إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / بوادر الأزمة العراقية ـ الكويتية وتطورها (1988 ـ 1990)




أمير الكويت، وصدام حسين
الملك فهد، والرئيس صدام
الرئيس صدام، والملك فهد





وثيقة

وثيقة

خطاب الرئيس محمد حسني مبارك

في اجتماع مشترك لمجلسَي الشعب والشورى

يوم الخميس، 24 يناير 1991

تناول فيه أحداث الخليج

منذ بداية الأزمة وحتى الغزو العراقي للكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

الإخوة والأخوات، أعضاء مجلسَي الشعب والشورى.

    ندرك جميعاً، تحت هذه القبة، في بيت الشعب، وتحت سماء مصر، من أقصاها إلى أقصاها، أننا نعايش، اليوم، ومنذ أكثر من ستة أشهر، أخطر أحداث التاريخ على الأرض العربية. وقد قررت دعوة حضراتكم إلى هذا الاجتماع التاريخي، إعمالاً لنص المادة 132 من الدستور، واحتراماً لأمانة المسؤولية الوطنية في بنائنا الديموقراطي، التي تفرض على من يحمل المسؤولية الأولى، بإرادة الشعب، أن يُطلع الجماهير وممثليها على كل الحقائق المحيطة بمسؤوليته، وفاء للقسم الدستوري، وأداء للأمانة. وبذلك، تتحقق المشاركة الشعبية في التعامل مع الأحداث، وخاصة إذا كنا نقف أمام منعطف تاريخي، له آثاره الضخمة، في الحاضر والمستقبل.

    لقد تضمن البيان، الذي ألقيته أمامكم، عند افتتاح الفصل التشريعي الجديد، في 15 ديسمبر الماضي، عرضاً لموقف مصر من احتلال القوات العراقية لدولة الكويت. كما تضمن البيان تسجيلاً للاستجابة المصرية لنداء المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، بإرسال قوات مصرية للدفاع عن القطرَين الشقيقَين اللذَين تربطنا بهما أوثق الروابط وأمتن العلاقات.

    وقد كان القرار، الخاص بإرسال وحدات مصرية للمشاركة في الدفاع عن هذَين البلدَين، وغيرهما من الدول العربية، في الخليج ـ قراراً حتمياً، لا شك فيه. وذلك في ضوء التزاماتنا التعاقدية القاطعة، التي نأخذها بكل جدية وصرامة؛ لأننا شعب يحترم القانون والشرعية، ويلتزم بالأحكام والمبادئ المرعية، ويصون كل ما أقره من مواثيق ومعاهدات.

    وتعلمون أن معاهدة الدفاع العربي المشترك، التي أقرها مجلس الجامعة العربية، في 13 أبريل 1950، قد نصت، في مادتها الثانية، على أن الدول المتعاقدة، تعتبر كل اعتداء مسلح، يقع على أية دولة أو أكثر منها، أو على قواتها ـ اعتداء عليها جميعاً. ولذلك، فإنها، عملاً بحق الدفاع الشرعي، الفردي والجماعي، عن كيانها، فإنها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ، على الفور، منفردة ومجتمعة، جميع التدابير، وتستخدم جميع ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لرد الاعتداء، لإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما.

    وقد عُرضت المعاهدة المذكورة، على الهيئة التشريعية، القائمة آنذاك، بمجلسَيها. فأقرها مجلس النواب، في 11 يوليه 1951. ووافق عليها مجلس الشيوخ، في 16 يوليه 1951. وهكذا، أودعت مصر وثيقة التصديق عليها، لدى أمانة الجامعة العربية، في 22 نوفمبر 1952. وأصبحت المعاهدة المذكورة قانوناً واجب التطبيق، له قدسيته واحترامه، لدى السلطات العامة، وجميع أفراد الشعب.

    ولذلك، فإنني حين اتخذت قراري بإرسال هذه الوحدات العسكرية، لمعاونة هاتَين الدولتَين الشقيقتَين، في الدفاع عن النفس، في مواجهة التهديد بالعدوان عليهما؛ وحين أعلنت هذا القرار للمواطنين، في 18 أغسطس الماضي ـ كنت أُنفذ التزاماً قانونياً ثابتاً، واجب التطبيق والنفاذ، دون حاجة إلى إجراء إضافي، بعد أن قال ممثلو الشعب كلمتهم، وعبّروا عن إرادته وقراره. ثم إنني حرصت على شرح الأمر، من جميع جوانبه، في الخطاب الذي ألقيته بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب، في 15 ديسمبر الماضي، حتى تشتركوا، ومن خلالكم، يشترك كل مواطن على أرض مصر، في الإحاطة بالاعتبارات، التي جعلت إرسال تلك الوحدات أمراً ضرورياً، وحتمياً، في ضوء التزاماتنا القانونية القاطعة.

    وعندما صدرت مقررات مؤتمر القمة العربي، الذي انعقد في القاهرة، يوم 10 أغسطس، تضمنت هذه المقررات تأكيداً لالتزام الدول الأعضاء في الجامعة العربية، بقرارات مجلس الأمن الثلاثة، التي صدرت قبل انعقاد المؤتمر. وبذلك، حدث تزاوج وثيق، وتلاحم عضوي مقنن، بين الشرعية العربية والشرعية الدولية. وهو تزاوج، لا يقتصر على الجانب الشكلي، وحده، بل إنه يمتد إلى جوهر التزام الأمم والشعوب، بالنواميس والمبادئ الأساسية، التي تحكم العلاقات الدولية، حتى لا تتحول المعاملات بين الدول، إلى حالة من الفوضى، التي تسود فيها القوة الغاشمة، وتعلو على الحق المبين، وتصبح شريعة الغاب هي الحاكمة. فبئس هذا المصير.

    وإعمالاً لهذه الأحكام والمبادئ السامية، توجهت هذه الوحدات من قواتنا المسلحة، إلى مواقعها على الأرض العربية، مزودة بتأييد كل مصري غيور على وطنه وأُمته، صادق في التزامه بالعهد والميثاق، مدرك لخطورة التبعات والمضاعفات، التي لا بدّ أن تنجم عن احتلال بلد عربي شقيق، ومحاولة القضاء على كيانه، الدولي والوطني؛ وعن تهديد سائر الأقطار العربية الشقيقة، في منطقة الخليج، بعدوان سافر، على النحو الذي تعرضت له دولة الكويت. وإن كل مصري شريف، يتجه، ببصره وفؤاده، إلى رجالنا البواسل، الذين يؤدون واجبهم القومي، بكل شجاعة وإيمان، ويضطلعون برسالة كبرى، سوف تسجلها صحف التاريخ بأحرف من نور، ولو كره الحاقدون والمكابرون.

    فتَحية، من هذا المنبر، للأبطال. تحية لرجال، قطعوا العهد على أنفسهم، أن يكونوا في خدمة قضايا أُمتهم، بفداء الأرواح. تحية للأبناء، شامخة رؤوسهم إلى أعلى سماء. تحية لمن يحملون أعلام التحرير والكرامة والشموخ. تحية لمن نفاخر بهم على مر العصور والأجيال، دروعاً للشعب، حماة لمقدراته، رمزاً متوهجاً لكل ما نعيش من أجله، من قيم سامية ومبادىء جليلة. تحية أُقدمها إليهم، فرداً فرداً، بمختلف رتبهم وفِرقهم، باسم كل مواطن على أرض مصر، باسم كل الآباء والأمهات،  باسم الأبناء، باسم الإخوة والأخوات، الذين تتجه قلوبهم بالدعاء إلى الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن ينجزوا رسالتهم على الوجه الأكمل، ويعودوا إلى وطنهم، آمنين.

    وإذا كنا نفاخر بأبنائنا الأبطال، الذين يظهرون الحق، ويزهقون الباطل، فجدير بنا أن نفاخر بأننا جميعاً، من نفس أرض مصر، الخالدة بترابها الوطني، المضيئة دائماً بحضارة شعب مصر العظيم، شعب مصر بكل أجياله وطوائفه، الذي أثبت، منذ الساعات الأولى للأحداث الخطيرة، أنه على أعلى وعي حضاري، في تحديد موقفه الواضح، القاطع، مستلهماً تراثه الإنساني، عبر آلاف السنين. فلم تخدعه كلمة باطل، مهما تغلفت ببريق كاذب. ولم تنل من فكره الصائب، شعارات جوفاء، أرادت أن تستخف بعقوله. ورفض، بإجماع تلقائي مشهود، رفض كل المبررات الزائفة لاجتياح مسلح، غير مشروع، من دولة عربية لأرض شعب عربي شقيق. بل إن الشعب، كل الشعب قد تعجَّل قيادته، ألا تنتظر يوماً أو بعض يوم، لكي تعلن رأي مصر في رفض العدوان، واتخاذ أسرع الإجراءات لإزالة آثاره. وما كنت بعيداً، ولو للحظة واحدة، عن إحساس كامل بنبض الشعب، في كل ما اتخذناه من قرارات، وما قمنا به من اتصالات، سواء قبل وقوع الغزو العراقي المسلح أو بعده، وحتى الآن.

    وكانت دواعي المسؤولية، والحرص على نجاح ما كنا نصبو إليه، تفرض علينا عدم الإعلان عن كثير من الإجراءات والاتصالات، حتى نهيئ الأجواء، التي تحقق الهدف، الأول والأخير، وهو إقرار السلام، وتجنّب الحرب. ولكن حاكم العراق، أصرّ، بعناد غريب، على دفع المنطقة نحو الكارثة الرهيبة. ويعلم الله كم حاولنا، بكل ما أوتينا من جهد، على المحيطين، العربي والدولي، أن نحمي من الكارثة وأهوالها، جيش العراق، وشعب العراق، وأرض العراق. بل أن نحمي من آثارها السلبية العنيفة، حاضرنا العربي، ومستقبل أُمتنا العربية، على المدى، القريب والبعيد على السواء. وقد آن الآوان، اليوم، أن أُقدم لحضراتكم، ولشعب مصر العظيم، بياناً موجزاً لما قمنا به، في هذا الصدد، في مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: قبْل الغزو العراقي للكويت، والذي تم في 2 أغسطس 1990.

المرحلة الثانية: من الغزو حتى صدور قرار مجلس الأمن، 678، في 29 نوفمبر 1990، بشرعية استخدام القوة الدولية، لتحقيق الانسحاب من الكويت، وعودة الحكم الشرعي، ما لم ينسحب العراق من الكويت، في موعد أقصاه الخامس عشر من يناير 1991.

المرحلة الثالثة: من صدور هذا القرار حتى يوم الخامس عشر من يناير 1991، الذي كان الحدّ الفاصل بين السلام والحرب، وحتى وقوفي أمامكم، الآن.

    تعلمون أن بوادر الأزمة، بدأت في يوليه 1990، في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب، في تونس، بالمذكرة التي تقدم بها وزير خارجية العراق، باتهامات إلى الكويت، بأنها تتأمّر على العراق، وتسعى إلى الإضرار به. ثم أبلغتنا حكومة الكويت، بأن هناك حشوداً عراقية على حدود بلادها، وطلبت منّا التدخل لمعالجة الموقف.

    ولذلك، فقد اتصلت بالرئيس العراقي، صدام حسين، مساء 23 يوليه، وأبلغته برغبتي في لقائه، في بغداد، غداً. وتم لقاء منفرد. وأكرر، وتم لقاء منفرد، بيني وبينه، صباح يوم 24 يوليه. قال لي فيه، بالحرف الواحد (نص كلامه): "يا أبا علاء، إن حكام الكويت مذعورون، رغم أنني لا أنوي القيام بأي عمل عسكري. وأعتقد أنك تستطيع أن تنتهز الفرصة، وتطلب منهم ما تشاء، وأن تطرُق الحديد، وهو ساخن ـ أنا أرسلت له هذا في خطابي، أيضاً ـ لأنهم سوف يبادرون بالاستجابة  إلى طلباتكم، وسوف يتعاملون معها على نحو مختلف عن الأسلوب، الذي اتبعوه معكم في الماضي".

    ولم يكن همنا، في ذلك الوقت، أبداً، أن نطلب لأنفسنا شيئاً من حكومة الكويت أو غيرها؛ فلسنا نهازين للفرص. بل كان كل هدفي، أن أُطفئ النار، التي بدأت في الاشتعال، في العلاقات بين العراق والكويت، مهددة كل ما آمنّا به، ونقلناه إلى أبنائنا، حول التضامن العربي، ووحدة المصلحة والمصير، بين كافة الشعوب العربية.

    وقد فاتحت الرئيس صدام، بصراحة كاملة، بلا التواء، في أمر الحشود العسكرية. فقال لي، بكل وضوح (نص كلماته): "إذا كنت أريد غزو الكويت، فلست في حاجة إلى حشد قوات عراقية. وهدفي فقط، هو تخويفهم، والضغط عليهم، حتى يستجيبوا إلى مطالبنا".

    ولقد اقترحت عليه، أن نناقش كافة المسائل، المختلف عليها بين البلدَين، في مباحثات، تُجرى في جدة، ثم تستكمل في بغداد والكويت. ولقي هذا الاقتراح قبوله، بعد مناقشات طويلة، استمرت لمدة تقرب من ثلاث ساعات ـ لقاء منفرد ـ وذكر أنه يأمل في التوصل إلى تسوية مُرضية، من خلال هذه المحادثات. وسافرت إلى الكويت، في نفس اليوم، ومنها إلى السعودية. وأبلغت بذلك أمير الكويت، وخادم الحرمَين الشريفَين. اطمأنت جميع النفوس، خاصة أن خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، تلقي تأكيداً مماثلاً من الرئيس صدام، أنه ليس هناك حرب، ولا اعتداء عسكري، وأنه لا ينوي، على الإطلاق، القيام بأي عمل عسكري ضد الكويت. واعترف بذلك لدول أخرى، منها الاتحاد السوفيتي وأمريكا، ودول أفريقية أخرى.

    وقد عنيت بتوجيه النصح للطرفَين، بأن يُبديا مرونة وسعة أفق، في التعامل مع الخلافات القائمة بينهما؛ لأن المهم، هو الحفاظ على وحدة الصف العربي وتماسكه، في وجه التحديات الهائلة، التي نواجهها جميعاً. وكان شعوري، أن الطرفَين، قد تقبَّلا تلك النصيحة، الخالصة لوجه الله والأمة.

    وتنفيذاً للاتفاق، وصل الوفدان، العراقي والكويتي، إلى جدة، يوم الثلاثاء، 31 يوليه. واقتصرت جلسة المباحثات الأولى، من الجانب العراقي، على تقديم عزة إبراهيم، نائب رئيس مجلس الثورة العراقي، عرضاً موجزاً للغاية، للمآخذ العراقية على تصرفات الجانب الكويتي ـ من وجهة نظره ـ ثم أظهر المسؤول العراقي عدم تحمسه لسماع وجهة نظر الكويت، في هذه الجلسة. واتفق على اجتماع ثانٍ، عُقد بعد ظهر يوم الأربعاء، أول أغسطس 1990 ـ أي قبل العدوان بيوم ـ دار فيه حديث موجز بين الوفدَين. احتج رئيس الوفد العراقي، بعدها، بأنه متعب، لا يستطيع أن يدخل في مزيد من التفاصيل. وبذلك، انتهى الاجتماع، على أن تستكمل المباحثات، في بغداد، ثم في الكويت، وفقاً للاتفاق المسبق. وغادر الوفد العراقي المملكة العربية السعودية، في المساء ـ ما يقرب من الساعة العاشرة مساءً. وبعد أربع ساعات، بالتحديد، وفي الساعة الثانية، من صباح الثاني من أغسطس ـ أي بعد منتصف الليل ـ بدأ الغزو العراقي المسلح.

    والمؤلم، أيها الإخوة والأخوات، أن الرئيس العراقي، اتخذ موقفاً غريباً، في الرسائل، الشفوية والخطية، التي تبادلناها، بعد الغزو. ولم أُعلن عنها، حتى اليوم. إذ إنه أنكر إنكاراً كاملاً، أنه وعدني بعدم غزو الكويت. وادَّعى أنه كان يقصد عدم اللجوء إلى القوة، إذا نجحت المباحثات الثنائية. وهذا تزييف صارخ للحقيقة. وليس أدل على بطلانه، من أنه ثبت للعالم أجمع، أن الغزو كان مدبّراً، وكان توقيته مرسوماً، بدليل أنه وقع بعد أربع ساعات، من انتهاء جلسة المباحثات الاستطلاعية، بجدة، التي كان مفروضاً، أن تتبعها جلسات أخرى، في بغداد، ثم الكويت.

    ولم نعرف، في التاريخ، القديم والحديث، أبداً، أن مباحثات، تجري بين بلدَين، لحل مشاكلهما، لتقتصر على جلسة واحدة أو جلستَين تمهيديتَين، ليقال، بعدها، إنها وصلت إلى طريق مسدود.

    وفي يوم الغزو، وبعد ساعات من وقوعه، وبالتحديد في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة، بعد ظهر يوم 2 أغسطس 1990، اتصل بي الملك حسين، وطلب الحضور إلى الإسكندرية، فوراً، للقائي، بعد أن غادر القاهرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، فوراً. ورحّبت بذلك، لعلنا نستطيع إنقاذ الموقف. ووصل، بالفعل، في الساعة السادسة مساء. وبعد حديث متصل معه، اقترحت ـ وكان اقتراحي أنا، ولم يخرج هذا الاقتراح من أي جهة أخرى ـ اقترحت عقد مؤتمر قمة عربي مصغر، في جدة، في غضون أيام قليلة، يحضره خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، والرئيس صدام حسين، وبعض الرؤساء العرب الآخرين. وكان هدفي من عقد هذا المؤتمر ـ وهي مبادرة مني ـ الاتفاق على خطوات، يخرج بها العراق من المأزق، الذي وقع فيه، مع حفظ ماء وجْهه، على أساس أن يخبرنا الرئيس العراقي، دون علانية، أنه يوافق على بدء الانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية إليها، قبْل أن أدعو إلى هذا المؤتمر، حتى يطمئن قلبي؛ لأني لو دعوت إلى مؤتمر، بدون هاتَين النقطتَين، لن يستجاب لهذه الدعوة.

    وقد اتصلت، أثناء وجود الملك حسين، وأمامه، وفي قصر رأس التين بالإسكندرية، اتصلت بالرئيس صدام حسين، وقلت له إنني اتفقت مع الملك على عقد قمة مصغرة، على أساس نقطتَين. سوف يطلعه الملك عليهما، عند زيارته لبغداد، في يوم الثالث من أغسطس ـ أي في اليوم التالي للغزو. وبعد انتهاء الحديث التليفوني، واصلت حديثي مع الملك، وقلت له: "إنني سوف أصدر بياناً هادئاً، يعبر عن موقف مصر، في طلب الانسحاب، وعودة الشرعية". فطلب مني الملك تأجيل البيان، حتى لا يكون صدوره سبباً في نسف جهوده، في بغداد، في اليوم التالي للغزو. كما طلب مني العمل على تأخير صدور أي بيان مماثل، من مجلس وزراء الخارجية للجامعة العربية، الذي كان مجتمعاً بالقاهرة، في نفس يوم الغزو. وأجريت، في حضور الملك، وأمامه، اتصالات مع عدد من وزراء الخارجية العرب، خلال اجتماعهم بالقاهرة، وطلبت منهم تأجيل بيانهم إلى الساعة السادسة، من مساء اليوم التالي ـ الثالث من أغسطس ـ لكي تتاح للملك حسين فرصة كاملة، لبذل الجهد، لإنقاذ الموقف.

    قبلت هذا، والتزمت به، على الرغم من علمي بأن مختلف طوائف الشعب المصري، تأخذ علينا، أننا لم نبادر بإعلان موقف مصر من هذا العدوان الصارخ. وأن هذا التأخير، لا يتفق مع دور مصر ومكانتها في العالم العربي، وفي العالم كله. وإن عضويتنا في مجلس التعاون العربي ـ وانتقالي أنا شخصياً، ومن أكثر من جهة ـ لا تعني أن نغض الطرف عن مثل هذا العدوان على دولة عربية وشعب عربي. ولكني تحملت، وصبرت.

    وفي الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، من صباح اليوم التالي، الجمعة، الثالث من أغسطس، تحدثت مع الملك حسين، في عمّان، قبْل سفره إلى بغداد. وأوضحت له أهمية الإسراع بالحصول على موافقة الرئيس صدام، بصفة خاصة، على النقطتَين الأساسيتَين للاجتماع ـ وهما الانسحاب وعودة الشرعية. وتوجّه الملك حسين إلى بغداد، وقابل الرئيس صدام. وبعد عودته إلى عمّان، اتصل بي، في الساعة الرابعة والنصف، من مساء نفس اليوم، وأخبرني أن الجانب العراقي، قد وافق على حضور القمة المصغرة. واستبشرت خيراً. وسألت الملك عمّا إذا كان الرئيس صدام، قد وافق على التعهد بالانسحاب من الكويت، وعدم التعرض للحكومة الشرعية. ولدهشتي البالغة، أجاب الملك حسين، بأنه لم يبحث أية تفاصيل مع الرئيس صدام.

    وهكذا انهارت فكرة عقد المؤتمر، من أساسها. ولم أستطع أن أتقدم بدعوة إلى الرؤساء العرب، للاجتماع في جدة. فإذا كان حاكم العراق مصرّاً على عدم الانسحاب، وعلى ضم الكويت إلى العراق، فلماذا، إذاً، نجتمع؟ ـ وهذا كان رد كثير من الرؤساء. وهل تصور أنني اقترحت هذه القمة المصغرة، لكي نبارك الاحتلال؟

    ومع ذلك، ورغم عدم تحقيق الهدف، الذي عولنا عليه، من مهمة الملك حسين في بغداد، فإن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية المصرية، بتعليمات مني، مساء الجمعة، 3 أغسطس، لم يتضمن أي إدانة للعراق؛ وإنما اكتفى بإبداء الأسف لما حدث، والمطالبة بالانسحاب، والشرعية، وتسوية الخلافات القائمة بين البلدَين، بالطرق الودية.

    كنا نريد، دائماً، أن نمد في حبال الأمل، نحو حل عربي، بعيداً عن أي تدخلات دولية. وكان المجتمع الدولي يتحرك، منذ اليوم الأول للعدوان، بسرعة وحسم، أسرع منّا، كعرب. فاجتمع مجلس الأمن، وأصدر قراراته الإجماعية، بالإدانة، والانسحاب الفوري، وعودة الحكم الشرعي، وفرض الحصار الاقتصادي. وتضاعفت خشيتي من فقْد الأمل تماماً في حل عربي. وكان شغلي الشاغل، هو تحذير الرئيس العراقي، من أن يفتح الأبواب، بموقفه المتصلب، أمام مزيد من تدخّل المجتمع الدولي، بأسلوب يمكن أن يتطور إلى ما هو أكثر من الحصار الاقتصادي.

    وفضّلت أن أجري اتصالاً مباشراً بالقيادة العراقية. فاستدعيت سفير العراق في القاهرة، يوم الإثنين، السادس من أغسطس، وأوفدته، على طائرة خاصة، برسالة عاجلة إلى الرئيس صدام حسين. طالبته فيها بإبداء المرونة، وقبول الانسحاب من الكويت، تمهيداً لعودة الشرعية إليها. وحذرته من أن المجتمع الدولي، غرباً وشرقاً، بدأ يتحرك ضد العراق. كما أن مجلس الأمن، أصدر، بالإجماع، قرارات إدانة، لم يسبق لها مثيل.

    وقلت له في رسالتي، بكل وضوح، إنه لا سبيل إلى إحداث انشقاق في المجتمع الدولي، بين الشرق والغرب. (لم يعد هناك شرق وغرب. كّنا، زمان، نعمل العملة، ونروح على الشرق، يقف معنا ضد الغرب. وقبل كده، مع الغرب ضد الشرق. أصبح لا شرق، ولا غرب؛ لأن الأوضاع الدولية، شهدت، في الأعوام الأخيرة، تغيرات جذرية في جوهر العلاقات بين القوى الكبرى، وتم الاتفاق بينها على بناء عالم جديد، خالٍ من الصراع والحروب. ولم تعد هناك دولة واحدة، تقبَل احتلال أرض الغير بالقوة العسكرية). وقلت في رسالتي هذه، إنني مستعد لأن أتعاون معه تعاوناً كاملاً، في أي إجراء، يحفظ ماء وجْهه، ونبعد الخطر عن الأُسرة العربية، حتى نبعد التدخل الدولي.

    وجاء الرد، أيها الإخوة والأخوات، من الرئيس صدام حسين، في عبارة واحدة، تقول: "إن الكويت هو جزء من العراق، وإنه لا مجال، على الإطلاق، للعدول عن القرار، الذي صدر بضمها إليه". فقد وصل إلى مصر، في اليوم التالي، الثلاثاء، 7 أغسطس، مبعوث من الرئيس العراقي، هو السيد عزة إبراهيم، نائب رئيس مجلس الثورة، وقابلته بالإسكندرية. وذكر لي أن الرئيس صدام، تلقى رسالتي، وأن العراق، يعتبر ضمه للكويت إجراء نهائياً، لا رجعة فيه، ولا تفاوض حوله، ولا تنازل بشأنه، لأنها جزء من التراب الوطني العراقي. وأمضيت معه وقتاً طويلاً، أوضحت له فيه، ضرورة إبقاء الباب مفتوحاً لتغيير الوضع الناجم عن الغزو، وعدم اعتبار أي إجراء، اتخذ، بعد الغزو، تصرفاً نهائياً، لا رجعة فيه. وحذرت من النتائج الوخيمة، التي لا بدّ أن تنجم عن اتخاذ هذا الموقف الجامد، غير المتبصر بعواقب الأمور. وقلت له: "أبلغ الرئيس صدام حسين، بكل وضوح، أنه إذا استمر هذا الموقف، فسوف يستحيل إصلاح الخلل الخطير، الذي نجم عن الاحتلال. وسوف يزداد الموقف سوءاً وتدهوراً، وسيقف العالم كله ضد هذا الغزو؛ لأنه يمثل سابقة خطيرة، تهدد كيان المجتمع الدولي.

    وفي 8 أغسطس، دعوت إلى عقد مؤتمر القمة العربي، بعد أن اتصل بي الرئيس حافظ الأسد، والرئيس الشاذلي بن جديد، والعقيد معمر القذافي، وطلبوا مني عقد المؤتمر، في أسرع وقت، أملاً في التوصل إلى حل عربي للأزمة. وحرصت على استدعاء السفير العراقي، للمرة الثانية، وطالبته بإبلاغ الرئيس صدام حسين، برجاء مني، أن يرسل وفداً مفوضاً، وعلى مستوى عال، إذا تعذر حضوره بنفسه لقمة القاهرة، حتى يمكن إخراج العراق من المأزق. وأبديت استعدادي للخروج بصيغة من المؤتمر، تدعو إلى الانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية، دون المساس بكبرياء العراق، في قراره الشجاع. وقلت له، في رسالتي، إنني أناشده أن يكون الوفد العراقي مخولاً باتخاذ موقف مرن، كفيل بتحقيق انفراج في الأزمة، تمهيداً للتوصل إلى حل عربي.

    وبعد ظُهر يوم الخميس، 9 أغسطس، استقبلت رئيس الوفد العراقي، الذي لم تخرج كلماته عن جملة واحدة لا غير، هي أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، ولا رجعة في ذلك، على الإطلاق، ولا عدول عنه، لأي سبب؛ وأن العراق يعتبر هذا قراراً وطنياً، لا يمكن طرحه للمناقشة، عربياً (قبل القمة العربية، اليوم السابق). وقال إنه يحضر المؤتمر لمناقشة الأوضاع العربية كليةً (وصاية). ولم يكن أمامي من تعليق على هذا الطرح، إلا أن أُبدي أسفي الشديد لاتخاذ العراق هذا الموقف، الذي لن يُتيح للقادة العرب حرية الحركة، ويضعهم أمام خيار واحد. ومع كل هذا، فإنني لم أفقد الأمل، وقمت بإجراء اتصالات عديدة مع الملوك والرؤساء الحاضرين في مؤتمر القمة، بهدف تخفيف حدّة التوتر، وتمهيد الأجواء للتوصل إلى تفهّم ودّي بين الطرفَين. وحاولت، بكل السبل، أن أتصدى لأي دعوة للانقسام والفُرّقة، وحرصت على أن يلقى الوفد العراقي كل تكريم، في الاستقبال والتعامل. وتحدثت إلى الحاضرين، جميعاً، موضحاً خطورة الموقف، شارحاً هدفنا من الوصول بالمؤتمر إلى قرار عربي، نبعد به الأزمة تماماً عن تطورات الموقف الدولي، إلى ما هو أخطر.

    وانعقد المؤتمر العربي، يوم الجمعة. وقد راعيت، في خطابي أمام المؤتمر، أن أحفظ للعراق كرامته، وأن أمهد لأي انفراج، يتيح للوفد العراقي مرونة في موقفه. ولم أُظهر انحيازاً لطرف، دون طرف آخر. وقلت في هذا الخطاب، إن هذا المؤتمر، لم يقصد به، ولن يكون ساحة لإحراج القطْر العراقي الشقيق، وتوجيه الاتهامات له، بصورة أو بأخرى. كما قلت ما نصه: "إننا، جميعاً، حريصون على العراق. وليس منّا من يقبَل التفريط في أي عنصر من هذه العناصر الأساسية، في البنيان العربي".

    ويعلم الله، أن هذا الحرص على العراق ومنجزاته وقيادته، كان هو السبب، الذي دفعنا جميعاً إلى التسابق، من أجل احتواء الأزمة. وقلت، أيضاً: "إن المظلة العربية، للخروج من المأزق، تمثل الخيار المأمون، والمضمون، الذي التزمنا، جميعاً، بقبوله، يوم وقّعنا ميثاق جامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع المشترك. وإن الطريق ممهد، أمامنا، للتوصل إلي اتفاق. ولدينا من الصيغ ما يتيح لنا، أن نضع حدّاً للأزمة، خلال أيام معدودة".

    وعندما تقدم أحد الأعضاء باقتراح، بإرسال وفد عربي، من عدد من الرؤساء، إلى بغداد، للقاء الرئيس صدام حسين، أملاً في الوصول إلى المخرج، سألت الأعضاء الذين وردت أسماؤهم في الاقتراح، كأعضاء في الوفد، في جلسة المؤتمر، وكان من بينهم الملك حسين. وكان ردهم قاطعاً، جميعاً، بالرفض والإحجام. وصدر القرار. ولا أريد، في هذا المجال، أن أكشف حقائق كثيرة عن سلوك الوفد العراقي، والشتائم التي قالها، بعد المؤتمر، وتصرفات بعض الذين حاولوا إفشال المؤتمر. إنني لا أريد، اليوم، أن أُضاعف من مأساة  الانشقاق العربي؛ وكفانا ما وصلنا إليه.

أيها الإخوة والأخوات.

    إنني أعرض عليكم، وعلى الشعب، وكل الشعوب العربية، هذه التفصيلات، التي حاولت الإيجاز فيها، بقدر الإمكان. فهذه شهادة صدق، أمام التاريخ، حتى يتفهم كل من تضلله الادعاءات والأباطيل الكاذبة، الحقائق مجردة من الهوى والغرض. ففي كل اتصال لنا مع الرئيس العراقي، قبل الغزو وبعده، بل وبعد صدور قرارات القمة العربية، ثم اتصالاتنا المباشرة معه، بعد هذه القرارات، ونداءاتي المتكررة له، التي وصلت، في نهاية الأمر، إلى 26 نداء ـ في كل ذلك، لم يأتِ على لسانه، أو لسان رُسله، أو في رسائله المكتوبة إلينا، أي ذكر لقضية الشعب الفلسطيني. لم تجرِ كلمة واحدة على لسانه، أو في سطوره، أو على لسان مبعوثيه إلينا، عن قضية الشعب الفلسطيني، أو عن إسرائيل، أو عن حل كل مشكلات المنطقة العربية. كل هذه المزاعم، ظهرت فيما أسماه بمبادرة منه لحل المشكلات العربية. وهي، في ظاهرها وباطنها، مناورة لخداع الشعوب العربية، ولإثارة المشاعر وتسخيرها لخدمة احتلال أرض الكويت، وإزالة معالمها من الوجود.

    وكان الأمر كله مفاجئاً لنا، ولكل من حضر مؤتمر القمة، في بغداد، الذي انعقد في 29 مايو الماضي 1990. وكلكم تذكرون أن الرئيس صدام حسين، كان قد أهدى لأمير الكويت، وحاكم الكويت، أعلى وسام في الدولة، تكريماً له على الدور الإيجابي، الذي قام به الكويت، في مساندة العراق في حربه مع إيران، وعرفاناً بهذه الخدمة الجليلة. بل إنه قال، على مائدة العشاء، التي أقامها للملوك والرؤساء ـ وكانت جلسته إلى جواره ـ إنه أوصى أولاده، إذا ألمت بهم ملمة، أن يلجأوا إلى عمهم، أمير الكويت؛ فهو الأب والصديق.

    وأعود فأقول لكم، إنني، بعد قرارات مؤتمر القمة، التي رفضها حاكم العراق، لن أفقد الأمل في أن أُقدم له النصيحة الخالصة، التي تفيدنا، جميعاً، وتنقذ الشعب العراقي، وتحمي الجيش العراقي، وتبعد كارثة الحرب عن الأرض العربية كلها.

    وفي 19 أغسطس 1990، استدعيت السفير العراقي، مرة أخرى، وطلبت إليه، أن يبلغه برجائي ـ وكلها رجاءات ـ أن يعيد التفكير في حل، للخروج من هذا المأزق. وحذرت، بكل الصدق والإخلاص والأمانة، من أخطار الحرب. وشرحت له، بدل المرة مرات، أن كل قوى العالم، ترفض مبدأ الاحتلال بالقوة العسكرية، بعد وفاق العالم الجديد على بناء السلام. هناك نظام جديد في العالم. وقلت له، في رسالتي الشفوية، إن العراق لن يستطيع أبداً، أن يتحدى كل قوى العالم، وإنني مستعد للقيام بأي اتصالات أو مبادرات، يرى فيها العراق سبيلاً للخلاص من الوضع الخطير القائم، وحتى تحول دون حدوث أي عواقب وخيمة، لا نريدها، جميعاً.

    وجاءني الرد، مكتوباً، يوم 23 أغسطس. وفوجئت به يكرر، أنه يعتبر، أن عمل آل الصباح نمط من أعمال الحرب، بعد فشل الجهود السياسية، في جدة؛ وأنه قرر أن يعيد إلى العراق حقاً مغتصباً، ويصحح ما هو خاطئ ومنحرف ـ هذا الكلام كله، بعد الغزو ـ ويبعد الجرثومة القاتلة عن جسم العراق، وجسم الأمة، فكان الذي نحمد الله أنه قد حصل. ده كان نص كلامه. يعني أنه يحمد ربنا على اللي حصل. أبعد الجرثومة. فالمسألة بقت كويسة. هذه هي نص كلماته.

    أذكر، في رسالته، أنه وعدني بعدم استخدام القوة. ثم تناولني بالاتهام، بأنني واقع تحت ضغط سعودي ـ أمريكي؛ وهو يعلم أننا لا نقبَل ضغوطاً من أي دول كائنة في العالم أجمع، ونتعاون مع جميع دول العالم، من أقصاها إلى أقصاها، من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق. ومن الشمال إلى الجنوب، وعلاقاتنا طيبة، ونتعامل مع جميع دول العالم، دون استثناء. وذكر أنني اقترفت إثماً، تجاه الأمة العربية، ومبادئ الدين الإسلامي، التي لا يمكن أن تكون مع الباطل. وقد عادت الكويت عزيزة إلى أهلها الأعزاء، وقد غدت، هي وما يحيط بها، وما تفجر عنها من مواقف، راية عزّ لكل العرب ـ وجهة نظره.

    أصابتني الدهشة، أيها الإخوة، من هذه الرسالة، جالي ذهول، ساعات. أقرأ الرسائل مش قادر أُصدق إن ده شيء طبيعي. فإن الذي أعرفه أن صدام حسين، سعى إلى إقامة أحسن العلاقات مع أمريكا، ـ وعلى أيديه ـ وقد طلب منّا، في مناسبات سابقة، أن نتدخل لدى القيادة الأمريكية؛ وهذه كلمات حق، لكي نؤكد على لسانه أنه رجل سلام، وأنه لا يريد إحداث أدنى خلل في العلاقات العراقية ـ الأمريكية. كما صحح تصريحاته، التي كان قد قال فيها، إنه سوف يدمر إسرائيل ـ نفى أنه أعلن ذلك ـ وأكد أنه سيردّ على إسرائيل، إذا اعتدت على العراق، بل إنه قال لي؛ وهذا ما أُعلنه شهادة، أمام التاريخ، قال لي ما نصه: "ليس بين العراق وإسرائيل أي خلاف مباشر؛ كان في حديث بيني وبينه. وإنه لا موضع، على الإطلاق، لأن يعتدي على إسرائيل، لأنه لا مبرر لهذا الاعتداء ـ كلام الرئيس صدام حسين. والعراق يمكن فقط، أن يقدم العون للأردن، أو لمصر، إذا اعتدت إسرائيل على أي منهما، وإذا طلبا ذلك. فيما عدا ذلك، لا علاقة له بإسرائيل".

    وبالنسبة لأمريكا، فإنه يسجل على نفسه، في رسالته لي، أنه في لقائه مع السفيرة الأمريكية، في بغداد، لتأكيد حسن العلاقات مع أمريكا، أكد لها، أنه لن يعمل أبداً على زيادة سعر البترول. وتعلمون، حضراتكم، أنه سبق أن كلف أستاذة بإحدى الجامعات الأمريكية، بأن تنقل إلى القيادات الإسرائيلية، في تل أبيب، أنه لا يضمر لإسرائيل شراً، ولا يفكر في شن أي عدوان عليها.

    ماذا جرى، إذاً، لكي يتهمنا، بأننا واقعون تحت ضغط سعودي ـ أمريكي، وهو الساعي، دائماً، إلى علاقات طيبة مع أمريكا، وهو سعيد بأننا تدخّلنا لإزالة أي سوء فهْم بينه وبين البيت الأبيض الأمريكي؟ هذا هو خطأه الكبير في حسابات الموقف. فقد كان يتصور، أن تحسين علاقاته مع أمريكا، يعني أن تبارك الولايات المتحدة، بعد ذلك، احتلاله لدولة الكويت. أما إذا اتخذت مصر الموقف المبدئي، الذي يتفق مع الشرائع الدولية، فإن مصر تكون خاضعة لضغط أمريكي. وهل ضغطت علينا فرنسا، أيضاً؟ وهل ضغط علينا الإتحاد السوفيتي؟ وهل ضغطت علينا بريطانيا؟ وهل ضغطت علينا إيطاليا؟ وهل ضغطت علينا كل دول أوروبا بغربها وشرقها؟ وهل ضغطت علينا دول العالم الثالث، ودول العالم الإسلامي؟ وهل ضغطت علينا الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي اتخذت قراراً إجماعياً، بطلب الانسحاب العراقي، وعودة الحكم الشرعي؟ أين هو ضغط المملكة العربية السعودية؟

    لقد كان صدام حسين على أحسن العلاقات مع المملكة العربية السعودية. بل إنه طلب، فجأة، من خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، في إحدى زياراته للعراق، توقيع معاهدة عدم اعتداء بين البلدَين. أنا ذُهلت لمّا سمعتها. وسألت الملك فهد: إيه الحكاية؟ قال لي: ده فاجأني بها. فاستغربت. ولما لقيت كده، قلت أمضي. وتساءل الملك فهد، حينئذٍ، عن الدواعي لعقد هذه المعاهدة، وخاصة أن اتفاق الدفاع المشترك، بين الدول العربية، يفي بالغرض. أما أن كل واحد، يعمل اتفاق عدم اعتداء بيننا وبين بعض. ده إحنا قاعدين مخونين بعض ـ كلنا. يعني في الحالة دي، لازم أمضي اتفاقية عدم اعتداء، مع كل اللي حوليه كلهم. و فيه عدم ثقة، إذاً. أو فيه شيء بيدبَّر. ومع ذلك فقد استجاب له. ووقع المعاهدة، وهو في غاية الاستغراب، وأثبتت الأحداث، بعد ذلك، أنه كان يسعى إلى خداع العاهل السعودي؛ في الوقت الذي يضمر فيه العدوان على الكويت، ثم يتقدم بقوات من الجيش العراقي، بعد احتلال الكويت إلى حدود السعودية، مما دعا السعودية أن تتيقظ لهذا الخطر الداهم، ممن التزم بعدم العدوان على الكويت. ولذلك، طلبت القوات، العربية والدولية، للمشاركة في حمايتها والدفاع عن أراضيها.

    ثم قال الرئيس صدام، في هذه الرسالة المكتوبة، لي، أيضاً، إن عودة الكويت إلى ما كانت عليه، معناه سقوط العراق في الهاوية؛ والعراق، الآن، ليس مكانه الهاوية. وإن الذي ينتظره، مثل ما هو شأنه مجد عال. وإنه يرفض كل الأحلام السوداء، التي تطالب بعودة الكويت إلى ما كانت عليه. ويقول لهذه الأحلام، بأن السماء أقرب إليها من هذا الحلم. وأن صاحب الحظ العظيم، هو الذي يشارك في مسار معركة الشرف والنصر، (ده مكتوب، مش بألّفه من عندي).

    ومع ذلك، أيها الإخوة والأخوات، ورغم هذه الإتهامات، فإنني لم أتردد، أيضاً، في أن أبذل له المزيد من النصح الخالص، والرجاء الصادق. وبعثت إليه برسالة أخرى، حملتها لسفير العراق، وأوضحت له فيها، أن القوات المصرية ـ  بعد ما أرسلت القوات على طول، حبيت أفهّمه، أن إحنا لانتأمّر على بعض ـ.

    ذهبت إلى السعودية، بناءً على طلب من السعودية ـ هو بيقول، بطلب من أمريكا. أنا لا آخذ أوامر من أمريكا لإرسال قوات في أي حتّة أبداً. أما دي دولة عربية، ملتزمين معها باتفاقية الدفاع العربي المشترك محتاجين. ولم يجرؤ أي واحد أمريكي، يطلب مني إرسال قوات ـ وبصراحة وهم سامعين كلهم. ولم يكن لطرف آخر دور في ذلك. وهو أول من يعلم، أن مصــر لا تقبَل الضغط، تحت أي ظروف، من أي دولة أجنبية كانت، ما كانت. وأن العراق، لو كان تعرض لغزو، أجنبي أو عربي، لكان لنا نفس الموقف. وذكرته بأنه هو الذي أعلن للشعب العراقي العربي، أن سياسته هي ضد التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة عربية ـ ده قال كلام في اجتماع، أعتقد المحامين العرب ـ وأنه هو الذي قال، لو رأيتم العراق تعتدي بجيشها على أي بلد عربي، فإنني أُطالبكم بأن تجيشوا جيوشكم ضد العراق، ولحماية هذا البلد العربي. ورجوته رجاء، أن يتأكد من أن نصيحتنا خالصة لصالح الشعب العراقي، والجيش العراقي، والأمة العربية كلها؛ وأن الصديق هو من صدقَك لا من صدَّقك. وأن الإجماع الدولي أخطر مما يتصور. ورجوته، أيضاً، أن يصدر إعلاناً بالانسحاب من الكويت؛ لأن هذا سوف يغيّر الموقف، أمام الرأي العام العالمي. وذكرته بأن مجلس الثورة العراقي، قد أعلن، بعد غزو الكويت، في 4 أغسطس، بالتحديد، يوم السبت التالي للغزو، أن القوات العراقية، قد تنسحب، بعد أيام، أو بعد أسابيع (مرونة)، وليس من صالحه أن يبدو، أمام المجتمع الدولي، بهذه الصورة الخادعة؛ وأن أحداً، لن يقبل منه غير الانسحاب. ولم يردّ على رسالتي.

    ولكنني، أيضاً، لم أيأس. وعندما تحدد موعد زيارة الرئيس الأمريكي، بوش، للمنطقة، استدعيت السفير العراقي، صباح الثلاثاء، 20 نوفمبر، إلى مكتبي. وتحدثت إليه، تليفونياً، في مكتبي، مكتب السكرتارية، لانشغالي، حينئذٍ في مقابلة أخرى، وطلبت إليه أن يبحث إمكانية سفره إلى بغداد، لإبلاغ الرئيس صدام، أن يعبّر عن وعد بالانسحاب، وعندئذٍ، يمكنني أن أبحث عن أسلوب، يحفظ ماء وجْهه، ويجنّب المنطقة ويلات المستقبل المخيف. وحذرته من أن يقيم حساباته على أساس أنه سيحدِث انقسام "داخلي" في أمريكا وفي بريطانيا؛ هو كان بيشوف محطات ال "سي إن إن"، وشاف المناقشات. ما هوش مصدق أن فيه حرب، مش عارف إن دي بلد الديموقراطية والمخابرات، ولازم حا تحصل، لكن وقت القرار، تنتهي العملية ـ أنه سيحدث انقسام داخلي، في أمريكا، أو في بريطانيا، أو في أي دولة غربية؛ لأن طبيعة النظام الديموقراطي، هي إتاحة الحرية الكاملة لكل الآراء. وقلت له إن مَن حوله، لا يقدمون له الصورة الحقيقية، وهم لا يقولون له، إلاّ ما يرضيه، ويلقى هوى في نفسه. وأفضت في شرح الصورة الحقيقية للموقف العالمي؛ لأنه ثبت لي، أن الرئيس العراقي بعيد تماماً عن حقائق الأوضاع السياسية العالمية. فأكدت له أنه لا تغيير، على الإطلاق، في الموقف الفرنسي؛ إذا كان ينتظر هذا التغيير، أو يعتقده. وكذلك الحال، بالنسبة لموقف الاتحاد السوفيتي، لأنه كان واضحاً لنا تماماً.

    وقلت له، إنني رغم التطاول والتجاوزات، التي تنطلق من إذاعة بغداد، وتَرِد على لسان كبار المسؤولين العراقيين، وفي صحافة العراق الرسمية، فإنني ما أزال أرجو، مخلصاً وصادقاً، أن يستمع إلى صوت العقل، لإنقاذ الشعب العراقي، والجيش العراقي، من ويلات الحرب. فليس من مصلحتنا، ولا من حقنا، أن نهدر هذه الطاقات في غير ما شُرعت له. ورجوت أن يصلني رد منه، قبْل أن يغادر الرئيس الأمريكي القاهرة. كنت أعتقد أن يبقى فيه أمل ـ أقدر أتكلم ـ علشان أبذل مجهود، علشان نتجنّب المصائب اللي حا تحصل. غير أنني لم أتلقَّ منه أي رد؛ وكأنني كنت أصرخ في وادٍ.

    ولكنني لم أيأس، أيضاً. وكلفت مكتبي باستدعاء السفير العراقي، في صباح يوم 26 نوفمبر 1990، وتم إبلاغه برسالة أخرى إلى الرئيس العراقي، قلت له فيها، إنني بعد مباحثات مطولة مع الرئيس الأمريكي، ازددت إيماناً بأن المجتمع الدولي، بكل عواصمه، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، مصمم، أكثر من أي وقت مضى، على ضرورة الانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية. وأضفت أنني، من خلال هذه المباحثات، وجدت أن الخيار العسكري مطروح، بشكل فعلي. وأكدت له ذلك، مراراً. وهو مطروح، بشكل فعلي، من الدول الكبرى، الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وإن هذه الدول متجهة إلى قرار يبيح استخدام القوة العسكرية، لفرض الانسحاب من الكويت. قلت له، قبْل أن يصدر هذا القرار. وهذا ما يُنذر بكارثة محققة، يمكن أن نتفاداها، إذا نحن أمسكنا بزمام الأمور، وأعدنا الأوضاع إلى ما كانت عليه.

    ثم جاء رد رئيس العراق، مكتوباً، في يوم 25 نوفمبر 1990. وكان رداً غريباً متناقضاً؛ إذ قال في رسالته، إنه لا يرفض الحوار مع الرئيس الأمريكي، جورج بوش، ولكنه لا يعطيه أي مشروعية في التدخل في العلاقات العربية. صدقوني. صدقوني لم أفهم، حتى الآن، معنى هذه العبارة المتناقضة. مش عارف ماذا يريد. صدقوني أنني لم أفهم، حتى الآن، معنى هذه العبارة. تجمد تفكيري في فهْمها. يريد الحوار مع الرئيس بوش، ولكنه يرفض أن يتدخل بوش في الموقف العربي. الله! يتحاور على إيه؟ السياسة الأمريكية؟! وهل سيكون حواره مع بوش عن موقف آخر، غير موضوع الساعة، الذي نحن بصدده؟

    ثم بدأت الرسالة توجِّه الاتهامات لي، بأنني أستعجل الحرب. الله اعلم! لأن وزير خارجية أمريكا بيقول لي: إحنا لازم حا نضربه، أول يناير. قلت له أرجوك، ادوا له الفرصة، كمان 3 شهور، يمكن نجد أملاً. وطلع الكلام ده ـ هو قاله للأمريكان ـ قال لك لأ ده بيتأمّر علينا. أنا أعرف معنى الحرب، وإحنا في مصر، خضنا الحروب. عارفين. عارفين بتعمل إيه الحروب، ولا يمكن أن نكون أول ناس تتكلم عن الحروب. مع مين؟! مع شعب عربي؟ الشعب العربي ده صعبان على الواحد. صعبان على الواحد. بالمناسبة دي أحيى زعماءنا ـ حرب 56 و67 و73 ـ عندما نجد الزعيم العربي (تصفيق)، زعماؤنا المصريون حتى من قبل الثورة، عندما يجدون خطراً يهدد الشعب ـ المواطنين ـ يوقف النار ولا يتمادى في هذا، لزعامة شخصية. عبدالناصر وقف السادات لما لقي الحكاية حاتموت الشعب وقف يدور على وطنه، ما بيدوّرش على زعامة.

    ثم بدأت الرسالة توجِّه الإتهامات لي أنني أستعجل الحرب، وأسعي لتدمير العراق. ( إزاي بس؟ كانوا قالوها. هو فيه سر بره؟ اللي يقول كلمة للعالم، لازم يبقي عارف تماماً أنها طالعة؛ فكل كلمة بأقولها بحساب، وبميزان من ذهب، إن كانت حاتدى معني مختلف، بلاش. أنا أدور على مصلحة 55 مليون مواطن عندي). ثم قال ما نصه، وهو ينتظر مني تفسيراً لهذا الموقف المعادي، إن أنا بأسعي لتدمير العراق. وقال، أيضاً، إن الذي يحتل الكويت، المحافظة الـ 19، كأنه يحتل البصرة أو بغداد. ما خرجش ولا تصريح منه أبداً، غير دي أرضنا، دي بتاعتنا. وما تتعبوش نفسكو مفيش مرونة أبداً. مخه تحجّر. ونأمل ألاّ يدفع بوش جيشه إلى الهاوية، وألاّ يتورط فهد في هذه المعمعة؛ لأن النصر سيكون، أكيداً، لجيش العراق، الذي يريده الله سيفاً ـ عرفنا ربنا دلوقتي! ـ مسلولاً، ضد الباطل وأهله.

    ولأول مرة، يتحدث، في رسالة، عن القضية الفلسطينية، كقضية معلقة، يجب أن تبحث مع كل القضايا. وفي ختام رسالته، عاد إلى اتهامي، بأنني المسؤول عن الرعب، الذي أوقع الملك فهد في الوعكة. أنا أخوّف الملك فهد؛ هو الملك فهد عايز وصاية مننا؟ راجل وعنده إمكانات. وعنده كل حاجة. وعنده اتصالات، ومعلومات بتيجي له. وبالتالي، أوقعته في هوة استدعاء القوات الأجنبيـة. يا سلام! أنا ها قول للملك فهد، استدعِ قوات أجنبية ليه؟ على لساني أنا، متجيش، هو بيقدر موقفه، وعنده علاقات، ويقدر يطلب اللي عاوز يطلبه. وبيني وبينكم، لو كانت القوات العربية انبعثت، كانت الحكاية اتلخبطت أكثر، بصراحة. وكان، زمان، ضاعت المنطقة الشرقية، وبقينا في وضع أسوأ من اللي إحنا فيه. وكان، زماننا، إحنا اللي بنقاتل بعض. وبالتالي، أوقعه في هوة استدعاء القوات الأجنبية، عندما أوهمته ـ على حدّ قوله ـ أن قوات مدرعة عراقية، تتجه إلى المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية. الله! هو أنا عندي أقمار صناعية طائرة فوق الخليج، قاعد شايف؟ أنا في مصر حاطط شاشات، وقاعد شايف الجيش نازل من العراق حتى السعودية؟ أنا حاعرف منين؟ يعني أنا ماعنديش أطباق طائرة، ولا بتاع، ولا قاعد أراقب الخليج. يعني ها أشوف منين يعني؟ وما دمت مسؤولاً عن ذلك ـ بيقولي ما دام إنت مسؤول، وقلت هي حجة ـ فهو يطالبني بأن أسعي إلى لقاء بينه وبين الملك فهد (بيخبطني قال علشان أصلح الخطأ اللي هو، في، وجهة نظره، خطأ، وأن أخليه يقعد مع الملك فهد. هو أنا أقدر أقعّد الملك فهد بالعافية؟ السعودية دولة مستقلة ذات سيادة ولها كل حاجة). ورغم هذه الاتهامات الصبيانية، فإنني لم أغضب، وهل يتصور أحد أنني أعرف عن التحركات العراقية على حدود السعودية، ما لا يعرفه الملك فهد؟ وهل مصر، هي التي تراقب الحدود السعودية، وترصد تحركات القوات المدرعة العراقية؟ وهل مصر لديها من الأقمار الصناعية، والإمكانات، التي تمكنها أن تراقب التحركات العسكرية، في هذه المنطقة من العالم العربي؟ وهل نحن الذين نتعجل الحرب، ونريد تدمير العراق، ونحن الذين نناديه، ليل نهار، بكل أساليب الإعلام، أن يحمي شعب العراق، وجيش العراق والأرض العربية، من دمار الحرب وآثارها الرهيبة. ونحن الذين نبصره، صادقين، بحقيقة الموقف الدولي، المحجوبة تماماً عن فكره ووعيه ؟ لم أغضب، ولن أيأس. فقد أدركت أن صدام حسين، يعاني حالة نفسي ة حرجة. ولذا، بعثت إليه برسالة مطولة، مكتوبة بتاريخ 30 نوفمبر، أوضحت له فيها كل هذه الحقائق، وسجلت فيها أنني لم أطلب أن أكون قناة اتصال بينه وبين الرئيس الأمريكي، جورج بوش أو غيره. علماً بأن الرئيس العراقي، هو الذي أعلن على الملأ، أنه يريد أن يدخل مع الرئيس الأمريكي في حوار مباشر، وليست لنا مصلحة، ولا مأرب، في القيام بدور الوسيط، في هذا المجال.

    وكان قصدي، أن أخاطبه كرئيس لدولة شقيقة، لم تجمعنا بها، طوال السنوات الماضية، سوى كلمة الحق، والدعوة إلى الخير، والرغبة في حماية المصالح القومية الأساسية، والتقريب بين الشعوب العربية، التي تشترك في الهدف والمصير، وتواجه نفس التحديات. وأوضحت له، بكل صراحة، ألاّ يعطي أُذنه لمن يروج له، أن مصر، حين دعت إلى عقد مؤتمر القمة العربية (طلعت أقاويل، طلعها ناس وإحنا عارفين. مفلسين)، كانت تريد أن تنتقم من العراق، بسبب مواقف سابقة للعراق ضد مصر، وبالذات في مؤتمر بغداد، 1979.

    أنا استغربت. أنا نسيت مؤتمر بغداد. حقيقي إتعمل فينا عمايل، وانقطعت الدنيا، وضغطوا على الدول، مع إن، والله العظيم، ما فكرت في هذا خالص، ولا جه في تفكيري. أنا كنت بأساعد، وشرحت له كل ظروف عقد المؤتمر، واتصالاتنا بالملك حسين، وإصرارنا على معالجة الأزمة في إطار عربي، وتحذيرنا من تدميرها. ولو كان لدى مصر أية نوازع انتقامية، لما كانت قد وقفت إلى جانب العراق، أثناء الحرب، التي كانت مستعرة مع إيران، ولما عنيت مصر بتطويق الأزمة مع الكويت وتسويتها، بما يجنّب العراق أهوال مواجهة عسكرية، لا يعرف أحد مداها.

    وسجلت في رسالتي، أن هذا الاستعداد من جانبه، للدخول في حوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو المملكة العربية السعودية، يتعارض تماماً مع استمراره في الحديث عن الكويت، باعتبارها المحافظة التاسعة عشرة، والقول بأن تحريرها، يشكل احتلالاً لجزء من أرض العراق. اللي يحرر الكويت كأنه بيحتل العراق ـ ده أيه؟ مش فاهم ـ لا يختلف عن احتلال البصرة أو بغداد. وقلت له بالنص: (هم عملوا وحدة؟ وحدة بالأمر؟). وقلت له بالنص: "ولعلك تدرك جيداً أنه ـ ليست هناك دولة واحدة في العالم، تعترف بضم الكويت للعراق ـ وحتى الدوائر العربية، التي تظهر مساندتها للموقف العراقي ـ وحتى الدول اللي مع العراق العذر بتاعها، بس بيتحفظوا على القوات الأجنبية. (هو إنتم عندكم قوات تقدر تمنع ده؟) وحتى الدوائر العربية التي تظهر مساندتها للموقف العراقي، لا تدخر جهداً في تسجيل اعتراضها بهذا الضم، وثبات اعترافها بالكويت، دولة ونظاماً وكياناً. ولا بدّ، إذاً، من توفير الظروف الضرورية للتمكين من إجراء الحوار مع الرئيس الأمريكي، أو الملك فهد بن عبدالعزيز، وأولها قبول إعادة الوضع إلى ما كان علية، قبل الغزو العراقي. فعنئذٍ، يكون للحوار مضمون ومحل، وبغيره يكون المعنى، هو مواجهة الأُسرة الدولية بأمر واقع، ترفضه، لتعارضه مع المبادئ والقيم، التي تعارفت عليها، (كل ده قبل الحرب). وقلت له، أيضاً، في هذه الرسالة: "إنني أرجو أن أكون على صواب، في الاعتقاد أنكم تدركون، في قرارة نفسكم، أننا إذا أضعنا الكويت، اليوم، فسوف نفتح الطريق إلى إضاعة أقطار عربية أخرى، وإلى ترسيخ ضياع حقوق الشعب الفلسطيني، التي نعمل على استردادها وحمايتها. فهل هذا وضع تقبلونه، وتستطيعون التعايش معه؟"

    بل إنني قلت له، في ختام هذه الرسالة، التي شغلت 22 صفحة، في ختام رسالتي هذه، أود أن أعرب لك مجدداً عن استعدادي للقيام بأي جهد أو سعي، يمكن أن يخطو بنا إلى الأمام. (هو بعت لي جوابات غير مهذبة. بأرد عليه، وأقول معلهش، هو في محنة، أُحاول أساعده، يمكن ده فيه أمل) حتى إذا تطلب هذا أن أتوجه إلى أي بقعة في آخر العالم، طالما توافرت الرغبة لديكم في تحقيق انفراج حقيقي في الموقف، بما يتماشى مع التوجهات الأساسية للرأي العام، العربي والدولي.

    وبعد هذه الرسالة، التي بعثت بها إلى صدام حسين، في 30 نوفمبر 1990، كنت أتصور أنه سوف يقتنع بصدق النصيحة، وبخطورة الموقف. ولكن ماذا جرى؟ تلقيت، في 19 ديسمبر 1990، رسالة خطية، لا يخلو سطر واحد فيها من توجيه السباب، والتجريح الشخصي، والاستنكار لمواقف مصر. وأقلّ ما جاء فيها: "إن لنا سياسة ظاهرة، وسياسة باطنة وسماها سياسة الوجهَين". (عمر مصر، ما بتشتغل بوشين. مصر، طول عمرها، من قديم الأزل، بوجه واحد، مع الحق، ومع الشرعية. لا بنّاور، ولا بنلعب. بنقول للغلطان، أنت غلطان. أنت مخطىء، علشان دي ساعات بتزعل. بتزعل الظالم). وإننا مصرون على نهج المغالطة (الرئيس بتهكم ـ : ده إحنا اللي بنغالط معلهش)، وقلب الحقائق. (معلهش نشكره) والسرد غير الأمين للوقائع (حاش لله، وكتر خيره)، وكرر إنكاره أنه التزم معي بوعد بعدم العدوان على الكويت.

    ده أنا شعرت يوم الغزو، كأني أخذت خنجراً، في ظهري. تجمد تفكيري. مقدرتش أتكلم حتى المغرب. مش قادر أتصور أن ده يحصل بين رؤساء دول، أو بين دول وبعضها. ثم قال واقعة خطيرة، وهي بنص تعبيره: " إن الإخوة القادة العرب، الذين زارونا، في نفس الفترة (هو يقصد الفترة السابقة للغزو)، قد استنتجوا، بدون لبس، أن الوضع ينذر بأوخم العواقب (هو بيقول إن الرؤساء، اللي راحوا له، قبل عملية الغزو والهيصة دي، الرؤساء شعروا أن الموقف خطير، بينه وبين الكويت. يعني فهموا إن هو ها يحتل الكويت. إحنا ما سمعناش الكلام ده). ولست في حاجة إلى أن أعلن لحضراتكم، من هم الإخوة القادة العرب، الذين زاروا صدام حسين، في هذه الفترة، وعرفوا، بغير لبس، أن الوضع ينذر بأوخم العواقب، ومع ذلك، تكتموا الأمر، وبدا للعالم كله كأنهم فوجئوا بالغزو العراقي للكويت.

    ثم أعاد الاتهام لنا، بأننا عملنا على تعويق أي تسوية مع الكويت.(الكلام اللي أنا بأقوله ده، مكتوب في خطابات.لا باستنتج، ولا بأفتن كلام)، أنا بأنقل لكم نص كلامه من خطاب. والخطابات موجودة. ثم أعاد الاتهام لنا، بأننا عملنا على تعويق أي تسوية مع الكويت. نرجع تاني لمؤتمر القمة، اللي أنا اقترحته. ماحدش اقترحه، ده أنا بأقول قمة. بس "يوشوشونا" يقولوا لنا، إحنا مستعدين، وأنا أعمل له تمثيلية كبيرة لحفظ ماء الوجه. بس ينسحب. فلما ماوافقوش على النقطتَين، مارضتش أدعو لقمة، قلت لهم ادعو أنتم، فاعتبر أنني أنا بوظت الحل. حل إيه؟! ما أنت مصرّ، من أول دقيقة. أبداً الكويت زي البصرة، اللي يعتدي على الكويت، كأنه اعتدى على العراق.

    ثم عاد للاتهام لنا، بأننا عملنا على تعويق أي تسوية مع الكويت، لأننا طالبناه بأن يتعهد قبل عقد مؤتمر القمة المصغر، الذي اقترحت عقده في جدة، بالانسحاب من الكويت، وعدم التعرض لعودة الشرعية.

    لما اقترحت هذا المؤتمر، أنا اتصلت بالملك فهد: بأقوله، يا جلالة الملك، هل عندك مانع، لو الراجل عرفنا منه كده، من سكات، إنه مستعد ينسحب وتعود الشرعية، عندك مانع نجتمع في جدة، ونعمل سيناريو كويس، علشان نخرجه، بكرامة، علشان شعب العراق، من هذه الأزمة؟ قال لي أنا ما عنديش مانع. طيب إذا ما وافقوش، إحنا حنروح نبصم على الاحتلال كلنا. محدش حيرضى. ولا واحد حيقبل النداء مني إطلاقاً. حنادى زي  بعضهم اللي نادى بالقمة، ومحدش سأل فيهم خالص. ثم إنه أعاد الاتهام. رجع تاني بيعيد الكرّة من الأول. اننا شاركنا في الترويج للتهديد العراقي الملفق، المزعوم، بأن العراق تقدم بقواته. ما عندوش غير الكلمتين دول. اللي قالوا قوات. ياخويا مش إحنا اللي قلنا، الأقمار اللي قالت له، وإحنا سمعنا بعدين، فبنسأل الكلام ده حقيقي؟ قالوا: آه حقيقي. والمملكة العربية، ساعتها، طلبت قوات، من أول لحظة، على طول، واستعدت، خشية أنه يحتل المنطقة الشرقية، ولو كان احتل المنطقة الشرقية، كانت بقت كارثة أكبر. كانت بقت مصيبة. والحمد لله اللي هي جات على كده، أدي إحنا نقدر نحاول في العملية.

    ثم أخذ يعايرنا بأن مجلس التعاون العربي، هو الذي أعاد مصر للأمة العربية. ولولا الجهد الذي قام به العراق وإخوان آخرون ـ بتوع المجلس يعني ـ لما كانت عودة مصر للجامعة العربية، قد تمت قط. أنا بعت شكرته، وقلت له أنا عارف أنك أنت بذلت مجهوداً، وأنا بأشكرك على هذا. لكن هذا لا يثنيني عن أن أقول الحق، حتى لو كان ضد صديقي وأخي. ثم هو يتعجب لماذا أرفض الربط بين احتلال الكويت وقضايا المنطقة؟ دي عملية تمثيلية. ده قال مرة أيه؟ إحنا نبدأ بالقضية الفلسطينية، وانسوا موضوع الكويت على ما يكرس الاحتلال تماماً، وعارف القضية الفلسطينية فيه اللي حيعوقوا فيها كثير. واتهمنا بأن اللي عملناه في القضية الفلسطينية، مهزلة، ومعملناش حاجة. وهو إلى قاعد مافتحش بقه، ما عليهشي أي حاجة !!! ووصف الكفاح المصري لحل القضية الفلسطينية ـ ده بالحرف كلامه في خطاب مكتوب ـ بأنها مهزلة، وأن مخططنا على مدى السنوات، هو تمييع هذه القضية. سبحان الله. بقى يطالبوا بالقضية. ما كانوش بينطقوا بيها. نطقوا بعد ما احتلوا الكويت). والضغط على الفلسطينيين، لكي يتنازلوا عن حقوقهم. (إحنا ضغطنا على الفلسطينيين؟! إذا كانوا هم قالوا الكلام ده، حقول سامحهم الله، وبكره حيعرفوا مين اللي بيقف معاهم، مين اللي واقف معاهم ومين اللي حيقف معاهم، لعلهم يتعلموا).

    ثم قال إنه يرفض. ثم عاد وقال. إنه يرفض الحوار مع السعودية ( الله! غريبة!! ما أنت كنت عايز حوار).

    ترفض الحوار ولا عاوز حوار؟ نفتح الباب، ولا نقفله، ولا نسمكره؟. قال إنه يرفض الحوار مع السعودية، ويكفي أن العالم كله، كشف الدور الحقيقي لهؤلاء المتعاونين مع أمريكا. إحنا حنيجي نشتغل على اللعبة. المتعاونين مع أمريكا والمتعاونين مع الاتحاد السوفيتي ونشتغل زي مراجيح الهوا! كل دولة بتدور على مصالحها، وكل دولة لها سيادتها، ولها كرامتها، إحنا بنتعاون مع جميع الدول: أمريكا، وروسيا، وفرنسا، وكل دول العالم؛ لأن لنا مصلحة في هذا، ولكن مافيش حد بيمس السيادة المصرية. كما أنه يرفض الحوار مع أمريكا، حتى لو أدى إلى حل. يا سلام! الكلام بيناقض بعضه، من الأول للآخر. ولكنه يريد حواراً عربياً ـ عربياً. علشان عارف حيقعد يشتم شوية ـ والناس أصلهم مؤدبين حيتكسفم ـ وحيأخذ الأرض، وينام، وما حدش يتدخل من بره. ولم أفهم كيف يكون الحوار عربياً ـ عربياً، وهو رفض الحوار مع السعودية، في آخر خطاب له . كما أنه ألغى وجود الكويت تماماً، وهو يرفضنا، لأننا من المتعاونين مع بوش.

    إحنا متعاونين مع بوش، ومع ميتران، ومع أندريوتي، ومع كول، ومع كايفو، ومع كاوندا، ومع كل حته في العالم. خلاص!! أرفضنا علشان العالم ده كله، وخليك منعزل وقاعد لوحدك يمكن ربنا ينزل عليك الوحي!! كما يرفض دول الخليج وسورية. فمع من، إذاً، يريد أن يتحاور؟ ألم يكن مؤتمر القمة العربي، هو المسرح الطبيعي للحوار العربي ـ العربي، ولحل الأزمة تحت المظلة العربية، دون ترك الفرصة للتدخل الدولي؟ ولكن، ماذا أقول، وهذا هو الرجل الفظ، الذي قاد شعبه وجيشه إلى حرب عاتية، دون مبرر مشروع، ودفع المنطقة كلها إلى الموقف الرهيب، الذي نعايشه الآن.

الإخوة والأخوات.

    لعلكم تتفقون معي، أن هذه الرسالة الأخيرة، من الرئيس العراقي، كانت قاطعة في دلالاتها على أن الرجل، يعيش في غير عالمنا، وأنه يُقدم أقوالاً متضاربة، لا تدعمها إلاّ الشتائم والافتراءات والبذاءات. وقد رأيت أن أرد عليه في رسالة متكاملة، استغرقت 44 صفحة، مفنداً ادعاءاته، عبارة عبارة، للتاريخ. هو بيكتب لي الجوابات دي، علشان يثبت عليّ، في التاريخ. أنا بأقوله: لا، تعال، التاريخ أهوه. وأتحدى إذا كان فيه كلمة، أنا بأقولها، مخالفة للتاريخ، محاولاً بكل ما وسعني من جهد، أن أضعه في الصورة الصحيحة، وأن أحذره، للمرة المائة، من الأخطار والمصائب، التي دفع إليها عالمنا العربي، بعناده وتمسكه بباطل. يتحدى المجتمع الدولي، لغير ما هدف، سوى إظهار بطولة في غير موضعها (كل ده، قبل الغزو). عمال أدي له نداءات (26 نداء، ويجي 6 خطابات). أقول له: يا جدع، في عرضك. أرجوك. محدش عمل معاه كده. وقلت له مستعد أروح لك في أي حته في العالم، أتوسط، بس ما حدش حيقبل إللي أنت بتعمله.

    وبعثت برسالة إليه، في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي، وقلت له كلمات محددة: نحن نربأ بكم، أن تتخذوا موقفاً مماثلاً لهذا الذي اتخذته إسرائيل، بعد احتلالها لجزء من أرض الأقطار العربية المجاورة، في يونيه 1967. فقد أخذت تطرح شعارات التفاوض، دون شروط مسبقة؛ ولكن المجتمع الدولي رفض هذا الطرح، وأصدر القرار 242، في 22 نوفمبر 67، الذي أكد فيه عدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة، ونص على انسحاب إسرائيل من الأرض، التي احتلتها في النزاع الأخير. وقلت له: إذا كنت قد كررت، في عشرات المناسبات، في الأشهر التي انقضت، منذ وقوع كارثة الغزو، أنك تعتبر احتلال الكويت أمراً نهائياً، لا رجعة، فيه، تحت أي ظروف من الظروف، وأن الكويت أصبحت المحافظة التاسعة عشرة في العراق، فهل هناك مجال، بعد هذا الحديث عن التفاوض بدون شروط مسبقة؟ وقلت له كلمة أخيرة، في رسالتي: خير لنا جميعاً، أن يسجل التاريخ أنك قد حفظت للأمة العربية أمنها وسلامتها، وحقنت دماء أبنائها، وصنت الأرض العربية، من أن تكون مسرحاً لآخر حرب كبرى، يشهدها العالم، في القرن العشرين. والحل ما زال متاحاً أمامنا، رغم كل ما حدث.

    وتعرفون، أيها الإخوة والأخوات، كل ما جرى بعد ذلك. وخلال ذلك، رفض وساطة الاتحاد السوفيتي، مرات ومرات، ولا يزال يرفضها، حتى هذه اللحظة. رفض وساطة فرنسا. كانت طالعة مبادرة كويسة، رفضها. رفض وساطة ألمانيا. برضه رفضها. رفض وساطة بريطانيا. ورفض وساطة النمسا. رفض وساطة الجزائر. رفض وساطات عربية أخرى. ورفض وساطة الأمين العام للأمم المتحدة. ورفض وساطة زعامات سياسية، من مختلف أنحاء العالم. والكل نصحوه بالانسحاب، والكل حذروه من عواقب الحرب الوخيمة، ولكنه أصرّ على الرفض، بل إنه تعمد، في كل محاوراته معهم، ألاّ تجري كلمة الانسحاب على لسانه أبداً، واختار أن يكون وحده.

    حأحكي لكم حاجة صغيرة، حصلت مع رئيس دولة راح له. بيقول له الموقف خطير، ولا بدّ أن تنسحب القوات فظيعة ـ ده  قبل 15 يناير ـ فكان رده، قال له: لا. عبدالناصر. أنا مش عارف وجه المقارنة بعبدالناصر أيه؟ عبدالناصر دامافيش زيه خالص عبدالناصر. ده راجل كان بيحرر شعوب. كان مع الحق. ما كانش بيحتل شعوب. زعماؤنا السابقون ـ والحمد لله ـ لا يقبل مصري خارج بلده. قد ينتقد زعيمه في بلده، لكن لا يقبل مواطن مصري، أن ينتقد زعيم بلده، خارج الحدود المصرية. فقال له أيه؟ عبدالناصر، سنة 56 ضربوه وانهزم، ولكن أصبح زعيماً. آه. المسألة بقت زعامة، ولو على حساب الناس تموت. عبدالناصر لما لقي الخطر، أوقف حرب 67، طلب وقف الحرب، لقي الشعب حا يموت. بيحافظ على شعبه. مين. زعيم وطني يقول له الحرب خطيرة، زي ما تقالت في تصريح إمبارح. قال لك الزعيم المصري يحافظ على شعبه وعلى بلده، ولا يريد أن يخسر فرداً واحداً، إلا إذا كان مضطراً لذلك. العالم كله، هو المخطئ من وجهة نظره، الذي يجب أن يتراجع أمام جبروته وقوّته التي ستحيل الدنيا إلى جحيم ودمار وجماجم، هو فاهم كده.

أيها الإخوة والأخوات، أعضاء مجلسَي الشعب والشوري.

    وبعد ذلك، نجد من يزعم، سواء في مؤتمرات صحفية، أو في بيانات مطبوعة، يوزعها، هنا وهناك، أن صدام حسين، وافق على الانسحاب، في اليوم الخامس من أغسطس. مش لاقيين حاجة! طيب ما انسحبش ليه؟ طيب أنا لما قلت مؤتمر قمة علشان الانسحاب، طيب ما قلتلناش ليه أنه وافق؟ طيب ما قلتلناش ليه؟ إذا ما كنتش قلتلنا تبقى خيانة. وماكنتش عملت مؤتمر قمة وخلصنا. لكن، بعد الهنا بسنة، جاي تقول إنه كان موافق، وكان حينسحب. طيب ما ينسحب. قال لمّا أدنّاه، اتنرفزوا. اتنرفزوا؟! إحنا بنتعامل مع ناس صغيرين، بقى أنا اتنرفز أقوم أضيع بلدي، وأضيع شعبي، وأضيع جيشي. أيه دي؟ نرفزة أيه دي!! حاجة غريبة.

    إن صدام حسين، وافق على الانسحاب، في اليوم الخامس من أغسطس، وإن مؤتمر القمة العربي، وضع العقبات أمام تحقيق هذا الحل العربي. والله، يا أخي، أنا لمّا أكون في موقف صعب، ولا قمة، ولا غير قمة، أنا بأخذ قراري بالانسحاب، حفاظاً على أهلي، وعلى مستقبل بلدي، وعلى مواطني، وعلى معداتي. دي مش عايزة كلام. أي زعيم وطني بيحب بلده، أول ما يلاقي الخطر حيخش على أهله، على طول، لازم يقف. أتنازل، أتراجع 600 مليون مرة، في سبيل أن ما أموتش مواطن. ده أيه ده ؟ أنا بأجرّ ورايا كذا مليون. شعبي أعرضه للخطر، علشان أتربس دماغي. ده كلام في الدنيا يتقال ده؟!! لا أريد، أيها الإخوة، أن أتناول بالتعليق مثل هذا اللغو والهزل، الذي يُتخذ وسيلة للتنصل من المسؤولية عن هذا الواقع المرير، الذي حاولنا، بجهود مستميتة، فوق طاقة البشر، أن نتجنّب وقوعه.لا أريد أن أتحدث عن هذه المواقف المنافقة أو المتأرجحة، التي اختارت أن تلعب بالنار، وتزيدها اشتعالاً، والعالم كله يسعى إلى إطفاء النار، واختيار السلام. لقد ارتفعت صيحات مضللة سمحت لها ضمائرها أن تصور احتلال الكويت وكأنه عمل إسلامي يتعين على الشعوب الإسلامية، أن تباركه، وأن تحميه من أعداء الإسلام والمسلمين. أي كلام هذا؟ لم يقر الإسلام غزو الأرض الإسلامية وترويع أهلها، بالسلب والنهب والاغتصاب، وتبديد الثروات. ومنذ متى أصبح هؤلاء الغيورون على الإسلام، ينظرون إلى صدام حسين، باعتباره حامي حمى الإسلام، بعد أن غزا الكويت؛ مع أنهم كانوا يتهمونه، علانية، بالعمالة، ومعاداة الإسلام، والخروج على تعاليمه، عندما دخل الحرب مع إيران؟ أليست الكويت بلداً إسلامياً، كإيران؟ ألا تزيد عنها أنها قطْر عربي، تجمعنا به الرابطة القومية، إلى جانب الصلة الروحية؟ ألا يضاعف من حجم المفارقة، أن الكويت دولة صغيرة، لم تشكل تهديداً لأحد، على الإطلاق، ولا يمكن أن يُقال إنها تعصف بأمن الأمة العربية؟ وهؤلاء الذين اعدموا بالرصاص، أو على المشانق، من أبناء الكويت، ونهبت بيوتهم، وحضانات أطفالهم، وهتكت أعراضهم، أليسوا من المسلمين؟ وهل يبيح الإسلام لفرد، كائناً من كان، أن يدمر شعباً عربياً مسلماً، يجاوره بالحسنى، وبأسمى العلاقات، وأن يعرض للخطر شعبه ووطنه وإنجازاته؟ ولمَ كل هذا؟ هل لمجرد أن يقال إنه تحدى العالم أجمع! أليست العبرة بم ضمون هذا التحدي ومبرراته؟ هل نحن في معرض بطولات زائفة، أم أن نا أمام تقرير مصير شعوب وأمن منطقة بأسْرها، تضم الملايين من العرب والمسلمين؟

    وإذا كانوا يروجون، أن القوات الأجنبية، قد دنست الأرض المقدسة، وهي في موقعها مع القوات، العربية والإسلامية، على بعد مئات من الأميال من الأماكن المقدسة، فهل إطلاق الصواريخ العراقية على المدن السعودية، لتدميرها عمل جائز شرعاً وحقاً؟ ألا يعتبر هذا اعتداء على قدسية هذه الأرض؟ ألا يعيش على هذه الأرض مسلمون، اتجهت الصواريخ إلى بيوتهم الآمنة، لكي تدمرها، وتقضي على حياة النساء والأطفال فيها؟ هل هذا هو الاحترام الواجب للأرض المقدسة؟ وهل كان التدبير لغزو أرض السعودية، ودفع قوات مسلحة عراقية إلى حدودها، في يوم غزو الكويت ـ عملاً من أعمال الإسلام، ورعاية واحتراماً للأرض المقدسة؟ والكويتيون والسعوديون، المسلمون، الذين يدافعون، الآن، عن أرضهم وديارهم، هل هم يشنون حرباً دينية ضد الإسلام والمسلمين؟ وقوات الدول الإسلامية، التي انتشرت بعشرات الألوف، وانخرطت في قوات التحرير، هل هي، أيضاً، قوات أجنبية، تشن حرباً دينية على المسلمين؟ ولست أدري لماذا لا يوجه هؤلاء المرجفون أصواتهم ونداءاتهم إلى حاكم العراق، أن ينسحب من الكويت، ويسدل الستار على هذه المأساة، التي لم يشهد لها التاريخ العربي مثيلاً، منذ الفتنة الكبري. وأين الإسلام في من يرى الباطل أمام عينيه، ناطقاً بالجريمة والدم، ويتحول بلسان النفاق إلى الترويج له، على أنه حق، على أنه حماية للإسلام والمسلمين؟

    إننا نعيش، أيها الإخوة، أياماً فاصلة، تنادي الرجال، بأقوال الرجال، وأفعال الرجال. وكل يوم يمضي، تتفاقم خسائر الأمة العربية أكثر فأكثر. فتيقظوا إلى كلمة حق، ودعوكم من خداع الجماهير، ولا تهربوا من الحقائق، لأن المسؤولية فادحة، والكارثة التي حلت بالوطن العربي مريرة دامية.

    إن الحقائق، تقول إن صدام حسين، هو الذي تسبب، بغزوه لدولة عربية مستقلة ذات سيادة، وترويع شعب عربي مسلم، في كل ما يجري الآن. ولا يزال بوسعه، حتى الآن، أن يوقف المأساة، ويضع حدّاً للكارثة. ولكنه لا يزال، حتى هذه اللحظات، يؤْثِر الدمار والهلاك، ويرفض مبادرات السلام؛ وآخرها مبادرة الرئيس السوفيتي، جورباتشوف، الذي طلب إليه أن يعلن عن عزمه عن الانسحاب، حتى تتوقف الحرب. ولكن حاكم العراق، يؤْثِر التضحية بشعبه وجيشه، على أن يتراجع إلى موقف حق.

    واسمحوا لي، هنا، أن أقول لبعض أصحاب السطور، التي لا تدرك المسؤولية القومية، في هذه الساعات المصيرية. أقول لأصحاب هذه السطور، رغم قلتها، يقظة إلى ضمير وطني. وإذا كنتم تتجاهلون، أن قواتنا المصرية في جبهة القتال، تؤدي واجبها. وهذا ما يفرض عليكم التزاماً وطنياً، لأن الشعب، كل الشعب، لا يتجاهل هذه الحقيقة، ويقف صفاً واحداً، ودرعاً واحداً، ومظلةً واحدة لقواته المسلحة. وحذار من الانزلاق بعيداً عن هذا الواجب الوطني، الذي تفصل فيه شعرة بين النور والظلام، وبين الالتزام والتسيب، وبين الأمانة وخيانة الأمانة.

    لقد وقعت خلافات كثيرة بين الأحزاب والتكتلات المختلفة، في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، قبْل أن يُتخذ القرار بالتدخل العسكري (مش بإرسال قوات.لأ. بالتدخل العسكري) وامتلأت ساحات برلماناتهم بالآراء المختلفة. ولكن ذلك كله، توقف عندما اتخذت الدولة قرارها. والتأم الجميع في صف واحد، وصوت واحد، وراء حكوماتهم. وهذه هي الديموقراطية التي تعرف معنى الالتزام الوطني، ومعنى الكرامة الوطنية. وليست دعوة الإسلام بأقلّ خداعاً من دعوة ولي الأمر، في بغداد، لحل القضية الفلسطينية، شرطاً لحديث عن أي انسحاب من الكويت، بل إنه حتى لم يقل إنه سوف ينسحب، إذا حلت القضية الفلسطينية. وهذا خداع مفضوح، لمجرد إثارة المشاعر، وتضليل رأي عام عربي، يضع قضية الشعب الفلسطيني في صدره موضع القلب. وهل اغتصب حاكم العراق دولة الكويت العربية الإسلامية، من أجل حل قضية فلسطين؟ ألمْ يعلن ولا يزال يعلن، أن الكويت هي أرض عراقية، وأنه أعادها، بالقوة، إلى وضعها الطبيعي؟ أين، إذاً، قضية فلسطين؟ وكيف برزت، فجأة، على السطح، كجزء من الأزمة والمشكلة؟ مناورات صغيرة في قضايا كبيرة، ثمنها الأول والأخير، إزهاق الأرواح، والتخريب والدمار.

    إن الرأي العام العربي، لا يمكن أن ينخدع بإطلاق بضعة صواريخ على المدن الإسرائيلية. يا سلام! شوية صواريخ سكود، و13 ونصف مليار مطلوبين، وصواريخ باتريوت والدنيا. أسلحة. صاروخ عامل زي البمب، بتاع شم النسيم، لا يودي ولا يجيب. إحنا عارفينه كويس، وهو نفسه، اعترف. لما رحت له، أول مرة، قاللي: الصاروخ اللي ضربوه كان أقوى من ده؛ لأن كان مداه قصير. قال ده كلام فارغ، بيعمل حفرة. لو كنت أعرف كده، ما كنتش اتخضيت منه. هو خففه وبيضرب بيه. اضرب، حنضرب، يعني حتعمل أيه؟

    وفي معركة، لا تتصل بكفاح الشعب العربي في فلسطين، من قريب أو بعيد. وهل يمكن أن ينسى أحد، أن الغزو العراقي للكويت قد حول أنظار العالم عن كفاح الشعب الفلسطيني وانتفاضته ضد الاحتلال الإسرائيلي؟ إن مثل هذه الأعمال الاستعراضية، التي تخرج تماماً عن سياق التخطيط الأمين، لنصرة حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المحتلة، وإقامة دولته، والتعبير عن هويته، القومية والحضارية، ولا يترتب عليها سوى تمكين إسرائيل من الحصول على تعاطف دولي أوسع، وجباية مزيد من الأموال، والحصول على أحدث الأسلحة المعقدة. وهذا ما يحدث. وبعد هذا، تروج أبواق النفاق، أن قوات إسرائيلية، انتقلت إلى السعودية، لتشارك في الحرب. كلام كده رخيص، عمالين يقولوا كلام، علشان يعقدوا الدنيا. إسرائيل مستكينة. ولا بتعمل حاجة. وكل ذلك كذب فاضح، يراد به فقط، إلهاب المشاعر، وتأليب الشوراع العربية.

    وأين كان العراق من قضية فلسطين، من عام 1948 وحتى اليوم؟ ده إحنا اتخرب بيتنا في قضية فلسطين. والديون إللي علينا، بسبب صرفنا عشان قضية فلسطين. اتنسى هذا؟!! راح لهف الكويت، وقال عشان أحل فلسطين. أروح الغرب علشان أحرر الشرق. عاوز تحرير الشرق، روح الشرق. ورينا شطارتك، في الشرق. أين كان العراق من قضية فلسطين، منذ عام 48 وحتى اليوم؟ وماذا كان دور العراق في حروب 56،67،73؟! ماذا فعل صدام حسين، بعد أن دمرت إسرائيل المفاعل النووي العراقي، عام 1982؟ ولا كلمة. ولا نطق. شتموا مصر (إسرائيل ضربت له المفاعل، يشتمونا إحنا). تلك أسئلة كبرى لا نجد لها جواباً شافياً.

    ألمْ يدخل العراق في حرب ضارية مع إيران، دامت ثماني سنوات، بعد أن أعلن للأمة العربية، أنه يحمي بوابتها الشرقية، ويدافع عن أمنها القومي، ثم عاد ليمد يد الصداقة والمودة وحسن الجوار، أخيراً، إلى إيران، ويتنازل، بجرة قلم، عن كل مطالبه التي دخل الحرب من أجلها؟ حارب إيران ليحمي البوابة الشرقية. خلص مع إيران، بلع البوابة الشرقية. لقد تصور الرئيس العراقي، أنه يضع مصر وباقي الدول العربية، التي ترفض احتلاله الكويت، في مأزق، إذا هو أطلق صواريخه على إسرائيل. لا. (ده أنا كان عندي اقتراح، لما وجهت له نداء، يوم 31 ديسمبر. قلت، يا رب، يكون عندهم مخ، لو فكروا في الانسحاب النهار ده، وابتدوا ينسحبوا حيحطوا العالم في مأزق، لأن العالم مش عايز يبقي عنده كل هذه الأسلحة. كان ربك العالم كله. ولكن المعاونين اللي عنده على قد الحال. اضرب صاروخاً هنا. اضرب بمبه، هنا. طب وبعدين وبعدين؟ ده أنا كلمته، بكل أمانة وإخلاص، خطابات شفوية. اتصالات. عملت المستحيل، إللي لا يمكن يتعمل. ما فيش فائدة).

    واسمحوا لي، أن أُكرر أن هذا خلط للأوراق، وتجميع للفرق الشاسع بين الحق والباطل.

  • قضيتنا هي تحرير الكويت، وعودة سيادتها وشعبها إلى أرضهم ودولتهم، العضو في الجامعة العربية والأمم المتحدة.
  • قضيتنا هي الالتزام بالشرعية الدولية، والشرعية العربية، اللتَين ترفضان، بنفس القوة، احتلال دولة لأرض دولة أخرى مستقلة، ذات سيادة، بالقوة العسكرية.
  • قضيتنا هي حماية دولة عربية مسالمة، من بطش دولة عربية معتدية، غاصبة.

    ولن تجرنا المناورات والخداع، إلى إساءة تقدير الموقف، أو قبول تصور زائف، مضمونه أن العراق قد شن هجومه على الكويت، لكي يحرر فلسطين. ولسنا في حاجة إلى صك اعتراف من أحد، بدورنا التاريخي في الالتزام بقضية الشعب الفلسطيني. إن شعب مصر العظيم، دخل أربع حروب، وضحى بعشرات الآلاف، من أطهر الأبناء. وضحى بالملايين وبالبلايين من موارده المحدودة، من أجل قضية الشعب الفلسطيني. ولم تتوقف جهودنا، يوماً واحداً، عن الكفاح في سبيل إقرار السلام، وإقرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وما ترددنا، يوماً، عن مساندة نضال الشعب الفلسطيني، في سبيل حقوقه المشروعة، في شتى مراحل هذا النضال. فدعونا من المزايدات المفتعلة، باسم القضية الفلسطينية (قميص عثمان). ودعونا نعمل، بصدق وإخلاص، ودون ادعاء أو مزايدة، على وضع تلك القضية في مقدمة الأولويات الدولية، بعد انتهاء الحرب في الخليج، ونثبت أن العرب جادون، وليسوا هازلين، وأنهم لا يطرحون الشعارات، إلاّ إذا كانوا مؤمنين بالقضية، ملتزمين بمناصرتها والتضحية في سبيلها. وهذا ما التزم به الرئيس الأمريكي، بوش، معي ومع خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز. وهذا ما التزمت به، أيضاً، القيادات الأوروبية، شرقاً وغرباً، والتي أجرينا معها اتصالات مكثفة، في هذا الشأن. وبذلك، اقتربت مواقفها من الموقف، الذي اتخذناه، طوال الأعوام الماضية، وحصلنا له على تأييد اجماعي من الأُسْرة الأفريقية العريقة، ولدى الدول الآسيوية الصديقة، وكافة بلدان العالم الثالث، وحركة عدم الانحياز.

    إننا نتطلع إلى سلام حقيقى، في أرضنا العربية، بعد انتهاء هذه المأساة، يزيل الآثار الرهيبة للحرب، التي تسبب فيها عناد الرئيس العراقي، وإصراره على الزج بشعبه في معركة، لا يمكن أن تحقق مصلحة، أو تدفع ضرراً عن أي شعب عربي، وشعب مسلم. وليس من همنا، أن يزول صدام حسين. إن الشعب العراقي، بكل أصالته وحضارته، باق، ولن يزول. ولقد تحمل الشعب العراقي الكثير والكثير. تحمّل معاناة حرب، استمرت ثماني سنوات، دون أن يجني منها إلاّ دماء الشهداء، في كل بيت عراقي، صغير أو كبير. تحمّل حياة الحد الأدنى من مطالب الحياة. وهو شعب دولة غنية بمواردها، بعد أن استنزفت هذه الموارد الهائلة، التي تصل إلى مئات المليارات، في مغامرات زائلة، لا تنفع الناس.

    إن كل مصر مع شعب العراق. كل مصر، لن تتخلى، يوماً، عن شعب العراق. ولن يكون مقياس الحكم على شعب عربي أصيل، بالحكم على تصرفات لقيادة، فرضت إرادتها على هذا الشعب، وتسلطت على أقداره، وحاولت أن تسيطر على مقادير الأمة العربية بأسرها، دونما سند مشروع.

    وما كان يدور في خيال أي عربي، أن يحتل جيش عربي دولة عربية شقيقة، ويهدد شعوباً عربية بأسرها، في منطقة الخليج، ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة، ويدخل في روعها، أنها في حاجة إلى من يحميها من الإخوة الأشقاء. ولا يوجد زعيم سياسي في العالم، أو رئيس دولة، كبيرة أو صغيرة، تقاعس عن بذل أقصى ما يملك من جهد، لكي يعدل حاكم العراق عن قراره. ولا يوجد منطق يساوي بين الإصرار على احتلال دولة صغيرة، وبين دفع المجتمع الدولي إلى قرار بتحرير هذه الدولة، بالقوة العسكرية، وبما يوسع نطاق الحرب إلى أرض العراق، حيث توجد القوة العسكرية المساندة لقوات الاحتلال. ومع ذلك، ورغم كل ذلك، إنني أقول، من هذا المنبر، باسم شعب مصر، وجيش مصر، إننا لا نتوقف، حتى هذه اللحظات، عن الإسهام في المساعي الدولية، التي يمكن أن توقف باقي فصول المأساة، إذا ما قررت القيادة العراقية، أن تحقن الدماء، وترجع إلى الحق، وتضع حدّاً لمعاناة الشعب العراقي، وسائر شعوب الأمة العربية.

    وأقول لكل من يهمة الأمر، داخل العراق، إن الصواريخ السياسية، يمكن أن تثير مظاهرة مخدوعة. ولكنها لا تكسب حرباً. والمؤسسة العسكرية العراقية، ليست ملكاً لفرد، ولكنها درع الشعب، في حماية مقدراته ومقوماته، بالبناء، لا بالهدم والتقويض. الفداء بالروح والدم، هو نداء الدفاع عن الأرض والعرض، عندما يغتصبها محتل، لا نداء لمن يعتدي على الأرض والعرض، ويعرض شعبه وجيشه للدمار. إننا أحرص على شعب العراق، وأرض العراق، ومصالح العراق، ومستقبل العراق، من هؤلاء الذين يتظاهرون بمناصرته، والوقوف إلى جانبه. ونحن أول الداعين لوقف هذه الحرب الباغية، التي بدأت في ذلك اليوم المشؤوم من أيام شهر أغسطس الماضي؛ وإلى تطويق مضاعفاتها وتداعياتها السلبية الخطيرة، على العراق، وسائر الشعوب، العربية والإسلامية.

    ولسنا نطالب، لهذا، تفريطاً في حق العراق، أو تنازلاً عن مصلحة مشروعة. إن كل ما نطلبه ونسعى إلى الحصول عليه، هو موافقة العراق على تنفيذ قرار مؤتمر قمة القاهرة، وقرار مجلس الأمن، رقم 660، فيما تضمناه من وجوب انسحاب العراق من الكويت، وعدم التعرض لعودة الشرعية إليه. لا مفر من هذا، وكل من ينادي بغير هذا، لن يستمع إليه المجتمع الدولي، على الإطلاق؛ لأن عجلة الحرب دارت، ولا يمكن أن تتوقف، إلاّ بالانسحاب، وعودة الشرعية. وبعد ذلك، نسعى، بالتشاور والتنسيق مع الأطراف المعنية، إلى توفير الغطاء العربي، والتجاوب الدولي، لصيغة تحفظ للعراق كرامته، وتصون حقه في العيش في سلام وأمان، وتحقق نهاية لهذه الحرب الضروس.

    إننا نقف، أيها الإخوة والأخوات، بكل حزم، ضد أطماع هؤلاء الذين يفكرون في المساس بسلامة العراق، وتهديد وحدته الإقليمية. ونحن نرفض دعاوى الانتقام من العراق؛ لأن الشعب هو الذي يقاسي، ويعاني، ولأن النوازع الانتقامية، تعمي الأبصار عن المستقبل، وتحُول دون رؤية الآفاق الفسيحة، التي يتيحها للشعوب، وهي على أعتاب القرن الحادي والعشرين.

    إن الرؤية المصرية، تقوم على الحفاظ على العراق والكويت، على حدّ سواء؛ لأننا لا نقبَل المنطق القائل، إن وجود إحدى هاتَين الدولتَين الشقيقتَين، يشكل تهديداً للدولة الأخرى، أبداً، أو إنه لا بدّ من الاختيار بين العراق والكويت. فنحن مع كلتا الدولتَين، كعضو في الأُسْرة العربية الكبيرة، وفي الجماعة الإسلامية، التي تتحلى بمبادئ الإسلام، وترعى قِيمهُ وحدوده. لا نميل إلى طرف على حساب آخر، لغرض أو هوى، بل إننا نساند ما نؤمن بأنه حق، ونأبى ما هو ظلم وجور، ونحترم الحدّ الذي شرعه الله، بين الحق والباطل، والحلال والحرام.

الإخوة والأخوات.

    أعرف أن الألم يعصر قلوبنا جميعاً. ولكن قدرنا، هو أن تكون رموزنا، هي الحرية والحق والنور، هي نجدة الأخ والشقيق، هي الالتزام بالعقيدة والمبدأ والشرف، لا التستر على الخطايا والخطيئة. وفي سبيل ذلك، فإن أمامنا كفاحاً عظيماً، لتحقيق الأمن والاستقرار في الوطن العربي، على امتداده، والتوصل إلى سلام شامل، يصون لكل شعب سيادته، وحقه في تقرير مصيره، والسعي إلى إقامة نظُم عربية راسخة للأمن القومي، بمعناه الشامل، والتعاون الاقتصادي الوثيق، من أجل البناء والتنمية، ومواكبة العالم الجديد، في تطوره، السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولن يكون تعاون الأمن العربي إلاّ تعاوناً عربياً مخلصاً؛ ودعوكم من أراجيف المروجين للأباطيل، فلسنا منطقة نفوذ لأحد، ولن نسمح بأن تكون المنطقة تابعة لأي نفوذ، أيّاً كان. روابطنا مع كل دول العالم، هي روابط احترام كامل للسيادة، وتقدير للمصالح المشتركة، وستبقي دائماً كذلك.

    هذه مبادىء راسخة في بنائنا، لا تتلون، ولا ترتدي لكل حدث قناعاً. الديموقراطية حياتنا، اليوم وغداً، وكل غد جديد. الالتزام الوطني والقومي، هو دستور علاقاتنا، العربية والإسلامية والدولية، الذي اخترناه، بالإيمان والاقتناع والثبات. كل ذلك يضاعف من أعبائنا، ويثقل من تبعاتنا؛ ولكن هذه هي مصر، مصر التي لا تركع، ولا تخون، مصر الحصن الأكبر، وأقوى الحصون، مصر الشرفاء، في زمن تتساقط فيه مبادئ الشرف والوفاء، وكأنها أوراق الخريف، في ظل شعارات النهازين للفرص، والطماعين في الأمجاد الزائفة. مصر التي قالت كلمتها الشجاعة، في كل مدينة وقرية وحي، بمجرد أن وقع الغزو العراقي الباطش لقطْر عربي شقيق.

    مصر، أيها الإخوة والأخوات، مصر التي استقبلت أبناء الكويت، في قلوبها، قبْل بيوتها. مصر التي رفضت الأيدي لرشوتها، لكي تغمض العين، أو تخفض الصوت، أو تمسك العصا من الوسط. رددنا هذه الأيدي، ودسنا على حديث الرشوة بالأقدام، وارتفع صوت مصر، مدوياً، بكلمة الحق، ومبدأ الشرف، واحترام حقوق الإنسان. ولم نساوم أو نناور، بل كان الموقف، هو الكلمة، وكانت الكلمة هي الموقف، عالياً، ساطعاً، شامخاً. لسنا من الباحثين عن أدوار، للاتجار بالقضايا، والمقامرة بمصائر الشعوب، أو تسجيل المواقف الوهمية، درءاً للشبهات، أو تغطية للحقائق، أو خوفاً من أصوات الإثارة، أو سعياً إلى تأييد للحق والباطل. دورنا واحد، من المشهد الأول حتى المشهد الأخير. دورنا فرضه تاريخ حضارة وريادة، وتاريخ أوجدته المسؤولية، الوطنية والقومية، بشرف ونظافة وأمانة. دورنا يشهد لنا، أننا لا نغير جلودنا، ولا نرتدي الأقنعة المختلفة، باختلاف النوايا والأطماع. لسنا في حاجة إلى قناع، وإننا لا نخطو بغير اقتناع. عقولنا ترجمة أمينة لما في صدورنا، صدورنا هي الإيمان، هي الإسلام الحقيقي المنزه، دعوة إلى التراحم والتكافل واحترام الحقوق والحرمات. حياتنا هي الصدق مع الله  لأن الصدق مع النفس، داعية إلى الحق والخير والسلام.

الإخوة والأخوات.

    في ختام شهادتي أمام التاريخ، أكرر التحية لفرسان مصر ودرعها، من أبناء القوات المسلحة. وأتوجه بدعاء، من أعماق القلب والوجدان، إلى الخالق ـ عزّ وجلّ ـ أن يُخرج الأمة العربية من هذه المحنة، بقلوب طهرتها الأحداث الجسام، وعقول وضح أمامها طريق بناء الحياة، لكي نبدأ مرحلة جديدة لبناء عربي متكامل، يرعى حقوق الإنسان، ويحقق الحياة الكريمة، الآمنة، لكل الأمة العربية، من سلام دائم، عادل.

]       وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[

]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ w

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته