إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الألم









مقدمة

مقدمة

          إن أكثر ما يواجهه الطبيب، من الشكاوى المرضية، هي الشكوى من الألم Pain. وعلى الرغم من شيوع الألم، كشكوى مرضية، إلا إنه أقلها تحديداً. إذ إنه إحساس ذاتي للمريض، يعبر عنه، ويصفه، كما يدركه. لذا، تختلف حدّة التحديد، حسب إدراك المريض، كما أن درجة إحساس المريض بالألم، تختلف حسب حَدّ الألم (Threshold Pain) لديه، ودرجة تحمله. فهناك من يتحمل الألم بدرجات عالية، وهناك من لا يتحمل أدنى الدرجات منه. لذلك، فإن الألم يُعَدّ ظاهرة (عرض) نفسية سيكولوجية، والعجيب أنه يزول، أو تخف حدته، بالإيحاء، إلى درجة أن هناك من يستعملون الإيحاء الذاتي لتحمل درجات عالية من الألم، ومنهم من يمشي على النار من دون أن يشعر بألم، وهذا يعزى إلى سيطرة العقل وقدرته على أن يتجاهل وجود آلام عضوية حقيقية في الجسد.

          ويمكن أن يزول الألم بتشتيت الانتباه، وذلك مثلما يحدث في حالات استخدام الألم المشتت (Counter Irritation)، وهذا ما كان يستعمل في العلاج الشعبي في صورة الكي بالنار لجزء من الجسم، فيحدث ألماً يشغل اهتمام المريض عن الألم الأصلي المستهدف علاجه، فينساه المريض. وقد يكون من دون سبب واضح، وهذا كله لا يعني أنه شيء متخيل ليس له سبب، ولكنه يعني وجود اختلال عضوي أو نفسي.

          ويمكننا أن نُعرِّف الألم بأنه الإحساس السيئ، المصاحب بانفعال مزعج، والناشئ عن تلف أصاب أنسجة الجسم، سواء كان هذا التلف حقيقي، أو مدرك من قِبل الشخص، على الرغم من أنه غير حقيقي. ويهدف الألم إلى حماية جسم الإنسان بتحذيره من المثيرات التي قد تدمر أنسجته، ولذا، تزيد مستقبلات الألم السطحي التي تنتشر في الجلد، لأنه الدرع الواقي لأنسجة الجسم من الأذى، ليس بسبب مكانته أو صلابته، ولكن بسبب كثرة المستقبلات فيه، سواء كانت للحرارة أو الرطوبة أو اللمس أو للألم بصفة خاصة، إذ إن النهايات العادية للأعصاب، المنتشرة بين خلاياه (أي الجلد)، لحمايته، بتنبيه الإنسان للابتعاد عن المثير وإنقاذ جسمه.

          وهناك نوعان من الألياف العصبية المتخصصة في نقل الإحساس بالألم، أحدهـما ألياف صغيرة مغطاة بالميلين (myelinated) وهي سريعة جداً في نقل الإثارة المؤلمة، إذ تنقلها بسرعة تراوح بين 12 و30 متراً في الثانية الواحدة، وهو أسرع معدل للنقل العصبي في الجسم. وثاني النوعين ألياف غير مغطاة بالميلين، وهي بطيئة جداً، مقارنة بالنوع الأول، إذ أن سرعتها من نصف متر إلى مترين في الثانية الواحدة، وحين يطعن شخص ما بآلة حادة، فإنه يحس بألم حادّ شديد ومحدد الموضع في نفس لحظة الطعن، وهذا ما تنقله الألياف العصبية سريعة النقل، ثم يعقبه نوع آخر من الألم، غير محدد الموضع، وشديد ومنتشر وغير مريح، وهو ما تنقله الألياف البطيئة، وكأن الألم الأول هو صرخة الجزء المصاب من أنسجة الجسم، بينما الألم المنتشر الذي يليه هو صرخة الأنسجة المجاورة للجزء المصاب.

          ويأخذ الألم طريقه من المستقبلات الطرفية الموجودة في كل أنسجة الجسم إلى الجهاز العصبي المركزي عبر القرن الخلفي (الظهري) الخاص بالإحساس من النخاع الشوكي (Spinal Cord)، الموجود في القناة الفقارية للعمود الفقري، حيث ينتهي بعضها في النخاع الشوكي وجذع الدماغ، وبعضها يصعد إلى المهاد (Thalamns)، وتسمى بالمسارات الشوكية المهادية (Spinothalamic Tract)، ومنه (أي من المهاد) إلى قشرة المخ الحسية  (Sensory Cerebral Cortex)، التي تقع إلى الخلف من الأخدود المركزي (Central Sulcus) .ولا ترتبط قشرة المخ بالإدراك البسيط للألم، ولكنها ترتبط بتمييز نوع الألم وفهم معناه. والمثير المؤلم يسبب استجابة تجنبية وانسحابية له مع شحنة انفعالية غير سارة، وهو يختلف في ذلك عن المثيرات التي تنقلها الحواس الخاصة (البصر والسمع والشم والتذوق واللمس)، إذ إنها لا تولد انفعالاً معيناً إلاّ بناء على خبرة سابقه (أي ارتباط  إحساس ما بخبرة مؤلمة سابقة). ومثال على ذلك، من يبصر ثعباناً، فإنه لا يتولد لديه انفعال الخوف منه، إلاّ في حالة معرفته بخطره، سواء كانت خبرة ذاتية، أو منقولة إليه من آخرين؛ ولكن الألم وحده ينفرد بالشحنة الانفعالية غير السارة، بمجرد إدراكه، ودون خبرة سابقه، ولعل ذلك يرجع لاتصال مسارات الألم بالمهاد، قبل صعودها إلى قشرة المخ. والمهاد يُعَدّ أحد أجزاء الجهاز الانفعالي (Limbic System).

          ويحدث الألم بتأثير المثيرات المؤلمة، التي تطلق مادة كيميائية من الأنسجة المتألمة، أطلق عليها المادة (P)، وهي تثير نهايات الأعصاب العارية الموجودة بالجلد والعضلات وأنسجة الجسم المختلفة التي تنقل أو تستقبل الألم كمستقبلات خاصة له. ويترتب على ذلك، الإحساس بالألم، وهو، بدوره، يعمل على تنشيط الجهاز العصبي لإفراز مواد مسكنة، داخلياً، تشبه في مفعولها الأفيون ومشتقاته، إلى درجة أن العلماء أطلقوا عليها اسم المواد شبه الأفيونية ، وهي الانكفالينات والأندورفينات (Enkephalins & Endorphins)، ولها مستقبلات خاصة بها، وهذه المواد تسكن الألم، ويعزى إليها الأثر التسكيني للألم الذي تحدثه الإبر الصينية (Acupuncture)، وكذلك الإيحاء، كما يعزى إليها تسكين الآلام الجسمانية التلقائية. وعندما يثبط إفرازها، بتأثير الإدمان للأفيون ومشتقاته، أي التعاطي المنتظم للأفيون، فتحدث آلام شديدة في الجسم، ضمن الأعراض الانسحابية.

          ونظراً إلى أن كثيراً من الأحشاء نشأت في الجنين، في مكان من جسمه، بعيد عن مكانها عند اكتمال جسد الجنين، وأخذت معها الإمداد العصبي المتعلق بها من منطقة المنشأ، فإن الألم في تلك الأحشاء يُحس به في المكان السطحي نفسه الذي نشأت منه، ويطلق عليه الألم الراجع (المشع) إلى مكان آخر (Referred Pain)، وهو ما يحدث في آلام الحالب، إذ يُحس بها في الخصية، وإثارة الحجاب الحاجز الذي يحسها الشخص في كتفه، وألم عضلة القلب، الذي يشعر به الشخص في جانب ذراعه ويده اليسرى، وألم الأحشاء وأنسجة الجسم العميقة، يصعب تحديدها وترتبط بإثارة الجهاز العصبي الذاتي  (Autonomic Nervous  System)، فيحدث الغثيان والعرق والقيء، ويتغير ضغط الدم، بخلاف الألم السطحي الذي يكون محدداً.

          ويُعَدّ الألم ظاهرة نفسية فسيولوجية وذاتية، يصعب تقديرها من شخص لآخر، وهو ما نسميه بتفاوت عتبة الألم. فهناك من يشعرون بالألم ويتجاهلونه ولا ينفعلون معه. فمن المعروف أن الجنود أثناء المعركة لا يشعرون بجروحهم، ولكنهم يشعرون بها بعد انتهاء المعركة، وهذه الظاهرة سُميت (Stress-Analgesia)، وتشير إلى دور الموقف النفسي في مدى إدراك الألم والتفاعل معه انفعالياً، كما أن الألم يقلّ بالإيحاء والتشتت، حتى لو كان ألماً عضوياً، أي ناتج عن تلف لأنسجة الجسم.

          ويصعب، أحياناً، التمييز بين الألم بسبب مرض عضوي، والألم الناتج عن مرض نفسي. ولكن الألم الناتج عن مرض عضوي، إمّا أن يكون فيه علامات موضوعية للمرض تحدده وتكشف عن وجوده، مثل السرطان (Cancer) أو التهاب الأعصاب (Neuropathy)، وإما أن يكون الألم يتبع توزيعاً تشريحياً مطابق لتوزيع العصب المعتل، مثل اعتلال العصب (Neuralgia) وذلك خلافاً للألم الناتج عن مرض نفسي، فلا يصاحبه علامات موضوعية، ولا يتبع توزيعاً تشريحياً لعصب بعينه.