إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / بوادر الأزمة العراقية ـ الكويتية وتطورها (1988 ـ 1990)




أمير الكويت، وصدام حسين
الملك فهد، والرئيس صدام
الرئيس صدام، والملك فهد





وثيقة

وثيقة

كلمة الرئيس العراقي، صدام حسين

في الجلسة الافتتاحية للقمة العربية الاستثنائية

التي بدأت أعمالها، في بغداد

يوم الإثنين، 28 مايو 1990

 أيها الإخوة.

    إننا نلتقي، هنا، في بغدادكم، لنعمل معاً إلى ما يهدينا إليه الله، بأنه خير، تحت عنوان أساسي، وضِعَ للمؤتمر، هو الأمن القومي، والتهديدات التي يتعرض لها، وكيفية مواجهتها؛ وعناوين أخرى ذات صلة.

    وكل مؤتمر، ينعقد فيه جميع العرب، على مستوى قادته، ينشدّ أبناء العروبة، في كل مكان، بحس مرهف، إلى معرفة ما يصدر عنه، بعد أن يكبر فيهم الأمل، والدعاء إلى الله، بأن يستجيب القادة إلى ما يتمنون. غير أن مؤتمرهم هذا، له ظرف خاص، وأرجحية مميزة على غيره.

    وطبقاً لظرفه، الذي أفرز عنوانه الأساسي، فإن تطلع أبناء الأمة العربية إلى مؤتمركم، الذي ينعقد اليوم، واهتمام العالم به، هما حالة خاصة، أيضاً، قد لا يماثلها أو يقترب منها، إلاّ القليل من مؤتمرات القمة، التي عُقدت من قبْل.

    لأننا نؤمن، كما تنص القوانين الأساسية في بلداننا، بأهمية الشعب، وأنه مصدر السلطات، فالواجب الدستوري، إلى جانب الواجب القومي، يقتضيان أن نحرص، جميعاً، على أن تكون موضوعات هذه القمة، ومستوى قراراتها، ومستوى تصرفنا وتفكيرنا ـ متصلة اتصالاً حياً بما نعرفه أو نتحسسه، من اتجاهات الرأي العالم، في المجتمع العربي. وبذلك، نضيف حسنة تقدير خاصة منّا لشعوبنا، إلى جانب سجل كل منّا، وما لديه من حسنات، في تأدية مسؤولياته تجاه شعبه.

    ورغم أن عنوان المؤتمر، والأحداث المتصلة به، وتوقيت انعقاده، قد تنبئ بأن الحال محض حال ظرفي، أو أنه مرتبط بزمن الحاضر فحسب.

    إلا أننا نرى، بأن إرساء أُسُس متينة لمفاهيم هذه العناوين، والتدابير المطبقة لها، إنما يمتد إلى المستقبل، عندما نفتح بتكاتف أخوي رصين، في ذلك المستقبل، حزمة ضوء، لا تنطفئ ـ بعون الله ـ تهدي ركب الأمة إلى ما يهتدي إليه، من تطلع وعمل، في أجواء، تبتعد فيها النكسات، وتزاح فيها عن الدرب الحفر المظلمة، بعد أن ينزع العرب، مجتمعين أنياب الذئاب الكاسرة، التي تنطلق عليهم، لتعطل حركتهم إلى أمام، ولتنهش وليد أملهم لحاضر مسور بالعز، ومستقبل أفضل، يجدد الدور الإنساني لأمتهم، المتطلعة، دوماً، لتحقيق كامل أهدافها، القومية والإنسانية.

    قد لا يعرف كل المواطنين العرب، أيها الإخوة، معاني العناوين، التي صيغت بمفاهيم سياسة العصر، لتكون جدولاً لأعمال المؤتمر. وقد لا يعرف بعضهم، مثلما نعرف نحن ـ المجتمعين ـ هنا، المعاني التفصيلية الشمولية للأمن القومي، ومستلزمات صيانته، والتعبير عنه بصورة مطمئنة وفعالة. ولكنهم يعرفون، بالاتجاه العام، وبالحس التاريخي، الجواب الصحيح على كيف يصبح العرب في حال أفضل؟ هم يعرفون، أن من بين الحال، الذي يرونه أنه الأفضل لنا، كعرب، هو تجنّب الطمع والضغائن، والدسائس والإيذاء، والتضامن الصميم، في السراء والضراء، فيما بيننا. وأن نكون، تجاه العدوان، صفاً. وأن تكون إمكاناتنا حالة واحدة، بالاتجاه العام، حيثما اقتضت الضرورة، إنْ لم تكن بالتفاصيل التفصيلية. وأن يقترن القول بالفعل، لمعنى أننا أمة واحدة، وإنْ طرزت ساحتها إحدى وعشرون دولة؛ وأن نكون تجاه من يجانب مفاهيم الأمن القومي، من بين صفوفنا، صفاً، بالضد من نزواته وسياساته. وأن تكون مواقفنا متسمة بالشفافية، لنتفاعل معها فيما بيننا، على مستوى القادة، وليتفاعل الجمهور مع الصائب منها، ويتهيأ لمستوى العمل الواجب لها، ومستوى التضحية من أجلها. وأن يؤمن من يؤمن بالمصير الواحد لأمة العرب، بأن الأمن القومي كل لا يتجزأ. وأنه لكي يتحقق بصورته الصحيحة، ليس بالإمكان أن ينظر إليه نظرة جزئية أو تجزيئية، وأن ميدانه ليتحقق، كما ينبغي، أو كما يجب، هو ميدان الحياة كلها، لا أنفصام بين الحال، السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، عن الحال العسكري فيها، ولا انفصام بين الشعبي والرسمي، وبين المادي والمعنوي فيها.

    إننا نعرف، أيها الإخوة، مثلما تعرفون، أن أمة، تضم بين حناياها واحداً وعشرين نظامــاً، مع ما يتصل بكل نظام منها، من ظروف وإمكانات ورؤية، لا بد أن تنعكس، بقدر من التفاوت في زاوية النظر إلى أي أمر من الأمور، وإلى أي موقف من المواقف. ولكن، ولأننا أمة واحدة، فالواجب يقتضي، أن نركز على نقاط الالتقاء المشتركة، وعلى العوامل التي تجمع الأمة الواحدة، لنبني عليها.

    إن عوامل، الخصوصية والوطنية، المرتبطة بظرفها، مما هو معروف، لا تحتاج إلى أن نركز عليها، لنلفت الانتباه إلى ضرورة إدخالها في الاعتبار؛ ذلك أنها، هي بحد ذاتها، ولأنها بنت تفاصيل الحياة، مما هو معتاد في ظرفنا الراهن ـ قادرة على أن تلفت الانتباه إلى نفسها، وأن تدخل ثقلها في الاعتبار، في أي وقت، ومن غير جهد أو أنّاة.

    إننا لسنا في وحدة قومية كاملة، لنلفت الانتباه إلى أهمية إدخال الخصوصية، الوطنية أو المحلية، أو مصلحة الجماعة في أقطارها، ضمن اعتبارات الرؤية والقرار والسياسات. ولسنا بصدد دستور للوحدة، لنفعل ذلك لهذا. ولأن التذكير بالعمل القومي ومبادئه، وما يقتضي من سياسات ترتبط به، وما يستلزم من تضحية جدية ـ هو نوع من الجهاد، في بعض جوانبه، لأنه ليس حالة الاعتياد، وإنما هو حالة الارتقاء إلى مستوى جديد، من التفكير والعمل، يستدعي أن نذكر به، ولنبرز عوامل التوحيد، التي تستوجب إدخالها  في اعتبارنا، عند القرار على موقف موحد، يقتضيه العمل القومي ودواعي أمنه.

    ومن ذلك، فإن التفاوت الكبير في مستوى النمو الاقتصادي والثروة، والتطور الثقافي والتقني والعلمي، ومستوى القدرة العامة والتعبير عنها، قبولاً أو رفضاً، لأي عرض أجنبي، وطريقة التعامل مع الأطماع والسياسات، غير المشروعة للأجانب، وغير ذلك من العناصر ـ هي كلها قد تكون ثغرات في جدار الأمن القومي العربي، إذا لم نحسن التعامل معها، ومعالجة السلبي منها. ويصبح بعضها قاتلاً للوطني والقومي، من العلاقات والقدرات والرغبات، ومانعاً من أن تأخذ مداها كما ينبغي ذلك، لأن قوة الوطني وضعفه متداخلان مع القومي من الأمور، قوة وضعفاً، ولأن إحضار القومي، تذكيراً وسلوكاً، إلى جانب الوطني، يعد مهمازاً أساسياً، وغطاء عقائدياً صحيحاً للوطني، وهو مصدر التشجيع والإلهام لكل ما هو قوي ومقتدر في الوطني، ضمن أقطارنا، وهو، وليس غيره، القادر على أن يجعل أبناء الأمة، يتخلصون من ذلك الشعور والسلوك المزدوج، الذي تفرضه حقيقة أننا، فعلاً، وليس اختراعاً، أبناء أمة واحدة. وفي الوقت نفسه، نعيش الحالة الوطنية المحلية، وننغمس في تفاصيلها الضيقة، رعاية وتركيزاً، إلى الحد الذي نبدو فيه متناقضين، أحياناً، مع أي استعداد وقدرة للتوق إلى ربط الوطني بالقومي، ولنعطي الوطني، كما قلنا، القوة والاقتدار الصحيحين، لننتقل معاً، وفي كل أقطارنا، وبخطوات رصينة، وثابتة، إلى مستوى جديد من المهمة، وما يتصل بها من إمكانات وخطط وجهد.

    إن خطر الازدواج، تجاه حقيقة أننا أمة واحدة، وليس أمماً، وعدم انعكاس هذه الحقيقة في السياسات العامة وفروعها، أحياناً، من سياسة خارجية وداخلية، اقتصادية واجتماعية وثقافية وعسكرية، وغيرها ـ لا يكمن في ما يخلفه من اهتزاز وارتباك، في الجانب، الفكري والعقائدي فحسب، وإنما ينعكس على مجمل شؤون الحياة، وعلى مستوى علاقة المواطن بأمته، وعلاقة الحاكم أو القائد بشعبه.

    إن واحداً من أسباب ضعف العرب، هو ضعف الاهتمام بصياغة، أو اتخاذ موقف موحد، للشعب والقادة، بما يضمن خط التحرك واتجاهه، ليحقق الزخم، والأثر المعنوي والمادي، لإنجاز الأهداف المقررة. وهذا ما نغفل عنه، أحياناً، بما في ذلك في بلدكم، الذي أنتم فيه الآن.

    وإذا ما أريد لقرارات هذه القمة، أن تكون محققة لأي حدّ مما تأمله أمتنا فينا، وتنتظره منا، فعلينا أن نستذكر مشاعر وآراء عوائلنا، داخل بيوتنا، في الأسابيع الماضية؛ ومشاعر وآراء أصدقائنا الشخصيين، من الشعب؛ وآراء ومشاعر من التقينا بهم من أبناء الأمة، بما في ذلك الذين حضروا إلى بغداد، على مستوى المؤتمر العربي الشعبي، الذي انعقد في بغداد؛ وقرارات الاتحادات والنقابات والجمعيات، المهنية والشعبية؛ ومواقف الصحافة، على مساحة الوطني العربي، ككل. وعند ذلك، وإذا ما تفاعلنا، ونحن عازمون على هذا ـ بعون الله ـ وتعاملنا مع ما يريده أبناء الأمة تعاملاً دقيقاً، نكون قد اهتدينا إلى موقف، يتناسب مع نظرتنا المسؤولة، في الوقت الذي يتناسب مع موقفنا القومي الإنساني.

    وفي موقف كهذا فقط، يكون القادة وشعبهم باتجاه واحد. وهو شرف عظيم، لا أظن أي واحد منّا، يتنازل عنه، ليحقق هذه الأمنية، وبالتالي، يضيف قوة واقتداراً جديدين إلى الأمة العربية، بالإضافة إلى قوّتنا واقتدارنا، في أقطارنا. وعند ذلك، أيضاً، نرتقي بالنظرة إلى الأمن القومي، من الزاوية الضيقة، التي ينظر منها التقليديون في أجهزة الاختصاص، حينما يعدونه ذلك الحال الفني، الذي لا بدّ من التأكيد من دقة ترابط حلقاته، على مستوى أمن الأشخاص والمعلومات ومؤسسات الدولة، ومستوى أدائها المحلي، تحقيقاً لأهداف محلية ضيقة، وبما يمنع على الجهة المعادية اختراقه، في إطار من نظرة ضيقة إلى الأمور. أقول نرتقي إلى نظرة أخرى، تفترض أن يعالج الأمن القومي، من وجهة نظر شمولية، وطنية وقومية، مثلما هي مسؤوليتنا، كإستراتيجيين، فنجد معناه في ذلك الرضى، المستقر في صدور الشعب عن سياستنا العامة؛ وذلك التفاؤل في النظر إلى المستقبل، وشعور الثقة بالنفس؛ وذلك الحرص من الشعب المؤمن على أنظمتنا، والاستعداد للدفاع عنها، وفق ترابط، لا انفصام فيه بين النظام وسياساته وموقفه واقتداره، والوطن العربي، والأمة، ككل، واقتدارهما واستقرارهما وازدهارهما، في ظروف تاريخية بعينها، وعلى طول الخط.

    في جلسة لقاء خاصة، سألنا أحد رجالات العرب، من قطْر عربي شقيق، أو بالأحرى، تساءل أمامنا، طالباً المشاركة في الإجابة على كيف ولماذا قاتل العراقيون كل هذه المدة الطويلة، حتى انتصروا باسم العرب ـ بعد الله ـ وهُزم الظلام. وتناولنا معاً جوانب إنسانية من معارك القادسية الثانية، التي هي معركتكم جميعاً. وأمامكم، أُجيب باختصار، فأقول: يخطئ من يتصور، أن المنازلة اختصاص فني فحسب، أو أنها، في نتائجها وفي معانيها، محض صراع عسكري فحسب، عندما تقتضي دواعيه، أو عندما يضطر أي بلد في العالم لخوض غماره، أو هي صراع إمكانات مادية، تكون الغلبة فيه للأرجحية، المادية أو التقنية والفنية. إنها أبعد من ذلك بكثير، وأعمق. وإنها، من ناحية الزمن والاستحضارات، لا تنحصر بزمن بدء الصراع المسلح، لتقرر نتائجها على وفق ما يتمنى المتمنون؛ وإنما تمتد إلى أبعد من ذلك. إنها الحياة بكل فروعها، والاختصاصات بكل ميادينها، والقدرات حيثما كانت. وإنها مكمن القناعة والحق والاقتدار والإصرار، والإبداع في جوانبه، المعنوية والمادية؛ وجوهره الأساس في تجربتكم في القادسية الثانية. مما يتصل بالفعل والنتائج، هو أننا ما كنا نَعِد الشعب بشيء، إلاّ ما كنّا قد اقتنعنا به، وتحمسنا له، أولاً. وإذا ما وعدنا، نجعل الوعد مرتبطاً بشرف الكلمة وشرف الموقف، فلا نتردد أو نسوف بما نحن عازمون عليه، بعد التوكل على الله.

    وكنا ننظر إلى أي ركن أو زاوية من بلادنا، وإلى أي ركن أو زاوية من بلاد العرب، والخيرون المستعدون منهم للتضامن والتكاتف بخاصة، وإلى أي شريحة من شعبنا، على أنها طاقة وإمكانات، يمكن تحريكها إلى أمام، وإلى أعلى، حتى صار المستقبل قريباً من الحاضر، أو لصيقاً به، وأصبح الماضي عمقاً حياً للحاضر، بكل أمجاده ومعانيه. وهو يكمن، أساساً، في ذلك التواصل، العملي والروحي، بين مسؤولية الموقع وإنسانيته، وبين إنسانية المواطنة ومسؤوليتها.

    وقياساً على واحدة من تجاربكم الناجحة، في حياة العرب، في هذا العصر، فإن منازلة الظلم والاغتصاب، لا يجوز أن يُنظر إليها بمنظار فني تقليدي، ولا يجوز أن تنحصر المقارنة في القوى بيننا وبين أعدائنا، في إطار الإمكانات، مما هو متيسر فحسب؛ وإنما لا بدّ لها أن تمتد إلى ذلك الطوفان من الإمكانات، مما يخلقه الموقف الصائب تاريخاً عند الشعب والأمة، وذلك الحماس المؤمن، الذي من دونه، لن تكون فوهة أي مدفع مقتدرة على إنجاز فعل مؤثر؛ وتلك الإمكانات، التي تتصل بالملموس والمرئي، وغير الملموس والمرئي، ونظرة شاملة إلى كل مستلزمات الحياة، ونظرة متفائلة إلى المستقبل، والثقة بالنفس، في الوقت الذي نؤسس فيه على إمكانات الحاضر.

    وعند ذلك، وعندما نتوكل على الله، ونحن متوكلون عليه ـ إنْ شاء الله ـ ونعتمد على حوار معمق وأخوي، يجري في أجواء تفاعل صميمي، من أجل عطاء أفضل، من أجل خلق جو، تدخل فيه حزمة ضوء مشعة، مشجعة، إلى قلوبنا جميعاً، ونستحضر، من غير أن ننسى رأي شعب بلادنا وإلهامه، الذي نعرفه جيداً، ونعتمد على عناصر قوّتنا، عندما نشخصها، ونبني عليها، ونشخص بعد أن ندرس بعمق، مواطن وأسباب ضعفنا، ونعالجها بمسؤولية مشتركة، وأن لا نخشى إلاّ الله، باتحادنا، وأن نعتمد على شعوبنا وأمتنا، التي أكدت صدقها في قدرة تحمّل المسؤولية، في ظروف وأحوال، هي في غاية التعقيد. فإننا بذلك، سنضمن، مجتمعين، حاضر عز، لا يعرف الضعف، ولا يسقط حقاً ثابتاً. وهو قادر على أن يطل على المستقبل باقتدار، وأن يعيد كل حق ضائع، وفي مقدمته فلسطين العزيزة، التي تنتظر بفارغ صبر، أن ترفرف عليها أعلام العرب، يتقدمهم علم فلسطين في حضرة قباب القدس الشريف.

    وإذا لم يجد الأعلى اقتداراً، والأكبر فعلاً وتأثيراً في الأمة، فرصته الكافية، ليتأسس عليه فعل الأمة ومنهجها المشترك، في هذه المرحلة، فعلى الأمة وقادة الدول العربية المجتمعين في بغداد، ونصيحتنا أن يتجنبوا خطر وخطأ بناء موقف الأمة، واتجاهات وسياسات الجماعة، على الموقف الأقل اقتداراً وتهيؤاً واستعداداً، أو الأضعف فيها بيننا؛ لأن مواقف الجماعة، إنْ تأسست على أقل أو أضعف اقتدار بيننا، فمعنى هذا أن خطوات الجمع، ستبني على خطأ، وسيتأخر الوصول، إنْ، لم نقل أن الوحوش الكاسرة، ستأكل من في الجمع، الواحد بعد الأخر، قبل أن ينجز الجمع طريق الوصول وهدف الوصول، وستصاب الأمة بنكسات مروعة ـ لا سمح الله ـ وسيحرمها مثل هذا الخطأ، إنْ حصل، من طاقة وفعل، هما بين آخر طاقة وفعل فيها، وأعلى اقتدار واستعداد وتهيؤ فيها. وعند ذلك، ستغيب فرص كثيرة عن مطلعها، وسيطمع الطامعون أكثر فأكثر، بدلاً من أن يتهيبوا ويترددوا، قبل أن يرتكبوا سوءاً، تجاه الأمة وأمنها وسيادتها. وعلى من هو أقلّ اقتداراً فينا، أن يتهيأ ليهمّ نفسه، ويحفزها إلى اقتدار أعلى، يتناسب ويندمج ويتفاعل مع ما أتّفق عليه الجماعة، ليصبح السرب، يرى فيه أوله آخره، ويتفاعل في المهمة آخره مع أوله، وأن يشجع الجميع، من هو صاحب همة أعلى، على المضي، مدعوماً بما يمكن من قدرات وتمنيات الجميع، بالتوفيق، من غير مغامرة أو انعزال.

    وعلينا أن ننظر إلى قوة أي دولة عربية، بأنها قوة للجميع، إنْ لم تستخدم على الأمة. وأن ننظر إلى أية حالة ضعف، في أي قطر من أقطارنا، على أنها حالة ضعف فينا جميعاً، وثغرة في جدار أمننا القومي، ككل. وعلى حالة الضعف، حيثما وجِدَتْ، أن تستجيب لمساندة ومعاونة حالات القوة والاقتدار في العرب، عندما تقدم لها النجدة، لتخلصها من حالة ضعفها، أو قلة اقتدارها؛ وأن تتفاعل مع دواعيها ومعانيها، وبخاصة عندما تقود حالة الضعف إلى ما يوهن العزيمة في الموقف، تجاه أجنبي، وإلى تسهيلات تقدم إليه، بسبب الخوف منه، على حساب الأمة وأمنها القومي. وعلى العرب، ونحن منهم، أن يحذروا من أن يجعلوا رد فعلهم، لا يستمر إلاّ لفترة وجيزة، إذا ما تعرضوا إلى عدوان إسرائيلي؛ ذلك لأن القوة الإسرائيلية مبنية على إستراتيجية خطف أهداف مهمة، بأقل زمن، وبأقل ما يمكن من خسائر في التجهيزات، العسكرية والاقتصادية والبشرية؛ ولأن طاقة الأمـة واقتدارهــا، لا يحضران، لأسباب تتعلق باتساع رقعة الوطن العربي، وبكوننا أمة من إحدى وعشرين دولة، ولأسباب أخرى، أقول، لا تحضر القوة والاقتدار في الأمة، في زمن قصير، إلى حيث ينبغي أن تكون. لذلك، يجدر بنا أن نعلن، بوضوح، بأن إسرائيل، إذا ما اعتدت وضربت، فإننا سنضرب، بقوة. وإذا ما استخدمت أسلحة دمار شامل، ضد أمتنا، سنستخدم ضدها ما نملك من أسلحـة دمـار شامـل. وأن لا تنازل عن تحرير فلسطين. ومن الحقائق، التي أكدتها التجارب، أيها الإخوة، أن الولايات المتحدة الأمريكية، تتحمل مسؤولية أساسية، بل ومسؤولية أولى، في السياسات العدوانية، والتوسعية، التي يمارسها الكيان الصهيوني، ضد الشعب العربي الفلسطيني، والأمة العربية، برغم ما تظهره، في بعض الأحيان، من اختلاف في مواقفها مع هذا الموقف أو التصرف أو ذاك، من مواقف وتصرفات الكيان الصهيوني. إن الكيان الصهيوني، لا يستطيع ممارسة العدوان، والتوسع على حساب العرب، لولا امتلاك القوة، والحصول على غطاء سياسي. والولايات المتحدة، هي المصدر الرئيسي لقوة الكيان الصهيوني العسكرية، العدوانية، والمصدر الرئيسي لتمويله المالي، وهي التي تؤمّن، إلى حدٍّ كبير، غطاء سياسياً لمواقفه، من خلال مواقفها المتعنتة في مجلس الأمن، واستخدام الفيتو للحيلولة دون أدانة الجرائم والسياسات العدوانية الصهيونية.

    إننا، كعرب، مستهدفون في صميم أمننا ومصالحنا، من هذه السياسات الأمريكية، وعلينا أن نقول ذلك لأمريكا، صراحة. وعلينا أن نقول لها إنها لا يمكن أن تواصل هذه السياسة، في الوقت الذي تدعي فيه الصداقة للعرب. فهذه السياسة، ليست سياسة صداقة؛ وإنما هي سياسة تضر وتهدد أمن الأمة العربية، والمصالح الجوهرية للأمة العربية. وإن على الأمة العربية، أن تصوغ علاقاتها مع الدول، على أساس مواقف هذه الدول من الحقوق والمصالح العربية، والأمن القومي العربي.

    وعلى أساس هذه الحقائق، التي أكدتها التجارب الملموسة، لا يمكن لأي عدوان إسرائيلي على الأمة، أن ينفصل عن رغبة الامبريالية الأمريكية في ذلك؛ والإمبريالية، هنا، أضفتها، لأن ليس من عادتي أن أستخدم الإمبريالية، وخاصة من وقت طويل. ولكن، عندما اطلعت على المذكرة، التي قدمها (الجروب) العامل في الخارجية الأمريكية، وفيها أشارة إلى أن لا تستخدم الإمبريالية ـ أدخلت كلمة الإمبريالية.

    وعلى أساس هذه الحقائق، التي أكدتها التجارب الملموسة، لا يمكن لأي عدوان إسرائيلي على الأمة، أن ينفصل عن رغبة الامبريالية الأمريكية في ذلك، أو عن دعمها له، مما يقتضي أن نبني رد فعلنا الموحد، تجاه العدوان، ومن يحميه ويوفر له مستلزماته، وفي كل الساحات والميادين. وعند ذلك، تغدو الأمة في حالة أفضل، ونغدو كلنا في حالة أفضل. وتنفتح أمام الأمة العربية صداقات رصينة، وحقيقية، وعميقة، في دول العالم كافة، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية. وعند ذلك، نكون في حالة أفضل، ومكانة أفضل، وأكثر تأثيراً، وأدعى على الاحترام الأكيد، والمكين، في العالم.

    وعلينا أن نعلن، بصوت قوي، بأنه لا يحق لكائن، من يكون، أن يتمتع بحظوة في مواردنا وثروتنا، في الوقت الذي يحاربنا، أو يناهض تقدمنا، العلمي والتكنولوجي. وأن نحوّل هذا المبدأ إلى  سياسة ومفردات، تطبق ويلتزم بها بصورة جماعية. وأن يدرك الجميع بأن النجاح في المنازلة مع الأعداء، إذا ما اقتضتها الضرورة، لا يتحقق من حيث يبدأ غبار خطواتها، ودخان قذائفها، يغطيان ساحاتها؛ وإنما يبدأ من حيث يبدأ التهيؤ والتضامن والتماسك، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإعلامي، ومن حيث تبدأ الاستحضارات الناجحة، تحقيقاً لأهدافه، في كل ميادين الحياة، وعلى المستويَين، الشعبي والرسمي، من مبدأ أن مصيرنا واحد، ومستقبلنا باتجاه واحد، والعدوان على أي منا، عدوان علينا جميعاً، وعدو أي منا، هو عدو للأمة كلها. تكون المواجهة له فيها شاملة، من حيث وضع إمكانات الأمة في اتجاه واحد. مياهها الإقليمية، وأجواؤها وأراضيها والمضايق البحرية والقنوات، كلها توضع في خدمة جبهات القتال وجيوشها. وأن تكون المواقف إزاءها معلومة، ومعلنة. وعند ذلك، قد لا تحتاج الأمة العربية، بالضرورة، إلى معارك عسكرية لتحصين كل حقوقها، واسترجاع كل الضائع منها.

أيها الإخوة.

    في قِمة عمّان، لمجلس التعاون العربي، التي انعقدت في 24 شباط (فبراير) الماضي، كنا قد تحدثنا عن المتغيرات الدولية، والموقف منها، ولم يمضِ على ذلك وقت طويل. وسنجعل من ذلك التحليل، الذي قدمناه في عمّان، مادة لحوار أخوي معمق، يغتني بخبرتكم الواسعة، وما لديكم من إطلالة ضمن زوايا نظركم، ومعلوماتكم، على هذا الخضم الهائج في المحيط الدولي. وسيكون بميسور أمتنا العريقة، وذات القدرات المتعددة، والعالية، والجذور العميقة، أن تصمد، بشموخ يليق بها، أمام الآثار السلبية في المتغيرات؛ وأن تتفاعل مع الإيجابي منها؛ وأن تتعامل مع المحيط الدولي الجديد، وفق اتجاهات وصيغ، تنسجم مع مصالحها والتزاماتها، التي لا انفكاك بينها وبين أمنها القومي.

    ونضيف إلى ذلك التحليل، الذي قلناه في عمّان، القول بأن الصراع بين العملاقَين، وذلك التقسيم المقيت للعالم، في ضوء نفوذهما ومصالحهما وتأثيراتهما، آنذاك، وما أصاب العالم، هنا أو هناك، من مساقط قذائفهما، في ميدان التراشق والاصطراع، الذي لم تنجُ منه ساحة الوطن العربي، والمجتمع العربي ـ قد ألحق ضرراً بليغاً بأمتنا، وقد ألحق اهتزازاً بشخصيتها، ولم تثبت على مسلك بيّن، كما تتمنى، يتناسب مع تراثها واستقلاليتها، ويليق بها، كأمة عظيمة، حتى توزعت قواها، بين تأثيرَي النفوذَين، ومصالحهما وإستراتيجياتهما. وامتد ذلك التأثير ليشمل الشعبي، بالإضافة إلى الرسمي، من الأوساط والمواقف، حتى صار حالنا ليس باتجاه واحد، وليس كما نتمنى. وأصبحت صياغة سياسة واحدة، وموقف واحد أو باتجاه واحد، على مستوى الأمة، ككل، تجاه مداخلات السياسة الدولية ـ تكتنفها صعوبات، تتعدى مجرد الظرف، الذي تخلقه حالة الاختلاف، بسبب تعدد دولنا وأنظمتنا العربية. فكان شبح ذلك الحال، يطارد سياساتنا، التي أراد لها الخيرون، أن تكون موحدة باتجاهها العام، وإنْ أخذ أي من تفاصيلها صورة ولون إناء أقطارنا.

    وتبعاً لهذا، ولأسباب أخرى، انتشرت الهواجس والظنون والدسائس والإيحاءات الضارة، بيننا، وصار بعض العرب، يتسابق خارج الركاب، على مسميات وسياسات وإشارات وأفعال، تحسب على هذا أو ذاك، من قطبَي الصراع. وأصبح سلاحنا وإرادتنا مثقلَين، في حالة الاستعمال أو الامتناع، بأجواء الاصطراع الدولي وأهدافه. وقد عطل كل ذلك، إلى جانب عوامل أخرى، الاتفاق على سياسة موحدة للعرب. وفي هذا القول، فإنني لا أخرج العراق من الإشارة إلى السلبيات، التي أشرت إليها، متأثراً، هو الآخر، ضمن موقعه، وحسب ما يستحق من درجة الوصف، بتأثيرات السياسة الدولية، التي بنَتها حالة الاستقطاب، حتى تقسمنا في المسميات، أو قسمنا أنفسنا هكذا، بأوصاف: يسار ويمين، طبقاً للمصطلحات الدولية: رجعي وتقدمي. وبذلك، إنوجدت حالة نفسية منفرة، ومفرقة، بدلاً من أن نبني على جسر موحد، لأمة واحدة، في سياستنا العربية. ورغم كل ذلك، فقد بقيت مبادئ القومية العربية، لأمة عريقة، وفلسطين المغتصبة، وما تثيره في النفوس وفي العقول، من حمية وتواصل قومي، إلى جانب عوامل وأسباب أخرى، أيضاً ـ تفعل فعلها في مد جسور فوق عوامل الاختلاف والفرقة، من حين إلى آخر. إلاّ أن الثبات لم يكن من نصيبها، نظراً لقدرة التيارات المضادة، مما أشرنا إليها، من فعل مضاد.

    أما الآن، وبعد أن انزاح، أو كاد، عن العالم كابوس التقسيم المقيت للعالم، وذلك الاصطراع، الذي أضعف تبلور موقف إنساني موحد، تجاه قضايا الإنسانية، ووقف كعقبة كأداء، في وجه تبلور المواقف، الوطنية والقومية، المرتبطة بخصوصية ظرفها وإمكاناتها، بالدرجة الأساس ـ فقد أتيحت أمام الإنسان والوطني والقومي، اليوم، فرص صيرورة جديدة، وتبلور أصيل، بالإضافة إلى مكاسب أخرى. وإنْ هذه الفرص، سوف تفتح أمامنا، كعرب، مجالاً أوسع لسياسة عربية موحدة، أكثر ثباتاً من ذي قبل، إنْ نحن أحسنا التعامل الإيجابي مع متغيرات السياسة الدولية، ومراكز القوى فيها، وعرفنا كيف نقلل، إنْ لم نكن قادرين على أن ندرأ عنا كلياً، النتائج السلبية لهذه المتغيرات المفاجئة، ومن بينها أن يتخلى عن موقفه السابق، بسرعة، من كانت له أسبابه للتأثر بسياسة الاستقطاب، مبتدئين في هذه الدعوة والمطالبة، ببلدكم العراق، إنْ كنتم تجدون أنه قد تأثر، أو بقي متأثراً، حتى اليوم، بأي من سياسات دول الاستقطاب؛ وأن نبقي على سياسة متوازنة، أساسها مصالح الأمة، ومصالح شعوب أقطارنا، وفق الترابط، الذي أشرنا إليه، بين الوطني والقومي. وبغير هذا، سوف نتجرع، جميعاً، مر الحال، أو نغرق بما هو سلبي، من آثار طوفان الانفلات في السياسة الدولية، من غير أن نستفيد من إيجابياته. وإنْ حصل هذا ـ لا سمح الله ـ فإن الخلل، لن يكون في أمتنا أو في شعوبنا، وإنما فينا نحن ـ المسؤولين ـ من أصحاب الصدارة في المسؤولية، إنْ كان على مستوى الحكومات، أو على مستوى التيارات، السياسية والشعبية، بين صفوف أمتنا، في الوطن العربي.

    وفيما يتعلق بالعلاقة مع إيران، إنكم تعرفون، أيها الإخوة، بأننا قد اخترنا السلام، كعرب، وليس في العراق فحسب، مع كل أمم ودول العالم، وبخاصة الأمم والدول، التي تجاور الوطن العربي، ومنها إيران. وكان هذا هو نهجنا، قبْل الحرب، ومنذ أول يوم فيها، إلى آخر يوم، سبق وقف إطلاق النار.

    وقد أكدنا موقفنا هذا، بمبادرات ملموسة، كان آخرها ما يجري، الآن، بيننا وبين إيران، من تبادل رسائل، نأمل أن يفضي إلى حوار مباشر، وعميق، يؤدي إلى سلام شامل، يحفظ الحقوق الثابتة للجميع، ويثبت مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، واحترام كل منا لاختيارات الطرف الآخر، كسياسة، لا تتغير مع الهوى والظرف، لينسد باب السوء ولهيبه نهائياً، عن طريق بناء علاقات صحيحة، بين الأمة العربية وبين شعب إيران.

    المجد والرحمة لشهداء العروبة، في كل مكان. المجد لشعب الأرض المحتلة، في فلسطين، وجهاده العادل، ضد العدوان والاحتلال الصهيوني.

    والله أكبر. والعزة للعرب. وليحفظكم الله، ويسدد خطانا، على طريق الإخوّة الصادقة، والإنسانية الشاملة، التي أكدتها مبادئ وقيم ديننا الحنيف، الذي اختار الله له نبياً من أمتنا، ليبلغه إلى الإنسانية. وأسلموا، أيها الإخوة، وأيها الحضور الكرام.

 ]الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[ w 

والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته