إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / خالد بن سلطان / محاضرات صاحب السموّ الملكي الفريق الأول الركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز في المعاهد والمنشآت التعليمية









بسم الله الرحمن الرحيــــــــــــــــــــم

في افتتاح الموسم الثقافي

لكلية الملك عبدالعزيز الحربية

 

"القيادة والتدريب والانضباط"

ثلاثية النصر في حرب الخليج

ــــــــــــــــــ

الرياض، المملكة العربية السعودية

الثلاثاء، 5 جمادى الآخرة 1415، الموافق 8 نوفمبر 1994

ـــــــــــــــــــــ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
والصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسَـلينَ

 

الإخوة الأعزاء قائد ومعلمو ومنسوبو كلية الملك عبدالعزيز الحربية

الأبناء طلبة الكلية

الإخوة الضيوف والحاضرون

يسعدني أن ألتقيكم اليوم، ألتقي قادة المستقبل، وأمل الأمـة، ألتقي من سيقع على عاتقهم مهمة التخطيط والتنفيذ، والبحث والتطوير، في قواتنا المسلحة.

كما يسعدني أن أتحدث إلى قائد ومعلمي أقدم كلية عسكرية في مملكتنا الحبيبة، الكلية المسؤولة عن إعداد أجيال من القادة العسكريين الأكْفاء، المسلحين بالفن والعلم العسكريَيْن. تخرج فيها القادة السابقون والحاليون، الذين حملوا راية القوات المسلحة جيلاً بعد جيل، ويتخرج فيها القادة الذين سيحملون الراية من بعدهم، راية عالية خفاقة، معززة مكرمة، مكللة بالعزة والنصر.

لقد قبلتُ دعوتكم، لأنني أجد لزاماً عليّ، أن أنقل إليكم ما تعلمته واكتسبته كجندي، خلال خدمتي العسكرية، وعلى الأخص أثناء قيادتي لقوات الدفاع الجوي وللقوات المشتركة ومسرح العمليات. وأهم درس أودّ أن يكون محفوراً في أذهانكم، أن القوات المسلحة المحترفة، القادرة على الردع والدفاع عن الدولة، هي صمام الأمان لأي تطور اقتصادي أو اجتماعي. فقد شاهدنا كيف اجتاحت العراق دولة الكويت، في ساعات معدودة، وشاهدنا كيف ابتُلعت هذه الدولة، وتَهَدّد نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في لحظات. درس يجب أن نستوعبه جيداً، وأن نضع نصــب أعيننا الاعتماد بعد الله ـ عزّ وجلّ ـ على قدراتنا الذاتية، وعلى قوات مسلحة سعودية محترفة، ذات كفاءة قتالية عالية. ولا يوجد من هو أولى بالدفاع عن المملكة من أبنائها أنفسهم، منكم أنتم، يا قادة المستقبل، وأمل الأمـة.

لذلك، فإنني اخترت "القيادة والتدريب والانضباط"، ثلاثية النصر في حرب الخليج، موضوعاً للقائي معكم، لقناعتي التامة بأهمية هذه العناصر الثلاثة في بناء الأساس المتين لصرْح قواتنا المسلحة.

* ولنبدأ بتعريف العنصر الأول من محاضرتنا، وهو القيادة. لقد أجمعت آراء خبراء الإدارة على أنها "فن التأثير في الأشخاص، وتوجيههم بطريقة صحيحة، يتسنى معها كسب طاعتهم واحترامهم وولائهم وتعاونهم، في سبيل تحقيق هدف معين".

* من هذا التعريف يتضح أن هناك ثلاثة عناصر، لا بدّ منها للقيادة: مجموعة من الناس (شخصان أو أكثر)، وشخص من بين هذه المجموعة، قادر على التأثير الإيجابي في سلوك بقية الأعضاء، وتستهدف عملية التأثير هذه توجيه نشاط المجموعة لتحقيق الهدف المشترك، الذي تسعى إلى تحقيقه.

* ولكني أودّ، من البداية، أن أوضح لكم أن القيادة صفة تُكتسب، وليست منصباً يُشغل. إذ إنّ تعيين أحد الضباط قائداً لوحدة أو تشكيل، لا يعني أنه اكتسب صفات القيادة ومهاراتها، لأنه طبقاً للتعريف السابق، فإن القيادة هي "فنّ التأثير في المرؤوسين". فهل أصبح هذا الضابط، بين عشية وضحاها، قادراً على التأثير في مرؤوسيه؟ وهل هو قادر، من ثمّ، على توجيههم الوجهة الصحيحة لتحقيق الهدف المنشود؟  فالقائد بالاسم فقط، يستمد سلطته من قوة المنصب الذي يشغله، ومن القوانين واللوائح التي تحدد له حجم هذه السلطة. أمّا القائد بالصفة، فيستمد سلطته من قدرته على التأثير في الآخرين؛ وفي بعض الأحيان ربما لا يكون له أي سلطة قانونية أو رسمية على مرؤوسيه.

* وتوضح اللوحة التي أمامنا، أربع مجموعات للصفات والمهارات، التي يجب أن يتحلّى بها القائد، وهي: الصفات الذاتية أو الفردية، والمهارات الفنية، والصفات الإنسانية، ثم المهارات الذهنية، التي تمكّن هذا القائد من: أولاً، تنفيذ المهمة في التوقيت المحدد، والمكان المحدد، وبأقل إمكانات، وبأقل خسائر. وثانياً، مراعاة العوامل الإنسانية والاجتماعية لمرؤوسيه. وهناك أنماط عدة من القادة، فمنهم من يعطي اهتمامه الأكبر لتنفيذ المهمة، غير مراعٍ الجانب الإنساني لمرؤوسيه؛ ومنهم من يهمل جانب تنفيذ المهمة، ويركز كلّ جهده في الجوانب الإنسانية، طمعاً في محبة مرؤوسيه. أمّا النمط الأفضل، فهو من ينفّذ المهمة ويراعي، في الوقت نفسه، وعلى القدر عينه من الاهتمام، النواحي الإنسانية لأفراد وحدته.

* ولنبدأ بالصفات والمهارات الذاتية أو الفردية، التي تُعرّف بأنها "الصفات والقدرات اللازمة لبناء شخصية الأفراد، ليصبحوا قادة أكْفاء، مثل: الصفات الجسمية، والقدرات العقلية، وضبط النفس، والمبادأة والابتكار، والشجاعة، والقدرة على الحسم وسرعة التصرف، والقدرة على توقع الصعاب، وابتكار الوسائل لمواجهتها والتغلب عليها".

* ونتوقف هنا قليلاً، لنؤكد أنّ الشجاعة وسرعة اتخاذ القرار الملائم في التوقيت الملائم صفتان من الصفات الفردية الرئيسية في القائد الكفء، بعد الصفات الجسمية والعقلية. وخيرُ مثالٍ على ذلك من حرب الخليج، هو ما حدث في الأيام الأولى من الغزو العراقي للكويت، حين اتّخذ مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، قائدنا الأعلى، قراره التاريخي باستدعاء القوات: الشقيقة والصديقة، وعدم انتظار الوعود والحلول، التي لا تحقق للمملكة أمناً أو أماناً.

* لقد أدرك القائد الأعلى حجم التهديد العراقي للمملكة ودول مجلس التعاون الخليجي، إذ إن إمكانات القوات المسلحة العراقية، كانت تفوق إمكاناتنا بأربعة عشر ضعفاً، وستة أضعاف بعد إضافة دول مجلس التعاون مجتمعة، وضعفَيْن بإضافة القوات المسلحة المصرية كلّها. وإذا أضفنا القوات السورية أصبحنا متعادلَيْن، أي نسبة واحد إلى واحد، مع استحالة حدوث هذا الفرض، لأنه من غير المعقول أن ترسل دولة كلّ قواتها المسلحة. وحتى إذا تحقق هذا المستحيل، فالنتيجة واضحة: قد تنجح الإمكانات العربية في صدّ القوات العراقية فقط، إذا هددت المملكة، ولكن لا تستطيع تنفيذ عملية هجومية لطرْدِها من الكويت، لأن الهجوم الناجح، كما تعلمون، يحتاج إلى التفوق بمثلَيْن أو ثلاثة أمثال على الأقلِّ.

* كما كانت جرائم المعتدي البشعة، التي ارتكبها في حق الشعب الكويتي، ماثلةً أمام أنظار مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، الذي قرّر حماية شعبه من التعرض لمثلها.

* لقد حدّد القائد الأعلى هدفاً واضحاً، هو "الحفاظ على سلامة شعب المملكة، أمنه وأمانه، شرفه وكرامته، كبريائه وعزّته". حدّد الهدف، واتّخذ القرار، وتوكّل على الله؛ فتحقَّق النصر، وانسحبت القوات: الشقيقة والصديقة، وعرف كيف يحمي بلده وشعبه في وقت الشدة.

* ومثال آخر يدل على أهمية توافر المهارات الفردية في القائد، ما تحقق على يدي سيدي صاحب السموّ الملكي، وليّ العهد، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، رئيس الحرس الوطني، الذي تولّى رئاسة الحرس الوطني عام 1382هـ الموافق 1962م، فكان عام الانطلاقة الفعلية للحرس الوطني، كمؤسسة عسكرية وحضارية، أسهمت في مسيرة التنمية الشاملة للمملكة، كما أصبح لها دَور بارز في المساهمة في حماية أمن البلاد والدفاع عنها، جنباً إلى جنب مع القطاعات العسكرية والأمنية الأخرى. وكانت النتيجة لهذا التخطيط البنّاء من سموّ وليّ العهد، المساهمة الفاعلة لقوات الحرس الوطني، أثناء حرب الخليج، وعلى الأخص في معركة الخفجي، التي أبْلَت فيها وحدات من اللواء الثاني بلاءً حسناً، وأثبت منسوبوه أنهم مقاتلون أَكْفَاء.

* من الصفات الذاتية أو الفردية، أيضاً، التي يجب أن يتصف بها القادة في المستويات العليا، القدرة على التنبؤ، والرؤية الشاملة، وهذا ما يميّز القادة الإستراتيجيين عن غيرهم. وخير مثال لذلك: عندما تولى سيدي صاحب السموّ الملكي، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، مهامه، للمرة الأولى، عام 1382هـ الموافق 1962م، كيف كانت حالة القوات المسلحة في ذلك الوقت؟ تهديدات مستمرة بقصف الجنوب من نظام الرئيس عبدالناصر، وعدم قدرة على الردّ، وعدم كفاية الوحدات، وعدم وجود خطط عملياتية، وعدم وجود الكوادر الفنية والقيادية. هنا بدت عظمة الرؤية المستقبلية للقائد:

** فقد نالت القوات البرّية اهتماماً خاصاً من سموّه، إذ هي عصب القوات المسلحة، والقوة الأمّ لباقي الأفرع الرئيسية. فطُوِّرت تنظيماتها، وزُوِّدت بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية، ودُعِّمت بطيران الجيش، بصفته عنصر قوة يضاف إلى قوتها، وانتشرت تشكيلاتها في طول البلاد وعرضها، وأُنشئت المدن العسكرية في المناطق الحيوية. هذه المدن، التي لا ينكر أحد أهميتها للجانبَيْن: الإنساني والاجتماعي، لمنسوبي القوات البرّية، وفائدتها القصوى لقواتنا المسلحة، وللقوات: الشقيقة والصديقة، أثناء حرب تحرير دولة الكويت. كما كان للوحدات البرّية، بعد إعادة تدريبها، واستكمال نواقصها، ورفْع كفاءتها القتالية، دورٌ حيويٌ وفعالٌ في حرب الخليج عموماً، ومعركة الخفجي خصوصاً. هذه المعركة، التي أهدانا الله فيها النصر المبين، وجعلها نقطةً مضيئةً في تاريخ القوات المسلحة السعودية، وعلامةً بارزة خلال تلك الحرب، ودليلاً على شجاعة الجندي السعودي وكفاءته.

** كما رأى سموّه أن القوات الجوية، ستؤدّي دوراً رئيسياً في الحروب القادمة. لذا، كان اهتمامه بها، فقفزت قفزات كبيرة في زمنٍ قصير، وكان لها دور مهمّ خلال حرب تحرير دولة الكويت. فقد كانت القوات الجوية السعودية، هي الثانية في الترتيب، بعد القوات الأمريكية، من حيث الإمكانات والمهامّ المنفذة. وكان الطيار السعودي، النقيب الطيار عايض الشمراني، هو أول من أسقط طائرتَيْن في طلعةٍ جويةٍ واحدة.

** كما اهتم سموّه أيضاً بالدفاع الجوي، الذي تطور من قوة صغيرة، تابعة لسلاح المدفعية، إلى قوة رابعة، ومن عدد محدود من بطاريات المدافع الخفيفة، إلى عدد كبير من كتائب المدفعية الحديثة والصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، ثم إلى صواريخ "الباتريوت" بعيدة المدى، التي أثبتت فاعليتها في حرب الخليج.

** كما كان لسموّه الفضل في الرؤية المستقبلية، لإعداد القوات البَحَرية وانتشار قواعدها في البحر الأحمر والخليج العربي، لحماية شواطئ المملكة ومياهها الإقليمية. كما كان لها دور فاعل في حرب الخليج، فقد كانت القوات البحرية السعودية في مسرح العمليات، هي الثانية في الترتيب، بعد البحرية الأمريكية، إذ كان لها ثمانٍ وعشرون قطعة بحرية، من إجمالي مائتَيْن وست عشرة قطعة. كما خاضت أول اشتباك بَحَري مع قوات المعتدي، صباح يوم التاسع من رجب عام 1411 للهجرة، حين تمكّنت سفينة الملك فيصل من إغراق أكبر سفينة عراقية، كانت تزرع الألغام قرب السواحل الكويتية.

** ثم بدأ تنفيذ خُطط التصنيع الحربي، وكانت بداية الاعتماد على أنفسنا في إنتاج ما نحتاج إليـه.

** تطور كبير أُنْجِـز في فترة وجيزة من الزمن.

** هذا هو القائد: تنبؤ، رؤية إستراتيجية، اتّخاذ قرارات في وقتها، تخطيـط، تنفيذ وتطوير، وإصرار على تحقيق الأهداف العسكرية، التي تؤدّي إلى تحقيق الغايات الوطنية العليا.

* ننتقل، بعد ذلك، إلى المهارات الفنية، التي يُقصد بها "المعرفة المتخصصة في الفنّ والعلم العسكريَيْن، والكفاءة في الاستخدام القتالي للقوات، وأداء العمل أداءً يكفل تحقيق المهمة". وللأسف، فإن بعض القادة لا يعترفون بأهمية التحصيل العلمي، وفتْح نوافذ المعرفة على الغرب والشرق، ويكتفون بترديد شعار "أهمية التجربة، وضرورة الخبرة العملية" فقط.

* وهنا تحضرني قصة قرأتها عن أحد قادة الحرب العالمية الأولى، الذي اقترح على أحد ضباطه ضرورة التحاقه بإحدى دورات كلية القيادة والأركان القصيرة، التي كانت تُعْقَد في فرنسا. ولكن الضابط لم يقتنع بهذا الاقتراح، فقال للقائد: "إن الشيء الوحيد الذي له قيمة حقيقية في الحرب، هو التجربة العملية في الميدان، ولا داعي لضياع الوقت في الدراسات النظرية". وهنا، ذكّره القائد بملاحظة فردريك الأكبر عن الضباط، الذين يعتمدون على تجربتهم العملية فقط، ويهملون الدراسة والتحصيل، حين قال: "كان في جيشي بغلان، اشتركا في أربعين حملة، ولكنهما ظلاَّ بغلين". إن الدراسة والتجربة والخبرة أمور ضرورية ... فيجب: أولاً، دراسة فنّ وعلم الحرب، ثم تعلم كيفية تطبيق الدراسة عملياً، في التمرينات الميدانية والتدريبات المشتركة، ثم في المعركة الفعلية، عند حدوثها.

* أمّا المجموعة الثالثة من الصفات، وهي المهارات الإنسانية، فتعني "قدرة القائد على التعامل مع مرؤوسيه، وتنسيق جهودهم، وخلق روح العمل الجماعي بينهم".  

* والمجموعة الرابعة، وهي المهارات الذهنية، تعني: "قدرة القائد على إدارة الوحدة أو التشكيل، وفهْمه لكافة الأعمال والواجبات والوظائف المطلوب منه تنفيذها، مثل: التخطيط، والتنظيم، والتوجيه، والرقابة والتنسيق، ووضْع الرجل المناسب في المكان المناسب، ثم علاقة التنظيم الذي يقوده، بالمجتمع الذي يعمل في إطاره، بما في ذلك القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية". وينبثق من المهارات الذهنية نوعان آخران من المهارات، هما:  المهارة الإدارية، والمهارة السياسية، اللتان يجب أن تتناسبا طردياً، كلّما ارتفع مستوى القائد.

* ومثال من حرب الخليج يوضح أهمية توافر المهارات السياسية والإدارية في القائد، أنني كنت أعتبر أن واجبات قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، تشتمل على أربع مجالات من المسؤولية، وكنت حريصاً على تنفيذها جميعاً، والمحافظة على التوازن بينها:

الأولى: مسؤولية عسكرية: وهي قيادة قوات مسلحة من خمسٍ وعشرين دولة، وتخطيط وتنفيذ الخطة الدفاعية "درع الصحراء"، وتدريب الوحدات وإعدادها، ورفْع كفاءتها القتالية، ثم التخطيط والتنفيذ القتالي للخطة الهجومية "عاصفة الصحراء".

الثانية: مسؤولية الإمداد والتموين: وهى مسؤولية إمداد وتموين قوات مسلحة من سبعٍ وثلاثين دولة. ولم تكن مسؤولية سهلة؛ فبعض القوات، وصلت إلى المملكة أفراداً فقط، بلا أسلحة أو معدات.

الثالثة: مسؤولية سياسية ـ عسكرية: إذ كان علينا، بصفتنا قيادة عسكرية، تنفيذ القرارات السياسية وبلورتها، بالتطبيق العسكري السليم، وبالأسلوب الذي تقْبله القوات، مراعين فيه القيود السياسية وعلاقات كلّ دولة بالدول الأخرى.

الرابعة: مسؤولية وطنية: وذلك بالمحافظة على استقلال المملكة وهيبتها وكرامتها، وحماية عقيدتنا وثقافتنا، وصَـوْن عاداتنا وتقاليدنا.

* في مجال المسؤوليات فإنني أذكُر، أيضاً، أنه عند تكليفي من قائدنا الأعلى بقيادة القوات المشتركة ومسـرح العمليات، استعرضت المحاولات السابقة لإنشاء قيادة مشتركة أو قيادة موحدة، فوجدت أنه جرى تشكيل أربع قيادات مشتركة سابقة لقيادتي، كلّها فشلت في تحقيق أهدافها.

** فقد جرت المحاولة الأولى لتوحيد الجيوش العربية تحت قيادة موحدة، في عام 1948م. وعلى الرغم من سوء حالة تلك الجيوش، وقتئذٍ، وضعف إمكاناتها، تدريباً وتسليحاً، فإنه لو تسنَّى للعرب إيجاد قيادة موحدة فعلية، قادرة على وضع الخطط، وإصدار أوامر العمليات للقوات في المسرح، والمناورة بالقوات والوسائل، أيْ لها صلاحيات السيطرة العملياتية، لَكَان في إمكان الجيوش العربية إحراز نصر خاطف على إسرائيل، خلال المرحلة الأولى من الحرب، ولَمَا زُرِعت إسرائيل في قلب الأمة العربية.

** وجرت المحاولة الثانية عند إنشاء القيادة العسكرية المشتركة بين مصر وسورية، في العشرين من أكتوبر عام 1955، ثم أعقبتها اتفاقية ثنائية بين مصر والمملكة العربية السعودية، في السابع والعشرين من الشهر نفسه. ولكن تلك القيادة فشلت في إحداث أي اندماج بين الجيوش الثلاثة، وعلى الأخص بين جيشي المواجهة: المصري والسوري. فقد ظَلّ كلّ جيش يدير أموره بنفسه، ووقَعت القيادة المشتركة في أخطاء التجربة الأولى، فلم تضمّ، ضمن تنظيمها، إدارةً للعمليات، ومن ثَمّ، لم تُجهز خططاً مشتركة، يُجرى تنفيذها عند وقوع عدوان إسرائيلي على مصر أو سورية، كما لم يكن لها أيّ صلاحيات عملياتية حقيقية.

** وجرت المحاولة الثالثة لتوحيد القيادة العربية، خلال اجتماع الملوك والرؤساء العرب، في دورة انعقاده في القاهرة، في 13 يناير 1964، عندما صدر قرار إنشاء قيادة عربية موحدة. وأُنشئ، على أثره، جبهتان مستقلتان: الجبهة الشرقية، وتضمّ سورية والأردن مع قوات دعْم من العراق والمملكة العربية السعودية؛ والجبهة الجنوبية، وتضمّ مصر مع قوات دعْم من الجزائر والسودان. وقد أثبتت هذه القيادة فشلاً ذريعاً في حرب 1967، لعدم تمتُّعها بأي صلاحيات حقيقية، وعدم وجود أي أجهزة، ضمن تنظيمها، للقيادة والسيطرة، ممّا جعلها اسماً من غير مسمّى، وقيادة بلا قوات.

** وكانت المحاولة الرابعة والأخيرة، هي تشكيل القيادة العامة للقوات المسلحة الاتحادية لقوات دول مصر وسورية وليبيا، في أول يونيه عام 1972. ولم تكن هذه المحاولة أفضل حظاً من المحاولات الثلاث السابقة، فمنذ البداية، لم تشترك ليبيا فيها بأي صورة من الصور، ممّا جعلها، في واقع الأمر، قيادة اتحادية بين القوات المصرية والسورية. وما حدث في نهاية حرب أكتوبر 1973، أوضح دليل على عدم نجاحها، لعدم وجود قيادة تتمتع بسلطات إصدار أوامر العمليات، وتعليمات التحرك للقوات على الجبهتَيْن، وتنسيق العمليات وربط الخطط المشتركة بينهما. ولو كان مثل هذه القيادة موجودة بالفعل، لاستغلت الأزمة الحادة والارتباك الشديدَيْن، اللذَيْن واجهتْهما القيادة الإسرائيلية، خلال الأيام الأولى من المعركة، عندما تلقّت صدمة الحرب العنيفة، على كلا الجبهتَيْن في وقت واحد، وتحققت المفاجأة الإستراتيجية والعملياتية، وانكشف الواقع الإسرائيلي. فإسرائيل من غير الاعتماد الكامل على دولة عظمى، لن يستمر وجودها. ولكي نكون منصفين، فإن هذه القيادة نجحت فقط في إجراءات التنسيق قبل الحرب، مثل: تحديد توقيت بدء العمليات، وتنفيذ خطة الخداع الإستراتيجي، ومواجهة إسرائيل لحربٍ حقيقية شاملة على جبهتَيْن نائيتَيْن، في وقت واحد.

* كانت أخطاء المحاولات الأربع السابقة ماثلة أمام عيني، عندما كُلِّفت بقيادة القوات المشتركة، وهي تتلخّص في الآتي:

ـ عدم تحديد المهام الإستراتيجية والعملياتية تحديداً واضحاً ملزماً للأطراف المشتركة.

ـ عدم وجود خطط عملياتية مشتركة.

ـ عدم اشتمال تنظيم القيادة على هيئات للعمليات والاستخبارات المشتركة.

ـ عدم منْح القائد الصلاحيات: الإدارية والعملياتية، اللازمة للقيادة والسيطرة.

ـ نقْص وعدم كفاءة أجهزة القيادة والسيطرة والاتصالات، ضمن تنظيم القيادة.

ـ التدخل الخارجي في أعمال القائد العسكرية.

* من هنا، كان حرصي الشديد على عدم الوقوع في مثل تلك الأخطاء، وألاّ أسمح بتكرار ذلك الفشل، ومن ثَمّ، فقد اتخذت الإجراءات التالية:

** تنظيم قيادة القوات المشتركة مشتملة على الإدارات الرئيسية: مثل الأفراد، والاستخبارات، والعمليات، والإمدادات والتموين؛ إضافة إلى إدارات الاتصالات والحرب الإلكترونية، والحرب الكيماوية، والمهندسين العسكريين، والشؤون الطبية، والحرب النفسية؛ ومركز للعمليات، كان يتولاه قائدكم، العميد، وقتئذٍ، عبدالرحمن المرشد، الذي شارك بكفاءةٍ في هذه الحرب.

** ولأهمية التخطيط، تمّ أُنشِئَت إدارة للخُطط، جعلتها مرتبطة بالقائد مباشرة. وشكّلنا فريقَ عملٍ سعودياً، للتخطيط المشترك مع فريق عملٍ مماثلٍ من القوات الأمريكية.

** وارتَبَطَت بالقائد جهات عديدة، فللمرة الأولى في تاريخ القوات المسلحة السعودية، تُمثّل الوزارات الرئيسية، مثل: الداخلية والخارجية والبترول والثروة المعدنية، والاستخبارات العامة، وهيئة أمن واستخبارات القوات المسلحة، في قيادة القوات، بهدف التعاون والتنسيق وسرعة اتّخاذ القائد للقرار.

** أمّا الصلاحيات، فقد فُوِّض قائد القوات المشتركة كافة الصلاحيات اللازمة، التي كان يفتقر إليها قادة المحاولات الأربع السابقة، فأصبحت له صلاحية القيادة الكاملة لكافة الوحدات البرّية والقوات الجوية والقوات البحرية وقوات الدفاع الجوي، العاملة في مسرح العمليات، مع إمكان تعزيز المسرح بالوحدات اللازمة من أيّ منطقة أخرى.

** كما أن جزءاً كبيراً من الصلاحيات الإدارية لسموّ وزير الدفاع، فُوِّضت إلى قائد القوات المشتركة، ممّا كان له أكبر الأثر في وضْع الأمور في نصابَيْها: الإداري والقانوني.

** أمّا عن إجراءات القيادة والسيطرة، فقد اتخذت الإجراءات التي كفلت ـ بفضلٍ من الله ـ تجنُّب أخطاء مماثلة للأخطاء السابقة، وأتاحت تحقيق القيادة والسيطرة على جميع الوحدات والتشكيلات، حتى اكتمال تنفيذ المهمة.

* نقطة مهمة أخرى، تذكرتها أثناء إعدادي لهذه المحاضرة، هي أننا نقرأ في كتب الإدارة عن نظريات القيادة وأنماطها، وصفات القائد الناجح، ونفتخر بمعرفتنا أسماء المفكرين الغربيين، الذين يؤلّفون هذه النظريات ويحدّدون هذه الصفات، وننسى ما بين أيدينا من كنوز، وردت في القرآن الكريم والسُّـنَّة الشريفة. وقد تعلمت اثنتي عشرة صفة، من بين الصفات الكثيرة التي وردت في القرآن العظيم، يجب توافرها في من يتولّى القيادة. أودّ أن أذكرها لكم، حتى تكون نوراً مضيئاً، تهتدون به في قيادتكم المستقبلية، وتحاولون تحقيقها في أنفسكم، وفي مرؤوسيكم، وهي: 

1. يقول المولى ـ عزّ وجلّ ـ في سورة البقرة: ]إنَّ اللـهَ اصطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْـطَةً فِي العِلْمِ والجِسْـمِ واللـهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ واللـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: 247).

(الصفة الأولى: هي سعة العلم والاطلاع، وهي نتيجة طبيعية لكمال العقل ورفعة شأنه. والصفة الثانية: هي سلامة الجسم وقوته، وما ينتج من ذلك من شجاعةٍ ومقدرةٍ على القتال).

2. ويقول الله ـ جلّ جلاله ـ في سورة القصص: ]إِنَّ خَيْـرَ مَنِ اسْـتَأْجَـرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ[ (القصص: 26).

(هنا الصفة الثالثة: وهي القوة بمعناها الشامل، في العزيمة، والشجاعة والإقدام، والقدرة على تحمل المسؤولية. والصفة الرابعة: هي الأمانـة. الأمانة في تنفيذ المهمة. الأمانة في ما بين يديه من مسؤوليات).

3. ويقول ـ جلّ وعَلا ـ في سـورة آل عمران: ]وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّـوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْـفُ عَنْهُـمْ واسْتَغْفِـرْ لَهُـمْ وشَـاوِرْهُـمْ فِي الأَمْـرِ فإِذَا عَـزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَـى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِـبُّ المُتـَوَكِّلِينَ[ (آل عمران: 159).

(الصفة الخامسة كما وردت في هذه الآية: هي لين الجانب للمرؤوسين، أيْ الجانب الإنساني، الذي يجب أن يراعيه القائد. والصفة السادسة هي: مشاورة المرؤوسين، وأهمية الاستماع إلى الأركان والمستشارين، ثم اتّخاذ القرار، الذي يراه القائد صائباً، وقد يكون متفقاً مع آرائهم أو مخالفاً لهـا، فالمسؤولية مسؤوليته، في حالتَيْ النجاح أو الفشل. والصفة السابعة هي: الحزم وعدم التردّد. فبعد اكتمال الدراسة وتقديم التوصيات واتّخاذ القرار، لا وقت للتردّد، بل إصرار على التنفيذ، بعد التوكل على الله، لتحقيق المهامّ).

4. وفي سورة التوبة: ]حَرِيصٌ عَلَيْـكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ (التوبة: 128).

(والصفة الثامنة هنا هي: الرأفة والرحمة بالمرؤوسين، وعدم التكبر عليهم، ومراعاة ظروفهم، وتعرف مشاكلهم، ومساعدتهم على حلّها).

5. وفي سورة النحل: ]أدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (النحل: 125).

(الصفة التاسعة هي: أن يتميز أسلوب القائد بالإقناع، وليس فرض الرأي، وبعدم معاداة الآراء التي تخالف رأيه، وأن يتميز الأسلوب بالمنطق، والحجة القوية. ولن يتأتَّى ذلك، إلاّ لقائد مدرك لأصول القيادة وفنونها، يتميز بالخلُق القويم، وبالحزم والشدة، مع الرحمة والرأفة).

6. وفي سورة البقرة: ]وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً[ (البقرة: 269).

(الصفة العاشرة هي: الحكمة، أيْ يجب أن يتصف القائد بالحكمة في قراراته وأحكامه، ويكون قادراً على وضْع الأمر في موضعه، في سرعةٍ ودقةٍ وإتقان).

7. وفي سورة النساء: ]وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ[ (النساء: 58).

(الصفة الحادية عشرة، وهي صفة مهمة، الاتّصاف بالعدل. ومن هنا كانت أهمية تطبيق مبدأَيْ: الثواب والعقاب، على الكبير والصغير).

8. وفي سـورة الأحزاب، يقول المولى ـ سبحانه وتعالى ـ ]لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللـهِ أُسْوَةٌ حَسَـنَةٌ[ (الأحزاب: 21).

(هنا نصِـل إلى الصفة الأخيرة، وهي الصفة الثانية عشرة: القدوة الحسنة، في الخلُق، والمعاملة، والإيمان).

صفـات أُذكّر بها نفسي، قبل أن أُذكّركم وأُذكّر بها كلّ قائد.

* نقطة مهمة أخرى، لاحظتها خلال قراءاتي في كتب الإدارة، أن بعضاً من الباحثين يتحدثون عن واجبات القيادة وصفات القائد الناجح، وما يجب عليه أن يفعل وألاّ يفعل. ولكنّا لا نسمع كثيراً عن حقوق القيادة، أيْ حقوق القائد على مرؤوسيه. إن حقوق القيادة تتمثّل في ثلاثة جوانب رئيسية:

** الأول: السمع والطاعة: فمن دونهما لا يكون هناك انضباط، وتصبح الأمور فوضى. فالسمع والطاعة واجبان في كلّ ما يحبه المرؤوس وما يكره، في غير معصية الله. 

** الثاني: المناصرة والتأييد: ويكونان بالمشاركة الوجدانية، والمشاركة الفعلية، والمناصرة باللسان، والمناصرة بالسـلاح والأموال، إذا اقتضى الأمـر، حتى لو كان قرار القائد وأوامره تخالف ما يرتئيه المرؤوس أو يقتنع به.

** الثالث: النصح والتسديد: وذلك بإبداء الرأي، بإخلاص وأمانة، وبالأسلوب المهذب، الذي يقتضيه الانضباط، وفي حدود معرفة المرؤوس وتخصّصه، أيْ لا يُفْتِي في ما لا يَعْلم، ولا يُصْـدر الأحكام في ما يجهل؛ فالعصر الذي نعيش فيه، الآن، يتميز بخاصّـيتين: المعلومات والتخصّـص.

* ننتقل إلى العنصر الثاني من عناصر ثلاثية النصر، وهو التدريب. إن تنظيم التدريب مسؤولية رئيسية من مسؤوليات القائد يجب أن يوليها كل اهتمامه، فليس له وظيفة أهم من هذه الوظيفة في أوقات السلم ، كما أنها أحد واجباته الرئيسية أثناء القتال أيضاً، لأنها الوسيلة الوحيدة لخلْق وحدة ذات كفاءة واستعداد قتالي، قادرة على تنفيذ مهامّها القتالية.

توضح اللوحة أمامكم أهمية التدريب، بدءاً من الإستراتيجية العسكرية، التي تحدد السياسات العسكرية، التي تحدد، بدورها، الأهداف العسكرية، التي تُقسم بدورها إلى أهداف أو مهامّ مرحلية. وبناءً على ما سبق، يُجْرَى إنشاء التنظيمات اللازمة وميْدَنتها، وهنا تبدأ المرحلة المهمة، وهي تدريب الوحدات والتشكيلات، ثم بالاستخدام القتالي السليم تتحقق الأهداف المرحلية، والتي تحقق الأهداف المخططة، تحقيقاً للسياسات والإستراتيجية العسكرية.

* إذاً، من أهم العوامل التي تحدد خطط التعليم في المعاهد العسكرية، وخطط التدريب في الوحدات والتشكيلات، عامل المهامّ التي تُكلَّف بها القوات المسلحة، في وقت السلم وفي وقت الحرب. ولأوضح لكم أهمية هذا المبدأ، سأذكر لكم بعض الأمثلة من التاريخ العسكري الحديث:

ـ  سنبدأ أولاً بما حدَث على الجبهة المصرية، في حرب أكتوبر 1973، تلك الحرب التي تحقق في بدايتها المفاجأة، التي أذهلت إسرائيل وأجبرتها على الانسحاب. فقد استطاعت القوات المصرية اقتحام المانع المائي، وتدمير خط بارليف، وقتلت وأَسَـرت المئات من الإسرائيليين، للمرة الأولى في تاريخ إنشاء دولتهم. ولنرَ معاً كيف أثّر التدريب في النتيجة النهائية للحرب. لقد كان الهدف المباشر للقوات المصرية، هو اقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، وإقامة "رؤوس كباري" على الشاطئ الشرقي للقناة، واتّخاذ موقف الدفاع في وقفة عملياتية قصيرة، لصدّ الهجمات المضادّة وتدميرها، ثُمّ تطوير الهجوم نحو الشرق، تحقيقاً للهدف النهائي، وهو الوصول إلى خط المضايق الإستراتيجية في عمْق سيناء، والدفاع عنها. ولكن، للأسف، كانت القوات المصرية تركّز، في تدريباتها قبل الحرب، على المهمّة الأصعب، تحقيقاً للهدف المباشر. أمّا أعمال تطوير الهجوم، والقتال عبر المضايق، فلم تأخذ حقّها من التركيز والاهتمام والتدريب. وبالفعل، نُفِّذت المرحلة الأولى بنجاح وكفاءة، أشاد بها العالم أجمع. ولكن الوقفة العملياتية طالت أكثر من اللازم، وعندما اقتضى الأمر القيام بأعمال التطوير، لم يُكتب لها النجاح، كما حدث في المراحل الأولى.

ـ  مثال آخر ممّا حدَث في حرب تحرير دولة الكويت الشقيقة. فنظراً إلى أنه كان من  ضمن مهامّ القوات المشتركة اقتحام الموانع، التي أقامها المعتدي في مسرح العمليات الكويتي، فقد تَدَرَّبَت القوات على كيفية عبورها، ليلاً ونهاراً بالذخيرة الحيّة، ونفَّذت العديد من التجارب والتمرينات، وأُنشأت موانع مشابهة تشابهاً كاملاً لما ستقابله القوات. ولذلك، أمكن عبور هذه الموانع بكفاءة وخسائر تكاد لا تذكر. فالمهمة حدّدت خطة التدريب وأسلوبه، والاستعداد للتنفيذ قبل المعركة.

* ولعِلمي بالمهامّ التي تنتظر قواتنا لتحرير دولة الكويت، ونظراً إلى وجود قوات مسلحة من جميع أنحاء العالم، صمَّمت على ضرورة الاستفادة من هذا التجمع، وتنفيذ تدريبات مشتركة مع هذه القوات، للاستفادة من خبراتها،  ونقل المعرفة والمهارة إلى قواتنا، وقد نُفِّذ ما يلي تنفيذاً دقيقاً:

** في مستوى الوحدات البرّية: التدريب المشترك على أساليب عبور الموانع: الطبيعية والصناعية، وتنفيذ العمليات الهجومية في مستوى مجموعة لواء، والوقاية من الحرب الكيماوية، وعمليات القوات الخاصة.

** وفي مستوى القوات الجوية: تمرينات مشتركة للهجوم الجوي، وتمرينات دفاع جوي، ونُفِّذت، للمرة الأولى، تمرينات متعددة للإسناد الجوي القريب مع الوحدات البرّية بالذخيرة الحيّة.

** ومع القوات البحرية: تمرينات مشتركة على الإنزال البحري، وعلى الحرب السطحية، وعمليات الإنقاذ البحري. وكانت هذه التمرينات تُجرى في كلٍّ من الخليج العربي و البحر الأحمر.

* وقبل ذلك، عندما كنت قائداً لقوات الدفاع الجوي، ولقناعتي بأهمية التدريب، كان اهتمامي الكامل بتخطيط وتنفيذ وتطوير التدريب بالأسلوب الصحيح، وطبقاً للمهامّ القتالية المنتظرة. وبفضل من الله، تحقّق ما يلي:

1. فصْل التدريب عن العمليات، فأصبح للتدريب إدارة مستقلة. هذا الإجـراء أدّى إلى التركيـز في التدريب، بصفته نشاط ضروري وأساسي لرفع الكفاءة القتالية للوحدات والتشكيلات.

2. تغيير بناء التوجيه التدريبي من العمومية الشاملة إلى التفصيل، محدّدين الأهداف المطلوب تحقيقها في نهاية كلّ عام تدريبي، حتى تُبنى الخطط التدريبية للوحدات تحقيقاً لهذه الأهداف.

3. تنفيذ رماية وحدات قوات الدفاع الجوى، أثناء التحرك، من خلال "تمرينات الرماية السنوية"، ليلاً ونهاراً. وقد كانت خطوة مهمة لإدخال الواقعية في التدريب، والوقوف على المستوى الحقيقي للكفاءة القتالية للوحدات.

4. ابتُعِث، للمرة الأولى، طَلَبَة الدفاع الجوى إلى كلية سان سير الفرنسية.

5. أُنشئَ العديد من ميادين رماية الصواريخ والمدفعية والأسلحة الصغيرة، بالقرب من أماكن وجود مجموعات قوات الدفاع الجوي.

* ولكي نقتنع أكثر وأكثر بأهمية التدريب والرماية، كمحورَيْن أساسيَيْن لتحقيق النصر، فلنعد بالذاكرة إلى أكثر من أربعة عشر قرناً مضت، لنرى كيف اهتم الرسول القائد ـ r ـ بتدريب أصحابه على الرمْي وركوب الخيل، وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ  يقول: ]من تعلّم الرمْيَ، ثم تركه، فقد عصاني[. وفى حديثٍ آخر: ]ألا إن القوة الرمْي، ألاَ إن القوة الرمْي، ألاَ إن القوة الرمْي[، كرّرها ثلاث مرات.

خلاصة البند الثاني: إن المقصود بالتدريب هو العناية بتقوية الأفراد والقادة، في جميع المستويات، بدءاً من قادة الفصائل حتى قادة القوات، جسمياً، ليتحملوا الشدائد؛ وعقلياً، ليجيدوا التخطيط والتنفيذ؛ وروحياً، لتقوى صِـلتهم بالله، وليعظُم توكّلهم عليه.

* نصل إلى العنصر الثالث والأخير، والذي لا يقلّ أهمية عن العنصرَيْن الأوليْن، وهو الانضباط. ولنبدأ بتعريفه، فهو: "تدريب منظّم، وتنمية، وضبط للقوى: العقلية والمعنوية والطبيعية". وهو "نظام تعليم وضبط، يغرس في الذهن الخضوع للسلطة المقررة، وضبط النفس، والسلوك السوِيّ المنتظم".

* ويجب على القائد الناجح أن ينشد "الأسمى" من كل شيء. فعليه أن يسعى إلى تحقيق أسمى أنواع الانضباط، وهو القدرة على ضبط النفس. وفى حديث للمصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عقب عودته من إحدى الغزوات: ]رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر[. قيل: "يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟" قال: ]جهاد النفس[.

* إن الانضباط ينمو باتّباع أسلوب التوجيه والإرشاد والتعليم، وليس بالعقاب. فإذا كان الانضباط قائماً على التهديد بالعقاب فقط، اتّجه الأفراد إلى التكاسل، والتحايل، حينما يشعرون أنهم في منأى من العقاب، وهكذا يفقدون القدرة على الابتكار الشخصي، والأمانة، ويحتاجون إلى المراقبة الدائمة. ويقتضي الأمر أن "نسوقهم" بدلاً من أن "نقودهم".

* إن كفاءة القوات المسلحة وقدراتها تتوقفان على مدى تحلّيهـا بالانضباط الجيد. وإنه لمِن الأفضل ألاّ يُكتسب الانضباط من توقيع العقاب المستمر، ولكن بالتأثير في الأفراد ليفعلوا الصواب دائماً.

* ليس في ما تقدم إيحاء بألاَّ يُـنتهج أسلوب العقاب في حالة الإخلال بالانضباط. فإذا أُسندت إلى قائدٍ مهمّة قيادة إحدى الوحدات، ثم رأى ما يبعث على الاعتقاد بأن الانضباط ليس في المستوى المقبول، وأن أسلوب الإقناع وعدم اتّباع الشدة لم يجدْ الاستجابة التامة والتقدير من أفراد وحدته، أصبح من الحكمة، بل الواجب عليه، أن يغيّر هذه السياسة، ويتّخذ فوراً الموقف الحازم حتى تنضبط الوحدة، ويعلم كل فرد فيها أن القائد قادرٌ على قيادتها بحزم وشدة، مع عطف ورأفة، كلٌّ في وقته. كما يجب على القائد، في جميع الأوقات، ألاّ يترك هفوة واحدة من دون تقويمها، ولا مخالفة فردية من دون المحاسبة عليها. وإليكم القاعدة الذهبية لمَن ينشد الانضباط، وهي: "عليك أن تهتم بالأمور الصغيرة، فتهتم الأمور الكبيرة بنفسها".

* يخطئ بعض الناس ممّن يعتبرون أن الانضباط مقصور على القوات المسلحة فقط، وينسون أن دِيننا الحنيف هو دين انضباط في المقام الأول، فمثلاً:

** أَلَيست الصلاة في أوقاتها، والاصطفاف خطاً متراصفاً في صلاة الجماعة، واتّباع الإمام، وعدم الخروج من الصلاة أو السبق في حركاتها، نوعاً من الانضباط؟

** أَوَلَيس الصيام نوعاً من ضبط النفس الذاتي والتحكم في الشهوات؟ والصيام في وقتٍ محدد والإفطار في وقتٍ محدد، نوعاً آخر من الانضباط؟

** والحج، مواقيته ومناسكه، أَلَيس نوعاً من الانضباط؟

** أَلَيست نظافة الجسم واللسان، وهي من الأساسيات في الدين، نوعاً من الانضباط؟

** أَلَمْ يحدّد ديننا الأسلوب الصحيح للتعامل مع أفراد المجتمع، صغيرهم وكبيرهم، قويّهم وضعيفهم؟ أَلَيس هذا نوعاً من الانضباط في المعاملات؟

إذاً، فدِيننا يحثنا على الانضباط، مظهراً وجوهراً.

* إذا انتقلنا من الدين إلى التربية في الأسْـرة، لوجدنا أن التربية السليمة تقوم على الانضباط: احترام الصغير للكبير، وعطف الكبير على الصغير، تقبّل التوجيه والنصح من الأكبر للأصغر، والسمع والطاعة من الأصغر للأكبر، والترابط والالتفاف حول ربّ الأسْرة، والدفاع عن كيانها. أَلَيس هذا كله نوعاً من الانضباط، الذي ننشده في قواتنا المسلحة؟ لذلك، فإنني أقول دائماً: "إذا وجدت فرداً منضبطاً، فاعلم أنه من أسْرة عُنيَت بتربيته التربية الصحيحة، ومن أُسْـرة لها مبادئ وقِيم وتقاليد. أُسْـرة جديرة بالاحترام والتقدير. والعكس صحيح".

* ومن الأحداث المهمّة، التي تدلّ على تأثير عدم الانضباط في نتائج المعارك الحربية، ما حدَث في غزوة "أُحُـد"، عندما خالف الرماة أوامر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتركوا مواقعهم، وأسرعوا إلى جمع الغنائم، فأدّى ذلك إلى انكشاف ظهور المسلمين لخالد بن الوليد، الذي استفاد من ذلك، وطوّقهم من الخلْف، أيْ أن عدم الانضباط ومخالفة الأوامر، كانا هما السببَيْن في ما حدث للمسلمين في هذه الغزوة.

* ومثال آخر من تاريخنا الإسلامي، ولكنه عكس المثال السابق، لأنه يدلّ على روح الانضباط التي يجب أن تسود الجيوش الإسلامية: وهو عندما تلقى خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ أمْـر عزْله من القيادة، من قِبل أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قَبِل أن يقاتل تحت إمرة القائد الجديد، أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ لمدة أربع سنوات تقريباً، اجتهد خلالها وقاتل بشجاعة، وفتح بلاداً عديدة، وكان خير عون لقائده الجديد. وكذلك رضي بالعزل الثاني، عندما عُزل للمرة الثانية، ولم يعترض، وأسف فقط لحرمانه من الشهادة في ميادين الجهاد.

* ونظراً إلى قناعتي الشديد بأهمية الانضباط والتدريب، فقد كانا من أُولى بنود السياسات التي أعلنتها رسمياً، عندما تولّيت قيادة قوات الدفاع الجوي عام 1406هـ، وهي: 

** الانضباط العسكري هو أساس كافة الأعمال.

** التدريب هو الاهتمام الرئيسي لجميع القادة، وفي كافة المستويات.

** تطبيق مبدأَيْ: الثواب والعقاب.

** تحقيق العدل.

** اتّباع الأسلوب العلمي لحلّ المشكلات واتّخاذ القرارات.

** التركيز والاهتمام بالنوع، وليس الكَمّ.

كانت هذه هي السياسات التي أعلنتها. والحمد لله، أنني نفّذتها خلال قيادتي لقوات الدفاع الجوي، وقيادتي للقوات المشتركة ومسرح العمليات.

* كما ينبغي ألاّ ننسى أهمية الانضباط وما يحققه من أمْنٍ خلال العمليات العسكرية. مثال ذلك ما حدث في الحرب العالمية الثانية، حين أَسَـر البريطانيون دبابة ألمانية، وقتلوا طاقمها، عدا القائد، وكان برتبة رقيب أول. وقاد أحد البريطانيين الدبابة تجاه المعسكر الألماني، وهددوا قائدها الألماني بالقتل، إذا أتى بأي حركة تنبّه الحراس إلى وجود البريطانيين داخل الدبابة. وجعلوا قائد الدبابة الألماني يقف في البرج ليراه الحرّاس. وبالفعل، استجاب القائد لهم، ولم يبدِ أي حركة عند اقتراب الدبابة من المعسكر. وفتح الحراس الألمان البوابة، ودخلت الدبابة المعسكر. وكان هدفُ البريطانيين التقدم إلى نهاية المعسكر والاستدارة، لتدميره. ولكن بعد تحرك الدبابة عدة أمتار داخل المعسكر، فوجئ البريطانيون بسياج حول الدبابة والأسلحة حوْلهم، وقُبِِض على البريطانيين. وعند التحقيق معهم، طلب أقدمُهم، وهو برتبة ملازم، أن يعرف كيف اكتشف الألمان أن داخل الدبابة بريطانيين، فذهل عندما سمع الإجابة وهي: أن أحد الضباط كان يسير بالقرب من الدبابة، ولم يؤدِّ قائدها، وهو واقف في البرج، التحية العسكرية. هنا أدرك الضابط أن شيئاً خطيراً حدث، إمّا لقائد الدبابة الذي لم يؤدِّ التحية، أو داخل الدبابة نفسها. لذلك، أعطَى الأوامر بمحاصرة الدبابة، لاستطلاع الأمر. هذا هو الانضباط الجيد الذي أنقذ معسكراً كاملاً من الدمار.

* إذاً، يتّضح لنا من كل ما ذكرت، أن النصر يكون ـ بإذن الله ـ إلى الجانب الأكفأ قيادةً، والأفضل تدريباً، والأعلى انضباطاً، والأقوى عقيدةً وإيماناً.

لقد حاولت أن أنقل إليكم، في لقائنا هذا، عصـارة ما قرأت من كتب، وشاهدت من أحداث، وتعلمت من دروس، ومارست من قيادة، خلال خدمة، امتدّت إلى أكثر من ربع قرنٍ من الزمان. وأحمد الله الذي قدّر لي ختام هذه الخدمة، بقيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات، ووفّقني في حمْل المسؤولية، وتأدية الأمانة، وإنجاز المهمة، فلله الحمد والمنّة.

تمنياتي لكم بمستقبل زاهر مضيء، مستقبل مليء بالإنجازات والانتصارات، فقادتكم ينتظرون منكم الكثير، وشعبكم يأمل فيكم، وأمّتكم تتطلع إليكم، فكونوا عند حسن ظنهم جميعاً.

وأقول لكم في الختام، تقدموا ترعاكم عناية الله، وتوكّلوا عليه، وثقوا بنَصْـرِه، إنه نِعم المولى ونِعم النصيــر.

والسلام عليكم ورحمة اللـه.

ـــــــــــــــــــ