إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / خالد بن سلطان / دراسات وأبحاث، أعدها صاحب السمو الملكي، الفريق الأول الركن خالد بن سلطان بن عبدالعزيز









بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ترجمة بحث

بعنوان

HM King Abdulaziz; Strategist and Tactician

In The Building of Alliances and the Fighting of Campaigns

(الملك عبدالعزيز، إستراتيجي في بناء التحالفات، وتكتيكي في قتال المعارك)

 

المعهد الملكي للأفرع الرئيسية المشتركة

لندن، المملكة المتحدة

1999

 

سيداتي، سادتي.

          يسعدني أن أشارك في هذه الندوة، التي تتحدث وتؤرخ لمؤسس المملكة العربية السعودية، وأول ملوكها، القائد الذي أعتزّ وأتشرّف بالانتماء إليه، جدي العظيم.

          سأتحدث عن الإستراتيجيات والتكتيكات، التي واجهت الملك عبدالعزيز، أو ابن سعود، كما هو مشهور به، في حملته الطويلة، ومعاركه الكثيرة، لتأسيس المملكة العربية السعودية.

          ولِد ابن سعود، في الثاني من ديسمبر عام 1880، في الرياض. وتوفي في الطائف، في التاسع من نوفمبر عام 1953، عن حياة امتدت ثلاثة وسبعين عاماً، وأي حياة كانت!

          فمنذ استعادته الرياض، في يناير 1902، خاض ابن سعود سلسلة من المعارك، في جبهات عسكرية ودبلوماسية، دامت خمسين عاماً.

          قاد قواته بنفسه، في ثلاثين واقعة من الوقائع الرئيسية، فضلاً عن عدد لا يحصى من المناوشات العسكرية. وعقد الاتفاقات الثنائية مع كلٍّ من المملكة المتحدة والدولة العثمانية وإيطاليا وألمانيا ودول أخرى، ترسيخاً لمملكته، وتقوية لموقفها الدولي، أو لكسب الوقت في الحروب، التي خاضها. إن كل حدث من هذه الأحداث جدير بأن يكون تاريخاً مشرّفاً، في حدّ ذاته.

          وعليَّ أن أعترف، أن الحديث عن خمسين عاماً، في أقلّ من ثلاثين دقيقة، يعدُّ تحدياً خطيراً، حتى لجنرال متقاعد.

          لذلك، وفي ظل الوقت المسموح به، سأركز في الأحداث الرئيسية، التي ستتيح الفرصة لفَهْم إستراتيجية هذا القائد، وتعرف معاركه ودبلوماسيته.

          إن السمة الأبرز في مسيرة ابن سعود، هو وضوح رؤيته إلى الأحداث، وبُعْد نظره. فقد كان يخطط، لما يريد تحقيقه من أهداف، ويعلم كيف يحققها. لقد وُهِبَ ملَكة، ما يطلَق عليه، الآن، الإستراتيجية العليا.

          لم يتلقَّ ابن سعود تعليمه في أكاديمية ساندهيرست، كما تيسّر ذلك لحفيده، الماثل أمامكم، ولكنه كان يتمتع بحاسة المبادأة، سواء في بناء دولته، كرجل دولة، أو في خوض معاركه، كرجل عسكري.

          كان يتمتع، كذلك، بما يسمّى، الآن، الحضور والجاذبية (كاريزما) ـ وهما مزيج من: سحر الشخصية، والذكاء والفطنة، ومظهر القيادة وهيبتها. كان قائداً يضحي جنوده بأرواحهم فداءً له، وقد فعل ذلك كثير منهم.

          قبل أن أسترسل، أتساءل ما الإستراتيجية؟ إنها، من وجهة نظري، الشمولية والمستقبلية. هي القدرة على التخطيط الشامل، للمستقبل البعيد، تحقيقاً لأهدافٍ عليا سامية. فإلى أي مدى، كانت أفعال الملك عبدالعزيز وإنجازاته، دالة على إستراتيجيته، أي شمولية الرؤية وبُعدها؟

          ولننظر إلى طبيعة مسرح شبه الجزيرة العربية، قبل عام 1902. كيانات هزيلة ضعيفة، قبائل متناحرة، غارقة في أنهار الدم، ولاءات الكيانات تتقلب بين قوة وأخرى، وقوى خارجية تتحكم في المصائر. زعامات لا وزن لها، ولا قيمة، تعيش على هامش الحياة، منفصلة عن قضايا أمتها العربية والإسلامية. تفشِّي الأمراض، وسيادة الجهل، وافتقاد الأمن والاستقرار. والأسرة السعودية، صاحبة الحق، في منفاها، في الكويت.

          هذا هو المسرح قبل عام 1902، فكيف أصبح، عام 1953، يوم رحل عنّا العاهل العظيم؟

          توحد معظم شبه الجزيرة العربية، في دولة فتية، باسم المملكة العربية السعودية، تربو مساحتها على مليوني كيلومتر مربع، تترامى، من البحر الأحمر إلى الخليج العربي. وُئِدت الصراعات القبلية، واستُعيدت الهوية العربية والإسلامية. أمّا السياسة الخارجية فتتمتع بالاحترام الدولي، لاتِّصافِها بالحيدة والاتزان والوضوح

          اكتُشف النفط، وتحول إلى صناعة حديثة متقدمة، ولم يُسمح لأحد باحتكاره. انتشر التعليم، وأصبح إلزامياً. شملت الرعاية الطبية أرجاء المملكة، وأنشِئَت أحدث المستشفيات. ربطت المطارات والطرق السريعة أنحاء بلدنا المترامي الأطراف، ووصلته بدول العالم. انتشرت المدن العصرية، في طول البلاد وعرضها،وأنشئت الموانئ الحديثة. بنى الملك عبدالعزيز سياسته الخارجية على عدم توريط المملكة، أو المنطقة العربية، في الصراعات الدولية. بقي على الحياد، طوال الحرب العالمية الأولى، على الرغم من الضغوط، التي مارستها كلٌّ من الدولة العثمانية وبريطانيا العظمى. واستمسك بحياده، معظم فترة الحرب العالمية الثانية.

علاقاته بالمملكة المتحدة والدولة العثمانية

          اتّسمت علاقته بهما بالواقعية؛ فقد كان يخشى على إمارته من المملكة المتحدة، خشيته من الدولة العثمانية، إذ لكلتيهما مصالح إستراتيجية في المنطقة العربية. كانت بريطانيا، هي الدولة ذات الهيمنة التامة والنفوذ المسيطر، في منطقة الخليج العربي. ولم تكن تسمح لأي قوى أخرى، أوروبية أو محلية، بتهديدها أو منافستها.

          سعى ابن سعود إلى استمالة بريطانيا، إلى جانبه، ضد أطماع الدولة العثمانية. وفي أبريل 1914، يئس من الحصول على موقف بريطاني يسانده، لذا بدأ بمفاوضات مع وفدٍ عثماني، يمكن أن يطلق عليها مفاوضات بغرض الحصول على مكسب تكتيكي من العثمانيين. فاعترف لهم بالسيادة المطلقة على نجد والأحساء، مقابل أن يُدعى "والي نجد".

          لفت هذا الموقف نظر البريطانيين إلى ما كان ابن سعود يأمل فيه، فكانت إشارة واضحة لهم، أنه قادر على فعل ما يريده من دون مساعدتهم، وأن من مصلحتهم مساندته. وأن لديه الشجاعة، كذلك، ليقبَل أي تراجع (ارتداد)، على المدى القصير، إذا كان يحقق مكاسب، على المدى الطويل.

          وبعد ازدياد نفوذه في منطقة الخليج، على إثر استرداده الأحساء، وتخلّصه من العثمانيين فيها، وبزوغه قوة مجاورة لمنطقة النفوذ البريطاني، كان لا بدّ لبريطانيا من الاعتراف به، والتعاون معه، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى. فعقدت اتفاقية، في ديسمبر 1915، تعهد ابن سعود، بموجبها، عدم إبرام معاهدات مع أي دولة أخرى، ولا يبيع ولا يأجر المناطق التابعة له، ولا يمنح امتيازاً، إلاّ بموافقة بريطانيا. ويتعهد، كذلك، بحُرية المرور في مناطقه، وحماية الحجاج، ويتحاشى الاعتداء على أقطار الكويت والبحرين ومشايخ قطَر وسواحل عُمان، المشمولين بالحماية البريطانية، وألاّ يتدخل في شؤون تلك المناطق، وذلك في مقابل، اعتراف بريطانيا بأن نجداً والأحساء والقطيف والجبيل وتوابعها ومراسيها على الخليج ـ هي بلاد ابن سعود وآبائه، وتعترف به حاكماً عليها، وتوفر له الحماية، وتعِينه إذا اعتُدي عليه من قِبل أي قوى خارجية.

          ووفق هذه المعاهدة، تسلّم ابن سعود من السلطات البريطانية، الإرسالية الأولى، ألف بندقية، و20 ألف جنيه إسترليني. كما سمحت له بالتزود بالذخيرة، مباشرة، من سوق البحرين. وهو ما كان في مسيس الحاجة إليه، في ذلك الوقت.

          وفي عام 1916، زار البصرة، واجتمع إلى المندوب السامي البريطاني في العراق، السير برسي كوكس، لاستكمال المحادثات، التي جرت بين الجانبَين، في العام السابق، بعد أن قُتل صديقه، الكابتن شكسبير، في معركة جراب.

          وفي عام 1917، أرسلت بريطانيا بعثة خاصة، كان من أهدافها حثّ الملك على أعمال عسكرية ضد ابن رشيد، للضغط على الدولة العثمانية، وتعزيز الحملات البريطانية في المنطقة، وتحسين العلاقة بين الملك والشريف حسين.

          وفي منتصف 1919، تمكن ابن سعود من نزع فتيل ما كان، يُعدّ وقتها، قضية دولية، شملت الحجاز والمدن المقدسة. فقد كان الطريق مفتوحاً أمام قواته إلى المنطقة الغربية كلها، التي يحكمها شريف مكة، إلاّ أن السلطات البريطانية، اعترضت، وأرسلت إليه إنذاراً. فقبِل الإنذار، مقابل حصوله على امتيازات قيّمة من بريطانيا، والتي ساعدته على سيطرته على الحجاز كله، عام 1924.

          وفي 20 مايو 1927، وُقعت اتفاقية جدة وبمقتضاها، اعترفت بريطانيا بالاستقلال التام لممالك صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.

          وفي عام 1945، كان حريصاً على الاجتماع إلى رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، ووزير خارجيته، أنتوني إيدن، في القاهرة.

سيداتي، سادتي.

          يتبين أن الملك عبدالعزيز، كان حريصاً على علاقات وثيقة ببريطانيا، لإدراكه أنها القوة المهيمنة، في ذاك الوقت، على مقدرات المنطقة؛ وأن عدم مهادنتها، سيعوقه عن تحقيق إستراتيجيته، ومن الحكمة ألاّ يصطدم بها، بل عليه أن يستفيد منها، حماية وإمداداً بالأموال والسلاح والعتاد. وكان على يقين، أن لكل شيء ثمناً، أي كان يقدر أهمية المصالح المتبادلة، شريطة ألاّ تضر بمصالحه.

علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية

          أدرك ابن سعود، بعد الحرب العالمية الأولى، ثقل الولايات المتحدة الأمريكية، وأهمية دورها المنتظر. ولكن منطقة الخليج، كانت بعيدة عن اهتماماتها، فأطلقت يد بريطانيا فيها. وكان يتمنى أن يستميلها إليه، لتكون عنصر توازن. ومن هذه الرؤية الإستراتيجية، حرص على اعترافها بحكومته، الذي تحقق في مايو 1931؛ وعقد اتفاقية تبادل الدبلوماسيين، في 7 نوفمبر 1933؛ ومنح شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا، حق التنقيب عن النفط، عام 1933. يحدوه على ذلك، حرصه على الحصول على هذا المورد المالي؛ فضلاً عن أن الولايات المتحدة، تمتلك خبرات، تقنية وفنية هائلة، تفوق تلك البريطانية؛ وهي بلد ليس له ماض أو تطلعات استعمارية في المنطقة. وبنظرته الإستراتيجية، أدرك أن الولايات المتحدة ستكون عنصر توازن، في المستقبل.

          كما حاول إقامة علاقات شخصية بينه وبين رئيسها، فرانكلين روزفلت، وإقناعه بالقضايا العادلة للعرب، خاصة عندما استشعر الانحياز البريطاني السافر إلى اليهود، في فلسطين. فتبادل الرسائل مع الرئيس الأمريكي، وحرص على الاجتماع إليه، على ظهر الطرّاد "كوينسي"، في مياه البحيرات المرّة، في قناة السويس، في 14 ديسمبر 1945.

علاقاته بألمانيا

          انتهج الملك سياسة الانفتاح على العالم، محاولاً إحداث نوعٍ من التوازن الإستراتيجي، في منطقة الخليج. وشملت سياسته الاتجاه إلى ألمانيا، لتأمين مصادر أخرى للسلاح. وعقد معها، في 26 أبريل 1929، اتفاقية صداقة، وزارها الأمير فيصل، عام 1932.

          غير أن الحرب العالمية الثانية، أقنعت ابن سعود بأن ألمانيا أمست في طور النهاية. لذا، قرر في مارس 1945، التخلي عن حياده، وإعلان الحرب عليها وعلى اليابان. حمله على ذلك رغبته في الاستفادة من الترتيبات الدولية، التي توقَّع أنها ستنشأ عن نتائج الحرب.

علاقاته بإيطاليا

          أقنعت واقعة الاحتلال الإيطالي للحبشة الملك عبدالعزيز بعدم جدوى الاعتماد على ضمانات أمنية، بريطانية أو إيطالية. لذلك، لم يعادي إيطاليا، وهي تمد اليمن بالسلاح، وتعقد معه اتفاقيتَين ثنائيتَين، في عامَي 1927 و1934. وكانت نتيجة دبلوماسية ابن سعود، وجود قنصلَيْن لإيطاليا، في جدة.

          واعترفت إيطاليا بالملك وحكومته، في 10 فبراير 1932، بموجب اتفاقية الصداقة والتجارة. وفي عام 1935، بعد اعتداء إيطاليا على الحبشة، أصدرت عصبة الأمم قراراً بمقاطعة إيطاليا. ولكن الملك عبدالعزيز، لم ينفذ القرار، وبقي على الحياد، ولم يقاطعها. وابتعث، للمرة الأولى، دفعتين للتدريب على الطيران، إلى إيطاليا، ورحّب بالوفد الإيطالي الزائر، والمزمع على شراء أعداد كبيرة من الجِمَال، مقابل الحصول على الأسلحة. وعدّها الملك صفقة اقتصادية بحتة. وفي عام 1939، وُقِّعت اتفاقية أخرى مع إيطاليا، لإمداد المملكة بالسلاح والذخيرة.

الإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية

          يجدر بنا، قبل الانتقال إلى تكتيكاته في خوض المعارك، أن نتذكر أن كان لا يتردد في التضحية بمكاسب تكتيكية، في المدى القصير، لتحقيق نصر إستراتيجي نهائي، في المدى الطويل. أي أنه قد يخسر معركة، ليكسب حرباً. حقاً، كان له، في كل خطوة، إستراتيجية وتكتيك.

          كانت أهدافه، أولاً، استرداد كافة الأراضي، التي كانت تحت الحكم السعودي، من قَبْل، بدءاً من الدولة السعودية الأولى. كان يسعى إلى بناء دولة حديثة مترامية الأطراف.

          في تخطيطه للحملات، كان حريصاً على عدم فتح غير جبهة، في وقت واحد، وهو درس كان على ألمانيا أن تستوعبه، في الحرب العالمية الثانية.

          في التكتيكات، كان ابن سعود يقدّر الموقف، بناءً على ثلاثة عوامل رئيسية: الوقت والمسافة ومقارنة القوات. فالوقت والمسافة، يحددان المنطقة الملائمة للقتال. أمّا مقارنة القوات، فهي تطمئن القائد، إذا كانت في مصلحته، أو تجعله يُعمِل الفكر العسكري لتعويض النقص في هذه المقارنة؛ فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة!

          أدرك ابن سعود أهمية تطبيق مبادئ الحرب، خاصة المفاجأة والخداع ، والمبادأة، وعدم فقدها، فضلاً عن إقامة مواصلات جيدة مستمرة.

          وكان يعتقد في ضرورة الإلمام بكافة المعلومات عن خصمه، أسلحته وإمداداته، والأهم، العادات الاجتماعية والممارسات اليومية، للقبائل المضادة. كان يدرس المعركة، من جميع جوانبها، وكان يمارس ما يسمى اليوم "تحضيرات المعركة". كان يدرك أهمية الحرب النفسية، والدعاية والإعلام، فشرعت فرق استطلاعه تنشر القصص عن خصومه، وما يقترفونه من قتل النساء والأطفال، وهو ما يحدث، أحياناً، في حرب الصحراء. وكان يدين أعداءه، عند إقدامهم على فعل ذلك.

          كان ابن سعود يوصي، بشدة، بالشرف في القتال، فالعدو يجب هزيمته، ولكن من دون انتهاك لشرف أسرته، أو عرض نسائه.

          كان يدرك أهمية التسليح في الحرب، فحدَّث أنظمة أسلحته، وحصل على الرشاشات، بأنواعها المختلفة، والعربات المدرعة، التي استُخدمت أفضل استخدام.

          ننتقل، الآن، إلى عددٍ من الدروس المستفادة، من إستراتيجيات وتكتيكات المعارك العديدة، التي خاضها الملك عبدالعزيز.

الرياض وما تلاها من معارك

          وراء استرداد الرياض والاستيلاء على حامية المصمك، أسرار وخفايا أكثر بكثير عمّا روى عن استعادة الحصن، عام 1902.

          فقبل عام واحد من ذلك، نفّذ ابن سعود ووالده، كلٌّ على حدة، اختراقات عميقة، في صحراء نجد، قادمَيْن من الكويت. وكان لهذه الحملات، التي طغت عليها سمة "الاستطلاع المسلح" أو "الاستطلاع بقوة"، مردود كبير في الحصول على معلومات قيّمة، استخدمها ابن سعود في التخطيط لهجومه.

          ففي حملته الاستطلاعية، عام 1901، طبّق ابن سعود مبادئ الحرب، من السرِّية والمفاجأة، والحشد والمرونة، والخداع وخفة الحركة. واستخلص منها دروساً عدة، مثل: دراسة طبوغرافية مسرح العمليات المنتظرة، وأسلوب الدفاع عن الرياض، وأنجح الطرق لاختراقه، والاتصال بالقبائل الموالية، مما كان له كبير الأثر في التخطيط للمعركة التالية، وتحقيق النصر.

          أمّا معركة استرداد الرياض، في يناير 1902، فهي معركة قادها بنفسه، أثناء هجومه على حامية المصمك. واستخدم فيها أسلوب الحرب الخاطفة، ونفذت كإغارة. ولولا ذلك، لما نجح عبدالعزيز في القضاء على حاكمها عجلان، وهزيمة القوات المدافعة.

          وفي معاركه اللاحقة، حول الرياض، أصرّ ابن سعود على تأمينها، باستكمال سورها وتحصيناتها، وتخزين المؤن، تثبيتاً لها في مواجهة الحصار، إذا حدث أثناء وجود قواته الرئيسية خارج المدينة. فضلاً عن ذلك، سعى ابن سعود إلى ضمّ القرى والعشائر إلى جانبه، ليس بحد السيف، وإنما باستمالتها إلى العمل معاً، للعودة إلى أصول الإسلام الحنيف. وكانت تلك خطة ناجحة، استجاب لها قبائل شبه الجزيرة العربية.

          كما كان يستخدم قواته، بذكاء، في صورة "استعراض للقوة"، أقنعت ضعاف القلوب أن استسلاماً، من دون إراقة دماء، هو أفضل من معركة، لا هدف لها، ذات نتيجة معروفة سلفاً.

          وإزاء شتى الاحتمالات، كان يترك فصيلاً من الجنود، في كل قرية تناصره، لتنظيم الدفاع عنها وإعدادها لمقاومة أي هجمات مضادّة، من قوات معادية (موالية لابن رشيد).

معركتا البكيرية والشنانة

          لم تشأ الدولة العثمانية، أن تساند ابن رشيد، عسكرياً، في بداية ظهور ابن سعود، ولكن النجاحات السريعة، التي حققها، أشعرتها بخطره. فوافقت على إمداد حليفها بمعونة، عسكرية ومالية.

          بهذه الإمدادات، انطلق ابن رشيد من حدود العراق، في أواخر عام 1904، نحو القصيم، ومعه القوة العثمانية. وكان عبدالعزيز، يتابع تحركات خصمه وقوّته؛ للبحث عن فرصة مواتية. وعند اللقاء، انتصرت حكمة ابن سعود ومهاراته في التخطيط، وانجلت معركة الشنانة عن هزيمة ابن رشيد والعثمانيين، مخلفين وراءهم عدداً من المدافع، وكثيراً من الأسلحة وصناديق الذهب. وفي كلتا المعركتَين (البكيرية والشنانة)، طبّق ابن سعود مبدأ الحشد، في مواجهة الخصم، وسارع إلى السيطرة على المواقع المهمة الحاكمة، بتنفيذ المناورة وخفة الحركة. واعتمد على أن قواته تقاتل في أجواء اعتادتها، وعلى أرض أَلِفتها، وتدافع عن أرض تخصها، بينما الجنود العثمانيون، يحاربون في ظروف، طبوغرافية ومناخية، لم يألفوها، ومن أجل قضية، لا تهمهم. كما أن طول خطوط إمداد قوات الخصم، كان عاملاً مساعداً على إضعافه.

معركة روضة مهنا

          خلال حملاته، كان ابن سعود قائداً جريئاً مقداماً، فكان يتابع قوات خصمه، ويتحرك خلفها في وثبات، متحيناً الفرصة لمهاجمتها، فضلاً عن الاستفادة مفارز الاستطلاع والمفارز المتقدمة.

          وفي أبريل 1906، علمت القوة الرئيسية، بقيادة عبدالعزيز، وهي في الثويرات، أن قوات خصمه، في راحة عقب إحدى إغاراتها، وتعسكر في روضة مهنّا، فأَسرَى بقواته، في أحوال جوية قاسية، إلى أن وصلها، محققاً المفاجأة. ومنع قوات خصمه من الحركة، وقتل قائدها، فتولى بعده ابنه، الذي آثر عقد صلح مع عبدالعزيز، تنازل له، بموجبه، عن حقوقه في ولاية القصيم وسائر بلاد نجد، مقابل الاعتراف له بالإمارة على حائل، وما يحيط بها من بلاد شمر.

فتح الأحساء

          وفي فتح الأحساء، 1913، كان يواجه القوات العثمانية، التي يسعى لإخراجها، من دون إغضاب الدولة العثمانية، أو الدخول في قتال مباشر معها. هذه المنطقة التي لم يتخيل أحد، وقتئذٍ، أنها ستكون أغنى بقاع الأرض، إذ تحتوي على آبار النفط في المنطقة الشرقية.

          كان يدرك أن عليه هزيمة الحامية العثمانية، في الهفوف، من دون تدخّل قوات عثمانية أكبر حجماً، في هجوم مضادّ، أو للثأر من هزيمتهم.

          كما كان البريطانيون من العوامل المهمة، التي يجب إدخالها في الحسبان، لأن ابن سعود، يحاول تغيير الوضع القائم في المنطقة الشرقية، مما قد يهدد مصالحهم.

          فابتكر عدة إستراتيجيات. فبعد أن عسكرت قواته أمام الهفوف، بعث إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي، السير بيرسي كوكس، في الوقت نفسه، يخبره أنه جاء لاستعادة أرض آبائه، إذ استولى العثمانيون على الهفوف عام 1871. فأجابه البريطانيون، أنهم سيظلون على الحياد، ولن يتدخلوا.

          ومخادعة لخصمه، زعم أنه لم يأتِ إلاّ لتموين الجيش، وأنه سيرجع. وبالفعل، رجع، وحده، إلى الرياض. ثم عاد للانضمام إلى قواته، التي نجحت في محاصرة الحصون العثمانية، وتسلّقت الأسوار، ليلاً. وسقطت تلك الحصون.

          وبعد تحقيقه النصر، بسرعة الحركة والمفاجأة، عرض على العثمانيين انسحاباً مشرِّفاً، فقَبَلوه، وُمنحوا طريقاً آمناً إلى البحرين. ويسجل التاريخ، أنه اليوم، الذي لم يتدخل البريطانيون في معاركه، ورحل العثمانيون، ونجح ابن سعود في احتلال الهفوف، من دون قتال يذكر.

          وتعدّ هذه المعركة من أهم المعارك في تاريخ توحيد المملكة. وقد يقول البريطانيون، إن ابن سعود، حصل على كل ما يتمناه (Hit for six).

فتح حائل

          أمّا في فتح حائل، عام 1921، فقد استخدم أرقى أنواع الخطط الهجومية، التي تتميز بالذكاء والمرونة وخفة الحركة. فقد دفع، في النسق الأول، مجموعتَي قتال: الأولى، تتجه إلى الشمال الغربي، نحو شمر، تتحين الفرصة لمهاجمتها، واحتلالها. والثانية، تتجه إلى الغرب، نحو حائل، لتهاجمها، حتى تحتلها مباشرة أو بعد حصارها. وفي النسق الثاني: القوة الرئيسية بإمرته، وتبقى في القصيم، مستعدة لاستغلال النجاح والتطوير، في أيٍّ من الاتجاهَين السابقَين. إضافة إلى احتياطي خفيف الحركة، لتنفيذ أي مهام خاصة.

          ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة، أهمية تكوين القوة في أنساق، وعدم دفع القوة الرئيسية، قبل اتضاح نية العدوّ.

الخاتمة

سيداتي، سادتي.

          كانت تلك نظرة سريعة موجزة إلى الإستراتيجيات والتكتيكات، التي طبّقها الملك عبدالعزيز، في تأسيس المملكة العربية السعودية. إنها تاريخ مشرّف لقائد عظيم.

          تقديري الكامل لمعهدكم العلمي الرفيع، لعقده هذه الندوة، وأسفي العميق لعدم وجودي بينكم، لتقديم بحثي هذا.

          إنني على ثقة، أن المتحدثين، اليوم، من صديقي، القائد السير بيتر دي لا بليير، إلى المشاركين من بلدي، سيقدّمون صورة واضحة، وفهماً عميقاً، لأول ملك للمملكة العربية السعودية، المقاتل الشجاع، والسياسي المحنّك.

شكري العميق لكلِّ من شارك في هذه الندوة.