إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / خالد بن سلطان / محاضرات صاحب السموّ الملكي الفريق الأول الركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، في المعاهد والمنشآت التعليمية









بسم الله الرحمن الرحيـــــم

في معهد قوات الدفاع الجوي

فن إدارة الأزمــات و الإدارة بالأزمـات،

من الحديبية إلى حنيش الكبـرى

ــــــــــــــــــــ

جدة، المملكة العربية السعودية

الثلاثاء: 14 ذي القعدة 1416، الموافق الثاني من أبريل 1996

ــــــــــــــــــــــ

بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
والصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسَـلينَ

 

الإخوة الأعزاء قائد ومعلمو ومنسوبو معهد قوات الدفاع الجوي

الإخوة الأعزاء الدارسون

الإخوة الضيوف والحاضرون

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يُسعدني أن أقفَ اليومَ محاضراً في معهدِ قواتِ الدفاعِ الجوي. هذا المعهدُ، الذي بدأتُ فيه أُولى خُطوات حياتي العسكرية، منذ أكثرَ من سبعةٍ وعشرين عاماً، حينما كان اسمُه مدرسةَ الدفاعِ الجوي، وكانت أسلحتُنا في ذلك الوقت، لا تتعدى حفنة من البطارياتِ المضادة للطائرات.

أقفُ اليومَ، بكل فخرٍ واعتزازٍ، متحدثاً في معهدٍ يُعدُّ مفخرةً للقواتِ المسلحةِ السعودية، تخرج فيه آلافٌ من ضباطِ الصفِّ، والضباطِ المؤهلين القادرين على قيادةِ وحداتٍ من الصواريخِ والمدفعيةِ والورشِ الفنية. جيلٌ جديدٌ من أبناءِ هذا الشعبِ العريق، المخلص لدينه ثم مليكه ووطنه. كما أشيدُ بقوات الدفاع الجوي التي أصبحت قوةً رابعةً تحمي ـ بعد الله ـ سماءَنا، منتشرةً في طولِ البلادِ وعرضِها، جاهزةً للذَّوْدِ عن مجالِنَا الجوي، مستعدةً لبذلِ الجهدِ والعرقِ في السلمِ، والدمِ والحياةِ في الحربِ. تحية تقديرٍ لكلِّ قائدٍ وضابطٍ، وضابط صفٍ وجندي، شاركَ ويشاركُ في العطاء، وقَدَّم ويُقَدمُ حياتَه للفداء.

كما يُسعدني أن ألتقي الصَّفْوةَ من المفكرين، الصَّفْوةَ من مُوجّهي الأجيالِ الجديدةِ ومُعلّمِيها. هذه الأجيالُ التي أعدّها الأملَ والرجاء. الأملُ أن يوفقهم الله لإكمالِ المسيرة، ورفعِ أعلامِ المجدِ والانتصار. والرجاء أن يكونوا في مستوى تحمّلِ المسؤوليةِ، وتأديةِ الأمانةِ، رافعينَ رايةَ الإسلامِ، مؤمنينَ بربهم، متفانينَ في سبيلِ بلادِهم.

كان بودّي أن يقتصرَ حديثُنا على الجوانبِ العسكرية. ولكني وجدت أن الحديثَ عن المجالِ العسكري، لا بدّ أن يمسَّ الجانبَ الإستراتيجي، وكلاهما يَمَسُّ المجالَ السياسي. فآثرت ـ حتى أُجنّبَ محاضرتَنا الرتابةَ والملل ـ أن أجعلَها مزجاً من السياسةِ والإستراتيجيةِ والعسكرية. أرجو أن أكون قد وُفّقْت في اختيارِ الموضوعِ واختيارِ قِصَصِه، آمِلاً في حلمكُم واتساع صَدْرِكُم. ولنبدأ المحاضرةَ على بركةِ الله.

* إننا، في الحقيقة، نعيشُ في عالمٍ من الأزمات، عالمِ الكياناتِ الكبرى، والصراعاتِ المتشعبة، والمصالحِ المتعارضة. عالمٌ لا مكانَ فيه للدولِ الضعيفةِ والتحالفاتِ الهشة، ولا احترام فيه لضعيفٍ أو متخاذل، عالمٌ ذو اتساعٍ حضاري، يمتدُّ ويتطور، وتتعددُ مصالحُه وتتعارض. وعلى قدرِ ازديادِ المصالحِ وتَعَارُضِها، تكون حِدَّةُ الأزماتِ وتنوعُها.

* وإذا نظرنا إلى واقِعِنا في دولِ العالمِ الثالث، نرى العجبَ العُجاب، نجد الشقاقَ والتنافرَ، والفرقةَ والتناحرَ، والتحالفاتِ الضعيفةَ التي سريعاً ما تنهار، ولا تصمدُ أمام أبسطِ الأحداث. فقبْل الثاني من أغسطس عام 1990، كان في منطقتِنا ثلاثةُ أحلافٍ عربيةٍ: مجلسُ التعاونِ العربي، الذي انهار عقب الغزوِ العراقي لدولةِ الكويت. واتحادُ المغربِ العربي، الذي تنادي المملكةُ المغربيةُ بضرورة إنهائه منذ خمسةِ أشهر. ومجلسِ التعاونِ الخليجي، الذي تعرض أخيراً لأزمة كادت تهدد تَمَاسُكَه، والحمد لله، جَرَى التغلب عليها وعاد المجلس إلى طبيعته. أمّا عن جامعةِ الدولِ العربيةِ، فحدِّث ولا حرج، فهناك عداءٌ وكراهية، ونزاعاتٌ وحروب، واتهاماتٌ متبادَلةٌ بالخيانةِ والعمالة، وتمويلٌ للإرهابِ وتشجيعٌ له. كلّ هذا أدّى ويؤدّي إلى حدوثِ الأزمةِ تلوَ الأزمة. هكذا كُتب علينا وكتبنا على أنفسِنا، وكنَّا لأنفسِنا ظالمين. فإذا أردنا التطلعَ إلى الأفضلِ، والتغييرَ إلى الأحسنِ، علينا تَدَبر قولِ المولى ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه الكريم: "إن اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم" صدقَ اللهُ العظيم.

* ومما يزيد الأمرَ سوءاً، أن متخذي القرار في معظمِ دولِ عالمِنا الثالث، يعتمدون في إدارتِهِم، على أسلوبِ الإدارةِ يوماً بيوم، وأسلوبِ "الإدارة برد الفعل"، فضلاً عن العشوائية، والتصرفِ طبقاً لانفعالاتِ اللحظةِ الجزئية، رافضين مجردَ الإصغاءِ إلى أهميةِ التخطيطِ العلمي، حتى إن كان تخطيطاً لإدارةِ الأزمات.

* إن المتتبّعَ للأخبارِ، التي تنشرها الصحفُ والمجلات، وتبثها الإذاعةُ والقنوات، سيجدُ أنها لا تخلو، كل صباح، من خبرٍ عن أزمةٍ محلية أو أخرى عالمية. أزماتٌ يعجزُ الإنسانُ عن حصرِها أو متابعتِها.

* ولكن علينا أن نعترفَ، أنه لا عصرٌ ولا دولة، ولا زمانٌ ولا مكان، محصنٌ ضد الأزماتِ. فقد حدثت في الماضي، وتحدث في الحاضر، وستحدث في المستقبل. لقد أصبحت الأزماتُ جزءاً منّا، كما أصبحنا جزءاً منها. وإنَّ اعترافَنَا بحدوثِها، يتطلب منَّا أن نكون أكثرَ حضوراً في وعيِنا وفكرِنا وإدارتِنا، حتى نؤثِّرَ في مجرياتِها، ونتجنبَ أخطارَها، ونستفيدَ من أحداثِها.

* إن التفكيرَ العلميَّ الصحيحَ في "إدارة الأزمة" يبدأ من الإجابةِ الصادقةِ عن الأسئلةِ التاليةِ:

من نحن؟  ومن هم الآخرون؟  ما هي أهدافُهُم؟ وما هي أهدافُنَا؟ إلى أين نتجه؟  وإلى أين هم يتجهون؟  ماذا نملك؟  وماذا يملكون؟  كيف نستخدم ونستثمر ما نملك، ونُحَيِّد ما يملكون؟  وما الوقت المتيسر لنا؟

* إن الأزمة الدَّوْلِية تنشأ، غالباً، نتيجةً لخللٍ في العلاقاتِ القائمةِ بين الجماعاتِ أو الدولِ، بسبب خروجِ إحداها عن اتفاقياتٍ أو أعرافٍ قائمةٍ مع غيرِها، ثم حدوثِ ردود فعلٍ متباينةٍ، من الأطرافِ المتضررة.

* كما تُعَرّف الأزمةُ بأنها نتاجٌ لموقفٍ يتّسمُ بثلاثِ خصائصَ رئيسيةٍ: أولاً: تهديدٌ للمجتمعِ. ثانياً: ترجيحٌ للدخول في مواجهةٍ عسكرية. ثالثاً: إدراكُ أن هناك وقتاً محدوداً للردِّ على هذا التهديد.

وقد يخلطُ بعضُ الدارسين، أحياناً، بين مصطلحَيْنِ، الفرقُ بينهما شاسعٌ، هما "إدارةُ الأزمات" و "الإدارة بالأزمات". فـ "إدارة الأزمات" تعني منهجاً علمياً، لمواجهة الأزمةِ الناشئةِ، للسيطرةِ عليها، وتجنبِ سلبياتِها، والاستفادة من إيجابياتِها. في حين أن "الإدارةَ بالأزمات" أسلوبٌ يعتمدُ على افتعالِ الأزمة، وإيجادِها من العدم.

ولنتحدث أولاً عن "الإدارة بالأزمات"، التي يُطلق عليها علمُ "صناعةِ الأزمةِ واختلاقِها"، والتي تهدف إلى التحكمِ في الآخرين والسيطرةِ عليهِم. وللأزمةِ المُفتعلةِ مواصفاتٌ كي تبدو حقيقيةً، وتؤتي ثمارَها، من أهمِّها الإعدادُ المبكرُ للأزمةِ، وتهيئةُ المسرحِ لحدوثِها، وتوزيعُ الأدوار على صانعيها، وإيجادُ المبرر لافتعالها، واختيارُ الوقت المناسب لتفجيرها.

ولنرَ كيف بدأت الحربُ العالميةُ الثانيةُ، فجرَ اليومِ الأولِ من سبتمبر عام 1939، باجتياحِ القواتِ الألمانيةِ حدودَ بولندا، بعد أن افتعل هتلر أزمةً لإيجاد المبرر لغزوِها، وتصويرِ الغزوِ الألماني على أنه دفاعٌ عن النفسِ فقط، وتأديبٌ لبولندا التي خانت المعاهداتِ، وعلاقاتِ حُسنِ الجوار.

بدأت "صناعةُ الأزمة"، في الليلةِ السابقةِ لاشتعالِ الحرب، حين أَخْرَجت قواتُ الصاعقةِ الألمانيةِ اثني عشرَ سجيناً بولندياً، من معسكرِ اعتقالٍ بالقربِ من برلين، وألبستهم زِيَّ الجيشِ البولندي، ثم أطلقت عليهم الرصاصَ، وألقت بجثَثِهم في غابةٍ على الحدود، وأضافت بعضَ المؤثراتِ لتصويرِ الموقفِ على أنه كان بدايةَ غزوٍ بولندي. وفي الوقت نفسِه، هاجمت قواتُ الصاعقةِ محطةَ إذاعةٍ ألمانيةٍ على الحدودِ بين البلدينِ، وهي ترتدي زِيَّ الجيشِ البولندي، وتصطحبُ معها سجيناً بولندياً آخر، ثم أطلقت الرصاصَ في جميعِ الاتجاهاتِ، وقتلت عدداً من الألمانِ العاملينَ في المحطةِ، وأجْبرت السجينَ البولنديَّ، على إذاعةِ بيانٍ يعلنُ غزوَ القواتِ البولنديةِ لألمانيا، واستيلاءها على محطةِ الإذاعة. ثم انسحبت قواتُ الصاعقةِ، تاركةً الأسيرَ البولندي جثةً هامدةً، وخلّفت وراءها واحداً فقط من الألمانِ العاملين في محطةِ الإذاعة، مصاباً إصابةً طفيفةً، ليروي أمامَ الصحافةِ العالمية، ما شاهده من مهاجمةِ الجيشِ البولنديِّ للمحطةِ وقَتْل من فيها. وبعد أن اكتمل سيناريو صُنعِ الأزمةِ بنجاحٍ، توجّه هتلر، صباحِ اليومِ التالي، إلى البرلمانِ، حيث ألقى كلمةً قصيرةً، قال فيها: "للمرة الأولى يجرؤ الجيشُ البولنديُّ على مهاجمةِ وطنِنَا، فقمنا منذ السادسةِ بالردِّ على النيران. ومن الآن فصاعداً، سنردّ بالقنابلِ على القنابل". وهكذا بدأت الحربُ العالميةُ الثانيةُ بـ "أزمةٍ مفتعلةٍ".

وتستخدم الدولُ الكبرى "الإدارةَ بافتعالِ الأزمات"، كأسلوبٍ لتنفيذِ إستراتيجيتِها، في الهيمنةِ على العالمِ، والسيطرةِ على موارِدِه، وتأكيدِ قوتِها، وفرضِ إرادتِها، لتحقيقِ أهدافِها.

ولكن "صناعةَ الأزمات"، ليست حكراً على الدول الكبرى وحدَها، إذ الدولُ الصغرى تستطيعُ أيضاً صُنعَها. فأزمةُ الرهائنِ الأمريكيين، الذين احتُجزوا في طهران عام 1981 وقضوا في الأسرِ 444 يوماً، تشير إلى قدرةِ الدولِ الصغرى، على صنعِ الأزماتِ للدولِ الكبرى.

كما تستطيع الدولُ الصغرى، أن تفتعلَ أزماتٍ للدولِ الأخرى المماثلةِ لها في المكانة. ولعلّ أزمةَ تدميرِ المُفاعل النووي العراقي، في يونيه 1981، بواسطة إسرائيل، هو أحد الأمثلةِ الدالةِ على ذلك.

وتمرّ "صناعةُ الأزمةِ" في مراحلِ عدة:

فالمرحلة الأولى: هي مرحلةُ تهيئةِ المسرح لافتعال الأزمة. ومن أهمِّ الخطواتِ التنفيذيةِ لتحقيقِ ذلك:

أولاً: استخدامُ الضغوطِ على الكيانِ المُسْتَهْدَفِ، وحلفائه. ومثال ذلك: ادعاءُ صدام حسين أن الكويت سرقت النفط العراقي من حقول الرميلة، وعلى الكويت تسديد ثمنه.

ثانياً: تشويهُ حقيقةِ حكّامِ الكيانِ المستهدف. ولعل الاتهاماتِ التي كالها الرئيسُ العراقيُّ لدولةِ الكويت وحكامِها، وتشويهَ صورةِ المسؤولين فيها هي خيرُ مثالٍ.

ثالثاً: كسبُ المؤيدين لأي تدخلٍ عنيفٍ ضد الكيانِ المستهدف، من خلال الإعلامِ المكثفِ، وشبكةِ المصالح والارتباطات، وتسريبِ المعلوماتِ الصحيحةِ أو المغلوطةِ. مثال ذلك ما فعله صدام حسين لكي يكسبَ المؤيدين في الدولِ العربيةِ، ممن تبهرُهم الشعاراتُ ويصدقون الادعاءات، إذ هدّد بحرقِ  نصفِ إسرائيل، وتوعّدَ كلَّ من يهدد أي دولةٍ عربيةٍ، حتى يُنظر إليه على أنه بطلُ العربِ الأوحد في الوقت الذي أبلغ  فيه الولايات المتحدة، سرّاً، أنه لا يعني ما يقول. كما حاول توسيعَ دائرة العداء والكراهية ضد الكويتيين، واستمالةَ بعضِ أحزابِ المعارضةِ في الدول المختلفة وبعضِ رؤساء تحريرِ الصحفِ العربية بالهدايا والإكراميات، وتطويقَ مجلسِ التعاونِ الخليجي بإنشاءِ مجلسِ التعاونِ العربي.

المرحلة الثانية: تصعيدُ الأزمة

وهي مرحلةُ التعبئةِ الفاعلةِ والمكثّفةِ، وحشْدِ كل القوى ضد الكيانِ المستهدف، إمّا بقطعِ المساعدات أو فرضِ الحصار الاقتصادي، أو افتعالِ الأحداثِ  وتصعيدِها، لإيجادِ المبررِ اللازمِ للتدخلِ العنيف.

المرحلة الثالثة: المواجهة العنيفة والحادة

وهي مرحلةُ الصِّدامِ بين منشئ الأزمةِ والطرفِ الآخر. ويُشترط لنجاحِ هذه المرحلة، اختيارُ التوقيتِ والمكانِ والمجالِ، الملائمة لمفتعلِ الأزمة وغيرِ الملائمة للطرفِ الآخر. ونجد في حرب الخليج خيرَ مثالٍ على ذلك: إذ اختار الرئيسُ العراقي المجالَ والتوقيتَ الملائِمَيْن له لبداية مغامرته، مستغلاً انشغالَ الدول المختلفة بمشاكلها وهمومها. بينما اختار للكويت أسوأَ توقيتٍ، وهو بدء العطلة الصيفية، وأضعفَ مجالٍ، وهو المجالُ العسكري.

المرحلة الرابعة: السيطرةُ على الخصـم

وهي مرحلةُ الاستفادة من حالةِ انعدامِ الوزنِ لدى الخصم، وعدمِ قدرتِه على الحكمِ الصحيحِ على الأمور.

المرحلة الخامسة: تهدئةُ الأوضاع

وهي المرحلةُ التي يتم فيها تخفيفُ الضغطِ، وإعادةُ الأوضاعِ إلى حالتِها الأولى، واستخدامُ أساليبِ التعايشِ الطبيعي، والتخفيفُ من حدةِ التوتر.

المرحلة السادسة: سلبُ الطرفِ الآخر وابتزازُهُ

ويطلقُ عليها بعضُ الباحثين مرحلةَ جني المكاسبِ. وتتخذُ عادةً جانبين:

* جانبٌ سلبي، في إجبارِ الطرفِ الآخرِ على عدم القيام بأي عملٍ يهددُ مصالحَ الطرفِ الأول.

* وجانبٌ إيجابي، في إقناعِ الطرفِ الآخرِ بتنفيذ كل ما من شأنه تحقيق مصالحِ الطرفِ الأول.

وهنا يتضحُ لنا أن "الإدارةَ بالأزماتِ"، تعني افتعالَها، وليس علاجَها. ولكن على الدولِ التي تَتَّبعُ هذا الأسلوب، أن تسيطرَ على وقعِ أحداثِها، وأن تكونَ قادرةً على إدارتِها حتى النهاية، لتحققَ أهدافَها، وإلاّ أصبح الفشلُ حليفَها.

* ولنجاح أسلوب "الإدارة بالأزمات" شروط جوهرية، أهمها:

أولاً: وجودُ تفاوتٍ كبيرٍ، في ميزان القوى لمصلحة مدبّر الأزمة، مما يضطر الطرفُ المُسْتهدفُ إلى التسليمِ بالمطالبِ، تجنباً لصراعٍ نتيجته معروفة سلفاً. فعلى سبيل المثال: كان الفرقُ بين قوةِ العراق العسكرية وقوةِ الكويت كبيراً. فقوةُ العراق تزيد على المليونِ مقاتلٍ، بينما قوةُ الكويت لا تتجاوز العشرين ألفاً، ولولا عنايةُ اللهِ، ثم مساندةُ المملكةِ العربية السعودية، ووقوعُ الكويت في دائرةِ المصالحِ الأمريكيةِ والغربية، لضاعت الكويت الشقيقة إلى الأبد.

ثانياً: إن لم يكن هناك تفاوتٌ جوهريٌّ بين قوةِ الطرفين، فعلى مفتعلِ الأزمةِ أن يُقْنِعَ الطرفَ المستهدفَ، بقدرته على تكبيدِه خسائرَ فادحة إن لم يُذعن لمطالبِه. ومن الخطر أن يكتشفَ الطرفُ المستهدفُ أن الطرفَ الأول ليس جاداً في تهديده، أو ليس لديه القوة الكافية لتنفيذه، فحينئذٍ، يقع مُدَبِّرُ الأزمةِ ضحيةً لما دبّره بنفسِه. ومثالٌ على ذلك ما حدث عام 1967: فالرئيس عبدالناصر لم يكن جاداً في تهديدِه، ولا قادراً على تنفيذِ أي عمليةٍ هجوميةٍ ضد إسرائيل، بل إنه كان عاجزاً عن الصمودِ أمام الضربةِ الأولى. وكانت إسرائيلُ تعلمُ ذلك جيداً، فأضحت المؤامرةُ، والكارثةُ التي أعقبتها، ليست ضد مصر وحدها، بل ضد الأمةِ العربيةِ بأسرها. وفي عام 1990، لم يكن صدامُ حسين جاداً هو الآخر، في تهديداتِه وشعاراتِه ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وكانتا تعلمان هذه الحقيقة. وما حدث بعد ذلك وما يحدث الآن في العراق، ودُوَلِ المنطقةِ، لا يحتاجُ إلى تعليق.

ثالثاً: عدمُ تصعيدِ الأزمةِ، إلى حدٍّ يحوّلُها إلى صراعٍ مسلح، وهي الحالةُ التي يصبح فيها ثمن السلامِ للطرفِ المستهدفِ أفدحَ من ثمن الحربِ، وحينئذٍ، لن يقبلَ سوى الحربِ بديلاً للخروجِ من المأزقِ، الذي فُرضَ عليه. وأقربُ مثالٍ على ذلك ما أقدمت عليه إسرائيلُ بعدوانِها على الدولِ العربيةِ عام 1967، حينما سُحبت قواتُ الطوارئِ الدوليةِ من سيْناء بطلبٍ من الرئيس عبدالناصر، وأُغلق ممرُّ تيران في وجهِ الملاحةِ الإسرائيلية، الذي يُعَدّ منفذها الوحيد إلى البحرِ الأحمرِ ثم جنوبِ شرق آسيا.

إن "الإدارةَ بالأزمات"، وإن كانت فعلاً مُتعمداً، يهدف إلى تغييرِ طبيعةِ العلاقةِ القائمةِ لمصلحة مدبِّرِ الأزمة، لا تعني بالضرورةِ قدرتَهُ على السيطرةِ على تطوراتِها، فقد تفلتُ من قبضتِهِ، وتعملُ لغير مصلحته. ومثالٌ على ذلك: مسلسلُ الأزماتِ التي افتعلها هتلر في الثلاثينات، مما أقنع الحلفاءَ بنواياه النازيةِ التوسعية، ودفعهم إلى توحيدِ القوى ضد ألمانيا وهزيمتِها في الحرب. ومثالٌ آخر نجده في موقفِ صدام حسين أثناء أزمةِ الخليج. فإن عدم سيطرته على مَجْريات الأمور، وتصعيدَه للأحداث، واستفزازَه الأطراف كافة، أقنع معظمَ دولِ العالمِ أن في استمرارِ احتلالِه الكويت والإبقاءِ على قوّتِه العسكريةِ تهديداً لمصالِحِها الحيويةِ في المنطقة.

وقد يحلو لقادةِ بعضِ الدولِ، "اصطناعُ الأزماتِ" تغطيةً لفشلهم في إدارةِ البلادِ، وتبديداً للثرواتِ، وإلهاءً للشعوب عمّا تقاسيه في ظل دكتاتوريتِهِم. فإذا استعرضنا ما فعله ويفعله حاكمُ ليبيا، منذ انقلابِ الأولِ من سبتمبر عام 1969، وعلى مدى أكثر من ربعِ قرنٍ، لوجدنا نموذجاً فريداً لأسوأِ مثالٍ على "اصطناعِ الأزمات" مع معظمِ الدولِ والإخفاقِ في إدارتِها، حتى أصبحتْ ليبيا مصدراً من مصادرِ الاضطراباتِ في المنطقةِ العربيةِ، وتبدّدت ثروتُها، وتحوّل الشعبُ الليبي إلى شعبٍ محرومٍ من أدنى مستوى للعيشِ المقبولِ. وقد وردَ في أحدِ التقاريرِ أن ليبيا مدينةٌ لروسيا بـستة عشر ملياراً من الدولارات، هي قيمةُ أسلحةٍ ومعداتٍ تُركت مبعثرةً من دون استخدام وأشبهَ ما تكون بالنفَايَات.

وفي الحقيقة إن "الإدارةَ بالأزمات" أسلوبٌ بات لا يتلاءم مع روحِ العصر، وازديادِ الوعيِ، وكثافةِ ثورة الاتصالاتِ وانتشارها، وغزارةِ المعلوماتِ وسرعةِ تبادلِها، فضلاً عن انحسار المناخِ الملائم، الذي يشجعُ على اللجوءِ إلى أساليبِها؛ إذ إن عملياتِ استخدامِها، لا تُجرى إلاَّ في كياناتٍ دكتاتورية، يحتل فيها أصحابُ النفوذِ المواقعَ المهمة، التي تَحْكُم مسارَ القراراتِ.

أمّا "إدارة الأزمات"، فهي إدارةٌ للأزمةِ نفسِها، للتحكمِ في مساراتِها واتجاهاتِها. وهي إدارةٌ علميةٌ رشيدة تقومُ على البحثِ والمعرفةِ، واستخدامِ البياناتِ والمعلوماتِ الصحيحةِ كأساسٍ للقرارِ الملائم، وتقوم كذلك على التخطيطِ والتنظيمِ والتوجيهِ والرقابةِ، وتبتعدُ عن العشوائية.

ولنتعرف الآن بالأسبابِ التي تؤدّي إلى حدوثِ الأزمةِ

فالأزمةُ قد تنشأ لأسبابٍ عديدةٍ، ولكني سأكتفي باستعراضِ بعضٍ منها فقط، على سبيلِ المثال:

* أولُ هذهِ الأسبابِ: سوءُ الفهمِ

وهو ينشأُ، عادةً، نتيجةً لعاملَيْنِ رئيسيَّيْن: المعلوماتِ المبتورة، والتسرعِ في إصدارِ القراراتِ بالحكمِ على الأمورِ قبل تَبَيُّنِ حقيقتِها. وأوضحُ مثالٍ على ذلك ما حدث أثناء الأزمةِ اللبنانية عام 1958، عندما اقتنع الرئيس الأمريكي، أيزنهاور، أن الرئيسَ اللبناني، كميل شمعون، يتعرض لمؤامرةٍ سياسيةٍ تنفذها الجمهوريةُ العربيةُ المتحدةُ، ويخطط لها الرئيس عبدالناصر شخصياً، بهدفِ الاستيلاءِ على لبنان، وأن كميل شمعون ووزير خارجيته، شارل مالك، بسبب صداقتهما للغرب، يواجهان المتاعبَ الكثيرة من قِبلِ الشيوعيين والناصريين. ولكن بعد انفجارِ الأزمةِ، وانتشارِ القواتِ الأمريكية في بيروت، تأكد أيزنهاور، من مستشارهِ وممثلِه الشخصي، روبرت ميرفي، الذي أوفده إلى لبنان، أن شمعونَ كان "سجينَ أوهامِه، وضحيةَ تجاوزاتِه السياسية، وأن المعارضةَ، من المسلمين والمسيحيين، ناجمةٌ، أصلاً، عن ضيقِهِم بتصرفاتِه، أكثر من ارتباطِها بتحريضٍ شيوعي أو ناصري". ومن ثَمَّ، عَدَلَ أيزنهاور عن موقفِه المؤيِّدِ لشمعون، ووافق على اقتراحِ عبدالناصر، الذي أعلنه منذ بداية الأزمة، أن يتولى اللواء فؤاد شهاب، قائدُ الجيشِ اللبناني، رئاسةَ الجمهوريةِ، بعد انتهاءِ مدةِ شمعون الدستورية.

* ثاني هذه الأسباب: سوء الإدراك

إذ يؤدّي سوء الحالة الصحية أو النفسية أو العصبية لمتخذ القرار إلى سوءِ الإدراكِ، الذي يؤدّي بدوره إلى أسوأِ القراراتِ، التي تفجر أعنفَ الأزماتِ، وتسبب أفدحَ الخسائرِ.

* ثالثها: سوء التقدير والتقييم

 وهو من أكثرِ الأسبابِ المؤديةِ إلى حدوثِ الأزماتِ في جميعِ المجالاتِ، خاصةً المجالاتِ العسكريةِ، حين يكون أحدُ أطرافِ الصراعِ المسلحِ، الوشيكِ الحدوث، ضحيةً لسوءِ تقديرِه، وخطأِ تقييمِه للطرفِ الآخر.

وينشأُ سوءُ التقديرِ، عادةً، نتيجةً لعامِلَيْن:

الأول: المغالاةُ والإفراطُ في الثقةِ بالنفسِ، واستمراءُ خداع الذاتِ بالتفوّقِ المطلق.

والثاني: سوءُ تقديرِ قوةِ الطرفِ الآخر، والاستخفافُ به.

ونتيجة لذلك، يحشد الطرفُ الآخرُ طاقاتِهِ، ويحققُ عنصرَ المفاجأةِ، التي تصل إلى درجةِ الصدمةِ، فيفقد الطرفُ الأولُ توازنَه، ويعجزُ عن اتخاذِ القراراتِ الملائمة.

ومثالٌ على سوءِ التقديرِ الأمريكيِّ للقوات المسلحة اليابانية، ذلك الهجوم على ميناءِ  "بيرل هاربر" في السابع من ديسمبر عام 1941، حين دمّر اليابانيون (18) سفينةً حربيةً، ودمروا وأعطبوا (347) طائرةً مقاتلةً، وقتلوا (2403) في هجومَيْن استغرقا أقلَّ من ساعتَيْن. وكانت صدمةً عنيفةً للشعبِ الأمريكي حين علم بتدميرِ الأسطول، من دون أن يكون له حتى فرصةُ الدفاعِ عن النفسِ، نتيجةً لخللِ تقديرِ متخذِ القرارِ الأمريكي، وسوءِ تقييمِه للفكرِ العسكريِّ الياباني.

ومثالٌ آخر من حرب فيتنام، حيث لم تستطع الولاياتُ المتحدةُ الأمريكية، على الرغمِ من كلِّ إمكاناتِها، أن تحقق النصرَ؛ لأنها أساءت تقديرَ إرادةِ القتالِ لدى الشعبِ الفيتنامي، وحجمِ العونِ الذي يمكن أن يحصلَ عليه، من الاتحادِ السوفيتي والصينِ الشعبية. كما أساءت تقديرَ طبوغرافيةِ مسرحِ العمليات، وفاعليةَ حربِ العصابات في مواجهةِ الجيوشِ النظاميةِ، وردودَ فعلِ الشعبِ الأمريكي نفسِه، الذي كان مناهضاً لهذه الحرب.

وكانت حربُ أكتوبر عام 1973 أحدَ الأمثلةِ الواضحةِ على سوءِ التقديرِ والتقييمِ، خاصةً أنه توافرت معلوماتٌ كاملةٌ عن الحشودِ العسكريةِ: المصريةِ والسوريةِ، لدى كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن تحتَ وهْمِ القوةِ وخداعِ النفسِ، وقعتْ إسرائيل في خطأِ التقييمِ، وسوءِ التقديرِ للجنديِ العربي والإرادةِ العربيـة، مـا أدّى إلى تحطيـمِ أسطورتَي التفوقِ العنصريِّ الإسرائيلي، والجيش الذي لا يُقْهر. ولولا الدعمُ الأمريكيُّ، الذي فاق كلَّ التوقعاتِ، لتغير مجرى الحربِ، ولتبدلت خريطةُ الشرقِ الأوسطِ كلُّها. ولنسترجعْ معاً تصريحَيْن لموشى ديّان: الأولُ في الثاني عشر من يونيه عام 1967، بعدَ أسبوعٍ واحدٍ من بدايةِ الحرب، حين جلس مسترخياً في حديقةِ منزلِه، وخاطب جمعاً من الصحفيين قائلاً: "منذ أسبوعٍ مضى، مَنْ كان يحلم بأمنٍ كهذا أو بحدودٍ كهذه! إنها الحربُ التي أنهت كلَّ الحروبِ، ولم يبقَ أمامَ العربِ إلاً التماسَ المقابلةِ لتقديم فروضِ الطاعةِ، لا سيما وهم يعرفون رقمَ الهاتفِ". وفي أكتوبر عام 1973، كان تصريحُه الثاني، حين قال: "أقمنا خطَّ بارليف أقوى من خطِّ ماجينو، ولكنْ أمامَ المصريين لم يصمدْ، وكان مثلَ قطعةٍ من الجبنِ السويسري، فيها من الثقوبِ أكثرُ مما فيها من الجبنِ".

* رابع هذه الأسباب: الإدارة العشوائية

تُعَدّ الإدارةُ العشوائية في أي دولةٍ سبباً وباعثاً للأزماتِ، الداخليةِ منها والخارجيةِ، ومدمرةً للدولة نفسِها وإمكاناتِها وقدرتِها على مواجهةِ الأزمةِ، مهما كان حجمُها. ويتّصفُ مثلُ هذهِ الإدارةِ، عادةً، بالآتـي:

ـ عدمُ الاعترافِ بالتخطيطِ وأهميتِهِ.

ـ عدمُ احترامِ الهياكلِ التنظيميةِ للدولةِ.

ـ عدمُ وضوحِ الأوامرِ والتعليماتِ، وقصورُ البياناتِ والمعلوماتِ، وتفشي الارتجالُ والأنانية.

ـ عدمُ وجودِ متابعةٍ أو رقابةٍ علميةٍ فاعلة، واستبدالها برقابةٍ تتجسس على الأسرارِ الشخصية.

ولعلَّ هذا يفسرُ لِمَ ظلتْ معظمُ دولِ العالمِ الثالثِ في المرتبةِ الثالثةِ والأخيرةِ، إذ تفتقدُ حكوماتُهَا القدرةَ على الرؤيةِ المستقبليةِ، وتطبقُ الإدارةَ العشوائيةَ بطريقةٍ مثالية. ولعلَّ العراقَ في عهدِ صدام خيرُ مثالٍ على ذلك، سواء في أسلوبِ اتخاذِ القرار، أو في تحولِ العراقِ إلى دولةٍ بوليسية، وتحوُّله من دولة غنية إلى أخرى فقيرة، على الرغم من امتلاكه عناصرَ القوةِ والثروة: الماءَ والنفط والقوةَ البشريةَ.

* خامسها: الانتقامُ وحسمُ النتائج

قد تكونُ الرغبةُ في الانتقامِ وسرعةِ حسمِ النتائج، على مستوى الدول، باعثاً على أزماتٍ عنيفة ومدمرةٍ، وذات نفقات باهظة، خاصةً عندما يطولُ أمدُ الصراعِ المسلح، ولا تلوحُ في الأفقِ تباشير انتصارٍ لأيٍّ من القوّتَيْن المتحاربتَيْن، فتلجأ إحداهُما إلى أشدِّ الأسلحةِ فتكاً، وأعنفِ المجازرِ البشريةِ بشاعةً، لينوء الطرفُ الآخرُ بأسوأِ الخسائرِ فداحةً، حتى يُضطر إلى التسليمِ. ولعلّ أكثرَ الأمثلةِ مأساويةً على ما يمكن أن يؤدّي إليه استعجالُ النتائجِ، بعد حربٍ دامت ست سنواتٍ، هو إلقاءُ الولايات المتحدة قنبلةً ذريةً على كلٍّ من هيروشيما في السادسِ من أغسطس عام 1945، وعلى نجازاكي في الثامنِ من الشهرِ نفسِه. فدمرت أكثرَ من ثُلْثَي المدينتَيْن، وقتلت أكثرَ من مائةٍ وخمسين ألفَ شخصٍ، وخلَّفت مأساةً إنسانيةً، لا يزال العالمُ يعاني ويلاتِها، بعد مضيِّ نصفِ قرنٍ من الزمان. ومثالٌ آخر من أزمةٍ داخليةٍ، ما حدث لأكرادِ العراق، عندما قُصفت مدينةُ حَلَبْجَة بالأسلحةِ الكيماويةِ عام 1988، وقُتِل خمسةُ آلافِ نسمة.

* سادس هذه الأسباب: استعراضُ القوة

تلجأ إليه الدولُ الأقوى، لإرهابِ الدولِ الأضعف. كما قد تلجأُ إليه الدولُ الطموح عندما تمتلك بعضَ عناصرِ القوةِ، وترغبُ في التأثيرِ بالدولِ الأصغر منها وقياس ردِّ فعلِها، وردِّ فعلِ الدولِ الأكبرِ منها في الوقت نفسه. ومثالٌ على ذلك: الاستعراضاتُ العسكريةُ، التي كان يقيمُها هتلر في الثلاثينات، ثم انتهجتها الدولُ الشيوعيةُ من بعدِه، وتبعتها دولُ العالمِ الثالث. وما تحريكُ الأساطيلِ الأمريكيةِ إلى مناطقِ النزاع، إلاّ شكلٌ من أشكالِ استعراضِ القوة. ولعلّ أحدثَ مثالٍ على ذلك ما قامت به الصين، خلال شهر مارس الماضي، من إجراءِ التجاربِ لإطلاقِ الصواريخِ والمناوراتِ: البحريةِ والجويةِ، جنوبَ غربيِّ تايوان في إطارِ تدريباتٍ عسكرية، تستهدف استعراضَ القوةِ، والضغطَ على الرئيسِ التايواني قبلَ انتخاباتِ الرئاسة.

* سابعها: تعارضُ المصالح

وهو من أهمِّ أسبابِ حدوثِ الأزمات، سواء على النطاقِ الدّوْليِّ أو الإقليمي، إذْ لكلِّ دولةٍ مصالحُها القوميةُ التي تعملُ على حمايتِها بكلِّ قوّتِها. فإذا ما تعارضت مصالحُ الدولِ وصعب التوفيقِ بينَها، برز الدافعُ إلى إحداثِ الأزمةِ ونشوئِها. ولعلّ النزاعَ القائمَ الآن بينَ مِصرَ والسودان في شأنِ مثلّثِ حلايب، على أثر ظهور أهميَّتِه نتيجةً لاكتشافِ النفط فيه، أصدقُ شاهدٍ على نشوءِ الأزمةِ بسببِ تعارضِ المصالحِ.

بعد أن استعرضنا بعضاً من الأسبابِ، التي تؤدّي إلى حدوثِ الأزمةِ، فإننا نؤكـدُ، أن تحقيقَ نتيجـةٍ إيجابيـةٍ للأزمةِ، لا يستندُ إلى المصادفةِ أو الحظ، بل يستندُ إلى الكفاءةِ الإستراتيجيةِ في مواجهةِ الأزمة، وإدارتِها إدارةً حكيمةً. ويحفل التاريخُ بأزماتٍ، بدأت بسيطةً ثم تحولت إلى حروبٍ مدمرةٍ، من دون أن يتوقعَ أحدٌ، أنها سوف تتصاعدُ إلى صراعٍ مسلح.

ومن دراسةٍ لأهمِّ الأزماتِ، التي وقعت عبرَ التاريخِ، قديمِهِ وحديثِهِ، يمكن استخلاصُ مبادئَ عامة للمواجهةِ الناجحةِ للأزماتِ، نحصرُها في الآتي:

أولاً: تحديدُ أطرافِ الأزمةِ، الظاهرةِ والمستترةِ، وما تمتلكُه من قوى ضاغطةٍ، ومصالحَ تؤثرُ في مصالحِ الآخرين.

ثانياً: تحديدُ الأهدافِ الإستراتيجيةِ، التي يسعى إلى تحقيقِها مفجّرُ الأزمةِ والأطرافُ الآخرون.

ثالثاً: التحليلُ السليمُ للأوضاعِ الإستراتيجيةِ لأطرافِ الأزمةِ، وذلك: بتحليلِ مواطنِ القوةِ والضعفِ للأطرافِ المختلفةِ، وتحليلِ طبيعةِ الخطرِ الذي تُشَكِّله الأزمة.

رابعاً: التخطيطُ العلميُّ لمعالجةِ الأزمة، وذلك بطرحِ هدفٍ سياسيٍّ بديلٍ لتسويةِ الأزمةِ سلمياً، وتحديدِ البدائل المختلفةِ، وحشدِ القدراتِ اللازمةِ لمواجهةِ مختلفِ قوى الأزمةِ والتصدي لها.

خامساً: إدارةُ الأزمةِ من خلالِ خطةٍ إستراتيجيةٍ، تستندُ إلى قرارٍ سياسيٍّ مرنٍ.

* مع تجنبِ العقباتِ التي قد تُعرقل الخطةَ الإستراتيجيةَ والأهدافَ المرسومةَ لها.

* وترك هامشٍ للحركةِ السياسيةِ في الخطة، يضمنُ "حفظَ ماءِ الوجه" للخَصْمِ عند قبولِه التسوية.

بعد أن استعرضنا المبادئَ العامّة لمواجهةِ الأزماتِ، ننتقل الآن إلى العناصرِ التي تساعدُ مُتخذَ القرارِ على الإدارةِ الفاعلةِ لكلِّ ما يواجهه من مشاكلٍ وأزمات، دولية كانت أو محلية:

أولاً: تحديدُ نقاطِ القوةِ لدى الخصم

وهو يُعد نصفَ المعالجةِ الحقيقيةِ للأزمةِ، إذ يتيحُ لمتخذِ القرارِ الأسلوبَ الأنسبَ للتعاملِ مع الأزمةِ، ويُعينُه على التخطيطِ لإصابتِها وإفقادِها مقوماتِها، سواء مقوماتِ الوجود، أو مقوماتِ الاستمرار. ولنضرب مثالاً على ذلك، بأزمةٍ داخلية، كانت بريطانيا تتعرضُ لها بصفةٍ مستمرة، وهي الأزماتُ العماليةُ، التي كانت كثيراً ما تصلُ حدَّ الإضرابِ الشاملِ. وكانت نقاباتُ العمالِ، تستمد سطوتَها مما تملكه من مواردَ مالية، وصلاحياتٍ قانونية، تجعلها قادرةً على شلِّ اقتصادياتِ الدولةِ لمدةٍ طويلة. لذلك، ظلّت الحكوماتُ المتعاقبةُ ترضخُ لمطالبِ هذه النقابات. ولكن عندما تولَّتْ مارجريت تاتشر رئاسةَ مجلسِ الوزراءِ، رفضت أن تستجيبَ لضغوطِ النقابات، وفي الوقت نفسه، لم تلجأْ إلى القوةِ والتحدِّي في مهاجمةِ العمال ونقاباتِهم، وإنما أدارت الأزمةَ من خلالِ دراسةِ أهمِّ عنصرٍ من عناصرِ القوةِ لدى النقابات، وهو الأرصدةُ المالية التي تمتلكُها، والتي تمكّنُها من الإنفاقِ على العمالِ المضربين. فنجحت في استصدارِ حكمٍ قضائي بتجميدِ هذه الأرصدة، ما أفقد النقاباتِ قدرتَهَا على الإنفاقِ على عمالِها، واختفت الظاهرةُ لفترةٍ طويلة.

ثانياً: المباغتة

تُعَدّ من أهمِّ العناصرِ الناجحةِ لإدارةِ الأزمات، حيث تُؤمِّن، ولفترةٍ ملائمةٍ من الزمنِ، السيطرةَ شبه الكاملة على الأزمةِ، لأنها تخلقُ نوعاً من الذهولِ لدى الطرفِ الآخر، يَجْعَلهُ لا يستطيعُ التفكيرَ السليمَ، أو التصرفَ بأسلوبٍ حكيم. والمثالُ السابقُ دليلٌ على كفاءةِ تاتشر في مباغتةِ نقاباتِ العمالِ، بمهاجمتِها لعنصرِ قوتِها في الأزمةِ، وهي الأرصدةُ الماليةُ، مع استمالةِ العمالِ إلى جانبِها وإثارةِ النخوةِ الوطنيةِ لديهم، وتعديلِ قوانينِ التضامنِ بين النقاباتِ، فضلاً عمّا سبق ذلك من تخزينٍ للفحمِ المستوردِ من ألمانيا بخطةٍ محكمةٍ، أمْكَنَتْها من استمرارِ دورانِ آلاتِ المصانع، وعدمِ الاستجابةِ لأسلوبِ لَيِّ الذراع.

ثالثاً: الحشـدُ

يقصد به جَمْع القوى كافة القادرة على مواجهةِ الأزمةِ في المكانِ والزمـانِ الملائمَيْن. وهذه القوى لا تقتصر على القوةِ العسكريةِ وحدَها، وإنما تشملُ القوى: الدبلوماسيةَ والاقتصاديةَ والاجتماعيةَ والمعنويةَ. وأفضلُ مثالٍ ما حققته المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، من نجاحٍ في حشدِ المجتمعِ الدَّوْلي للوقوفِ في وجهِ العدوانِ العراقي، وأثرُ هذا الحشد في فاعليةِ الخُطوات، التي نُفّذت بعد ذلك.

رابعاً: التعاونُ والتنسيق

وهما من العناصرِ الحيوية، إذْ لا يمكن تحقيق الحشدُ للقوى كافة والنجاحُ في إدارةِ الأزمةِ من دونَ تعاونٍ وتنسيقٍ، أولاً بين الأجهزةِ الداخليةِ للدولة، وثانياً بين الدَّولةِ والدُوَلِ الأخرى، التي تتّحدُ معها في المصالحِ والأهداف. ولا يقتصر التعاونُ على مجالٍ دون آخر، بل هو ضروريٌّ في معظمِ المجالاتِ. والتعاونُ والتنسيقُ بين المملكةِ العربيةِ السعوديةِ ومصرَ وسورية والأردن، عقبَ هزيمةِ 1967 وإلى ما بعدَ حربِ أكتوبر 1973، خيرُ مثالٍ على فاعليةِ هذا العنصر عند مواجهةِ الأزمات.

خامساً: الاقتصاد في استخدام القوة

إذ ينبغي على متخذ القرار أن يقتصد في استخدام القوة إلى الحد المعقول، فلا يغالي، أو يبالغُ، أو يسرفُ في استخدامها. فهناك حكمة عربية تقول: "لا أضع عصاي حيث يكفي لساني، ولا أضع سوطي حيث تكفي عصاي، ولا أضع سيفي حيث يكفي سوطي".

سادساً: التفوقُ في السيطرة على الأحداث

يُعَدّ التلاحقُ السريعُ لأحداثِ الأزمة، من أكثرِ الأمورِ خطراً على أطرافِها. إذْ كلّما تصاعدت حدةُ الأزمةِ وأحداثُها، أضحت أقدرَ على جذبِ قوى عديدةٍ مهتمةٍ بها. لذا، فإن معالجةَ الأزماتِ تتطلب أن يكون ثمّة تفوق في السيطرةِ على الأحداثِ، من خلالِ المعرفةِ الكاملةِ التفصيليةِ بالتطوراتِ المختلفةِ أولاً بأول، ومحاولةِ اختراقِ القوى الموجّهةِ، أو الصانعةِ للأزمة، أو المُهْتَمَّةِ بها.

سابعاً: حمايةُ الأرواحِ والممتلكاتِ والمعلوماتِ

إن وجودَ نظامٍ يضمنُ فشلَ الخَصْمِ في أعمالِه التخريبية، وحجبَ المعلوماتِ عنه، وعدمَ تمكينِه من اختراقِ الجبهةِ الداخلية، يُعَدّ ضرورةً حتميةً لمواجهةِ الأزمات، والتقليلِ من السلبياتِ التي تصاحِبُها، من اضطرابٍ وخوفٍ، وإرهابٍ وانخفاضٍ للروح المعنوية. وفي هذا المجال، لا ننسى دورَ المتطوعين من الشعبِ السعوديِّ الباسلِ، ودورَ وحداتِ الحرسِ الوطنيِّ، وأجهزةِ الأمنِ الداخلي، أثناءَ أزمةِ الخليج، وما قاموا به تجاهَ حمايةِ الممتلكاتِ والأرواحِ، وتوعيةِ المواطنين وتوجيهِهِم.

ثامناً: المواجهةُ السريعةُ والحاسمةُ للأحداث، وردعُ الخَصْمِ عن افتعالِ أزماتٍ جديدة

كان للتطورِ التكنولوجي الهائلِ، الذي أصاب العالمَ أثرُه في طبيعةِ الأزمات. فأصبحت أحداثُها سريعةَ الإيقاعِ، تستوجبُ، بالضرورةِ، تَصدياً لا يقل سرعةً عن إيقاعِ أحداثِها. وهذا الأسلوبُ من التصدي السريعِ لا بدّ له من إمكاناتٍ ومواردَ، وكوادرَ بشريةٍ مؤهلةٍ، تجعل الدولة قادرةً على التفاعلِ مع أحداثِ الأزمةِ بالسرعةِ المنشودةِ. كما ترتبط المواجهةُ السريعةُ للأحداثِ بعنصرٍ آخرٍ، وهو تكبيدُ الخَصْمِ خسائرَ فادحةً، تجعله يفكرُ غيرَ مرةٍ قبلَ الإقدامِ على صنعِ أزمةٍ جديدةٍ. وخيرُ مثالٍ على ذلك، أزمةُ جزرِ فوكلاند، المتنازعِ عليها بين بريطانيا والأرجنتين، والتي بدأت يومَ الثاني من أبريل عام 1982 باحتلالِ القواتِ البحريةِ الأرجنتينيةِ الجزر، التي كانت ترفعُ العلمَ البريطاني، وادّعاء الأرجنتين تحريرها وعودتَها إلى السيادةِ الأرجنتينية. فماذا فعلت مارجريت تاتشر؟ أدارت الأزمةَ إدارةً فاعلةً وناجحةً، بالمواجهةِ السريعةِ الحاسمةِ، فلم تُلْقِ بالاً إلى آراء المعارضين، ولم تنتظر قرارات مجلس الأمن، وحركت الأساطيل، واستفادت من إمكانات الولايات المتحدة الأمريكية أفضل استفادة. فانتصرت بريطانيا بفضل المساعدات الأمريكية السخية، انتصاراً حاسماً، واستعادت الجزر على الرغم من بُعد المسافة بينهما. ولم تترك مارجريت تاتشر الفرصة تمرّ من دون أن تُلقّن النظام الأرجنتيني درساً قاسياً، فدمرت بريطانيا إحدى قطع الأسطول الحربي الأرجنتيني الضخمة، وأغرقتها بمن فيها، ليكون الثمن باهظاً، تذكره الأرجنتين دائماً عندما تفكر في استعادة هذه الجزر مرة أخرى.

ننتقل الآن إلى ضرب أمثلة ناجحة، وأخرى فاشلة، لعلّنا نتعلم ونُعَلّم، ونتذكر ونُذَكِّر. ولنبدأ بدرس عَلَّمَنا إيّاه معلمُ الأمةِ وقائدُها، المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأسلوب علمي، تجسّد في إدارته الناجحة للأزمة، التي تعرض لها المسلمون، في العام السادس من الهجرة، في سهل الحديبية، حيث حاصرتهم قريش، ومنعتهم من دخول مكة معتمرين، وكادت الأزمة تتطور إلى حدِّ المواجهة العسكرية، وتقضي على الدولة الإسلامية الناشئة، آنذاك.

إن المنهج العلمي، الذي أرساه المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ للتصدي للأزمات ومنعها من الوصول إلى مرحلة الصراع المسلح، والمبادئ الأساسية التي طبقها، تجعل من إدارته للأزمة مدرسة سياسية، وتجربة رائدة في تاريخ إدارة الأزمات، وتدحَضُ حُجَّةَ من يدّعون أن فن "إدارة الأزمات" هو علم سياسي، نشأ مع أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بما انتهجه الرئيس جون كنيدي من أسلوب في إدارة تلك الأزمة.

لقد طبق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبادئ "إدارة الأزمات"، بفن واقتدار:

1. إذ نجح في تحديد أطراف الأزمة، منذ بدايتها، ومعرفة أن قريشاً وحدها هي الطرف الأساسي في الصراع، وليس حلفاءها المضلل بهم. وكان لهذا التحديد أهميته في مسيرة الأزمة، ثم في مرحلتها قبل الأخيرة، حين خرج الأحابيش، وهم أكبر حليف لقريش، عن التحالف وعادوا إلى ديارهم، بعد اقتناعهم بمنطق الرسول، وأهداف المسلمين السلمية، مقابل ما شاهدوه من صَلَفِ قريش وتعنّتِها.

2. كما نجح في تحديد أهداف قريش الإستراتيجية، تحديداً دقيقاً، يتلخص في "إبادة المسلمين، مستغلة حضورهم السلمي، وعدم استعدادهم للمواجهة العسكرية، ومن ثَمّ القضاء على الدولة الإسلامية".

3. واستطاع من خلال تحليله الدقيق، أن يدرك حقيقة التفوق العسكري لقريش، كما استطاع أن يُحدد حقيقة أوضاع القبائل المتحالفة مع قريش، مثل "الأحابيش" و "خُزاعة". فانعكس هذا التحليل على إدارته الحكيمة، وعلى أسلوب التفاوض مع الوفود التي أتت من هاتَيْن القبيلتَيْن.

4. ونجح في طرح هدف سياسي بديل لتسوية الأزمة، وهو "الدعوة إلى التفاوض حول الموضوع بدلاً من المواجهة العسكرية"، ولم يصرّ على زيارة البيت الحرام عنوة، ما أثبت بُعد نظره وحكمته، غير ملتفت إلى الأصوات، داخل معسكره، التي كانت تدعو إلى التصعيد والمواجهة العسكرية، مضحياً بالمظهر تحقيقاً للجوهر، ومضحياً بالأهداف قصيرة الأجل، تحقيقاً للأهداف بعيدة المدى.

5. ولم يردّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على استفزازات المشركين وتصعيدهم للأزمة، وقتْلهم أحد المسلمين، ولم يردّ على اعتقال وفد المسلمين برئاسة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه. ورَفَضَ الدعوة إلى عمل ثأري من جانب المسلمين. ووافق على العودة إلى المدينة، وتأجيل أداء العمرة إلى العام التالي. كما قَبِل الشروط الشكلية لقريش في صياغة العقد، تحقيقاً لتسويةٍ سلميةٍ، حققت انتصاراً سياسياً كبيراً للمسلمين ولدولتهم، آنذاك. فكانت تلك التسوية، هي الطريق إلى فتح مكة، وإلى الانتصار العسكري بعد ذلك.

وفي طريق العودة إلى المدينة، أكرم الله رسولَه حين أنزل عليه آيات الفتح، التي قال عنها الرسول: "هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها". بسم الله الرحمن الرحيم "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ليَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وما تَأَخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكَ ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ويَنْصُـركَ اللـهُ نَصْراً عَزِيزاً" صدق الله العظيم.

والآن ننتقل إلى الأزمة الكوبية عام 1962، التي يَعُدّها الغرب بداية علم وفن "إدارة الأزمات". هذه الأزمة، التي نشأت عندما أدخل الاتحاد السوفيتي، صواريخ متوسطة المدى إلى جزيرة كوبا. ولمّا كانت شواطئها تطلُّ على الحدود البحرية الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية، فقد أصبح نشر تلك الصواريخ خطراً يهدد الأمنَ القومي الأمريكي.

* في البداية، وبعد أن دعا الرئيس الأمريكي إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي للبحث والتحليل وعرض البدائل عليه، حدّد هدفاً إستراتيجياً بديلاً للأزمة، وهو "التوصل إلى تسوية مع الاتحاد السوفيتي، تستند إلى سحب تلك الصواريخ من كوبا، مقابل ضمان بعدم الاعتداء عليها".

* عُرضت عدة بدائل على الرئيس الأمريكي، مثل: تجاهُل التهديد السوفيتي، أو إجراء اتصالات سِرِّية مع كاسترو، أو الضغوط الدبلوماسية، أو غزو كوبا، أو توجيه ضربة جوّية حاسمة، أو فرض حصار بحري على كوبا. فرفضها جميعها، ووافق على بديل "العزل البحري الوقائـي"، على الرغم من أنه يشبه بديل "فرض الحصار البحري"، عدا تعديل قانوني لتسميته من حصار Blockade إلى حزام وقائي Quarantine، تجنباً للمحاذير القانونية المترتبة على استخدام المصطلح الأول، فضلاً عن اتفاق هذا البديل مع الهدف، الذي حدده منذ البدايـة.

* وقد نجحت الإدارة الأمريكية في مواجهة تلك الأزمة، لاتّباعها الخطوات التالية:

أولاً: حددت "التسوية السلمية، التي تستند إلى سحب الصواريخ من كوبا"، هدفاً سياسياً بديلاً للأزمة.

ثانياً: حددت أهداف كلٍّ من الاتحاد السوفيتي وكوبا من تلك الأزمة تحديداً دقيقاً.

ثالثاً: وضعت خطة إستراتيجية مرنة لمواجهة الأزمة، وفقاً للهدف السياسي الإستراتيجي، تمثلت في: توجيه إنذار بسحب الصواريخ من كوبا، وتأكيد إصرار الولايات المتحدة على تحقيق ذلك الهدف، ثم التهديد باستخدام القوة العسكرية وإعلان الحصار لكوبا وللأسطول السوفيتي، إن رفض السوفيت إزالة تلك الصواريخ. وفي الوقت نفسه، تزامن التهديد الأمريكي، مع فتح قنوات الاتصال بين الجانبَيْن، فضلاً عن  السيطرة السياسية الكاملة على ردود الأفعال في الجانب الأمريكي، وعدم استجابة كنيدي لتصعيد الأزمة، واتخاذه مواقف تتيح للخصم السوفيتي الانسحاب من الأزمة محتفظاً بماء الوجه، وأخيراً تقديم تنازلات متبادلة، مقابل الحصول على مكاسب متبادلة.

* وفي 26 أكتوبر 1962، بلغت أحداثُ الأزمةِ ذُروتَها، عندما وَجَّه كنيدي إنذارَه الأخيرَ بسحبِ الصواريخِ، فقبِلَ خروشوف سحبَها مقابل تعهدٍ أمريكيٍّ بعدمِ غزوِ كوبا. فوافق الرئيسُ الأمريكيُّ فوراً على ذلك. وتبدّدت احتمالاتُ المواجهةِ، وزال شبحُ الرعبِ النوويِّ الذي خَيَّم على العالمِ بأسرِه آنذاك.

ومن نماذج ناجحة إلى أخرى فاشلةٍ، كي نتعلمَ ونستفيدَ، ولا نكررَ أخطاءَ الآخرين. فالأزمةُ الدَّوْليةُ التي فَجّرَها الرئيسُ عبدالناصر، حين وَجَّه إلى الأمينِ العام للأمم المتحدة، في 16 مايو عام 1967، طلباً عاجلاً بسحبِ قواتِ الطوارئِ الدَّوْلِيَّة من سيناء، تُعَدّ مثالاً وثائقياً على الإدارةِ الفاشلةِ للأزمةِ. كما يُعَدّ قرارُه السياسيُّ اللاحقُ، بإغلاقِ مضيقِ تيران في وجْهِ الملاحةِ الإسرائيليةِ، وممارسةِ "دبلوماسيةِ القوةِ"، أبلغَ مثالٍ على الحربِ غير المقصودة، التي تنجمُ عن عدمِ الكفاءةِ الإستراتيجيةِ في إدارةِ الأزمات. ولو أن عبدالناصر تَدَبّر خطابَ جولدا مائير، وزيرةِ خارجيةِ إسرائيل، أمامَ الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدةِ، أول مارس عام 1957، عارضةً موقف حكومتِها في هذا الشأن،ِ حين قالت: "إن التدخلَ بالقوةِ المسلحةِ، في وجْهِ السفنِ، التي ترفعُ علمَ إسرائيل في خليجِ العقبةِ وعبرَ مضيقِ تيران، سَيُنْظَر إليه من جانبِ إسرائيل بوصفِهِ هجوماً يهدّدُ أمنَها القومي، ويخوّلُها ممارسةَ حقِّها في الدفاعِ عن النفسِ، بموجبِ المادةِ 51 من ميثاقِ الأممِ المتحدةِ"، أقول لو تَدَبّر ما قالته، لَعَلِمَ أن إغلاقَ مضيقِ تيران في وجْهِ الملاحةِ الإسرائيليةِ يعني اختناقَ إسرائيل، ولن يكون أمامَها خيارٌ سوى اللجوءِ إلى الحرب.

* إن خطةَ عبدالناصر وإدارتَه للأزمةِ، مستخدماً "دبلوماسية القوة"، جاءت متعارضةً مع الشروطِ، التي ينبغي توافُرها، إذا أُريد لهذه الدبلوماسيةُ أن تنجحَ، ذلك أن:

الشرطَ الأول، والأساسيَّ، أن تمتلكَ الدولةُ، التي تلجأُ إلى استخدامِ هذه الدبلوماسية، قوةً عسكريةً قادرةً، عند الضرورة، على حسمِ الحربِ لمصلحتها.

الشرطُ الثاني، أن يكون لدى صانعي القرارِ ومتخذيه الكفاءَةُ الإستراتيجيةُ لـ "إدارةِ الأزمة"، وردعِ الطرفِ الآخرِ وإجبارِه على الانسحابِ من الأزمةِ، وعدمِ تصعيدِها إلى مستوى الصراعِ المسلح.

الشرطُ الثالث، أن تكون الإجراءاتُ المصاحبةُ لتلك الدبلوماسية ذات حركةٍ بطيئةٍ، تحملُ في طياتِها التهديدَ الفعليَّ بضربةٍ عسكريةٍ حاسمةٍ، مع تركِ البابِ مفتوحاً أمامَ الخَصْمِ، ليفكر في الانسحابِ من الأزمةِ.

الشرطُ الرابع، أن يتضمنَ بعضُ الخطواتِ، ما يمكن تسميتُه بـ "الترغيبِ" لدفعِ الخَصْمِ إلى خيارِ السلام. فمثلاً، أضاعَ عبدالناصر فرصةً نادرةً، حمَلها إليه الأمينُ العام للأممِ المتحدةِ يومَ 22 مايو 1967، لدى زيارتِه الأخيرةِ إلى مصر، لبحثِ دورٍ ملائمٍ للأممِ المتحدةِ يساعدُ على تسويةِ الأزمةِ. ولكن عبدالناصر أصمَّ أذنَيْهِ، ورفضَ حتى فكرةَ العودةِ الرمزيةِ لقواتِ الأممِ المتحدةِ إلى سيناء، مواصلاً ما بدأَه من أسلوبٍ لتصعيدِ الأحداثِ وتنفيذِ "دبلوماسيةِ القوة".

وماذا عن حرب الخليج؟

إن أزمةَ الخليجِ الثانيةَ، التي انتهت بحربِ تحريرِ دولةِ الكويت، تُعَدُّ دليلاً وثائقياً على فشلِ الرئيسِ العراقيِّ في إدارةِ الأزمةِ الدَّوْلِية، التي فجّرها بنفسِه، وحصدَ ثمارَها هزيمةً عسكريةً، ودماراً للعراق.

لقد طبقت القيادةُ العراقيةُ مبادئ "إدارةِ الأزماتِ" أسوأَ تطبيق، كما يتّضحُ ذلك من الحقائق التالية، التي سأذكرها على سبيلِ المثال:

أولاً: حَمَّلَتْ القيادةُ العراقيةُ، في البداية، دولتَي الكويت والإمارات العربية المتحدة وحدَهما، مسؤوليةَ تَرَدِّي الوضعِ الاقتصاديِّ في العراق، ثم اعتبرت أن الكويتَ هي الطرف الوحيد والمباشر في الأزمةِ، وهو خطأٌ فادح. فقد ثبت، بالدليلِ القاطعِ، أن العدوَّ الأساسيَّ للعراقِ، والطرفَ الرئيسيَّ في تفجيرِ الأزمةِ مع الكويتِ، ومع المجتمعِ الدّوْليِّ، هو النهجُ الدكتاتوريُّ للنظامِ العراقيِّ نفسِه.

ثانياً: كان النظامُ العراقيُّ يهدفُ إلى ضمِّ الكويت إلى العراق، واعتبارها واحدةً من المحافظاتِ العراقية، ولكنه لم يراعِ أن مثلَ هذا الهدفِ الإستراتيجي يتعارضَ مع مبادئِ المنظماتِ الدّوْليةِ، ولن يقبَلَه أو يسكتَ عليه أحدٌ. كما أن القيادةَ العراقيةَ لم تستطع أن تستوعب حقيقةَ الأهدافِ الإستراتيجيةِ للإدارةِ الأمريكيةِ تجاهَ النظامِ العراقيِّ، وتجاهَ منطقةِ الخليجِ، ومدى حرصِها على مصالِحِها الحيويةِ فيها. كما لم يستوعبْ صدام حسين، أيضاً، الأهدافَ الإستراتيجيةَ لباقي أطرافِ الأزمةِ.

ثالثاً: لم تستطع القيادةُ العراقيةُ، أن تُحلّلَ الأوضاعَ الإستراتيجيةَ لأطرافِ الأزمةِ تحليلاً دقيقاً.

رابعاً: مضت خمسة أشهر ونصف الشهر، من بدايةِ الغزوِ إلى بدايةِ الحربِ، وهي فترةٌ لم يستغلّها النظامُ العراقيُّ في الخروجِ من الأزمةِ، التي فجرها بغزوهِ الكويت، مع أنه شاهدَ وقوفَ المجتمعِ الدولي بأسْره ضد هذا الغزو. قد يرى بعضُ المحللين أن الإدارةَ الأمريكيةَ أجهضت كلَّ مبادرةٍ سياسيةٍ لتسويةِ الأزمةِ سلمياً. ولكن العقلَ والمنطقَ السليمَيْن، كانا يحتمان على النظامِ العراقيِّ، في ذلك الوقت، أن يردَّ بحركةٍ سياسيةٍ واعيةٍ، تضعُ دولَ التحالفِ جميعَهَا في مأزقٍ حقيقي، وهي الانسحابُ الفوري من الكويت، ولو من طرفٍ واحد، بحجةِ الاستجابةِ للمطالبِ العربيةِ والإسلاميةِ والدولية. فإذا قيل إن الغربَ لم يترك لصدامٍ باباً للخروجِ من الأزمةِ بطريقةٍ تحفظُ ماءَ الوجهِ، فإن القادةَ العربَ جميعَهُم، وعلى رأسِهِم مولاي خادم الحرمَيْن الشريفَيْن، ناشدوه الانسحابَ ليتجنب العراقُ حرباً مدمرةً، وتتجنب الأمةُ العربيةُ خسارةً وفُرقةً وشتاتاً، وتركوا له البابَ مفتوحاً للانسحابِ المشرّف. ولو حدث ذلك، لتغير الموقف، ولما وجد التحالفُ سبيلاً إلى قتاله. وفي اعتقادي أنه لو أقامت إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية تمثالاً لتخليد صدامٍ، لما استطاعتا مكافأَتَه لقاءَ خدمتِه لهما، وتحقيقِه لأغراضِهِما.

خامساً: يُعدّ أمراً بديهياً أن يكون لدى القيادةِ العراقية خطة إستراتيجية لإدارةِ الأزمةِ، التي فجَّرَتْها، وأن توفرَ تلكَ الخطةُ للقرارِ السياسي المرونةَ والمواءمةَ مع الهدفِ السلمي للأزمة. ولكن ما حدثَ كان على النقيضِ تماماً، فقد سعى الرئيسُ العراقيُّ، منذ اللحظةِ الأولى للأزمةِ، إلى تصعيدِ الأحداثِ بالهجومِ على رؤساءِ الدولِ العربيةِ والإسلاميةِ، الذين وقفوا في وجهِهِ، ورؤساءِ الدولِ الغربيةِ، الذين لم يقبلوا سياسةَ الأمرِ الواقع، والتهديدِ والوعيدِ لقواتِ التحالفِ، واحتجازِ الرهائن، ومهاجمةِ السفاراتِ، وتشريدِ الآلافِ من العاملين في الكويت والعراق.

وعلى هذا النحو من التخبطِ والتهورِ، أثبتت القيادةُ العراقيةُ عدمَ كفاءتِها في فهْمِ وتطبيقِ المبادئ الأساسية في "إدارةِ الأزمات". وكانت نتيجةُ ذلك ما يقاسيه الشعبُ العراقيُّ من ويلاتٍ، حتى يومِنا هذا.

قبل أن نصلَ إلى محطتِنا الأخيرةِ في لقائنا هذا، أتذكر أنه في أوائل عام 1974 صرح الدكتور هنري كيسنجر في إحدى حلقاتِ البحث: "إن العربَ في حرب 1973 امتلكوا أسلحةً لم تكن في الحسبان. علينا أن ننتزعَها منهم، ونُقلّم أظفارَهم، وألاّ نسمح بتكرارِ ما حدث مرةً أخرى، لأن امتلاكَهُم لهذه الأسلحة: يهدد مصالحَنا، ويهدد أمنَ إسرائيل، بل يهدد المنطقةَ بأسْـرها". ثـم حدّد هذه الأسلحة بما يلي:

أولاً: التضامنُ العربي، الذي قاده كلٌّ من الملكِ فيصل والرئيسِ السادات.

ثانياً: سلاحُ النفطِ، الذي استخدمه الملكُ فيصل وقاد وراءَه رؤساء الدولِ العربيةِ المنتجةِ للنفط، ما جعل سوقَ النفطِ، بعد ذلك، "سوقَ منتجين".

ثالثاً: الأرصدةُ العربيةُ الدائنةُ في البنوكِ الغربيةِ، وما كانت تُشكّله من قوةِ ضغطٍ على هذه الدول.

رابعاً: إسقاطُ نظرية الأمن الإسرائيلية. فهذه النظرية كانت تعتمد على الذراعِ الطويلةِ لإسرائيل، التي حُيِّدت، باستخدام صواريخ الدفاع الجوي، والحدودِ الآمنةِ، التي أُسقطت بعدَ تراجعها عن موانعَ طبيعيةٍ، كانت تظن إسرائيل أنها حدودٌ آمنةٌ، والملاحةِ الحرةِ في خليجِ العقبة، والتي أصبحت عديمةَ الجدوى، بعدَ السيطرةِ العربيةِ على مضيقِ بابِ المندب.

وبعد أكثر من عشرين عاماً، ألا تتفقون معي أن كيسنجر حقّق ما كان يصبو إليه ويخطط له؟

وإذا كان صدّام حسين قد شارك، عن عمدٍ أو جهل، في تأكيدِ ضياعِ النقاطِ الثلاث الأولى من قوةِ العرب، التي قيل عنها، يوماً ما، إنها "القوةُ السادسة"، فإن الأزمةَ اليمنية ـ الإريترية، التي عُرفت بـ "أزمةِ حنيش"، أتت لِتُجهز على النقطةِ الرابعةِ والأخيرةِ، وتحقّق لإسرائيل أماناً لم تكـن تحلمُ بمثلِه قط.

والآن، لنلقِ الضوء معاً على خلفيةِ وتطورِ هذه الأزمة، التي تزيد الأمةَ العربيةَ همّاً على هم وغمّاً على غم.

من الثابتِ، جغرافياً واستراتيجياً، أن مضيقَ بابِ المندبِ، الذي يصلُ بينَ البحرِ الأحمرِ والمحيطِ الهندي، يُعَدّ واحداً من المواقعِ الإستراتيجيةِ الحاكمة. وأنّ من أهمِّ تجمعاتِ الجزرِ، التي تتحكمُ في المضيقِ، تلكَ التي تقعُ إلى الشمالِ منه مباشرةً، وتُسمى جزر حنيش، وغيرها من الجزرِ الصغيرةِ المتناثرة، وهي جزرٌ صغيرةُ المساحةِ، جافةُ التضاريس، ولا تشجعُ على الاستيطانِ البشريِّ أو الحياةِ فيها. وعلى الرغم من ذلك، فإن أهميتَها الإستراتيجيةَ تعلو فوقَ كل اعتبارٍ اقتصادي.

* وقد ظهرت أهميةُ المضيقِ، والجزرِ التي تقعُ إلى الشمالِ والجنوبِ منه، بالنسبة إلى إسرائيل، في حرب 1973، عندما أُغلق في وجهِ الملاحةِ الإسرائيليةِ، بواسطة الغواصاتِ المصريةِ، ما تسبب بفَقْدِ مضيق تيران لأهميتِه.

* كما أن الأهميةَ الحيويةَ لجزيرةِ حنيش الكبرى، تنبعُ من موقِعِها وطبيعتِها الجيوستراتيجية. فالجزيرةُ أكثر قرباً إلى الساحلِ اليمني منها إلى الساحلِ الإريتري، فضلاً عمّا توفره من قدرة التحكمِ في ميناءِ النفط اليمني، في رأس عيسى على البحرِ الأحمرِ، وكذلك التحكم في قطاعٍ من الساحلِ اليمني، بجانب سيطرتِها على حركةِ المرور في بابِ المندب، شمالاً وجنوباً.

* ومما لا شك فيه أن أهميةَ الموقعِ الإستراتيجي لمنطقةِ البحرِ الأحمرِ جعلت منها هدفاً لأطماعِ الدولِ القويةِ في مختلفِ العصور. وهذا ما دفع الدولةَ الأمويةَ إلى اتخاذِ خُطوة حاسمة لوضع حدٍّ للتهديداتِ الخارجيةِ ضد شبه الجزيرةِ العربية، فاستولت بحملةٍ بحريةٍ على الشواطئِ: الإريترية والسودانية والصومالية.

* كما سَعَت الدولُ الاستعماريةُ: فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وروسيا، في العصرِ الحديثِ، إلى الحصولِ على محطاتٍ بحريةٍ لها على طريقِ الملاحةِ بينَ الشرقِ والغرب. ونجحتْ في بناءِ قواعدَ مهمةٍ في عدن الإنجليزية، وأبوخ الفرنسية، وعصب الإيطالية.

* وظلت القوى الأوروبيةُ طوالَ مراحلِها الاستعماريةِ، تسعى إلى بسطِ نفوذِها على البحر الأحمر، ضد مصالحِ شعوبِ المنطقة. وكان التركيزُ الغربيُّ موجّهاً ضد الغالبيةِ: العربيةِ والإسلاميةِ، في إريتريا. فبُذِلت كل الجهودِ لمحاصرتِها، وعدم تمكينِها من الوصولِ إلى السلطةِ السياسية. وتدخلت الولاياتُ المتحدةُ وبريطانيا وإسرائيلُ، عام 1950، لفرضِ الاتحادِ الفيدرالي على إريتريا مع إثيوبيا، ومَنْعِ إريتريا من الحصولِ على استقلالِها. ويكفي دلالة على ذلك تصريحُ وزيرِ الخارجيةِ الأمريكية، آنذاك، حين قال: "إن الشعبَ الإريتري يستحقُّ الحريةَ والاستقلالَ الوطني، كبقيةِ المستعمراتِ، لكن المصالحَ الحيويةَ للدولِ الكبرى، تجعلُنا نوافقُ على اتحادِ إريتريا مع إثيوبيا".

* رَفَضَ شعبُ إريتريا الإذعانَ لهذا التآمرِ الدّوْلِي. فأعلن ثورتَه المسلحةَ، عام 1960، بقيادة "جبهةِ التحريرِ الإريترية"، من منطلق انتمائه العربي ـ الإسلامي، إلى جانبِ إدراكِه طبيعة النشاطِ الصهيوني المبكر في إريتريا.

* دَعَت إسرائيلُ إلى اجتماعٍ مع الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية وبريطانيا وبعضِ المؤسساتِ الدَّوْلِية، في عامِ 1975، في روما، لمواجهةِ ما سُمِّي بـ "النفوذِ العربيِّ المقبل في البحرِ الأحمر". وأوضحت إسرائيلُ أن السيطرةَ على جزرِ البحرِ الأحمرِ الحيويةِ، وبناءَ قواعدَ عسكريةٍ وأمنيةٍ فيها، قد حانت لنسفِ أي إستراتيجيةٍ عربيةٍ لتحويلِ البحرِ الأحمرِ إلى بحيرةٍ عربيةٍ. وكان أهم ما اتُّخذ من قراراتٍ في ذلك الاجتماع: "إقامةُ تنظيمٍ طائفيٍّ مدعومٍ بقوةٍ عسكريةٍ واقتصادية في الساحةِ الإريترية، بقيادةِ أسياسي أفورقي، الذي زُرِعَ في الثورةِ الإريترية، عام 1970". وبالفعل، انشقَّ أفورقي عن قواتِ التحريرِ الشعبية، عام 1975، لتنفيذِ هذه المهمة.

وللأسف، صاحب ميلادُ "الجبهةِ الشعبية" تلقّيها لمساعداتٍ ضخمةٍ، وتراجعَ الدعمِ العربي للفصائل العربية الإريترية، ما يوحي بأن الأنظمةَ العربيةَ، كانت تعاني ضيقَ الأفقِ في تعاملِها مع القضية.

بعد أن تحدثنا عن أهميةِ هذه الجزر، نتساءل: أكان استيلاءُ إريتريا على جزيرةِ حنيش عملاً وليدَ اللحظةِ؟ أم كان مدبراً منذ مدةٍ طويلة؟ ونسأل أيضاً:

1. من هم أطرافُ الأزمةِ الحقيقيون؟

2. لِمَ أثيرت هذه المشكلةُ في هذا التوقيت بالذات؟

3. ما هي الأهدافُ الإستراتيجيةُ لأطرافِهـا؟

4. لِمَ لجأت إريتريا إلى الصراعِ المسلحِ، وهل تستطيعُ، بمفردِها، الاستمرارَ في سياسةِ فرضِ الأمرِ الواقع؟

5. والسؤالُ الأكثرُ غرابةً: لقد بدأ تصعيدُ الأزمةِ من جانب إريتريا في الثاني عشر من نوفمبر 1995، حين وصلت مجموعةٌ مسلحةٌ من الإريتريين، وسَلَّمَت رسالةً غيرَ رسميةٍ إلى الحاميةِ اليمنيةِ، تُطالِبُها بالخروجِ من الجزيرة. وفي الخامسِ عشرَ من ديسمبر العام نفسه، شنَّت القواتُ الإريتريةُ هجومَها، وبعدها بثلاثةِ أيامٍ، استولت على الجزيرةِ بأسْـرها. أي بعد مضيّ أكثر من شهرٍ على الإنذارِ الإريتري، فماذا فعل اليمنُ ليدافعَ عن أرضِه؟

6. وأين الإستراتيجيةُ العربيةُ لمواجهةِ ما يُحاك حولَها من مؤامراتٍ؟

7. ولماذا لم نفطنْ إلى تحركاتِ أفورقي، منذ البداية؟ ولماذا لم نُحلّلْ توجهاتِه السياسيةَ تجاه إسرائيل؟ إن احتلالَ الجزيرةِ الحاكمةِ لمضيقِ بابِ المندب، مِنْ قِبَلِ إريتريا ذات الصلةِ الوثيقةِ بإسرائيل، يُعَدّ ضربةً قويةً للأمنِ القوميِّ للدولِ المطلةِ على البحرِ الأحمر.

8. وما بالنا نحنُ العرب، دائماً نتأخرُ في اتخاذِ القرارِ الصحيح! وكلّما تأخرنا خَسِرْنا، وكلّما خَسِرْنا بَكَيْنا، وكلّما بكينا عُمِّيت علينا الحقائق، وكلّما عُمِّيت علينا الحقائق كنّا أكثرَ تأخراً في اتخاذ القرار المناسب! وهكذا نجدُ أنفسَنَا في دوامةٍ من فشلٍ إلى فشل.

ولنلق،ِ الآن، نظرة على المواقف: الإسرائيلية والأمريكية والفرنسية، تجاه هذه الأزمة:

 فبالنسبة إلى إسرائيل:

1. يُعَدّ باب المندب منفذاً بحرياً شديد الحيوية لها، ولتأمينه حرصت إسرائيل، في الماضي، على تدعيم علاقاتها بإثيوبيا، لإقامة وجود عسكري إسرائيلي في الجزر المتحكمة في باب المندب، خصوصاً أرخبيل جزر "دهلك". كما حرصت الحرص نفسه على تقوية علاقاتها بإريتريا، بعد استقلالها بزعامة أفورقي، لتدعيم وجودها العسكري المباشر في الجزر نفسها، مع تقديم مساعدات مباشرة لإريتريا للتحكمِ في الجزرِ الأخرى، سواءٌ المتنازع عليها أو تلك الخاضعة لليمنِ وسيادتِها.

2. من المؤكد أن إسرائيلَ لا تتحركُ وحدها في هذا الإطار. لذا، فإن تدخّلَها في النزاعِ اليمني ـ الإريتري، ليس تدخلاً إسرائيلياً محضاً، ولكنه تدخلٌ مسنودٌ بقوى دولية، لعل من أبرزِها الولاياتِ المتحدة الأمريكية وفرنسا، إذ لكلٍّ منهما مصلحةٌ مباشرةٌ في التدخلِ. وليس عبثاً، أو سراً، أن تمتلك الدولتان أضخمَ قوةٍ عسكريةٍ بحريةٍ وبريةٍ وجوية، في المنطقةِ أو قُرْبِها. فالأسطولُ الأمريكيُّ البحريُّ هو الأسطولُ الأقوى في البحرِ الأحمر. والأسطولُ الفرنسيُّ، على الجهةِ الأخرى، يُشَكِّلُ أضخمَ وجودٍ عسكريٍّ لفرنسا خارجَ أراضِيها، مرتكزاً على قواعدِهِ الجبارةِ في جيبوتي.

3. وفي عام 1991، صدرَ تقريرٌ عن أسرارِ النشاطِ الإسرائيلي في بناءِ مطارٍ في جزيرةِ "دَهْلَك"، القريبةِ من جزيرة حنيش الكبرى، وتقريران آخران، في فبراير 1992، عن "الوجودِ الإسرائيلي" في جزيرةِ فاطمة، القريبةِ من حنيش، والدعمِ الذي تنوي إسرائيل تقديمَهُ إلى إريتريا، خاصةً في المجالَيْن: البحري والجوي.

أمّا موقف الولايات المتحدة الأمريكية، فكان واضحاً، من خلال تصريحاتها الأربعة التالية:

الأول: "إن العملية العسكرية الإريترية، التي نجحت في انتزاع السيطرة على جزيرة حنيش الكبرى، من القوات اليمنية، فاجأت الولايات المتحدة، وإننا نتمسك بضرورة حلّ النزاع عَبْر الوسائل السلمية".

الثاني: "إن الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية لا تتخذُ أيَّ موقفٍ في شأنِ "نزاعِ السيادة" على هذه الجزر، وإنها تَعُدّه  نزاعاً تاريخياً، يرجعُ إلى العهودِ الاستعمارية، ونستبعدُ تحريضَ إسرائيل لإريتريا على غزوِ الجزيرة".

الثالث: "إن الولاياتِ المتحدةَ الأمريكية تقفُ على الحيادِ في هذا النزاع، ولسنا متأكدين مَن مِن الطرفَيْن بدأ القتالَ، ونريد أن نرى نهايةً سريعةً للصراع، وبالتراضي".

الرابع: "إننا نرفضُ إدانةَ الهجومِ الإريتري على جزيرةِ حنيش الكبرى، أو وصفَ إريتريا بالدولةِ "المعتدية".

أمّا فرنسا، فقد أعربت عن قلقِها، ودعتْ إلى ضبطِ النفسِ، وإلى تسويةٍ سلميةٍ سريعةِ للخلاف بين الطرفَيْن. ثم حرّكت، بعد ذلك، بعضَ قطعِ أسطولِها لتكون قريبةً من مسرحِ الأحداثِ، وبدأت وساطَتَها على مهلٍ.

وراوحت ردودُ الفعلِ العربية والإسلامية، كالمعتادِ، بينَ: "القلقِ البالغِ، والإدانةِ الشديدةِ، والنداءِ بتحكيمِ العقلِ والمنطقِ، والاستعدادِ لبذلِ المساعي الحميدةِ".

وفي النهاية: لقد احتلت القواتُ الإريتريةُ الجزيرةَ اليمنيةَ، منذُ عدةِ أشهرٍ، وبرزت أصابعُ الاتهامِ تجاهَ إريتريا بالتواطؤِ مع إسرائيل، وتعكرت الأجواءُ، وانطلق الوسطاءُ. وفجأةً، هدأ الجميعُ، وانزوت الأخبارُ! حتى صنعاء بدت وكأنها حريصةٌ على تبرئة إسرائيل. وفي خُطوةٍ أخيرةٍ، أعلنت اليمنُ قبولَها بالتحكيمِ الدولي. وأتوقع، إن لم أكن متأكداً، أنَّ التدويلَ أو الاحتلالَ، سيكون مصيرَ حنيش الكبرى؛ والبقاءُ لله وحده.

وهكذا ازدادت أزماتُنا المستعصيةُ أزمةً جديدةً، وهي نتيجةٌ حتميةٌ لتفرّقِنا وضعفِنا، وعلينا ألاّ نلومنَّ إلاّ أنفسَنا؛ فمَن هانت عليه نفسُه، أضحت نفسُه أشدَّ هواناً على الآخرين. وأين نحن الآنَ من علمِ وفنِّ "إدارةِ الأزمات

أيها الإخوةُ الأعزاء

لقد تداعت علينا الأممُ، ونحن كثيرٌ، على الرغم من أن اللـهَ ـ جلّ وعلا ـ منحنا كلَّ عناصرِ القوةِ والتفوقِ، وأنعم علينا بنعمةِ الإسلامِ، عقيدةً وإيماناً، وهي أسلحةٌ لم نُحسن، حتى الآن، استخدامَها، وانشغلنا بتوافهِ الأمورِ، واعتمدنا على غيرِنا، أصبحنا أَشِدَّاءَ بيننا رُحَمَاءَ مع أعدائنا، أصابعُ اتهامِنا تشيرُ إلى صدورِنَا. فما السبيل؟ وكيف نخرجُ من مأزقٍ فُرضَ علينا، أو فَرَضْنَاه على أنفسِنا؟ آملُ أن يكون لهذا الموضوع حديثٌ آخر.

ختاماً، أشكركم على حسنِ استماعِكم وصبرِكم علينا. وأتمنى لكم جميعاً التوفيقَ والنجاحَ، فأنتم، بعد الله، الأملُ والرجاءُ.

والسلام عليكم ورحمة الله.

ـــــــــــــــــــ