إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات علمية / اللغات





لغة الإشارة
التابوت "دورة الثبات"
الحيّات في الصليب
الفصائل اللغوية
جدول اللغة الأُوغاريتية
رسم الهلال "شهر"
رسم الفصول في الهلال
عين حورس




ملحق

ملحق

السمات العامة للغة العربية

السّمة التاريخية

إنّ علماء العربية، يعلمون ويؤمنون بأن من آيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ اختلاف ألسنة الناس وألوانهم، كما جاء بذلك الذِّكر الحكيم ]مِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ[ w، (سورة الروم، الآية 22). ولكنهم لمّا رأَوْا ما وقع في قلوبهم من حُبّ القرآن العظيم، وحب لغته، وأن القرآن العربي كلامُ الله المتصف به، أقول لما رأوا ذلك كله، قالوا: إن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها. وحُجَّتهم في ذلك، أنّ الله ـ جَلّ شأنه ـ أنزل القرآن ]بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[ w،.(سورة الشعراء، الآية 195)، فوصفه بأبلغ ما يوصف به الكلام، وهو "البيان"، كما قال ـ وقوله الحقّ: ]خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[ w،.(سورة الرحمن الآيتان 3 و4)

يقول ابن فارس (ت 395هـ): "أما أن تقول: إن المتكلم بغير العربية، قد يعرب عن نفسه، حتى يفهم السامع مُراده، فهذا أخس مراتب البيان؛ ذلك أنّ الأبكم، قد يَدُلُّ بإشارات وحركات له، على أكثر مُراده، ثم لا يسمَّى متكلماً، فضلاً عن أن يسمَّى بَيِّناً أو بليغاً". وعليه، فإنَّ علماء العربية عموماً، لم يُجْهِدُوا أنفسهم في دراسة اللغات الأخرى، وإنما قصروا أنفسهم أشد القصر، وحبسوا جهودهم أشدّ الحبس على دراسة العربية ووجوه بيانها؛ اللهم إلاّ ما كان لهم من إشارات إلى بعض اللغات الأخرى، خاصة عند دراستهم "للمعرّب" ومصادره. فأشار الجواليقي (ت 540هـ) إلى الفارسية، والنبطيّة، والرّومية، والعبرانية، والسريانية، والقبطية. وأشار السيوطي (ت 911هـ) إلى الحبشيّة، والهندية. وربما أشار غيرهما من علماء العربية، إلى غير هذه اللغات.

أمّا غير العرب، فكانت لهم جهود معتبرة في دراسة تأريخ العربية. اعتمدوا، في ذلك، على ما حُفِظَ في أَكُفِّ الزمن من النقوش المختلفة. وأهم هؤلاء الدارسين وأبرزهم، ذلك النفر من الأوروبيين، الذين بحثوا في الأجناس السامية ولغاتها؛ وإن كان ذلك جاء متأخراً، أي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده. وأول من صاغ مصطلح "السامية"، الألماني Schlozer، (ت 1809)، في عام 1781، حينما كان يبحث عن تسمية مشتركة للآراميّين والعبرانيّين والعرب والأحباش، الذين توجد بين لغاتهم صِلات قرابة وأوجُه تشابه ملحوظ، في الأصوات ووجوه التصريف والمعجم. وإليك مثلاً من المفردات، التي تبيّن هذه الدعوى:

العبريّة

الآراميّة

الأوغاريتية

الأكاديّة

الإثيوبيّة

العربيّة

أخُ

أخَا

أخُ

أَخُو

إِخْتُ

أخ

بَعَل

بَعلا

بعل

بيلُ

باعِل

بَعْل

كِلِف

كلبا

كلب

كلبُ

كلب

كَلب

زِفوف

دَبَّاثا

ـ

زمبُ

زمب

ذُباب

زِرَع

زرعا

درع

زِيرُ

زَرِع

زَرْع

رُأش

ريشا

ريش

رِيشُ

رِءِس

رأس

عَيِنْ

عينا

عن

ينُ

عين

عين

لَشُن

لِشَّانا

لسن

لِشانُ

لسان

لسان

شِنْ

شِنانا

ـ

شنُّ

سِنّ

سِنّ

شمايم

شِمَيّا

شمم

شمو

سماي

سماء

مَيم

مَيّا

مي

مُو

ماي

ماء

بَيِتْ

بيتا

بت

بيتُ

بِت

بيت

شَلُوم

شِلاما

شلم

شلامُ

سلام

سلام

شِم

شِمَا

شم

شُمُ

سِم

اسم

أمّا باكورة الدراسات السامية، فهي، على ما يرى المستشرق الإنجليزي Wright ـ من وضع الفرنسي Renan حين كتب كتابه "التاريخ العام للغات السامية"، عام 1855.

وللمستشرقين توزيع مختلف للغات، التي يمكن إعادتها إلى أصل سامي واحد. من أحدثها توزيع الروسي Diakonoff:

1. سامية التخوم الشمالية، وتشمل الأكادية، والبابلية، والأشورية.

2. السامية الشمالية الوسطى، وهي على حِقَب زمنية ثلاث:

أ. الحقبة القديمة، وتشمل الكنعانية، والأوغاريتية، والعمورية، في فلسطين وسورية، وأرض الجزيرة في العراق

ب. الحقبة الوسطى، وتشمل الفينيقية، والعبرية، والمؤابية، والآرامية القديمة.

ج. الحقبة الحديثة، وتشمل الآرامية الغربية الجديدة أو "معلولة" في سورية، والأشورية الحديثة في العراق وتركيا وإيران والاتحاد السوفيتي.

3. السامية الجنوبية الوسطى، وتشمل العربية الفُصْحى.

4. سامية التخوم الجنوبية، وتشمل:

أ. الحقبة القديمة، ومنها السبئية، والمعينية، والقتبانية، والحضرمية.

ب. الحقبة الوسطى، ويمثلها الإثيوبية الجعيز.

ج. الحقبة الأخيرة، ويمثلها المهرية، والشحري، والحرسوسي، والبطحري، على الشطآن العربية للمحيط الهندي، والسوقطرية في جزيرة سوقطرة.

وأكثر الباحثين في الساميات على أن اللغة العربية، هي أصفى اللغات السامية وأقربها من النبع الأول، مستدلين على ذلك بأدلة، تاريخية وجغرافية ولغوية.

أما الأدلة التاريخية، فأقواها أن جزيرة العرب، هي مهد الساميين. والبحث عن الأصل السامي الأم، يطلب هناك؛ فمن هناك انطلقت الهجرات السامية، تباعاً، بدءاً بالأكاديين، في الألف الرابع قبل الميلاد، إلى الإثيوبيين، في القرون القريبة قبل ميلاد المسيح.

وقد كان الألماني Von Kremer، والإيطالي Guidi والألماني الآخر Hommel، يرون، بناءً على بعض الملاحظات اللغوية، أن هجرة الساميين، كانت من جنوب بحر قزوين، ومن جنوبي غرب. يقول Wright:لقد كنت، قَبْلاً، أميل إلى هذا الرأي. ولكني، الآن، أتبنى رأياً معاكساً لهذا. أدع Sayce يُعبِّر عنه، إذ يقول: "جميع التراث السامي، يشير إلى أنّ شبه جزيرة العرب، هي المهد الأصلي للجنس السامي". وقد تابعه على ذلك، الألمانيان Schrader وSprenger، وأخيراً، الهولندي De Goeje.

أمّا الأدلة الجغرافية، فمؤداها أنّ جزيرة العرب، نظراً إلى طبيعتها الصحراوية، لم تسمح باختلاط الشعوب، مما يؤدي إلى اختلاط الألْسُن وفسادها. ومن ثمّ، بقيت العربية على صفائها، لم تَشُبْها عُجْمة، ولم يُصبها لَحْن.

أما الأدلة اللغوية، فيلخِّصها Brockelmann، بقوله: إن العربية، تفترق عن غيرها، في احتفاظها الكامل بالأصوات الأصلية الغنيّة، على الأخص بأصوات الحلق وأصوات الصفير المختلفة. كما أنها تفترق عنها، كذلك، في احتفاظها التام بالحركات القديمة. ثم إن طريقة بناء الصِّيغ في السامية الأولى، توجد في العربية، في أرقى مراحل تطوُّرها. وقد انتصر الإنجليزي Nicholson لهذا الرأى، فقال: اللغة العربية، بحسبان الترتيب التاريخي، هي أحدث اللغات السامية. ولكنها أقرب هذه اللغات صِلةً بالأصل القديم، الذي تنبثق منه جميع الفروع.

ويقول O' Leary: وإنه لَمِن الضرورة، أن نتخذ العربية الفصحى منطلقاً للبحث في فقه اللغات السامية. صحيح أن العربية، لا تمثل اللغة السامية تمام التمثيل ... ولكنها لا تزال سليمة من التحريفات الشديدة، التي صاحبت الأشورية والعبرية.

وتمتدّ العربية الفصحى من القرن الرابع قبل الميلاد كما يشهد بذلك بعض النقوش القليلة، حتى تحقق شكلها النهائي في الشعر العربي الجاهلي. يقول Nicholson، تأييداً لمن أرّخ لظهور العربية الفصحى، بتأريخ يضرب في أعماق القرون الزمنية القديمة، يقول: القرآن أقدم الكتب العربية. لكننا نستطيع القول، إنّ بدايات الإنشاء الأدبي، باللغة العربية، كانت قبل ذلك بزمن. فمن المحتمل أن الأشعار، التي انتشرت، وعُرفت، قبْل الإسلام، كانت نِتاج القرن السابق للدعوة الإسلامية. ولكن شكلها الفني المعقد، يحتم رفض الزعم أنها أول نِتاج غنائي عرفه العرب ... فلا يمكن هذه القصائد العظيمة، أن تتخذ هذا الشكل، إلا بعد نضج الفنّ الشِّعري، والتمرّس به لدهر طويل.

هذه هي السمة التاريخية للغة العربية، التي أوضح معالمها البحث العلمي في تاريخ اللغات. فلا غنى، مطلقاً، لكل باحث في اللغات السامية، عن معرفة هذه اللغة، سواء أَبَحْثُه كان في تاريخ هذه اللغات، أم في نحوها، أم في صرفها، أم في أصواتها، أم في معجمعها.

السمة الصوتية

أصوات اللغة العربية، ليست بكثيرة جداً. ولكنها، على اعتدال عددها وتوسطه، تنتظم جهاز النطق جميعه، من أوله إلى آخره، بما فيه التجويف الأنفي:

1. من الشفتَين يخرج حرفا الباء والميم، بانطباقهما. ويخرج منهما حرف الواو، بالاستدارة.

2. ومن بين الشفة السُّفلى والأسنان العليا، تخرج الفاء.

3. ومن بين الأسنان، تخرج الذّال والثاء والظاء.

4. ومن خلف الأسنان مع رأس اللسان، تخرج الدّال والتاء والطّاء.

5. ومن خلف الأسنان مع رأس اللسان، تخرج حروف الصفير: الزاي، والسين، والصاد.

6. ومن أول الحنك مع رأس اللسان، تخرج اللام والنون والراء.

7. ومن وسط الحنك، تخرج الشين والجيم والياء.

8. ومن طرف اللسان مع الأضراس، تخرج الضاد.

9. ومن أقصى الحنك، تخرج القاف والكاف والغين والخاء.

10. ومن الحلق، تخرج أربعة أصوات:

أ. الهمزة والهاء، من أقصاه.

ب. العين والحاء، من أوسطه.

فينشأ عن تباعد الأصوات، انسجام صوتي، وتآلف إيقاعي. ولذلك، لا تكاد تجد صوتَين، يخرجان من مخرج واحد، متتالَين، في كلمة عربية، خاصة في بدايتها أو نهايتها. وإذا ما وُجدا، غلب أحدهما الآخر، فَأَدْغِمَ فيه؛ فأنت لا تجد في كلمة عربية، توالي الزاي والسِّين، مثلاً. وقد لحظ علماء العربية مثلَ هذا، فقالوا: لا تجتمع الجيم والقاف، ولا الصاد والجيم، ولا الراء بعد نون، ولا الزاي بعد دال. ولم يَحك أحد من الثُّقات كلمة عربية، مبنية من "باء وسين وثاء". ولم يجمعوا، كذلك، بين الزاي والظاء، والسين والضاد والذال، والظاء والطّاء، والهاء قبل العين، والخاء قبل الهاء.

وحروف العربية، الصامتة وأشباه الصامتة، ثمانية وعشرون حرفاً. وحروف اللين فيها ستة. ثلاثة من الستة، لم تُشْتَهر على أنها حروف، بل حركات هي الفتحة والضمة والكسرة. والثلاثة الأخرى، هي حروف المد، وهي الألف المفتوح ما قبْلها، والواو المضموم ما قبْلها، والياء المكسور ما قبْلها. فهذه الحروف تنتظم جهاز النطق كُلّه. ولو قارنت بين العربية واللغات الأوروبية، مثلاً، لوجدت أن أعداد حروف هذه اللغات، مقاربة لعدد الحروف في العربية. ولكن حروف اللغات الأوروبية، لا تنتظم جهاز النطق كله، بل تجد حروف اللغة الإنجليزية، مثلاً، يكثر إخراجها من مقدمة جهاز النطق، مما يُشكل نفوراً في النطق، وصعوبة ملحوظة على المتعلم. اُنظر إلى الشكلَين التاليَين. الأول منهما، يُمثل جهاز النطق بالإنجليزية. والثاني، يُمَثِّل جهاز النطق بالعربية:

تجد أن آخر صوت يخرج، في اللغة الإنجليزية، من جهة الحلق والقصبة الهوائية والقفص الصدري ـ هو صوت "g".أما العربية، فيخرج من بعد هذا المخرج الغين والخاء، ومن بعدهما إلى القفص الصدري العين والحاء، ومن بعدهما إلى القفص الصدري الهمزة والهاء. ثم إن الأصوات العربية تتوزع في باقي جهاز النطق، على الشكل الذي عددناه آنفاً، على نحو تتباعد فيه الحروف والأصوات، فيسهل نطقها وتأليفها.

وقد بقيت أصوات العربية سليمة من التحريف، منذ تنزّل القرآن إلى يومنا هذا، على نحوٍ لم يُعرف له عندي مثيل؛ وهذا بفضل تلقي القرآن بالمشافهة، وبسبب حفظ العلماء له من التشويه والتصحيف والتغيير. وقد اهتم بوصف أصوات العربية، النحاة عامة، وعلماء القراءات والتجويد على وجه الخصوص، حتى أُلِّفت في ذلك المنظومات والشروح والتعليقات العظيمة، بل عمد بعض النحاة واللغويين إلى تأليف معاجم لغوية على الترتيب الصوتي، لا على الترتيب الهجائي، مثل الخليل بن أحمد (ت 170هـ) في كتاب "العين"؛ والأزهري (ت 370هـ) في كتاب "تهذيب اللغة"؛ وابن سِيدَه (ت 458هـ) في كتابه "المحكم". وقد كتب ابن سيناء (ت 428هـ) رسالة علمية، فريدة نوعها، في عصرها، وَسَمَها بـ "أسباب حدوث الحروف، أو مخارج الحروف". وصف فيها مخارج الحروف، في العربية، مستفيداً من علمه، في الطب والتشريح. وقد ترجمت هذه الرسالة بعدد من اللغات، منها الإنجليزية والفارسية.

ومن المعلوم، أنّ العربية، تُلَقّب بلسان "الضاد"، الذي لا يكاد يكون له شبيه في اللغات الأخرى. ولذلك، نبّه العلماء على وجوب نُطقه على الوجه الصحيح، ووصفوه أكثر مما وصفوا غيره، وحذروا من خلطه بأشباهه ونظائره، خاصة حرف "الظاء".

وفي العربية من الكلمات المتناظرة، المبني تناظرها على اختلاف صوت الضاد عن الظاء، الكثير، مما حدا ببعض النحاة على تأليف رسائل في ذلك. وهاك بعض الأمثلة على هذا التناظر:

الحظّ

الحضّ

أظلّ

أضَلّ

الحفيظة (الغضب)

الحفيضة (اسم لأرض)

ربظ: أي سار

ربض (أي بَرَك)

الناظر (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)

الناضر (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)

النظير (المثيل والشبيه)

النضير (الشيء البهيج)

الغيظ (من غاظه، إذا أغضبه)

الغيض (غاض الماء إذا قلّ)

الظنّ (خلاف اليقين)

الضنّ (البخل بالشيء)

المظّ (الرّمّان البرّيّ)

المضّ (الألم)

حظر (منع)

حضر (جاء)

السمة الصرفية

تتعلق هذه السمة بالكلمة وأصلها وتعريفاتها. وأعظم باب في هذه السمة، هو الاشتقاق. والاشتقاق من أوضح سمات العربية وأبينها، على الإطلاق. فهو يعكس ثراءً عجيباً لهذه اللغة، ويبين قُدْرتها على استيعاب المسمّيات والأفكار والتصورات. فهو رمز حيويتها، وسبيل تطورها. وقد لحظ علماء العربية لمفرداتها أصلاً ثلاثياً، غالباً، أو رباعياً، أحياناً. وهذا الأصل مكوَّن من حروف صامتة، تدل على معنى مجرد. فالأصل (ك. ر. م)، يدلّ على معنى ذهني، هو الكرم. وإذا ما أدخلت على هذا الأصل الثلاثي، في مثالنا هذا، بعض الحركات، تولد لك معنى الكرم وفعله، إنْ كان فعلاً؛ أو معنى الكرم وموصوفه، إنْ كان صفة. وهكذا، يُصبح الفعل (كَرُم) والصفة (كريم)، بإدخال النمط الحركي (الفتحة والضمة) على الفعل، و(الكسرة والياء) على الصفة.

وكل كلمة، تحوي الأصول الثلاثة الصامتة، لا بدّ أن تدل على معنى (الكرم)، أو معنى يقود إليه، أو يشابهه. ثم إنك لو نظرت في تآلف الأصول الصوامت، مع النمط الحركي، لخرجت بقواعد فذّة، غاية في الاختزال والاختصار. فإن الأصل الأوّل، لا يتبعه إلا فتحة، إلا في حال البناء للمجهول. أما الأصل الثاني، فتتبعه الفتحة والضمة والكسرة. وتتبع الأصل الثالث حركة الحالة الإعرابية، ونحن نتحدث عن تشكّل الفعل، في حالة الوقف.

فالأفعال الثلاثية، التي يتشكل جذرها من الحروف الأصول، مع فتح أولها وثانيها، تدلّ، غالباً، على الحركة والعلاج، على ما يسميه سلف النحاة، نحو: ضَرَبَ، قَتَل، كَتَب، سَحَب، كَسَر، قَرَأ، قَعَد، جَلَس.

أما الأفعال الثلاثية، التي يتشكل جذرها من الحروف الأصول، مع فتح أولها، وكسر ثانيها، فتدلّ، غالباً، على صفة وقتية، نحو: فَرِح، حَذِر، شَرِهَ، سَئِم، سَخِط، غَضِب، عَطِش، وَلِه. كذلك، الأفعال الثلاثية، التي يتشكل جذرها من الحروف الأصول، مع فتح أولها، وضمّ ثانيها، فإنها تدل على صفة ملازمة ثابتة، نحو: كَرُم، شَرُف، بَعُد، قَرُب، قَصُر، كَبُر، عَظُم، حَلُم، سَعُد، سَهُل، حَسُن، خَشُن، نَعُم.

ذلك إذا اشتققت الكلمات من الصوامت والحركات، فكيف إذا أدخلت حروف المضارعة؟ ثم إذا أدخلت السوابق، مثل همزة التعدية، فتقول في (جَلَسَ) (أَجْلَسَ)، وفي (كَرُم) (أكرم). ثم كيف إن أدخلت الألف والنون للمطاوعة، مثل (انكسر)، (انهزم)؟ وكيف، إذا أدخلت، كذلك، الهمزة والسين والتاء؟ فمن (خرج)، تشتق (استخرج)، ومن (بَرَأ)، (استبرأ)، ومن (فاد)، (استفاد)

ثم كيف إذا أتيت باللواحق؟ فمن الفعل (غَضِب)، تشتق الصفة (غضبان)، بزيادة اللاحقة الألف والنون، ومثلها (سَكِر)، فهو (سكران)، و(عَطِش)، فهو (عطشان)، و(وَلِه)، فهو (ولهان). والمؤنث منها (غضبى) و(سكرى) و(عطشى) و(ولهى). أما الدواخل فكثيرة، كذلك. منها الألف في (فَاعَلَ)، مثل (ضَارَب) و(شَارَكَ) و(نَافَسَ)، وفيها معنى المشاركة. وعلى نحو "فَاعِل"، تشتق اسم الفاعل، فهو (ضاربٌ) و(جالسٌ) و(كاتبٌ) و(قاتل). وبزيادة (الياء)، في مثل (شَرُف)، فهو )شريف) و(ظَرُف)، فهو (ظريف)، تشتق الصفة على زنة (فعيل). ثم يأتي اشتقاق مزيدات الثلاثي، على نحو، لا يُعرف له نظير. وقارن، بنفسك، كلمات بالإنجليزية، أصواتها متشابهة، ولا شبه بين معانيها، نحو (Live) و(Love) و(Leave)

وإنك لتشتق من الأصل العربي الواحد، ما يزيد على الخمسين مفردة، يجمعها معنى واحد، وتفرِّق الحركات والسوابق واللواحق والدواخل، بين معانيها المخصوصة، المشتقة، لإيصاله. وخذ مثلاً على ذلك الفعل (ضرب): فمنه ضَرَبَ، أضْرَبَ، ضَرّب (مبالغة في الضرب)، وضارب (مشاركة)، وتضرّب (تحرّك وماج)، وتضارب، واضطرب. هذا في الفعل الماضي، وحده. ومن الاسم: الضرب، والضِّراب، والضربة، والإضراب، والتضريب، والمضاربة، والتضرّب، والتضارب، والاضطراب.

ومن الصفة: الضارِب، والمضروب، والضّروب، والضرّيب، والضَّرب، والضرّاب، والضريبة، والضّربان (أي حدثان، مثل ضربان الدهر)، والمَضرِب والمِضْرَب، والمضراب، والمِضْرَبة، والمَضْربة (حد السبف)، والمضرّب (المخيط(، والمضرّبة (كساء ذو طاقَين بينهما قطن"؟. ولا يزال هذا الأصل الثلاثي أهلاً لاشتقاقات جديدة، لو احتجنا إلى ذلك. يقول المستشرق البريطاني، (Gibb): "فهذه هي العربية بنظام الفعل الثلاثي الجذر، العجيب، الذي تشكله، غالباً، ثلاثة أحرف صوامت. فمن الجذر الثلاثي (ق. ت. ل)، الذي يعطي معنى (القتل)، يمكننا أن نشتق الفعل (قَتَل)، والاسم (قَتْل)، واسم الفاعل (قاتل)، واسم المفعول (مقتول)، أو صيغة (قتيل)، وجمعها (قتلى) وعدداً آخر من الاشتقاقات. وكلّ كلمة، يتكون جذرها من (ق. ت. ل)، فإنها تفيد، بشكل أو بآخر، معنى (القتل). وتزيد اللغة العربية على اللغات السامية، في هذا، أنّ الجذر، في العربية، قد يؤدِّي تصوّرَين أو أكثر. فجذر (ك. ت. ب)، مثلاً، يُفيد معنى (الكتابة)، كما يفيد معنى (الضمّ والجمع). وقوالب الأفعال، تخضع لبناء كامل، ودقيق. فمن الفعل البسيط (قتل)، تشتقّ معنى (المبالغة)، بـ (قتّل)، والمشاركة بـ (قاتل)، والمطاوعة، في مثل (كسرته فانكسر). إلى جانب أنّ بناء الفعل البسيط، يُفيد، بتغيير بعض الحركات، إما البناء للمعلوم أو البناء للمجهول، فـ (قَتَل) للمعلوم، و(قُتِل) للمجهول. ونظام الفعل هذا، لا يسمح بالاستثناءات الكثيرة".

وقد كان لبعض علماء العربية، آراء ونظريات أخرى، في أصل الاشتقاق. بناها بعضهم على ثنائية الأصل، لا على الأصل الثلاثي. وبعضهم الآخر، بناها على الأصل الثلاثي، مع تقليب مواضع الأصول. فمثال الأول ما قالوا من أنّ: قطب، وقطف، وقطع، وقطم، وقطل، هي من أصل ثنائي، هو (قط) بمعنى واحد، يتضمن القطع. ولا شك أن هذه النظرية، لا تستطيع أن تستوعب جميع مادة العربية، على أساس من هذا التفسير. أمّا مثال الثاني، فهو ما قالوا من أن تقليبات الأصل: (ج.ب.ر) تقع للشدة والقوّة، فـ (جبر) العظم، إذا قواه، ومنه (الجَبْر)، أي الملك، ومنه رجل (مجّرب(، إذا جرّسته الأمور، وقوي، واشتدت شكيمته، ومنه (الجراب) و(البرج) سُمِّيَ بذلك لقوّته في نفسه، ومنها (رجّبْتُّ) الرجل، إذا عظمته.

ولا يخفى ما في ذلك من تكلّف وقصور عن انتظام جميع مادة اللغة العربية. وقد انتصر لهذا المذهب، العالم الفذّ، ابن جني (ت 392هـ) في كتابه "الخصائص" وسمّاه بالاشتقاق الأكبر.

وأسلم أنواع الاشتقاق وأقربها لوصف اللغة العربية، هو النوع الأول، المبني على الأصل الثلاثي. ولكن، لا يعني ذلك، أنّ كل أصل من الأصول الثلاثية، لا يحْمِلُ إلاّ معنى واحداً. لا. فإن الأصل الواحد، قد يحمل معنيَين أو ثلاثة أو أكثر. فمادة (وجب)، مثلاً، لها معانٍ عديدة. تقول:

وجب البيعُ: وقع ولزم.

وجبت الشمس: غابت.

وجب القلب: اضطرب.

وجب الحائط: سقط.

ومن السمات الصرفية الأخرى، القادرة على توليد المفردات، وإثراء اللغة ـ النحت. وقد سمّاه بعض المحدثين "الاشتقاق الكُبّار". وهو ضرب من ضروب الاشتقاق في اللغة. تَعْمد فيه إلى كلمتَين، أو جملة، فتنتزع من مجموع حروف كلماتها، كلمة فَذّة، تدل على ما تدل عليه الجملة نفسها. وهو أقلّ ثراءً وإثراءً للغة، وتوليداً للمفردات، من الاشتقاق الصغير. والنحت أنواع:

1. النحت الفعلي: وهو نحت فعل من جملة، يدل على حكاية القول، أو حدوث المضمون. فتقول (بَسْمَلَ) في "بسم الله"، و(هَيْلَلَ) في "لا إله إلاّ الله"، و(حَمْدَلَ) في "الحمدُ لله"، و(جعفد) في "جعلني الله فداك"، و(حَيْعَل) في "حيّ على الشيء"، و(طبلق) في "أطال الله بقاءك" و(حولق) في "لا حول ولا قوة إلا بالله"، و(سَبْحَل) في "سبحان الله"، و(حَسْبَل) في "حسبيَ الله". وزعم ابن فارس، "أن الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت ...".

2. النحت الوصفي: وهو نحت كلمة من كلمتَين، تدلّ على صفة بمعناها، مثل (ضِبَطْر)، للرجل الشديد، منحوت من (ضبط) و(ضبر)، ونحو (صهصلق)، من (صهل) و(صلق)، وكلاهما يدلّ على صوت.

3. النحت الاسمي: وهو نحت كلمة من كلمتَين، وجعله اسماً لمسمّى بعينه، مثل (جلمود)، اسم للصخرة أو الحجر الكبير، من (جمد) و(جلد)، ومثل (حَبْقُر)، اسماً للبَرَد من (حَبّ) و (قُرّ).

4 النحت النسبي: وهو نحت كلمة من كلمتَين، وغالباً ما يكون من اسمَين متضايفَين، علمَين في أصلهما، على قبائل، نحو (عبشمي) من (عبد شمس) و(عبدري) من (عبد الدار)، و(عبقسي)، من (عبد القيس)

السمة التركيبية

تسمح العربية بتركيب جُملها، على نحو غاية في المرونة والإيجاز. فإنك تستطيع أن تولِّد جملة سليمة، في العربية،

1. اسمَين، نحو: "الله ربي". بل تُقَدِّم وتؤخر، فتقول "ربِّيَ الله".

2. اسم وفعل، نحو: "ربّي هداني. بل تقدِّم وتؤخر، فتقول: "هداني ربِّي".

3. اسم وصفة، نحو: "ربٍّي رحيم".

4. اسم وشبه جملة:

أ. اسم وجار ومجرور، نحو: "أبي في الدّار". بل تقدِّم وتؤخِّر، فتقول: "في الدار أبي".

ب. اسم وظرف، نحو: "العصفور فوق الشجرة". بل تقدِّم وتؤخّر، فتقول: "فوق الشجرة عصفور".

5. اسم وجملة:

أ. اسم وجملة اسمية، نجو: "الله خَلقُهُ عظيم"..

ب. اسم وجملة فعلية، نحو: "الله يُمَجِّدُه خَلْقُه".

مع مرونة تركيب العربية، إلاّ أن الجملة، لا بدّ أن تشتمل على اسم، أو ما يقوم مقامه، كالضمير. فأنت لا تكوِّن، في العربية، جملة من فعلَين فقط، ولا من وصفَين فقط. ثم إنك، في الجملة العربية، تستطيع أن تأتي بمبتدأ واحد وعدّة أخبار، كما تستطيع أن تأتي بفعل وفاعل وعدّة مفاعيل.

والسائد في الدراسات الغربية، عن اللغة العربية، أنها لغة تسير فيها الجملة على نمط: الفعل + الفاعل + المفعول به. وما يحصل من تقديم الفاعل، أو المبتدأ، على ما يسميه النحاة العرب، على الفعل، إنما هو لأغراض بلاغية، كإعطاء الصدارة، وتأكيد أمر المخبر عنه، لا الخبر.

وقد ظهر بعض الدراسات الحديثة لِلُغَةِ الصحافة، فيمصرفوُجد أن اللغة العربية، ما زالت تحتفظ بهذا النمط الترتيبي للجملة؛ ولكنه في طريقه إلى الذبول، بينما بدأ ذيوع النمط الترتيبي للجملة، على أساس من: الفاعل فالفعل فالمفعول به. وهذا أمر من العجلة الحكم عليه؛ فإن أساليب العربية مرنة، وإذا كانت أنماط الجُمل تتغير في اللغات الحية، فإن ذلك يأخذ أزمنة طويلة، وقد تدول عليه الأيام، لظروف خارجة عن المجال اللغوي، إما اجتماعية أو ثقافية أو حضارية أو دينية.

ومن سمات العربية، المتعلقة بالبناء والتركيب، "الإعراب". وقد أولى النحويون الإعراب اهتمامهم الشديد، ظناً منهم، أنه إذا خلا منه الأداء، فقد ذهبت عن التركيب مِسْحة العربية. والإعراب معناه الإبانة والوضوح. وعلامات الإعراب تمثل حدوداً للأبنية، داخل الجملة، وتبّين العلاقات، الداخلية والتركيبية، بين الكلام ومفرداته، في الجُمل. فكل جزء في الجملة، يؤدي وظيفة محددة في التركيب، يدلّ عليها شكل الإعراب. فعلامة الجرّ، تدل على الإضافة، ولا تخرج عنه، إلاّ على التبعية، وهي وظيفة ثانوية، أو مع حرف الجرّ. أما حالتا الرفع والنصب، فإنهما يختلفان باختلاف العلاقات الموجودة في الكلام. فإذا كانت العلاقة السببية، فهو مفعول لأجله. وإن كانت الحالية، فهو حال. وإن كانت لبيان الحدث أو عدده، فهو مفعول مطلق، وتبرزه في ذلك كلّه علامة النصب: الفتحة. وإن كانت العلاقة على وجه الإسناد أو الإتباع، فعلامته الرفع. ولذلك، لما كانت هذه الحركات علامات على البيان، سمَّوا الذي لا يتصرف تصرفه، بالبناء. فهذه فائدة وثمرة من ثمرات الإعراب.

أما الثمرة الثانية، فإن الإعراب لو أُسْقِطَ من الكلام، فإن التغيير، سيطرأ على أواسط الكلام في التركيب، كما حصل للهجات العربية، القديمة والمعاصرة. ففي (رَكِبْتُ الجَمَلَ)، مثلاً، يصير التركيب في اللهجة (رِكِبْتْ الْجِمَلْ) أو (رِكَبْتْ الْجِمَلْ)

ومن ثمرات الاهتمام بالإعراب ونشْره وتدريسه، منع تدريس اللهجات، أو إحداها، خاصة ذات التأثير والسيادة. وبالإعراب حُفِظَ للعربية بقاء، يُشَكِّل لأهلها مقوِّماً من مقومات حضارتها.

السمة الدلالية

وهذه السمة، تتعلق بمعنى الكلام، ودلالات الألفاظ. وهي وثيقة الصلة بثلاث مسائل:

1. الترادف: والمترادفات ألفاظ عدّة لمعنى واحد.

مثاله في الأفعال: مضى وذهب وانطلق.

رقد ونام وهجع وغفا.

قعد وجلس.

ومثاله في الأسماء: الأسد واللَّيث والهِزَبْر والضِّرغام.

القمح والبُرّ والحنطة.

العقل واللّبّ والحِجْر.

المدح والتقريظ والتأبين.

يقول أبو هلال العسكري (ت 395هـ): ويقال لبقية اللّبن في الضّرع التّفْشِيل، والرّمَث، والعُفَافَة والعُلاَلَة والغِبْرُ.

وكان بعض اللغويين العرب، يرى أن الترادف في اللغة، غير ممكن. فالشيء له اسم واحد، وبقية المترادفات صفات له، تصف شيئاً من شكله أو طبعه أو فعله. ولذا، قال أبو علي الفارسي (ت 377هـ): أنا لا أحفظ للسيف إلا اسماً واحداً، هو السيف. أما المُهَنّد والحُسام والصّارم والبتّار والعَضْب، فصفات. ولهذا، ألّف أبو هلال العسكري كتابه "الفروق اللغوية"، الذي قال في مطلع الباب الأول منه: الشاهد على أن اختلاف العبارات والأسماء، يوجب اختلاف المعاني، أنّ الاسم كلمة، تدلّ على معنى دلالة الإشارة. وإذا أُشير إلى شيء، مرة واحدة، فعُرف، فالإشارة إليه، ثانية وثالثة، غير مفيدة … إلى أن قال: وإلى هذا ذهب المحقِّقون من العلماء، وإليه أشار المبرِّد (ت 286هـ)، في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ]لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[ w (سورة المائدة: الآية 48)، قال: فعطف شرعة على منهاج؛ لأن الشِّرعة لأوّلِ الشيء، والمنهاج لمُعْظَمِه ومتسعه. فأبو هلال، يرى أنّ كلّ رديف، له من السمة ما يفرقه عن رديفه.

فالمديح، عنده، يكون للحيّ والميّت، والتقريظ لا يكون إلا للحيّ، والتأبين لا يكون إلا للميّت.

والحمد أعمّ من الشكر؛ فالأول، يكون على جهة التعظيم، ويصحّ على النِّعمة. والشُّكر لا يصحّ إلاّ على النِّعمة.

والحقّ، أنّ الترادف في اللغة، مُمْكِن. ولكن المترادفات، قد يكون لها، أو لبعضها، سمات تميزها عن الأخرى، مما يجعل أحدها أولى، في أسلوب ما، من الآخر، وإلاّ لما تمايزت أساليب الناس، وانعدمت مع ذلك وجوه البيان. ولذلك، قالوا في الفرق بين الهبوط والنزول، إن الهبوط نزول، يعقبه إقامة، ومنه قوله ـ تعالى ـ: ]قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا[ w (سورة البقرة: الآية 38). وقال ـ تعالي ـ: ]اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْw[ (سورة البقرة: الآية 61)، ومعناه: انزلوا الأرض للإقامة بها. ولا يقال هبط الأرض، إلاّ إذا استقر فيها، ويقال: نزل ولم يستقرّ.

2. الاشتراك اللفظي: وهو اللفظ الواحد، الدّال على معنيَين مختلفَين، فأكثر، دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة. وأمثلته كثيرة، منها:

(العين)، هي، في الأصل، عضو الإبصار.

(العين)، المال الحاضر، لأنه يُعاين.

(العين)، الجاسوس، وربيئة الجيش.

(العين)، خيار الشيء، والسّيِّد، وسنام الإبل.

(العين)، الدينار.

(العين)، عين الرّكبة، نُقْرة في مقدِّمتها.

(العين)، عين الشمس.

(العين)، عين الماء.

وقد عدّ صاحب القاموس لـ (العجوز) أكثر من سبعين معنى. وأسباب الاشتراك تتعدد، وربما تعود إلى الاستعارة، أو اللهجات، أو التطوّر اللغوي. ومن ثماره شيوع ظاهرة "التورية"، وهي من أساليب التحسين اللفظي، في اللغة العربية.

3. التّضادّ: وهو، في الغالب، أن تحمل كلمة معنيَين: معنى الشيء وضدّه. من أمثلته:

(النّوء)، وهو الارتفاع بمشقة. وقد ناء الكوكب، إذا طَلَع.

(النّوْء)، السقوط، عند بعض اللغويين.

(القُرْءُ)، الطُّهر.

(القُرْء)، الحيض.

(الصريم) وهو الليل.

(الصريم)، وهو الصبح.

(الجَلَل)، العظيم.

(الجَلَل)، اليسير.

وقد اختلف اللغويون العرب في قبول ظاهرة الأضداد، بين قابلٍ ورادّ. فمن الذين ردّوها، أبو علي القالي (ت 356هـ)، وابن درستوريه (ت 347هـ)، الذي أنكر، كذلك، الترادف والاشتراك اللفظي. ورُوي الردّ عن ثعلب (ت 291هـ). والحق، أن الأضداد ظاهرة موجودة في العربية. لكنّ بعض اللغويين، توسعوا فيها.

ومما يجدر ذكره، في هذا المقام، دقة العربية في أسماء المسميات. فهي تُطلق أسماء مخصوصة، على مسميات دقيقة، ولا تقبَل غيرها مكانها. من ذلك: القطمير، والفتيل، والنقير، في أسماء أجزاء من نواة التمرة، وهذه الأسماء الثلاثة، مذكورة في كتاب الله الكريم.

قال ـ تعالى ـ:)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ( w،.(سورة فاطر: الآية 13).

وقال ـ جلّ وعلا ـ:)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( w،.(سورة النساء: الآية 49).

وقال ـ عزّ وجلّ: )وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(.w، (سورة النساء: الآية 124).

والقمر جعلوا له النور، وللشمس الضياء. ثم إنهم يقولون للقمر، في أول الشهر، الهلال، ثم القمر، ثم البدر، ثم المحاق.

وفي وصف الشعر، الذي في الوجه، وما وليه من شعر الرأس، قالوا:

الأجلح: من ينحسر شعره، عند مقدّم رأسه.

والأَفرع: الذي ينزل شعره إلى الوجه.

والعذار: الشعر الذي على العظم الناتئ، الذي هو سمت صماخ الأذن.

والعارض: ما نزل عن حدّ العذار.

والذقن: مجمع اللحيَين.

والعنفقة: ماولي الشفة السفلى من شعر.

والصّدغ: الذي بعد انتهاء العذار.

والنزعتان: وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس، متصاعداً في جانبَيه.

والتحذيف: هو الشعر الداخل في الوجه، ما بين انتهاء العذار والنزعة.

والشارب: ما بين الشفة العليا والأنف وأطراف الفم.

واللحية: وهي مجمع الذقن مع العارضَين.

وقد جاء الثعالبي (ت 429هـ)، في "فقه العربية"، بما يثير الدّهشة، ويمتلك الفؤاد، من دقة العربية في وصف مسمياتها. قال: فالثندأة للرجل، والثدي للمرأة، والخِلْف للناقة، والضّرع للشاة والبقرة، والطّبيُ للكلبة.

والظُّفْر للإنسان، والمَنْسِم للبعير، والسُّنْبُكُ للفرس، والظِّلف للثور، والحافر للحمار، والبُرثُن للسَّبُع، والمِخْلَب للطائر.

وللعربية ألفاظ كثيرة، وتعابير دقيقة، عن الإحساس والمشاعر. فالحاجة إلى الطَّعام، لها مراتب، أولها الجوع، ثم السَّغَب، ثم الغَرَث، ثم الطّوى، ثم المخمصة، ثم الضّرم، ثم السُّعار. أمّا أولى مراتب الحاجة إلى الماء، فالعطش، ثم الظّمأ، ثم الصّدأ، ثم الغُلّة، ثم الأُوام.  والسرور أنواع ومراتب، منها الجذل، والاستبشار، والابتهاج، والارتياح، والفرح، والمرح، والغبطة والطرب. والحزن، كذلك، درجات وأنواع، منها الكمَد، والبثّ، والكرب، والأسى، والوجوم، والكآبة، والغمّ، والحسرة، والأسف، والندم، والهمّ، والشجن. والغضب، منه السخط، والغيظ، والحَرَد، والحَنَق.

و(الثّوبُ) لفظ عام في اللباس. والشفّ، والمنيّر، والمعيّن، والمشطّب، والمسيّر، والمفوّف، والمسهّم، والمعمّد، والمعرّج، والمهلّل، والمكعّب، والمفلّس، والمخبّل، أوصاف لأشكال من الثياب، تختلف في رقّتها، أو في نقوشها. ثم إنّ (الغلالة)، ثوب رقيق، يُلبس تحت ثوب صفيق. و(المبذلة)، ثوب يتبذّله الرجُل في منزله. و(الميدع)، ثوب يجعله وقاية لغيره. والمنامة، والقطيفة)، ما يُتَدثّر به من ثياب النّوم. و(الشِّعَار)، ما يلي الجسد. و(الدثار) ما يلي (الشِّعَار)

السمة البيانية

وهذه السِّمة تَمُتُّ بصلة وطيدة، إلى وجوه تعابير العربية وبيانها، ثم طُرُق ذلك البيان وأساليبه. وعندي أن أسمى باب في هذه السِّمة، هو باب "الإيجاز". والإيجاز، في تعريف أبي الحسن الرّمّانيّ (ت 386هـ)، "تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى. وإذا كان المعنى، يمكن أن يُعبَّر عنه بألفاظ كثيرة، ويمكن أن يُعبَّر عنه بألفاظ قليلة، فالألفاظ القليلة إيجاز".

والإيجاز في كلام العرب، ذوي السجايا الخلّص، كثير، بل هو أساس تعابيرهم، مما دلّ على ذلك شعرهم وخطبهم وأمثالهم. وصار الإيجاز سمة للغتهم، حتى أدرك ذلك العجم أنفسهم، قديماً وحديثاً. وإنه ليحضرني، في هذا السِّياق، كلام المستشرق الإنجليزي، ثم الأمريكي Gibb، إذ يقول: "وقد أدّى التحديد المكثف لجَذْر الكلمة، في العربية، إلى الاقتصاد اللطيف في التعابير. وأجمل تعبير، يأخذ باللبّ، في العربية، هو ذلك التعبير الموجز، المحمّل بالمعاني العديدة. ولذا كانت الأمثال العربية، لا تتعدى الثلاث والأربع كلمات. وكان شعر الشعراء يُقَوم بقدر قُدْرة الشاعر على تأدية الصورة الشعرية الكاملة، في بيت واحد من الشعر. أما هذا الإسهاب الشرقي في الكلام، فإنه غريب على الأسلوب العربي الطبعي، وقد زحف إلى اللغة العربية وآدابها، من مصادر خارجية ...".

ولا غرو، أن نجد صوراً من الإيجاز، في كتاب الله الكريم، غاية في الإشراق. يدلّ على منتهى البلاغة والبيان. وعندما تحدّى القرآن مشركي العرب، أن يأتوا بسورة من مثله، دلّ ذلك على أن السورة المكونة من ثلاث آيات، كسورة "الكوثر"، مثلاً، آية في الإعجاز، لم يَسُق لنا التاريخ، أنّ أحداً من العرب جاء بمثلها. ولا غرو أبداً، أن نجد سورة أخرى من ثلاث آيات، هي سورة "العصر"، يقول عنها العالم العلاّمة، والحبر الفهّامة، الإمام الشافعي (ت 204هـ) ـ رحمه الله ـ في ما ورد عنه: "لو تدبّر الناس هذه السورة، لوسعتهم"، لما احتوته من تبيين حال الإنسان مآله، الذي حار فيه كل من لا يسير على نور من الله.

وسورة الإخلاص، التي تتكوّن من أربع آيات فقط، تُقرّ عقيدة التوحيد، وتثبّته وتبيّنه أسمى بيان، بل تهدم جميع صور الشرك بالله، والكفر به، والإلحاد في أسمائه وصفاته. نعم، كل ذلك أوفتْه بياناً هذه السورة القصيرة، الموجزة، العظيمة، حتى قال فيها المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ما ثبت عنه: ]إنها تعدل ثلث القرآن[.(أخرجه البخاري في صحيحه، باب فضل قل هو الله أحد)

ورحم الله الرّمّانيّ، الذي بذل جهده في تبيين تفوّق بيان القرآن المعجز، على أرقى أساليب العرب وأوجزها. ومن ذلك، أن العرب، تقول: "القتل أنفى للقتل"؛ وهو مما استحسنه النّاس، في الإيجاز. والحقّ، أنه كذلك. أما القرآن، فيقول، في هذا المعنى: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( w، (سورة البقرة: الآية 179). وفرق بين البيانَين. قال ـ رحمه الله ـ: وذلك يظهر من أربعة أوجه: أنه (أي أسلوب الآي الكريم) أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة. أما الكثرة في الفائدة فيه، ففيه كل ما في قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وزيادة معانٍ حسنة، منها: إبانة العدل لذكره القصاص. ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه لذكر الحياة. ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به. ويأخذ ـ رحمه الله ـ في تبيين مراده، مما يطول شرحه، من مثل عدد الحروف، وثقل مخرج الحرف أو خفّته، المؤدي إلى نفوره أو قبوله، ثم القصر أو عدمه ...

أما المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد سلك في البيان مسلكاً عظيماً. وقد شهد له بذلك القاصي والداني، والمطيع والمناوئ. كيف لا يكون له ذلك، وقد قال:" أدّبني ربّي، فأحسن تأديبي"! ولذا، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أكمل البيان، ما لم يسبقه إليه عربي، حتى صار قوله مستعملاً، ومثلاً سائراً. وفضله على العربية معروف ومشهود. من ذلك ما ذكره الجاحظ (ت 255هـ) أنه قال: "يا خيلَ الله، اركبي". وقوله: "مات حتف أنفه". وقوله: "لا تَنْتَطِح فيه عنزان". وقوله: "الآن حَمِيَ الوطيس". ونسب إليه الميداني (ت 518هـ) في "مجمع الأمثال"، أقوالاً، صارت أمثالاً سيارة، نحو قوله r: )إنّ المنبتّ، لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى(. وقوله: )إن من البيان لسحراً(. وقوله: )إن مما ينبت الربيع، ما يقتل حَبَطاً أو يُلِمّ(. وقوله: )إياكم وخضراء الدِّمَن(. ومن ذلك قوله: )كُلّ الصيد في جوف الفَرَا(. قاله لأبي سفيان يتألّفة على الإسلام. ومنه: "هُدْنَة على دخن، وجماعة على أقذاء". ومنه "لا يلسع مؤمن من جحر مرّتَين".

ثم إن هناك فناً آخر من كلامه r عُرف بـ "جوامع الكلم". قال الجاحظ في "البيان والتبيين": "وهو الكلام، الذي قلّ عدد حروفه، وكَثُرت معانيه، وجلّ عن الصّنعة، ونُزِّه عن التّكلّف". وهذا مثل قوله r: )نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس: الصحة والفراغ(. وقوله: )أما والله، ما عَلِمْتُكم إلا لَتَقِلّون عند الطمع، وتكثُرون عند الفزع(. وقوله: )الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني(. وقوله: )اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول(. وغير هذا كثير كثير. إنما القصد تبيين أن أرباب البيان، في العربية، ساروا على ما يوافق سننها من الإيجاز المبين، والبعد عن الإسهاب المُمِلّ والتطويل المُبعد عن الغرض المقصود والغاية المنشودة. أما الإطناب في الكلام، مما لا بدّ منه، فهو من صميم البيان؛ فنقصه غموض، والعدول عنه شائن. لذا، جاءت قصة يوسف u في كتاب الله العظيم، موضوع سورة كاملة، من الطّوال، لما في عرضها من تثبيت للمصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمؤمنين، وتحريضهم على المصابرة، تأسياً بنبي الله، يوسف u. وهذا غرض بياني محمود، فالإيجاز فيه مُخل أيما إخلال.

وجوانب البيان، لا تنحصر، مطلقاً، في باب الإيجاز. فالعربية تزخر بأساليب بيانية عديدة. منها  ما هو من طبيعة اللغة، ومنها ما هو من طبيعة أهلها وطرائق تعابيرهم. والفصل بين الأمَرين عسير جدُّ عسير. ومن الطبيعة الأولى، النظام الصرفي الثرّ للغة العربية، القائم، في أغلبه، على الاشتقاق وتقليب وجوه الألفاظ، مما يسمح بأشكال فذّة بديعة، من المحسنات اللفظية، كالجناس والطباق والتورية والسجع والتلاؤم والفواصل، وغيرها. ومن الطبيعة الأخرى، ما كان من مسلك أهلها في طرائق تشبيههم واستعارتهم وكنايتهم ومجازهم وتضمينهم وأخيلتهم، وغير ذلك، مما هو مألوف ومعروف، لدى الآخذين من هذه الفنون بنصيب. والقارئ لكتاب الله، يجد من هذه الطرائق في التعبير، ما يُمسك بشغاف القلب، ويأخذ باللّبّ. من ذلك ما ورد من التكنية، عمّا لا يُحتاج فيه إلى التصريح. فقد كُنّي عن الحَدَث الأصغر بـ "الغائط"، وأصل معنى الغائط، ما اطمأن من الأرض وانخفض، قال ـ تعالى ـ: )َأوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ(.w (سورة النساء: الآية 43) وكنِّيَ عن إتيان النساء في الفروج بـ "الحرث"، قال ـ تعالى ـ: )نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( w (سورة البقرة: الآية 223) ورأى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن الملامسة، في قوله ـ عز وجل ـ: )أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ( كناية عن الجماع. وغير هذا كثير في كتاب الله الكريم وفي أقوال فصحاء العرب.

ومن طرائق العربية البيانية في التعبير، "التشبيه". والقصد منه تقريب صورة المشبَّه إلى ذهن السامع، بواسطة المشبَّه به. وتباين الأساليب، في هذا الصدد، مَرَدُّه إلى حُسْن اصطفاء وجه الشبه بينهما. ولذا، جاءت أساليب التشبيه، في كتاب الله، غاية في البلاغة والإبلاغ، مثال ذلك قول المولى ـ عزّ وجلّ )وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ( w (سورة النور: الآية 39)، وقوله ـ جلّ وعلا ـ: )فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ(.w (سورة الأحزاب: الآية 19)

ومن طرائق العربية، في البيان، "الاستعارة" و"التمثيل". فالاستعارة أن تُريد تشبيه الشيء بالشيء، فتَدع أن تُفْصِحَ بالتشبيه وتظهره، وتجئ إلى اسم المشبَّه به، فتعيره المشبه وتُجْرِيه عليه. مثاله أن تقول: "رأيت أسداً"، تقصد" رجلاً". أما "التمثيل"، فلا يخرج كثيراً على حدّ الاستعارة. مثاله: "أراك تُقَدِّم رِجْلاً، وتؤخِّر أخرى". والحقّ عندي، أن التشبيه والاستعارة والتمثيل، من باب واحد، لا يخرج عن قصد العربية في "الإيجاز". وذلك أننا نقصد بالاستعارة، في قولنا "رأيت أسداً"، اختصار اللفظ المسهب، المؤدي للمعنى نفسه، وهو "رأيت رجلاً، هو والأسد، في شجاعته وقُوّة بطشه، سواء". ونوّد أن نختصر بقولنا، "أراك تُقدِّم رِجْلاً، وتؤخِّرُ أُخرى"، قولنا "أراك في ترددك، كمن يتردد في تقديم رِجْلٍ، وتأخير أخرى"، وهكذا.

السمة الحضارية

قد تبيّن، في السمة التاريخية، الحاجة إلى معرفة العربية، والدراية بها، في مجال الدراسات، اللغوية التاريخية والمقارنة. أمّا في هذه السمة، فلا بدّ من التركيز في أبعاد حضارية أخرى؛ ذلك أنّ العربية، كان لها شأن عظيم، قبل مبعث النبي r برسالة الإسلام، الباقية إلى يوم الدين. وقد عُني بها أهلها، ونظموا بها شعرهم، ونَمّقوا لغته، وقالوا بها خطبهم ودّبجوا لغتها بالأسجاع، وضربوا  بها أمثالهم البليغة. وهكذا، كان حالهم مع لغتهم. وإنّ الدّارس لعربية هذه الفترة، ليُدْهش، حقاً، لاكتمال وجوهها، صوتاً، وصرفاً، ونحواً، وبياناً. وإنه لا يفتأ يُقَلِّبُ الأمور على جميع وجوهها، حتى لا يبقى أمامه، في كثير من مراحل الدّرس، إلاّ أن يُسَلِّم للعناية الإلهية، التي قضى الله بها ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجعل لهذه اللغة ولأهلها، شأناً عظيماً، لم تُعطَه أمة من الأمم، ولم تُمنَحه لغة من اللغات.

لقد بعث الله ـ جل وعلا ـ نبيّه في العرب. وأنزل عليه كلامه، قرآناً عربياً يُتلى، وبهداه يهتدى. وكان القرآن، على ما هو معلوم، معجزة، تحداهم بها الله. ولما كان الإسلام جديداً فيهم، كان له فضل على لغتهم؛ فهو، من ناحية، حَفظَها من الضياع والتشويه والغلبة، التي تطرأ على أمم الأرض. وهو، من ناحية أخرى، زاد فيها، وطوّر في دلالة ألفاظها، بل نشرها في أصقاع المعمورة، حتى أثّرت في لغات الأرض، وأَغْنَت بعضها غِنىً عظيماً.

فأمّا زيادته فيها، فقد ذكر علماء العربية، أنّ كلمة "فاسق"، مما جاء به القرآن الكريم، ولم تُسْمع قطّ في كلام الجاهليين، ولا في شعرهم. كذلك، كلمة "منافق"، اسم جاء به الإسلام لقوم، أبطنوا غير ما أظهروه وكان الأصل من "نافقاء اليربوع". وذكر أبو حاتم الرّازي (ت 322هـ)، أنّ اسم "الإسلام"، لم يكن في كلام العرب، قبْل مبعث النبي r. وأما ما ورد من أن إبراهيم r هو أوّل من سمّى المسلمين بهذا الاسم، فإنما سمّاهم بلغته، وهي السريانية. وقد زاد الإسلام في لغة العرب، كلاماً وأساليب وتحيات، لم تكن للعرب، ولا للأمم غيرهـا. فمن ذلك ما ذكره الرّازي، كذلك، "بسم الله الرحمن الرحيم"، و"الحمد لله رب العالميـن"، و"لا حول، ولا قوة، إلا بالله العلي العظيم" و"حسبنا الله، ونعم الوكيل"، و"توكلت على الله"، و"إنا لله، وإنا إليه راجعون"، و"ما شاء الله كان". وورد عن سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ أنه قال: ما أُعْطِيَ أحد "إنا لله، وإنا إليه راجعون"، و"ما شاء الله كان"، إلاّ النبي r. ولو أوتيه أحد، لأوتيه يعقوب، حين يقول: "يا أسفا على يُوسُف". ومن ذلك تحية الإسلام: "السلام عليكم". والقصد من هذا، أن هذه الكلمات لم تستقر للأمم، ولم تدرج على ألسنتهم وفي لغاتهم، كما حصل لأمة العرب، ولعربيتهم.

أمّا حدوث هذه الكلمات، أو أجزاء منها، على ألسنة أنبياء، سبقوا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذلك ممكن؛ كما حصل من ذكر البسملة، على لسان سليمان r وتصديره بها كتابه إلى بلقيس. ثم إن "السلام" تحية أهل الجنة.

ومن هذا الباب، ما زاده النبي r مما لم يكن مألوفاً في كلام العرب، من مثل قوله، آنفاً: "الآن حمي الوطيس"، و"مات حَتْف أنفه".

وهناك باب آخر، أثر الإسلام به، في لغة العرب. وهو ما نهاهم على استعماله من الكلام، إمّا لسوئه، أو لسوء معناه، أو لما يتضمنه، من الشرك بالل ه أو الظلم أو التشـاؤم، إلى غيـر ذلك، مما لا ينضوي تحت دائرة الشرع المطهر. من ذلك ما ذكره ابن فارس، من الأسماء، التي كانت، فزالت بزوال معانيها، مثل قولهم: المِرْبَاعُ، والنّشيطة، والفضولُ، والإتاوةُ، والمكسُ، والحُلْوان. والمِرْبَاع: ربع الغنيمة، يكون لرئيس القوم، في الجاهلية، دون أصحابه. والنشيطة: ما أصاب من الغنيمة، قبل أن يصير إلى مجتمع الحيّ. والفضول: هو ما فضل من القسمة، مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والسكين ونحوهما. والإتاوة: الخراج. والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق، في الجاهلية. والحلوان: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه. ومما تُرِك، كذلك، قول المملوك لمالكه: "ربّي"؛ وإذ كانوا يخاطبون ملوكهم بالأرباب. وكذلك تركُ تسمية من لم يحج، "صَرورة"، وهو يقال للذي يدع النكاح، تبتّلاً. وأصل الصرورة: أنّ الرجل، في الجاهلية، كان إذا أحدث حدثاً، فلجأ إلى الحرم، لم يُهَجْ. وكان إذا لقيه وليّ الدّم في الحرم، قيل له: هو صرورة، فلا تَهجْه. ثم كَثُر في كلامهم، حتى جعلوا المتعبد، الذي يجتنب النساء، وطيّب الطعام، "صرورة" و"صرورياً". ومن إلغاء هذه العادة، ما وَرَد عن النبي r، أنه قال:]لا صرورة في الإسلام[. ومما تُرك، قولهم للإبل، تُساق في الصداق: "النّوافج"، فيكثر بها مال وليّ المرأة. وقد ذُكر أن من العرب، من كان يكره ذلك.

ومما تُرك من الأساليب، قولهم: "خَبُثت نفسي". وقولهم "حِجْراً محجوراً"، وهو عندهم لمعنيَين: أحدهما عند الحِرْمَان، إذا سُئل الإنسان، قال: "حجراً محجوراً"، فيعلم السائل أنه يريد أن يحرمه. والوجه الآخر: "الاستعاذة"، كان الإنسان إذا سافر، فرأى من يخافه، قال: "حجراً محجوراً" أي حرام عليك التُّعرض لي. وبه فُسّر قوله ـ تعالى ـ: ]يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا[ w.(سورة الفرقان: الآية 22) يقول المجرمون ذلك، كما كانوا يقولونه في الدنيا. ومن التحيات التي اطُّرِحت، قولهم: "انْعَم صباحاً"، و"انْعَم ظلاماً". وقولهم "أبيت اللعن"، وليس هذا المقام مقام استقصائه.

لم يقتصر الإسلام على ما زاده في العربية، أو ما أمر باطِّراحه، بل نشط إلى تطوير دلالات الألفاظ في العربية. وهذا مجال جد واسع؛ إذ إن كثيراً ممّا نعرفه، من الأسماء الشرعية، هو مما استحدثه الإسلام، في المعاني الاصطلاحية، من المعاني اللغوية، فالإيمان والصلاة والزكاة والحج والجهاد والتقوى والدين والكفر والنفاق وغيرها، كلمات معروفة، مألوفة معانيها عند العرب، بما عرفوه من لغتهم وفطرتهم. ولكن معانيها الاصطلاحية، الذائعة بين المسلمين، هي معانٍ، زادها الإسلام على المعاني اللغوية. والعرب عرفت الأمان، وعرفت الإيمان، بمعنى التصديق. ولكن الشريعة، زادت أشراطاً وأوصافاً، بها سُمِّي المؤمن، بالإطلاق، مؤمناً. وكذلك، الإسلام والمسلم، إنما عرفت العرب منه إسلام الشيء، ثم جاء منه، ما هو معروف في الشرع من الأوصاف. وكانت العرب، لا تعرف من "الكُفْر"، إلا "الغطاء والستر"، ولا تعرف من الصلاة، إلا "الدّعاء". وكانت عرفت الركوع والسجود، على غير الهيئة التي وصفتها الشريعة. قال ابن منظور (ت 711هـ): "أَسْجَدَ الرجل: طأطأ رأسه وانحنى". وكان الصيام عندهم، بمعنى "الإمساك". ثم زادت الشريعة: النية، وحظرت الأكل والشرب والمباشرة. وكان الحج عندهم، بمعنى "القصد"، فزادت الشريعة شروطه وشعائره. وكذلك الزكاة، كانت العرب، تعرفها من ناحية "النَّمَاء". وإذا ما سُئل الإنسان عن الصلاة، قال: فيها اسمان: لغوي، وهو ما كانت تعرفه العرب من لغتها؛ وشرعي، وهو ما جاء به الإسلام. وهكذا، يكاد الأمر يجري على باقي المصطلحات الإسلامية.

أما نشر الإسلام العربية، في أصقاع الأرض، فتأتىّ من حلولها أينما حَلّ. وما أُخْرج الإسلام من أرض، إلاّ طويت منها صفحة العربية؛ اللهم إلا بقايا، لا تكون، في المقاييس الحضارية الكبيرة، ذات بال. والتاريخ يشهد بازدهار العربية في الأندلس. واليوم، لا نكاد نجد للعربية هناك، إلاّ بقايا من تراث. ناهيك تعريب الإسلام ألسنة فارس، وما وراء النهر، وجنوب البلاد الروسية، اليوم؛ فضلاً عن تعريبه ألسنة ما وراء السّند. ودخل الإسلام القارة الإفريقية، فتعربت ألسنة أهلها، حيثما حل.

والبلاد التي دخلها الإسلام، ولم تتعرّب ألسنتها، عُرِّبت لغاتها، بكتابتها بالحرف العربي. من ذلك دول جنوب شرقي آسيا، كأندونيسيا وجزر الملايو، والفيليبين وكمبوديا وجنوب تايلاند. وكذلك إيران التي استعادت لغتها، ولكن كتبتها بالحرف العربي. إضافة إلى تركيا العثمانية. فضلاً عن البلاد الأفريقية، التي تقع جنوب الصحراء الكبرى.

وتأثير اللغة العربية في لغات العالم، حقيقة واقعة بيّنة. يقول Hunwick: لقد بدأ تأثير الإسلام، والعربية، في لغات غربي أفريقيا، منذ بداية القرن الخامس الهجري، حين دخلتها حركة المرابطين. بيد أن هناك شواهد متفرقة، تدل على وجود العربية، قبْل عهد المرابطين، في المدن والمراكز الكبرى، مثل أوداغاشت وتكرور وغانا وسيلا وكاوكاو. وينقل عن ابن حوقل (ت 367هـ)، أن التجار العرب، عرفوا أوداغاشت، منذ زمن. وأنهم حلوا بها، وكسبوا منها المكاسب التجارية الكبيرة. بل إن البكري الأندلسي (ت 487هـ)، يقول في وصف غانا: "وهي مدينتان سهليتان. فأما إحداهما، فيقطنها المسلمون. وهي مدينة كبيرة، بها اثنا عشر مسجداً، تقام الجمعة في أكبرها. ولكل مسجد إمام ومؤذن ومقرئ للقرآن. وبها عدد من أهل العلم والقضاة". أما تكرور وسيّلا وغاو، فحواضر مسلمة، تابعة لحكم مالي. وكثير من أهلها، لا يزالون وثنيين.

يقول Wexler: وتأثير العربية في لغات غربي أفريقيا ووسطها، جاء من طريقَين: من طريق العربية الفصحى، وهي الطريق الأكثر شهرة، لارتباطها بالقرآن. والطريق الثانية، طريق اللهجات. ولا يخفى، في هذا المضمار، تأثير لهجة الحسانية، في موريتانيا؛ ولهجة "الشوا"، العربية، في شمالي نيجيريا والكاميرون، وجنوب غربي بحيرة تشاد وشرقيها (وداي ودارفور). وقد ألّف Kaye معجماً، من إحدى وتسعين صفحة، من الحجم الكبير، لما وَسَمَه بـ "عربية نيجيريا". وألف دراسة أخرى، لما سَمّاه بـ "عربية تشاد". أما تأثير العربية في اللغات الأفريقية، في غربي أفريقيا ووسطها، وخاصة اللغات واسعة الانتشار، فهو تأثير كبير كبير، لا يقتصر على المصطلحات الإسلامية، وإنما يشمل ذلك، إلى جانب لغة التجارة، والمفردات العامة، التي لها صلة بالحياة والكون، من المحسوسات، والمعنويات، كذلك. ومن أوسع هذه اللغات، السونغاي، والكانوري، والماندنج، والفُلاّ، والهوسا.

وقد كتب اللغوي الأمريكي Greenberg، مقالاً عن الكلمات العربية في لغة الهوسا، بيّن فيه أن الأخيرة، استعارت من العربية كثيراً من الكلمات، في المجالات المختلفة، كأسماء المعادن والأحجار الكريمة، وأسماء النباتات والمنتجات العضوية، وأسماء الحيوانات، وأسماء أعضاء الجسم ووظائفها، والأمراض، وأسماء أدوات المنزل والبناء، والسلاح والفروسية، والتجارة والنظم، الإدارية والسياسية والقانونية والأدبية، والأعداد والمكاييل والموازين، والنحو والحساب والفلك، وأسماء المفاهيم والتصورات. فأحصى في مقام واحد ما يزيد على أربعمائة وأربعين اسماً. فإذا كان ذلك كذلك، فكيف بالحروف والأدوات والأفعال والمصادر والصفات! ثم إن ما قدّمه، في هذا المقال، ليس القصد منه الاستقصاء والحصر. أمّا تأثير العربية في اللغات، المنتشرة في شرقي أفريقيا وجنوبيها، فيُظَن أنه لا يقلّ عنه في وسط أفريقيا وغربيها، وليس القصد، هنا إلاّ التمثيل على تأثير العربية في لغات هذه القارة المسلمة.

وكان للعربية تأثيرها في لغات شرقي آسيا، على ما تشهد به البحوث، في هذا الصدد. فقد لاحظ Wexter، في بحثه عن تأثير العربية في اللغات الصينية، خاصة تلك التي يتكلم بها المسلمون ـ أن الصينية، الماندرين والكانتونيز، قد أفادتا كثيراً من العربية، خاصة الكلمات والاصطلاحات الإسلامية. بيد أنهما صحفتا تصحيفا كبيراً، نطق الكلمات العربية، بسبب الاختلاف الصوتي؛ فالصينية لا تقبَل تتابع الصوامت، على كثرة ذلك في العربية. فـ "القرآن" يُنْطَقُ به "الكِلاَن"، و"بالغيب"، ينطق بها "بِلأَيب"؛ و"سُبْحانك"، ينطق بها "سُبُها نَئَيكانج"، و"بحمدك"، ينطق بها "وُبِهربتيديكائي"، وهكذا.

أما لغات جنوب شرقي آسيا، فكانت الأندونيسية أكثرها تأثراً بالعربية، حتى كُتِبَت بالحرف العربي، وهو ما يُسمى بـ "الجاوي". والكلمات العربية، في الأندونيسية، تشمل الكلمات الدينية وغيرها، وكذلك المحسوسات والمعنويات. اُنظر، مثلاً، إلى معجم، مثل معجم Echols وShadily، بالأندونيسية والإنجليزية. واُنظر إلى حرف a فقط، وتابِعْ في هذا الحرف إلى an، أو كلمة anasir، فستخرج بستين كلمة عربية. منها، على سبيل المثال: عقل، عقد، عكس، أكبر، عقيقة، أخير، الآخرة، عقيدة، أقرب، عرقرب، أقوال، عالَم، علم، آلة، الحمد لله، الحاصل، الله، القرآن، المهدي، المكتوب، الثور، أَمَة، عمل، أمن، أنبياء، أمير، أمثال، عجب، أجل، أهل، عافية، عفريت، أذان، أدب، أديب، أحد، عجم، .. إلخ.

أما اللغات الإيرانية، كالفارسية والكردية والبشتو، والهندية، والأردية، فقد تأثرت بالعربية، واقتبست منها كثيراً. خُذْ مثلاً الفارسية، واُنظر إلى ما ذكره Kaye، في عام 1987، من أنك لو نظرت في قاموس للفارسية، كالذي صنّعَه Steingass، على الترتيب الأبجدي، والذي بلغ عدد صفحاته (1539) صفحة، ثم عُدت في هذا القاموس إلى حرف (الميم) منه فقط، فإنك تكاد تجزم بأن معظم الكلمات المبدوءة بهذا الحرف، مقتبسة من العربية. واعلم أن حرف (الميم)، تبلغ صفحاته، في هذا القاموس مائتَين وتسعاً وعشرين صفحة، فكيف إذا نظرت في باب (الهمزة) أو (الصاد)!

كذلك اللغات الأوروبية، أفادت من العربية، على ما هو معلوم، مستقر في أحدث البحوث والقواميس. وكانت الأسبانية من أول مَنْ أفاد من العربية. ولم تقتصر استفادتها على الكلمات، بل وجد بعض الباحثين، أن هناك من التعبيرات، في الأسبانية، ما يكاد يجزم بأنه نَقْل حرفيّ من العربية. مثل:

الأسبانية

العربية

Almirante

الأمير

Albanil

البناء

Alberca

البِرْكَة

Alferez

الفارس

Alcalde

القاضي

Alcaide

القائد

Alcantara

القنطرة

Sofa

الصّفّة

Zoco

سوق

Azaque

زكاة

Aceituna

زيتون

ويقدِّم الأستاذ لطفي عبدالبديع، قائمة لطيفة من أسماء الأنهار والمواضع والبقاع والبلاد، مما يظهر فيها وجه العروبة. أما الألفاظ التي تتصل بالري والزراعة، وأسماء الأزهار والفواكه والتوابل والملابس والوظائف والرتب العسكرية، فكثيرة جداً، لمن يطلب الرحلة في عالمها.

أما التراكيب، فإن المؤلف، يقدم باقة منها، مما له صلة بعبارات التحية. منها قولهم "Si Dios Quiere"، وهو تعريب حرفي لقول المسلم، "إن شاء الله". وقد بقي صدى لفظ الجلالة، في قولهم "Ole"الذي يردده القوم، لإظهار الإعجاب بمصارع من مصارعي الثيران، وهو يراوغ الثور. ولا يزال أهل الريف، كلما ودّع واحد منهم الآخر، يقول له: "A la paz de Dios"، ولا يخفى أنها تكاد تكون ترجمة عن التحية الإسلامية، "السلام عليكم".

أمّا اللغة الإنلجيزية، فهذا Kaye يطلعنا على إحدى الدراسات الحديثة، المبنية على المعاجم الإنجليزية التالية:

1. The Random House Dictionary Of The English Language.

2. Webster's Third New International Dictionary.

3. Shorter Oxford English Dictionary.

هذه الدراسة خرجت بأربعمائة كلمة، استعارتها الإنجليزية من العربية. هذه القائمة من الكلمات، وصفها Kaye، بأنها كلمات "عامة" "Common"، منها:cipher (صفر)،gazelle (غزال)،giraffe (زرافة)،saffron (زعفران)،nadir (نظير) وهكذا.

وبالعودة إلى معجم: "The Concise Dictionary of English Etymologies"، طبعة عام 1986، يتضح أن أعداداً من الكلمات العربية، الداخلة في الإنجليزية، قد مرّت برحلة في اللغات الأوروبية الأخرى، خاصة الأسبانية والإيطالية والفرنسية. وهاك عدداً من الأمثلة:

الإنجليزية

الفرنسية

الألمانية

البرتغالية

الإيطالية

الأسبانية

العربية

Racket

Raquette

Rakutt

Raqueta

Racchetta

Raqueta

راحة

Magazine

Magasin

Magazin

Armazem

Magazzino

Magacen

مخازن

Tariff

Tarif

Tarif

Tarifa

Tariffa

Tarifa

تعريفة

Jasmine

Jasmin

Jasmin

Jasmim

Gelsomino

Jazmin

ياسمين

Saffron

Safran

Safran

Acafrao

Zafferano

Azafran

زعفران

هذه هي السمة الحضارية للغة العربية. اكتسبتها من أصول متينة جدّ متينة، ولا سيما اثنين منها: الأول، أن العربية، بطبيعتها، لغة غنية، بما وُهِبَتْ من الميزات الكثيرة، الصوتية والاشتقاقية والتركيبية. والثاني، ارتباطها بدين الله وكتابه العربي المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. فكانت للدّين وعاءً، وكان الدين لها قلباً نابضاً، يضخّ في عروقها الحياة. ولا عَجَبَ، إن خَبَا للإسلام نجم، أن نرى نجم العربية يسقط؛ وإن شعّ للإسلام نور، أن نرى نور العربية وقاداً، ساطعاً!

وهذا التلازم الحضاري، بين هذا الدين الحضاري والعربية الحضارية، لا يشبهه شيء في مُثُل الأمم السالفة والحاضرة. ومَرَدُّ ذلك، أن كثيراً من لغات العالم، تكتسب قوّتها الحضارية من قوة أهلها، العسكرية والاقتصادية والسياسية. أمّا العربية، فقد اكتسبت قوّتها من قُوّة الإسلام.