إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / خالد بن سلطان / محاضرات صاحب السموّ الملكي الفريق الأول الركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، في المعاهد والمنشآت التعليمية









بسم الله الرحمن الرحيـم

في قاعة النشاط الثقافي

لقاء قائد وضباط المنطقة الشمالية

هكذا تعلمتُ من التاريــــخ

ـــــــــــــــــــ

حفر الباطن، المملكة العربية السعودية

الأحد: 23 رجب 1415، الموافـق 25 ديسمبر 1994

ــــــــــــــــــــــــ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
والصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسَـلينَ

الإخوةُ قائدُ وضباط المنطقةِ الشماليةِ

السلام عليكم ورحمة الله

شكري العميقُ وتقديري لَكُم على دعوتِكُمْ الكريمَةِ لنا، هذه الدعوةُ التي لبَّيتُهَا فورَ تلقِّيهَا، لأنها تجمعني مع زُمَلاءِ السلاحِ، وشُركاءِ النصـرِ، الذين أَمْضيتُ بَيْنهمُ سِنِيَّ العُمْرِ، وزَهْرَةَ الشبابِ، والذينَ مَعَهُمْ، وبِهِـم، حققنَا، بفضلٍ مِنَ اللهِ، الإنجازاتِ والانتصاراتِ.

لقد سَعِدْتُ بما شاهدتُ اليومَ من مُحاوَلَتِكُمْ تَجْسِيدَ أَحداثِ حربِ الخليجِ، لشعوري بأنهَا البِدَايةُ الصحيحةُ، والخطوةُ الأُولَى على طَريقِ التحسينِ والتطويرِ. فدراسةُ التاريخِ مُهمةٌ للرجلِ العسكريِّ قَدْرَ أهمِّيتِهَا للرجُلِ السياسيِّ؛ فالتاريخُ يُعطينَا العِبَرَ والدروسَ، ويُعَرِّفُنَا بمواطــنِ قُوَّتِنَا وضَعْفِنَا، ولا يُحابِي ولا يُجامِلُ ولا يُنافِقُ. والعاقلُ من استفاد مِنْ التاريخِ، وتَجَنَّبَ السَّقطاتِ، وتلافى نِقَاطَ ضَعفِهِ، وطَوَّرَ نِقَاطَ قُوَّتِهِ. فحركةُ التاريخِ مُستمرةٌ ومُتكررةٌ، بأساليب متنوعة وأشكالٍ متعددة وشخصياتِ متجددة. وأقولُ دائماً، إذا أردتَ أن تتنبأَ بالمُسْتَقْبَلِ، فَعَلَيْكَ دراسةِ الماضي، وتَحْلِيلِ الحاضرِ. لأنَّ أحداثَ الحاضرِ ما هيَ إلاّ نِتَاجٌ للماضي، وأحداثَ المستقبلِ هي امتدادٌ للحاضِرِ.

لقد كانَ التاريخُ معلّمي الأولَ خلاَلَ خدمتي العسكريَّةِ، درستُهُ قَدْرَ طاقتي، واستفدت مِنْ أحداثِهِ قَدْر استطاعتي، وكانت دروسُهُ وعِبَرُهُ مِصبَاحاً مُضيئاً لي، فَمَنْ لم يَتَعَلَّمْ مِنَ التاريخِ، فلا يَلُومَنَّ إلاّ نَفْسَهُ.

ولأُبيِّنْ لكم بعضاً مِنْ هذه الدُّرُوسِ، وكَيْفَ استفدت مِنْهَا.

فعندما كُلِّفتُ بقيادةِ القواتِ المشتركةِ ومسرحِ العملياتِ، تذكرتُ كيفَ فَشلَتْ أَرْبَعُ مُحَاوَلاَتٍ لإِنْشَاءِ قِيَادَةٍ مُشْتَرَكَةٍ عربية أو قِيَادَةٍ مُوَحَّدَةٍ بَيْنَ دولتَيْنِ أو ثَلاَثِ أو سَبْعِ دولٍ، بَدْءاً بحرْبِ فِلسطِيَن 1948، ونهايةً بتشكيلِ القيادةِ العامَّةِ للقواتِ المسلحةِ الاتحاديةِ لقواتِ دُولِ مِصْرَ وسوريَة وليبيَا عام 1972. لذلكَ، كَانَ إصراري على عَدَمِ تكرارِ الفشلِ، لأنَّ ثمنَ الفشلِ، هذه المرَّةِ، سيكونُ غالياً، لن يدفعه وطَنُنَا الحبيبِ فقطْ، بل ستدفعه الأُمَّةُ العربيةُ والإسلاميةُ جمعاء. والحمد لله، دَرَسْنَا أسبابَ عَدَمِ نجاحِ المحاولاتِ الأربعِ، وتَدَارَكْنَاهَا تماماً، خلالَ حربِ تحريرِ الكويتِ، وجَرَى قيادةُ وَحَدَاتٍ مُسَلَّحَةٍ من (24) دَوْلَةً، وإمدادُ وتَمْوِينُ قُوَّاتٍ من (37) دَوْلَةً، بِمَا فيها الولايات المُتَّحِدَة الأمريكية، القوةُ العُظْمَى الوحيدةُ، الآنَ.

تَعَلَّمْتُ مِنَ التاريخِ كيفَ سارتْ الحربانِ، الكوريةُ والفيتناميةُ، وكيفَ كانَ لقواتِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ اليدُ العُلْيَا، وكيفَ تصرفتْ هذهِ القواتُ على التُّرابِ الوطنيِّ الكوريِّ، والفيتناميِّ. نتيجةً لذلكَ، كانتْ مُحَاولاَتُنَا الناجحةُ لإنشاءِ قيادةٍ سعوديةٍ موازيةٍ للقيادةِ الأمريكيةِ، والإصرارِ من جانبِ قَادَتِنَا، ومن جانبي، عَلَى ضَرُورَةِ الإذْعَانِ التَّامِ، والاحترامِ المُطْلَقِ لعقيدتنا أولاً ثم لعادَاتِنَا وتَقَالِيدِنَا وثَقَافَتِنَا، فَلَمْ تُنْتَهَكْ لنا حُرْمَةٌ، ولم يُغْتَصَبْ لنا عِرْضٌ، ولم تُمْتَهَنْ لنا كَرَامَةٌ. وحَلَّ بِأَرْضِنَا أَكْثَرُ مِن (700) ألفِ مقاتلٍ، ورَحَلُوا، وكُلٌّ مِنْهُم يشعر بفَخْرٍ واعتزازٍ بأنَّه أَدَّى واجِبَهُ، وسَانَدَ  الدِّفَاعَ عن الحَقِّ، ورَدْع البَاطِلِ. رَحَلُوا بِسَلاَمٍ وسُهُولَةٍ ويُسْرٍ، إلى درجةِ أنَّ بعضاً مِنْ شَعْبِنَا، لم يَشْعُرْ بِقُدُومِهِمْ أو رَحِيلِهِمْ، وظنُّوا، خَطأً، أنَّ الحربَ سَتَكُونُ هَكَذَا دَائِماً، الآنَ وفي المُسْتَقْبَلِ.

كَمَا تَعَلَّمْتُ من تارِيخِ حَرْبِ أُكتوبر 1973، أنَّ بَعْضَ الطائراتِ أُسْقِطَتْ خَطَأً بأسلحةِ الدِّفَاعِ الجَوِّي الصديقِ، وأَنُّهُ حَدَثَتْ مشاكِلُ، لا حَصْرَ لها، لِنِظَامِ القيادةِ والسيطرةِ، دَاخِلَ الأفرع الرئيسـيةِ لقواتٍ مسلحةٍ واحدةِ، أو لاثنتَيْنِ متعاونتَيْنِ. مِنْ هذا الدرسِ، كانت الإجراءاتُ المدروسةُ والواعيةُ، التي اتّبعناها خِلاَلَ حربِ تحريرِ الكويتِ، حيثُ تَمَكَّنَّا من السيطرةِ على قُوَّاتٍ مُسَلَّحَةٍ مِنْ دُوَلٍ عديدةٍ، تتكلَّمُ لُغَاتٍ متعددةٍ، ولها عقائدُ قِتَالِيَّةٌ متباينةٌ، وتسـتخدمُ أسلحةً ومُعَدَّاتٍ مُختلفةً، من دونَ مشاكِلَ تُذْكـَرُ. كما تَمَكَّنَّا مِنْ وَضْعِ نظامٍ خاصٍّ ودقيقٍ للإنذارِ والتمييزِ والتعاوُنِ والتَّخصِيصِ بَيْنَ القواتِ الجويةِ لإحدى عشرة دولةً ووسائلِ الدفاعِ الجوِّي السعوديِّ ووحدَاتِ الدِّفاعِ الجوِّي العضويةِ للقُوَّاتِ الشقيقةِ والصَّديقةِ. وكَانَتْ النتيجةُ مُشَرِّفَةً، فَلَمْ تُسْقَطْ طائرةٌ واحدةٌ من طريق الخطأِ، ونَفَّذْنَا المُهِمَّةَ، وتَحَرَّرَتْ دولةُ الكويتِ.

هكذا تعلمتُ مِنَ التاريخِ، وأَتَمَنَّى أَنْ يتعلمَ الجميعُ مِنْهُ، وأَنْ يُعْطُوا جُزْءاً مِنْ وَقْتِهِم للدراسةِ والتحليلِ واستخلاصِ الدروسِ. فَلَقَدْ استفادت معظمُ الدولِ مِنْ دروسِ حَرْبِ الخليجِ، عَدَّلت تنظيماتِ قواتها المسلحة، وطَوَّرت عقائِدَها، وحَسَّنت أسَالِيبَ تدريبها، وأعَادت النَّظَرَ في أنظمةِ أَسْلِحَتِها ومعداتها، وبَلْورت إسْتِرَاتيجِيَّتها وسِيَاسَتها، لتلائم طبيعةَ الحربِ المقبلةِ. أَرْجُو أَنْ نَتَشَبَّهَ بتلك الدول، فالحربُ دارتْ على أَرْضِنَا، وشاركت فيها قُوَّاتنا، وكُنَّا الدولةَ المُضِيفَةَ والمُحَرِّكَةَ لأحداثِهَا، ومن حَقِّنَا أن نكونَ أكثرَ الدُّوَلِ استفادةً مِنْ دُرُوسِهَا.

لقد طلبَ الأخ اللواءُ الركْن عبدُالرحمنِ العلكمي، أن يكونَ لقائي مَعَكُمْ عن تجربتي الشخصيةِ خلالَ خدمتي العسكرية،ِ انتهاءً بقيادةِ القواتِ المشتركةِ ومسرحِ العملياتِ. وبالتفكيرِ العميقِ في هذا الطلبِ، اكتشفتُ أَنَّ أحداثَ التاريخِ الحديثِ في منْطقَتِنَا، هِيَ التي شَكَّلَتْ حياتي وخدمتي العسكريةِ على السَّوَاءِ.

فلقد تفتحتْ عَيْناي، وأنا في السابعةِ، على حربِ 1956، وشاهدتُ والدي وأعمامي والشَّعْبَ كُلَّهُ، يُهْرَعُونَ إلى التَطَوُّعِ العَسْكَرِيِّ، تضامُناً مَعَ دولةٍ عربيةٍ شقيقةٍ، ضِدَّ العُدْوَانِ الثلاثي. شَعَرَ، وَقْتَهَا، ذلك الصبيُّ، أنَّ هُنَاكَ خَطَراً يتهدَّدُ مَنْ حَوْلَهُ، وانْطَبَعَ في ذَاكِرَتِهِ أنَّ الزِّيَّ العسكرِيَّ وحَمْلَ السِّلاَحِ، هُما الوسيلةُ الوحيدةُ لِدَرْءِ هذا الخَطَرِ، وأدركَ، بَعْدَهَا بسنواتٍ، أهميةَ الإعدادِ العسكريِّ للشَّعْبِ، وأهميةَ الاعتمادِ، بعد اللهِ، على القُوَّةِ الذاتيةِ.

وفي الثالثةَ عشرةَ من عمري، شهدتُ بدايةَ حربِ اليمنِ حين هُدِّدَ أَمْنُ المملكةِ، وهُوجِمَتْ مُدُنُهَا الجنُوبِيَّةُ من قِبَل نظامِ الرئيسِ عبدالناصرِ، وقتئذٍ، ولَمَسْتُ قَلَقَ سموِّ وزيرِ الدفاعِ واهتمامه بحمايةِ سمائِنَا المَفْتُوحَةِ، بالقواتِ الجويةِ وبالدفاعِ الجَوِّي، وشعرتُ بضرورةِ الانخراطِ في سِلْكِ الجنديةِ، للمشارَكَةِ في الدفاعِ عن أَرْضِنَا وتُرَابِنَا، ومن هُنَا كَانَ إصراري على الالتحاقِ، فِيمَا بَعْدُ، بكليةٍ عسكريةٍ.

ثُمَّ وقعتْ حربُ 1967، وكُنْتُ، وَقْتَهَا، طَالِبًا في "ساندهيرست"، وسَعِدْتُ بِسَمَاعِ بَيَانَاتِ الانتصاراتِ، التي اتّضحَ، فيما بعد، أَنَّهَا انتصاراتٍ وهميةً. وسريعاً ما تكشفتْ الحقيقةُ، ومُنِيَتْ الأمةُ العربيةُ بهزيمةٍ ثقيلةٍ، ما زالتْ آثارُهَا باقيةً حتَّى الآنَ. وتَعَرَّضْنَا، بصفتنا طلبة عرب، للسخريةِ والانتقاداتِ، فازدادت قناعتي بأهميةِ السِّلْكِ الذي انتميتُ إليهِ، وبِأَنَّ المَخرَج الوحيدَ لَنَا، هُوَ الاعتمادُ، بَعْدَ اللهِ، على الذَّاتِ، وأنَّ الإدارةَ الصحيحةَ للحربِ، تنطلقُ من مُنْطَلَقَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ، هما: السِّياسَةُ والعسكريَّةُ، وكما يَجِبُ أن تُعِدَّ المسرحَ العَسْكَرِيَّ للقتالِ، فعليكَ قبل، ذلك أن تُعِدَّ المسرحَ السِّـياسِيَّ. ولقد تذكرتُ بياناتِ صوتِ العربِ، وأنا أُعْطِي التعليماتِ، قبل بدء حرب تحرير دولة الكويت، إلى المتحدِّثِ العسكريِّ باسْمِ قيادةِ القواتِ المشتركةِ، بألاّ يُعْلِنَ إلاّ الحقائقَ المُؤَكَّدَةَ فَقَطْ، وأَلاَّ يُبالِغَ، أو يُخَادِعَ، وألاّ يُجِيبَ إلاَّ بما يعلمُ، حتى تَتَّصِفَ بياناتُنَا العسكريةُ بالمصداقِيَّةِ والمنطِقِيَّةِ.

وبَدَأَتْ خدمتي العسكريةُ في الدفاعِ الجوِّي، التابعِ، وقتَهَا، للقواتِ البرّيةِ. ومارستُ القيادةَ، للمرة الأولى، في بطاريةِ "هوك"، في تبوك، وهناكَ قطفتُ ثمارَ التركيزِ على الانضباطِ كأساسٍ لبناءِ وحدةٍ مقاتلةٍ، ثم التدريبِ والتدريبِ والتدريبِ، للحصولِ على وحدةٍ ذاتِ كفاءةٍ وفاعليةٍ.

ثم نشبتْ حربُ  أكتوبر 1973، وشاهدنَا كيفَ استطاعتْ قواتُ الدفاعِ الجوِّي المصريةِ، كقوةٍ مستقلةٍ، أن تُؤَدِّيَ دورهَا في الحدِّ من قُدرةِ الذِّراعِ الطويلةِ لإسرائيلَ، وكيفَ أنشأتْ حائِطَ الصَّدِّ بالصواريخِ الموجهةِ، ليكونَ مانعاً للطائراتِ الإسرائيليةِ، ورادعاً لها عن الاقترابِ إلى شرقِ القناةِ، أو التدخلِ في مرحلةِ العُبُورِ، هذه المرحلةُ التي نُفِّذت بنجاحٍ وكفاءةٍ، أشادَ بها العالمُ أجمع، كما ظهرتْ أهميةُ استخدامِ الصواريخِ المتحركةِ القصيرةِ المَدَى، والمدافعِ الحديثةِ الموجَّهةِ بالرادارِ للكشفِ والتتبعِ. من تلك اللحظةِ، بَدَأْنَا التخطيطَ ليكونَ الدفاعُ الجويُّ السعوديُّ قوةً مستقلةً. وقد حدثَ التطويرُ من دفاعٍ جويٍّ مرتبطٍ بالقواتِ البرّيةِ، إلى دفاعٍ جويٍّ مرتبطٍ برئاسةِ هيئةِ الأركانِ، إلى فرعٍ رئيسيٍّ من أفرع القواتِ المسلحةِ عام 1404هـ. قفزاتٌ مُذْهِلَةٌ في زمنٍ قصيـرٍ!

وقد كانَ تركيزي، خِلاَلَ عملي في الدفاعِ الجويِّ، منصبّاً على أربعةِ منطلقاتٍ أساسيةٍ:

* الأولُ: تزويدُ الدفاعِ الجويِّ بأحدثِ الأنواعِ من الصواريخِ الموجَّهةِ المضادةِ للطائراتِ مُتوسطةِ وقصيرةِ المَدَى، وبالمدفعيةِ الحديثةِ المتطورةِ.

* الثاني: التنوّعُ في مصادرِ الإمدادِ بالسلاحِ والمعَداتِ، حتى لا نكونَ تحتَ رحمةِ موردٍ واحدٍ، يستطيعُ أن يمنحَ أو يمنعَ.

* الثالثُ: بناءُ نظامِ قيادةٍ وسيطرةٍ واتصالاتٍ ذي كفاءةٍ وقُدْرةٍ على ربْطِ وسائلِ الدفاعِ الجويِّ ومراكزِ عملياتِهِ ومراكزِ قياداتِهِ بمراكزِ الإنذارِ المختلفةِ.

* الرابعُ والأخيرُ: إعدادُ الكوادرِ السعوديةِ، والتركيزُ على التعليمِ في المنشآتِ التعليميةِ، والتدريبِ العمليِّ الواقعيِّ في الوحداتِ والتشكيلاتِ.

ننتقلُ، بعدَ ذلكَ، إلى مرحلةٍ أُخْرَى من أحداثِ الشرقِ الأوسطِ، وهي مرحلةُ الحربِ الإيرانيةِ ـ العراقيةِ، وما شَكَّلَتْهُ هذهِ المرحلةُ من ضغطٍ متزايدٍ على دفاعِنَا الجويِّ، تَحسُّبًا لأيِّ أعمالٍ جويةٍ معاديةٍ من الجانبِ الإيرانيِّ، إذ كانَ التهديدُ الجويُّ، والبحريُّ، وإطلاقُ الصواريخِ، وأعمالُ التخريبِ هيَ العدائياتُ الأكثرُ احتمالاً. وزادتْ الأعباءُ أكثرَ وأكثرَ، عندما عُيِّنْتُ قائدًا لقواتِ الدفاعِ الجويِّ، عام 1406هـ. وَوَقْتَهَا، أعلنتُ سياساتٍ وأهدافاً، تَلخصتْ في ثَلاَثِ كلماتٍ، أَعْتَبِرُهَا مِفْتَاحاً للنجاحِ والنصرِ. هذه الكلماتُ هِيَ: الانضباطُ الجيدُ، والتدريبُ المتواصلُ، والقيادة الشجاعة الواعيةُ. فلقد أعلنتُ أَنَّ:

** الانضباطَ العسكريَّ هو أساسُ كَافَّةِ الأعمالِ.

** والتدريبَ يجبُ أن يكونَ الشاغلَ الرئيسيَّ لجميعِ القادةِ، وفي المستوياتِ كافة.

** وضرورةَ تطبيقِ مبدأَيِ الثوابِ والعقابِ.

** مع تحقيــقِ العدلِ.

** واتّباعَ الأسلوبِ العلميِّ لِحَلِّ المشكلاتِ واتخاذِ القراراتِ.

** والتركيزَ والاهتمامَ بالنوع، وليسَ الكمّ.

هذه هِيَ السياساتُ التي أُعْلِنَتْ ونُفِّذَتْ، وأَجِدُهَا صالحةً للتطبيقِ حتى الآنَ، على الرغم من مُرُورِ أكثرَ من تسعِ سنواتٍ على صُدُورِهَا.

أمَّا إذا حاولتُ استعراضَ الإنجازاتِ، كَمّاً وكَيْفاً، فأجِدُهَا مُرْضِيَةً، بفضلِ اللهِ، في جميعِ المجالاتِ: العملياتيةِ، والتدريبيةِ، والتعليميةِ، والماليةِ، والاستخباراتِ والأمنِ، وشؤونِ الضباطِ والأفرادِ، والتفتيشِ والتقييمِ، والتسليحِ، والشؤونِ العامةِ، ورفعِ الكفاءةِ القتاليةِ للوحداتِ، والمجالاتِ الأُخْرَى كافة.

ولم تقْتَصرْ مسؤوليتُنَا على قواتِ الدفاعِ الجويِّ فقطْ، لاسيما بعدَ أن بدأتْ حربُ الصواريخِ، المسماةُ بحربِ المُدُنِ، بين طهرانَ وبغدادَ، وَعَلَتْ لهجةُ التهديدِ الإيرانيةِ ضدَّ المملكةِ. وكانَ القرارُ الحكيـمُ من قيادتِنَا عندمَا ارتأتْ ضرورةَ امتلاكِ سلاحٍ نُهَدِّدُ بِهِ، ولا نَسْتَخْدِمُهُ إلاَّ عند الضرورةِ، ويكونُ رادعاً وموجِعاً عند استخدامه. سِلاَحٌ لا يمكنُ اعتراضهُ أو تدميرُهُ أو التشويشُ عليهِ، ولهُ تأثيرٌ معنويُّ، لا يقلُّ عن تأثيرِهِ المادِّي. ووقعَ اختيارُ القائدِ الأعلَى للقواتِ المسلحةِ، مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، على الصواريخِ الصينيةِ "دي إف 3 DF3" أو "رياحِ الشرقِ"، كَمَا أَطلقنَا عليهَا. وصدرتْ الأوامرُ الكريمةُ بإنشاءِ قوةِ الصواريخِ الإستراتيجيةِ، وتكليفي بقيادتِهَا. وكانتْ التحدياتُ أمامنَا عديدةً، بدءاً من التفاوضِ معَ الجانبِ الصينيِّ، ومرورًا بنقلِ المعَداتِ وتأمينِهَا على امتداد خطِّ سَيْرِهَا من الصينِ إلى المملكةِ، ووضْعِهَا في أمَاكِنِهَا المؤقتةِ والدائمةِ، بسريةٍ كاملةٍ، والاستعدادِ لمواجهة أيِّ تهديدٍ في موانئِ الوصولِ البحريةِ والجويةِ، وتأمينِ قواعدِ الصواريخِ أثناءَ مرحلةِ البناءِ، والتدريبِ على نظامِ السـلاحِ، في الصـينِ والمملكةِ، ووضْعِ وتنفيذِ خُطَّةِ الخداعِ الإستراتيجيةِ، وخُطَّةِ الأمنِ والسِّريةِ، وانتهاءً بتشغيلِ القواعدِ بكفاءةٍ، وبزوغِ قوةِ الصواريخِ الإستراتيجيةِ كقوةِ ردعٍ سعوديةٍ، أَثَّرَتْ في ميزانِ القُوَى لمصلحتنا.

وكانتْ المحطةُ الأخيرةُ من أحداثِ المنطقةِ، وأكثرُهَا وحشيةً، هي احتلالُ دولةِ الكويتِ، ووصولُ التهديدِ المباشرِ إلى حدودِنَا الدوليَّةِ، وكُلِّفت على أَثَرِهَا بقيادةِ القواتِ المشتركةِ ومسرحِ العملياتِ. وَوَقْتَهَا، واجهنَا معاً تحدياتٍ لم يَسْبِقْ لها مثيلٌ في التاريخِ العسكَرِيِّ، الحديثِ والقديمِ. وتَمَكَّنا، بفضلِ اللهِ، من إنشاءِ قيادةٍ عملياتيةٍ، تماثل، على قَدْرِ الإمكانِ، القيادةَ الأمريكيةَ، وتعملُ مَعَهَا على قَدَمِ المساواةِ. وجَرى حَلُّ مشاكِلِ القيادةِ والسيطرةِ والاتصالاتِ، وتذليل كافَّةِ الصعاب الإداريةِ والتموينيةِ. وتَمَّ استعواض النقصِ في الوحداتِ، ورفعُ كفاءتِهَا القتاليةِ. وتَحَمَّلْنَا عبءَ الدفاعِ عن الخَطِّ الدفاعيِّ الأولِ في خُطَّةِ "درعِ الصحراءِ". وتَمَّ إجراءُ التدريباتِ المشتركةِ للوحداتِ البرّيةِ والقواتِ الجويةِ والبحريةِ، ثم التخطيطُ والإدارةُ لعملياتِ "عاصفةِ الصحراءِ". ومَنَّ اللهُ علينَا بالنصرِ في معركةِ الخفجي، التي خَاضَتْهَا الوحداتُ البرّيةُ جنباً إلى جنبٍ مع وحداتِ الحرسِ الوطنيِّ، التي شرَّفني بقيادتِهَا سيدي صاحبُ السموّ الملكي، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وليّ العهد، رئيس الحرس الوطني، والذي، بفضلِ قيادتِه الحكيمةِ، أصبحت هذه الوحدات قوةً قتاليةً ذات كفاءة عالية. ثُمّ أعزّنا الله بالنصرِ في معركةِ تحريرِ دولة الكويتِ.

حقاً، لَقَدْ خُضْـنَا حرباً حديثةً. خُضْنَاهَا وتَحَمَّلْنَا القِسْطَ الأكْبَرَ من نفقاتِهَا. ومِن واجبِنَا دراستُهَا دراسةً مستفيضةً؛ وأن نبنيَ عليهَا سِيَاسَتَنَا وإستراتيجيتَنَا المُقْبِلَةَ؛ ونَعْبُرَ، من خِلاَلِهَا، إلى إستراتيجيةِ حربِ المعلوماتِ والاتصالاتِ والتقنيةِ العاليةِ؛ وأن يكون الاعتماد، أساساً، على النوع أكثرَ من الكمّ؛ وأن يكونَ لنا عقائِدُنَا القتاليةُ الخاصةُ، التي تُنَاسِبُ إمكانَاتِنَا، وأَهْدَافَنَا، وتُحَقِّقُ أَمْنَنَا، وتَرْدَعُ أَعْدَاءَنَا.

كانت هذه هي مسيرة حياتي العسكريةِ، التي استمرَّت رُبْعَ قرنٍ من الزمان. لم يكن عملي أثناءَها هوايةً، أو قضاءَ وقتٍ ومصالحَ، أو منصباً وجَاهاً. لقد كان، بالنسبةِ إليّ، مهنةً أحببتُهَا، واحترَمْتُهَا، فاحترفتها وأَخْلَصْتُ لَهَا، وتَفَانَيْتُ في سَبِيلِهَا، فأصبحتْ راسخةً في ذِهني وقلبي ما حَيِيتُ.

وللتاريخ أيضاً، عليَّ أن أذكرَ بالفضلِ والعرفانِ، والشكرِ والامتنانِ، مَن أعتبرُه القدوةَ، والمثلَ الأعلى خلال حياتي. لقد ربّاني وعلّمني، ووجّهني وأدّبني. تعلمتُ منه القِيمَ والمبادئَ، وتشبّهتُ به في الرجولةِ والشهامةِ، واقتبستُ منه روحَ العملِ وتَحَمُّلَ المسؤوليةِ. نجاحي كُلُّه أهديه إليه، فما أنا إلاَّ ثمرةٌ صغيرةٌ من ثمارِ كفاحِهِ. إنه الجنديُّ المجهولُ وراءَ النصرِ في حربِ الخليجِ، إنه والـدي، سلطان بن عبدالعزيز.

واسمَحُوا لي، في خِتَامِ حديثي إليكُم، أن أوصِيكُمْ وأوصِـي نفسي: بأن تجعلوا الله نصْبَ أَعْيُنِكُمْ في كُلِّ قرارٍ تتخذونَهُ، وأن تجعلُوا خدمةَ دِينِكُمْ أَمَلَكُم، وخدمةَ مليكِكُمْ وَوَطَنِكُمْ هَدَفَكُمْ، واهتمامكمْ برجَالِكُمْ ووحَدَاتِكُمْ مسؤوليتَكُمْ، وبناءَ قواتٍ مسلحةٍ محترفةٍ مُهِمَّتَكُمْ. فأنتم جُديرون بِحَمْلِ المسؤوليةِ وتأديةِ الأمانةِ وإنجازِ المُهمةِ فكُونُوا عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكُم.

وفّقكم اللـه.

والسلام عليكـم ورحمة الله.

ـــــــــــــــــــ