إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات علمية / اللغات





لغة الإشارة
التابوت "دورة الثبات"
الحيّات في الصليب
الفصائل اللغوية
جدول اللغة الأُوغاريتية
رسم الهلال "شهر"
رسم الفصول في الهلال
عين حورس




مقدمة

المبحث الثالث

 تصنيف علم اللغة

أولاً: اللغة والمجتمع

    أورد عالم النفس الهندي المعروف، ريد سينج Raid Sing قصة لطفلتين عثر عليهما سنة 1920م في وجار.

    من هذه التجربة، يتضح أن اللغة لا يمكن أن تعيش وتتطور، إلا في الجماعة الإنسانية، بل إن العنصر الإنساني نفسه يتلاشى، إذا لم يتعهده المجتمع بالرعاية والتشذيب، حتى أن من ينشأون ويترعرعون مع الوحوش، يألفون حياتهم هذه، ويفقدون من ثمّ سماتهم الإنسانية.

    إذاً، فاللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من المحيط الذي يعيش فيه، وتخضع للشروط التي يعيشها المجتمع الإنساني، وهي تنعدم وتتلاشى بانعدام ذلك المجتمع. وقد تحدث الكاتب جول فيرن في روايته "الجزيرة المسحورة" عن شخص كان أصحابه قد ألقوا به فوق جزيرة نائية، بسبب جريمة ارتكبها، وبهذا انقطعت حياته عن البشر، وانفصمت صلاته بالإنسانية، حتى أنه بتتالي الأيام، فقد المقدرة على الحديث وعلى التفكير أيضاً. فلما أعيد أخيراً إلى عالم البشر، راح يسترد ـ بصورة تدريجية ـ مقدرته على النطق والتفكير، وأصبح فرداً طبيعياً في المجتمع[1].

    والتوافق في اللغة يزيد الألفة بين الناس، ولا ريب، أن الشخص الذي يعيش بين أقوام يجهل لغتهم، يبقى منفرداً معزولاً حتى إذا تعلم من لغتهم شيئاً تمكن من التعارف والمعاشرة.

    فإذا أدرك من تلك اللغة فصاحة ورونقاً، ترقى فوق ذلك، إلى مكان التقرب منهم بفؤاده. وربما ينتقل الإنسان إلى بلد لا يعرف لغة أهلها، فيوقعه سوء التفاهم مع أولى القوة منها، في خطر لا يجد للخلاص منه طريقا. رُوي أن زيداً بن عبدالله بن دارم الحجازي، دخل على ملك حمير، في مدينة ظفار، وهو جالس على مكان مرتفع، فقال له الملك: "ثب"، أي "اجلس" في لغة حمير، ومعناها في لسان أهل الحجاز "اقفز" ففهمها الأعرابي على مقتضى لغته، وقفز فكسر، واندقت رجلاه، فسأل الملك عنه، فأخبر بلغة أهل الحجاز فقال أما علم أن من دخل ظِفَار حمَّر، أي تعلم اللغة الحميرية.

    فاللغة ظاهرة تنمو وتنشط في بيئة اجتماعية عادة، وهي أداة الاتصال والتفاهم بين الناس لتحقيق أغراض اجتماعية. وقد تمتد الآثار الاجتماعية للغة بحيث تشمل الأدب أو الشعر، وكل المظاهر الحضارية الأخرى للغة. ولا يوجد أديب لا يتوقع أن يقرأ الناس ما كتبه، ولا يحاول أن يؤثر في عقول الآخرين.

    يُعد "دي سوسير" مؤسس المدرسة الاجتماعية في الدراسات اللغوية[2]، ولقد كان له ـ ولا يزال ـ أثر بالغ في دارسي اللغة، لا سيما المدرسة الفرنسية السويسرية. فكتاب فندريس "اللغة" ـ مثلاً ـ متأثر بنظريات دي سوسير. الذي يبني نظريته الاجتماعية في اللغة، على أن اللغة ظاهرة من جملة الظواهر الاجتماعية، بل إن تنظيم المجتمع الإنساني كله إنما تم عن طريق اللغة. ويقول دي سوسير: إن الكلام وظيفة إنسانية، فالإنسان لا يولد في الطبيعة وحسب، بل إنه يولد في حِجْرِ مجتمع، من المؤكد أنه سيوجهه نحو تقاليده. فإذا عُزل وليد عن المجتمع الإنساني، فإنه سيتعلم السير، وتسلق الأشجار، وتحصيل طعامه، بوسيلة ما، لكن لن يتمكن من الكلام، لأنه لن يجد من يعلمه ذلك. فالكلام نشاط إنساني لا ينمو ولا يتطور إلا في محيط البشر.

    ومن المعلوم أن الصيني، يولد بملامح صينية ويولد الزنجي بملامح زنجية، شأنهما في ذلك شأن الأبيض الذي يرث الملامح المميزة لعرقه. ولكن هل يعني هذا أن الصينيَّ لا بدَّ أن يتكلم الصينية؟ ويتكلم العربي العربية بحكم مولده؟ بالطبع لا. فلو أخذنا طفلاً رضيعاً عربياً إلى بلاد الصين وجئنا بطفل صيني إلى بلادنا لاحتفظ كل من الطفلين بالملامح التي ورثها عن أسلافه، ولنشأ مختلف الصورة عمن يحيطون به، لكنه لابدّ أن يتكلم بلغة الوسط الذي يُنشأ فيه.

    وتجربة الجيش الانكشاري[3] في الدولة العثمانية، دليل على ذلك، إذ كان الأتراك يجمعون أطفال مختلف القوميات المغلوبة، ويعودون بهم إلى تركيا حيث ينشؤون على لغة الترك وعاداتهم التي سرعان ما يتقنونها. كما أثبتت حقائق الحرب العالمية الثانية هذا الواقع، إذ جعلت الحرب الكثيرين يتبنّون أطفالاً مشردين من قوميات مختلفة، وسرعان ما كان أولئك الأطفال يتقنون لغات الأوساط الجديدة، وعاداتها، وعلى العكس من هذا، فإن تاريخ الهجرات بين الشعوب، يعرف حقائق معاكسة إذ أن الكثيرين ممن هجروا أوطانهم في أعمار متأخرة كانوا بعد مرور فترة، قد تطول وقد تقصر، ينسون لغتهم الأم بحكم هجرهم لاستعمالها، ويكتسبون لغة المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه.

    وللغة صلة وثيقة بعلم الإنسان، وعلم الاجتماع، باعتبارها نتاج العلاقات الاجتماعية، ووسيلة نقل الثقافة، وهي نشاط اجتماعي، من حيث إنها استجابة ضرورية، لحاجة الاتصال بين الناس جميعاً. ولهذا السبب يتصل علم اللغة اتصالاً وثيقاً بالعلوم الاجتماعية، ونشأ لذلك فرع منه يسمى "علم الاجتماع اللغوي"، يحاول الكشف عن العلاقة بين اللغة، والحياة الاجتماعية. وللغة ارتباط وثيق بحضارة المجتمع، فإذا اتسعت حضارة أمة من الأمم، وازدهرت، وكثرت حاجاتها، وتعددت مرافق حياتها، نهضت لغتها، فتكثر مفرداتها، ويتغير تركيبها في سبيل التعبير عن المسميات، والأفكار الجديدة، التي أحدثها التمدن والتحضر، أما إذا تخلفت الأمة حضارياً، واستكانت لجهلها المُخيم عليها، فإن لغتها ستكون رفيقة لذلك التأخر والتخلف. فتراها ركيكة التركيب، قليلة المفردات، غير محددة المعاني.

    وَتُسهم اللغة في وظيفة اجتماعية أخرى، هي وظيفة "القهر" بمفهوم علماء الاجتماع. وتفسير ذلك أن الظواهر الاجتماعية لها قوة آمرة، تفرض بها على أفراد المجتمع، ألواناً من السلوك والتفكير والعواطف، وتحتم عليهم أن يصبوا سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم، في قوالب محددة مرسومة. وإذا ما حاول الفرد الخروج على إحدى هذه الظواهر الاجتماعية، فإنه سرعان ما يشعر برد فعل مضاد من المجتمع الذي يعيش فيه؛ ذلك لأن المجتمع يشرف على سلوك أفراده، ويستطيع توقيع العقاب على من يخرج عليه. وأهون صور هذا العقاب، هو التهكم الشديد، أو السخرية المرة.

    مثال ذلك: أن المجتمع لا يسمح لنا أن نتحدث باللغة العربية الفصحى لمن لا يفهمها، أو للعوام الذين لا تسمو إليها مداركهم، وقصة أبي علقمة الثقفي ـ الذي اشتهر باستعمال الغريب والوحشي من الألفاظ، في حواره مع طبيب جاءه يشكو إليه من مرض ألمَّ به ـ خير مثال لهذه القضية، من تراثنا العربي:

    فقد دخل أبو علقمة على أَعْينَ الطبيب، فقال له: "أمتع الله بك! إني أكلت من لحم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأبة العنق، فلم يزل يربو وينمو، حتى خالط الخِلب والشراسيف، فهل عندك دواء؟"

فقال أعين: "نعم، خذ خَرْبقاً وشلفقاً وشبرقاً، فزهرقه وزقزقه، واغسله بماء روت واشربه!!"

فقال أبو علقمة: "لم أفهم عنك".

فقال أعين: "أفهمتك كما أفهمتني".

    ويروى أن الشيخ "حمزة فتح الله"، رحمه الله، وكان مفتشاً بالمدارس المصرية، قدم ذات يوم من رحلة تفتيشية له بمدارس الريف، وعندما وصل به القطار إلى محطة القاهرة نظر حوله، لعله يجد رجلاً يحمله على حماره إلى بيته ـ أيام كانت الحمير هي الوسيلة الوحيدة للنقل ـ فبصر برجل يجر خلفه حماراً، فناداه: "أيها المكارى!"، فقال الرجل: "نعم" فقال الشيخ حمزة: "إيتنى بأتان جَمَزَى!"، فظن الرجل أنه يتكلم لغة أجنبية، فقرب منه، وجعل يستطلع جلية ما يريد، حتى أخذ منه الجهد، ولم يحظ منه بطائل. وهنا حلت العقوبة بالشيخ حمزة؛ إذ تركه صاحب الحمار، وذهب لحال سبيله، وهرول الشيخ إلى بيته، وهو يقول:

مشيناها خطى كتبت علينـا      ومن كتبت عليه خطى مشاها

    وهذا القهر الذي يفرضه المجتمع على أفراده، يختلف بالطبع شدة وضعفا، إلا أنه موجود دائماً حتى ولو لم نشعر به، حين نستسلم له. ويرى علماء الاجتماع، أن ضروب السلوك والتفكير، لا توجد خارج شعور الفرد فحسب، بل تمتاز كذلك بقوة قاهرة آمرة، هي السبب في أنها تستطيع أن تفرض نفسها على الفرد، شاء أم أبى.

    وتعكس اللغة أثر التفاوت بين طبقات المجتمع، فاللغة تتغير، تبعاً للطبقة التي تتحدث بها. وقد صرح بعض هواة اللغويات في بريطانيا بأن هناك نوعين من اللغة: أحدهما وقف على الطبقة الراقية، ولا يمتد استعماله إلى الطبقة الدنيا، والآخر لا يستخدمه إلا أفراد الطبقة الدنيا.

    وكثيراً ما يؤدي التفاوت بين طبقات المجتمع، إلى نشوء لغة سرية عامية، هي بنوع خاص لغة الأشقياء والخارجين على القانون، ممن يعيشون على هامش المجتمع، ويقول فندريس: "كان عندنا، حتى بداية القرن التاسع عشر، هيئة منظمة بالفعل للأشقياء، وكانت لها لغتها الخاصة المتفق عليها، والتي كان يعمل كل عضو من أعضائها، على المحافظة عليها".

    ويضيف إنه في لغة مثل هذه الطبقات من أهل فرنسا مثلاً، نجد ثماني عشرة كلمة تعبر عن الأكل، وعشرين عن معاقرة الخمر، وعشرين أخرى للتعبير عن الخمر نفسها، وأربعين لفظاً تُعبر عن السُكر. ولخشيتهم دائماً من سطوة القانون، جعلوا للشرطي اثنتي عشرة كلمة، وللفرار منه خمسة عشر لفظاً، كما سموا السجن معهدا ومدرسة، والبؤس فلسفة، وسموا الحذاء البالي فيلسوفاً. أما المال الذي يستحوذ على أفكارهم وقلوبهم، فقد وضعوا له ستين كلمة، والبغايا اللاتي يعشن معهم دائماً، وضعوا لهن ثمانين كلمة، تعدّ كلها وابلاً من السباب بأحط الألفاظ. أما السيدة الفضلى، فليس لها كلمة واحدة في لغتهم. والرجل المستقيم، يعبرون عنه بالبساطة، ومعناها في عرفهم الغفلة والغباء.

    كما أن اللهجات الخاصة، تتميز بتنوعها الذي لا حدود له، وأنها في تغير دائم، تبعاً للظروف والأمكنة؛ فكل جماعة خاصة، وكل هيئة من أرباب المهن، لها عاميتها الخاصة؛ فهناك عامية التلاميذ الخاصة، وهي غير واحدة في كل المدارس، بل تختلف أحياناً باختلاف الفصول في المدرسة الواحدة. وهناك عامية الثكنات الخاصة، التي تختلف باختلاف الأسلحة، بل تختلف باختلاف الثكنات أيضا. وهناك عامية الخياطات الخاصة، وعامية الغسالات، وعامية عمال المناجم، وعامية البَحَّارَة".

    ولكل هذه المجموعات ثروتها اللفظية الخاصة بها ، والتي يتناولها أعضاء كل مجموعة فيما بينهم، وتسهل اتصال بعضهم ببعض، ولكنها في الوقت نفسه، تزيد في الهوة التي تفصلهم عن غيرهم، ممن لا ينتمون إليهم. وقد تتسرب بعض ألفاظ هذه العاميات، إلى اللغة الأدبية، حينما يستخدم أحد الكتاب أو الشعراء لفظة من ألفاظ العاميات الخاصة في كلامه، وهو يقابل في البداية بالإعراض واللوم، من الغيورين على اللغة الأدبية. وقد حدث مثل ذلك في فرنسا ونشبت معركة شديدة، بين مناصرين لاتجاه إدخال ألفاظ عامية في اللغة الأدبية، وبين المتشبثين بما يرونه اللغة الفرنسية الحقة، لغة كبار الكتاب والشعراء، في القرنين السابع عشر، والثامن عشر، أمثال: موليير  Moliere[4]، وراسين Jean Racine [5]، وفولتير  Voltaire Francois Marie[6] ولامرتين Alphonse de Lamartine [7]. وانتهت المعركة بانتصار المحدثين، واضطرت الأكاديمية الفرنسية آخر الأمر، إلى الاعتراف بكثير من الألفاظ الفرنسية العامة، وإدخالها في المعجم اللغوي الرسمي.

    ولا شك أن التغير الاجتماعي، في بيئة من البيئات، يتبعه تغيّر في شيء من اللغة المستعملة، في تلك البيئة. ويكفي أن نذكّر بان قيام ثورة 23 يوليه 1952 في مصر أدّى إلى تغير في النظام الاجتماعي، تبعه تواري ألقاب مثل: بك، وباشا، وصاحب العزة، وصاحب السعادة، وصاحب الدولة، وصاحب المعالي، وصاحب الرفعة، وصاحبة العصمة، والبرنس، وسمو الأمير، وصاحب الجلالة، والذات الملكية. كما شاعت مصطلحات وألفاظ مثل: ثورة التحرير، والعزة، والكرامة، والتأميم، والاشتراكية، والتحول الاشتراكي، والمكاسب الاشتراكية، والتقدمية، والرجعية، والتطلع الطبقي، والصراع الحتمي، وتذويب الفوارق الطبقية، ونضال الجماهير، والنقاء الثوري، والقيادة الجماعية، والجماهير الكادحة، والعناصر الانتهازية، والمصير المشترك، والسلام القائم على العدل، وفك الاشتباك. وغير ذلك كثير.

    وكذلك ففي العراق في العصر الملكي كانت الألفاظ "الملكية" "العرش" "الوصاية" "صاحب المعالي" "صاحب الفخامة" "الدوحة الهاشمية" تسير على الألسن بشكل واسع، حتى إذا جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، عطلت تلك الألفاظ وبعثت الحياة في ألفاظ جديدة هي: "الجمهورية"، "صاحب السيادة" "حكم الشعب"، "الحريات الديموقراطية"، "الإصلاح الزراعي"، "نقابات العمال" "حقوق الفلاحين" ... الخ.

ثانياً: علاقة الفكر باللغة

    يقول ابن جني "إن اللغة تعبير عن الأغراض"، أي أنها ليست مجرد أصوات إنسانية، وإنما هي وسائل يُعبر بها كل قوم عن أغراضهم. وكلمة "الأغراض" هذه يمكننا أن نفهم منها "التفكير"، بلغة العصر الحديث.

    وشغل موضوع اللغة والفكر، دارسي اللغة، كما شغل الفلاسفة في القديم والحديث، وهو موضوع له مكانه في علم اللغة الحديث. ومع أن اللغويين غير متفقين، على أن هناك صلة ضرورية بين اللغة والتفكير، ومع ذلك فإن كثرتهم  تذهب إلى هذه الصلة، فنحن "نفكر بجمل" كما يقولون، أو "اللغة وعاء الفكر"، أو "لا وجود للفكر دون اللغة".

    ومما هو جدير بالذكر، أن علم المنطق "الذي يَعْني علم قوانين الفكر" اتخذ اسمه عند الأوروبيين تحت كلمة "Logic" مشتقاً من الكلمة اليونانية "Logos" التي تعنى "الكلمة" أو "اللغة"، كما أن العرب اشتقوا اسم "المنطق" من النطق إشارة إلى ما بين "اللفظ" و "الفكر" من صلة وثيقة.

    والرأي الشائع، أن الكلمات ما هي إلا تمثيل طبيعي، وخارجي للأفكار. والأفكار ليس لها وجود مستقل عن اللغة، كما أن وظيفتها غير مستقلة عن اللغة أيضاً. ولو أن كلاً منا أراد أن يحتفظ بأفكاره لنفسه ولا يذيعها لاختفت اللغة.

    وإذا كان الفكر لا يمكن وجوده دون لغة، فاللغة لا يمكن فهمها، إلا من خلال ارتباطها بالفكر، وكل محاولة للتعامل مع اللغة دون ربطها بالفكر، إنما تبوء بالفشل، فليست اللغة رصاً لألفاظ، ولا جمعاً لمفردات دون وعي.

    ومثل هذا الربط بين اللغة والفكر، هو الذي أدى بعدد كبير من الباحثين، إلى مناقشة واسعة حول أسبقية أي منهما على الآخر؟ وأيهما أكثر تأثيراً في الآخر؟ واتجاه الفلاسفة، أن "الفكر سابق على اللغة"، بينما يقول كثير من الباحثين أنه لا أسبقية بينهما، وأن تأثيرهما المتبادل قد يكون متساوياً. بينما هناك اتجاه آخر يرى أن اللغة، ليست سوى مرآة، ينعكس عليها الفكر.

    والحق في ذلك، كله أن اللغة تتطور مع تطور الفكر والسلوك، وأن هناك رابطة وثيقة بين اللغة، وعقلية المتحدثين بها، ومن ذلك يمكننا تحديد الاتجاه الذي ستسير فيه التغيرات والتطورات التي ستحدث في اللغة مستقبلاً. فيمكننا التكهن بأن اللغة الإنجليزية التي يتحدثها الأمريكيون، سوف تزداد كلماتها، وعباراتها، التي تعبر عن الماديات، والتجارة، ولغة المال، وستقل فيها ـ على مر الزمن ـ العبارات التي ترمز إلى الفن، ورقة الحس والجمال.

    وستبقى اللغة الإنجليزية ـ في الجزر البريطانية ـ لغة محافظة دقيقة، ذات مقاطع متعددة، أما اللغتان الإيطالية والأسبانية، فستزداد فيهما موسيقية الصوت والمبالغات والمجاملات. فلابد من إدراك أن الشعب الإيطالي لا يفكر الآن بطريقة تفكير الرومان القدماء نفسها، ولا بطريقة أهل فلورنسا في عصر النهضة. وكذلك الشعب الفرنسي لم يعد يفكر بعقلية العصور الوسطى، ولا بعقلية عصر فيلون ودارتنيان بما فيه من حفلات صاخبة وسكر وعربدة.

ثالثاً: تصنيف اللغات

    على الرغم من بحوث العلماء التي تحاول أن تحصي الهمسات في كل بقعة من بقاع الأرض، إلاّ أن اللغات على سطح هذا الكوكب أكثر من أن تحصى، وتشير الإحصاءات التقريبية، إلى أن عدد اللغات في العالم، يتراوح بين الألفين وخمسمائة، والثلاثة آلاف، بخلاف اللهجات المتعددة[8].

الفرق بين اللغة واللهجة

1. اللهجة

هي استعمال خاص للغة، في بيئة معينة، ولا يكاد ينتشر استعمال لغة، حتى تتعدد لهجاتها، نتيجة ظروف مختلفة جغرافية، واقتصادية، واجتماعية. أو هي مجموعة من الصفات اللغوية، تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات، جميع أفراد هذه البيئة.

    وينحصر جوهر الفرق بين بعض اللهجات وبعضها الآخر، في مجموعة من الصفات الصوتية، ذات الصبغة المحلية هي:

أ. اختلاف في مخرج بعض الأصوات اللغوية.

ب. اختلاف في وضع أعضاء النطق مع بعض الأصوات.

ج. تباين النغمة الموسيقية في الكلام.

2. أمّا اللغة

فهي البيئة الأوسع والأشمل، التي تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعاً في مجموعة من الظواهر اللغوية، التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات، بعضهم ببعض. وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات، هي التي اصطلح على تسميتها بـ (اللغة) أو (اللسان).

    فالعلاقة بين اللغة واللهجة، هي علاقة بين العام والخاص.

    والخلاصة، أن اللهجة شعبة تتولد من اللغة، وتجتمع الظروف لتسبب تباعد اللهجات عن بعضها البعض، ثم عن اللغة التي تفرعت منها، وهو ما يحدث الآن للإنجليزية ـ على سبيل المثال ـ فقد أخذت إنجليزية الولايات المتحدة تختلف عن إنجليزية الجزر البريطانية، في كثير من المفردات، وأساليب النطق، حتى أن الإنجليز يسخرون من اللهجة الأمريكية. كما يسخر الأمريكيون من لهجة الإنجليز، يدل على ذلك ما جاء في نشرة وزعتها القيادة الأمريكية، على قواتها الموجودة في بريطانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية: "لا تسخر من اللهجة البريطانية لأن لهجتك قد تكون مثار سخرية البريطانيين أيضاً، ولكنهم أكثر أدباً من أن يظهروا لك ذلك".


 



[1] جول فيرن (1828 - 1905): كاتب فرنسي. يُعد زعيماً من زعماء الرواية العلمية Science fiction. وقد اشتهر برواياته، التي تنبأ فيها ببعض الإنجازات العلمية، التي تحققت، بعد وفاته، كالرحلة إلى القمر وغيرها. من أشهر آثاره: "من الأرض إلى القمر" (1865) و "عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحار" (1869 - 1870)، و"حول العالم في ثمانين يوماً" (1873).

[2] دي سوسير (1857 - 1913): عالم لغوي سويسري. عدّه كثير من الباحثين مؤسس علم اللغة الحديث. عُني بدراسة اللغة الهندية ـ الأوروبية، وقال إن اللغة يجب أن تعتبر ظاهرة اجتماعية. أشهر آثاره: "بحث في الألسُنيّة العامة" (وقد نُشر عام 1916، بعد وفاته).

[3] الانكشارية : فرقة مختارة من فرق الجيش العثماني. أُنشئت في القرن الرابع عشر، في عهد السلطان مراد الأول. وكان نواتها الأَسرى، والرهائن من فتيان الأسرى. بلغت أوج مكانتها العسكرية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حتى أصبحت قوة سياسية يُحسب لها حساب. قضى عليها السلطان محمود الثاني، بعد أن دبّ إليها الفساد، في مذبحة أعدّها لها، عام 1826. وكلمة "الإنكشاريـة" محرّفة عن اللفظة التركية yeniceri ، التي تعني "الجند الجديد".

[4] موليير (1622 - 1673): كاتب مسرحي، وممثل فرنسي. اسمه الحقيقي جان تيست بوكلان، وموليير اسم شهرته. يُعدّ أعظم كاتب كوميدي فرنسي. من أشهر مسرحياته: "طرطوف" (1664)، و"مُبغض البشر" (1666)، و"البخيل" (1668) و"النسوة المتعالمات" (1672) .

[5] راسين ، جان باتيست (1639 - 1699): شاعر مسرحي فرنسي. يُعدّ أحد أعظم المسرحيين الكلاسيكيين في تاريخ الأدب كله. صوّر الحب، في مآسيه، قوة مدمرة، تقضي على شخصية المحب، وتدفعه إلى ارتكاب الجرائم، ومن ثم تورده موارد التهلكة. من أشهر آثاره "أندروماك" (1667)، و"إيفيجينيا" (1675)، و"فيدرا" (1677).

[6] فولتير (1694 - 1778): كاتب وفيلسوف فرنسي، اسمه الأصلي فرانسوا ماري آروويه، وفولتير اسم شهرته. عُرف بنقده الساخر، ودعوته إلى الإصلاح، ودفاعه عن الحرية والمساواة وكرامة الإنسان. من أشهر آثاره: "رسائل فلسفية" (1734)، و"زاديغ" أو "صادق" (1747) وقد نقلها إلى العربية الدكتور طه حسين، تحت اسم "القَدَر"، و"كانديد" (أو الساذج) (1759)، و "المعجم الفلسفي" (1764).

[7] لامارتين ، ألفونس دو (1790 - 1869): شاعر وسياسي فرنسي. يُعدّ أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانسية الفرنسية. خاض غمار السياسة، فتولى رئاسة الحكومة المؤقتة، بعد ثورة 1848. من أشهر أعماله "تأملات شعرية" (1820)، و"جوسلين" (1836)، و"سقوط ملاك" (1838).

[8] هرم اللغات العالمية في القرن الواحد والعشرين اللغات الكبرى الصينية، الهندية/ الأوردية/ العربية اللغات الإقليمية (لغات الكتل التجارية الرئيسية) العربية، المالاوية، الصينية، الإنجليزية، الروسية، الأسبانية اللغات القومية حوالي 90 لغة تخدم أكثر من 220 دولة اللغات المحلية لغات العالم الباقية، التي يقدَّر عددها بنحو 1000 لغة بعضها يستخدم رسمياً وبعضها مهدد بالانقراض شباب العالم العربي سيصبحون، في القرن المقبل، ثالث أكبر قوة شابة في العالم. وتحتل العربية المرتبة الثالثة في تسلسل اللغات، التي يتحدث بها شباب العالم. ويأتي ترتيب العربية بعد الصينية والهندية/ الأوردية، وقبل جميع اللغات العالمية الأخرى، بما فيها الإنجليزية.

[9] جدير بالذكر، أن هناك من الفقهاء من يرى، أن اللغة العربية، لا تنتمي إلى الفصيلة السامية، بل هي والسامية والحامية تنتمي إلى الفصيلة الهندية ـ الأوروبية.

[10] ذُكرت في بعض المراجع "بوتونغوا".