بين الأطراف الثلاثة الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والمجموعة الأوروبية.

ثالثاً: طبيعة تزايد نمو الناتج العالمي، في بعض الدول، بعد الحرب

1. الولايات المتحدة الأمريكية

    استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحرب، الخروج من دائرة الكساد العالمي. وأدى الاقتصاد الأمريكي دوراً مهماً، في بدء خروج الاقتصاد العالمي من تلك الدائرة. واستطاع أن يحقق نمواً، بنسبة تقارب ضعف معدل النمو العالمي (أي بنسبة 2%)، مستفيداً من ازدياد الطلب، الداخلي والخارجي، في آن واحد؛ ومقرراً إنخفاض أسعار الدولار وأسعار الفائدة. وكان لانخفاض أسعار الدولار الأمريكي، تأثير قوي في الصادرات الأمريكية، التي واصلت ارتفاعها، بقوة، مستفيدة من ميزات المنافسة السعرية. أما انخفاض أسعار الفائدة الأمريكية، فقد شجع الطلب الاستهلاكي والاستثمار في المجالات العقارية. وعلى الرغم من استمرار سياسات النمو الداخلي، والتوسع في الصادرات، إلا أن الاقتصاد الأمريكي ظل يواجه مشكلة عجز الميزانية، البالغ 6.25%، خلال عامَي 1991 و1992.

2. اليابان

    على الرغم من استمرار فائض اليابان التجاري، فإن نموها الاقتصادي، تراجع من 4.4%، عام 1991، إلى ما يقرب من 2%، عام 1992، وسط ركود، في قطاعات الإنتاج المحلي والعقارات، أدى إلى ارتفاع معدل البطالة في صفوف القوة العاملة، ومعدل الإفلاس، التجاري والصناعي، وانخفاض أرباح الشركات، بل خسارة بعضها، الناجمة عن تراجع الطلب، الداخلي والخارجي. واضطر تدهور الأوضاع الاقتصادية، الحكومة اليابانية إلى اتخاذ سياسات اقتصادية جديدة، من خلال تخفيض الأسعار، مرات متتالية، وزيادة مخصصات البرامج الحكومية للإنفاق العام، في مجالات الاستثمار والاستهلاك، لتعويض الانخفاض في الطلب، الداخلي والخارجي.

3. المجموعة الأوروبية

    تمكنت المجموعة الأوروبية من زيادة معدل نموها الاقتصادي، من 0.8%، عام 1991، إلى حوالي 1.4%، عام 1992. وعلى العكس من الولايات المتحدة الأمريكية، التي اعتمدت سياسة أسعار الفائدة المنخفضة، لتشجيع الطلب المحلي، فإن دول المجموعة الأوروبية، اضطرت، خلال عام 1992، إلى المحافظة على سياسة أسعار فائدة مرتفعة؛ وذلك لسببَين:

أ. المضي في سياسة مكافحة التضخم.

ب. المحافظة على نوع من التناسق في أسعار الفائدة، داخل النظام النقدي الأوروبي، الواقع تحت سيطرة المارك الألماني، والسياسة النقدية للمصرف المركزي الألماني.

    وقد راوحت مؤشرات النمو في أوروبا، بين التقدم والتراجع، خلال عام 1992. ففي الربع الأول منه، ظهر بعض أعراض القوة على اقتصاديات دول المجموعة الأوروبية؛ ولكنها ما لبثت أن تبخرت، تاركة معظم دول المجموعة في حالة أسوأ. وشَهِدَ سبتمبر 1992 أزمة عنيفة، هزت نظام أسعار الصرف الأوروبي، وأدت إلى انسحاب بريطانيا وإيطاليا منه، لعدم قدرتهما على الدفاع عن قيمة الإسترليني والليرة، على التوالي، وعجز اقتصاديهما عن تحمّل سياسة أسعار الفائدة المرتفعة، التي كانت أكثر ملاءمة لحاجة ألمانيا، منها لحاجات سائر دول المجموعة.

4. الدول الاشتراكية (سابقاً)

    استمرت اقتصاديات دول وسط أوروبا وشرقيها، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، تعاني مشاكل التحول الاقتصادي، من النظام المركزي إلى اقتصاد السوق والمنافسة الحرة، التي أدت إلى تراجع الإنتاج في تلك الدول. وطبقاً لحسابات صندوق النقد الدولي، فإن الانخفاض في إجمالي الناتج المحلي في كلٍّ منها، خلال عامَي 1991 و1992، راوح بين 16.8 و18.2%. وأسفر عن سلسلة من المشاكل المتتالية، أدت إلى انخفاض القدرة على تغطية الحاجات المحلية، والعجز عن الوفاء بطلبات التصدير. كما عجزت تلك الدول، باستثناء بولندا والمجر، عن زيادة صادراتها، واستخدام حصيلة التصدير في زيادة معدلات الاستثمار أو الاستيراد من الخارج.

5. الصين الشعبية

    حققت جمهورية الصين الشعبية، إنجازات اقتصادية ضخمة، جعلتها إحدى النقاط الرئيسية لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر. وأتاحت لها معدلاً من أسرع معدلات النمو العالمية، في التجارة الخارجية.

    وطبقت الصين الشعبية سياسة الانفتاح الاقتصادي على العالم الخارجي، وسياسة تحرير الاقتصاد المحلي، جنباً إلى جنب مع استمرار النظام السياسي المركزي. وبعد سنوات من فرض خطة تقشف صادقة، ازداد إجمالي الناتج المحلي في الصين بنسبة 7%، عام 1991، ثم بنسبة 10%، عام 1992. وقدِّرت قيمة صادرات الصين الشعبية، عام 1991، بنحو 72 مليار دولار أمريكي، أي أكثر من 20% من إجمالي الناتج المحلي، الذي قدِّر، في العام نفسه، بنحو 350 مليار دولار. كما حققت الصين فائضاً متزايداً، في التجارة الخارجية، فاق 10 مليارات دولار، عام 1992، مقارنة بـ 8 مليارات دولار، عام 1991.

6. الدول النامية

    أشارت تقديرات صندوق النقد الدولي. إلى تباين شديد في معدلات النمو. بين الدول الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية ودول الشرق الأوسط وآسيا.

    ففي الدول النامية عامة، وصل معدل النمو الاقتصادي، عام 1991، إلى 3.2%، مقابل 3.6%، عام 1990. ثم ارتفع، بعد مضي أكثر من عام على الحرب، ليصل إلى متوسط 6.25%، عام 1992. وقد أدى هذا الارتفاع إلى ازدياد عمليات البناء والإعمار، في منطقة الخليج.

    أما الدول الآسيوية، فلم تتأثر كثيراً بالحرب، بسبب ازدياد حجم صادراتها، وتدفق رؤوس الأموال إليها من الخارج. فتوالى ارتفاع معدل نموها من 5.5% عام 1990، إلى 5.7% عام 1991 ثم 6.9% عام 1992.

    وفي الدول الأفريقية، شهد معدل نموها، على الرغم من انخفاضه، تزايداً، عام 1992، وصل إلى 1.9%، مقابل 1.5% فقط، عام 1991.

    أما دول أمريكا اللاتينية، فلم يتأثر معدل نموها كثيراً. فراوح، بعد الحرب، بين 2.8 و2.9%، وهو المعدل نفسه، الذي عرفه نموها قبْل الحرب.

    وقد تمتعت الدول النامية، بعد الحرب، بظروف مواتية نسبياً، على الصعيدَين، الداخلي والخارجي. إذ أسهمت ترتيبات تخفيض الديون أو إعادة جدولتها، في تقليل عبء المدفوعات الخارجية على الاستثمار. كذلك، ساعدت برامج الإصلاح الاقتصادي المحلي على توفير ظروف أفضل للمنتجين، في القطاع الزراعي خاصة.




[1] هبط متوسط أسعار الفائدة على الدولار بين المصارف في سوق لندن للأوراق المالية على مدار عام 1991، إلى 6.6% مقابل 8.4% في عام 1990، و 9.3% في عام 1989.

[2] يتكون هيكل الاقتصاد الدولي من مجموعة من التنظيمات والترتيبات المستديمة التي تقوم بتقرير السياسات الاقتصادية على المستوى العالمي. وتتنوع هذه التنظيمات بين الأشكال والمؤسسات الحكومة متعددة الأطراف، والأشكال والمؤسسات الخاصة في مجالات التجارة والتمويل والاستثمار والتعاون من أجل التنمية وغيرها. وهناك التنظيمات ذات الطابع العالمي، مثل: تلك المتفرعة عن الأمم المتحدة. وهناك لتنظيمات الحكومية متعددة الأطراف، مثل: منظمات التعاون الإقليمية. وهناك التنظيمات الحكومية متعددة الأطراف ذات الطابع النوعي، مثل: اتحادات مصدري المواد الأولية، وقد تكون هذه التنظيمات تابعة لأصحاب الصناعات او المصدرين لسلعة معينة. وهناك التجمعات الكبرى ذات الطابع الدولي، مثل: مجموعة الدول الصناعية السبع الرئيسية أو مجموعة الـ 77 التي تمثل الدول النامية.

[3] نيكولاس برادي، هو وزير الخزانة الأمريكية، وتتضمن مبادرته الاتجاه نحو تخفيض أعباء الديون على الدول متوسطة الدخل عن طريق شطب جزء من هذه الديون، وتحويل جزء آخر إلى سندات تُسدد على آجال طويلة، وإعادة جدولة أو تخفيض أسعار الفائدة على هذه الديون.

[4] أنتجت المملكة العربية السعودية وحدها، بعد حرب تحرير الكويت، نحو 8.3 مليون برميل يومياً، مقابل 5.5 مليون برميل يومياً، قبل انفجار أزمة الخليج، وهو ما أدى إلى زيادة نصيب المملكة من إجمالي إنتاج الدول الأعضاء إلى نحو 30% مقابل أقل من 25% قبل الأزمة، حيث بلغ متوسط إنتاج الأوبيك نحو 23.27 مليون برميل يومياً، خلال عام 1991، وزاد إلى متوسط قدره  24.37 خلال عام 1992.

[5] الاتجاه الجديد في إستراتيجية الوكالة الدولية للطاقة IEA.