إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / البلطجة









البلطجة

البلطجة

خلق الله الإنسان وزوده بعدة حاجات لتحفظ عليه بقاءه، وتكون ضماناً لاستمرار النوع البشري. ومن تلك الحاجات ما هو عضوي فسيولوجي؛ كالحاجة للطعام والشراب؛ ومنها ما هو نفسي؛ كالحاجة للحب والانتماء والأمن, وقد ذهب علماء النفس إلى أن الحاجة للأمن، تالية ومترتبة على إشباع حاجات الإنسان العضوية.

والحاجة للأمن ضرورية للانخراط في المجتمع ومعايشة الآخرين؛ وكذلك ضرورية ليعمل الفرد وينتج ويبدع ما يكون مفيداً له، ولمن حوله؛ فضلاً  عن أنها ضرورية لاستقرار المجتمع وتحركه للأمام وتقدمه، علاوة على أنها ضرورية ليحقق الإنسان النمو النفسي السوي. وقد بينت الدراسات أن عدم الشعور بالأمن يؤخر كل مظاهر النمو، جسمانياً وعقلياً واجتماعياً ووجدانياً.

لذلك تسعى الأم جاهدة لإشباع حاجة رضيعها، كما تسعى الأسرة كلها إلى توفير الوسائل والأساليب، التي تكفل للابن الشعور بالأمن. وكذلك تسعى الدول إلى تحقيق الأمن بمفهومه الواسع للمواطنين، بحيث تضمن لهم الحرية والكرامة.

وإذا كان نقص الوسائل والأساليب، التي تحقق الأمن، معوقاً لشعور الأفراد بالطمأنينة؛ فإن البلطجة والعنف والإرهاب هم ثلاثية تؤدي إلى فقدان الأمن. وفي هذا يقول أحد الكتاب: "لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد ضاع الأمان، وفقدنا لغة الحوار الهادئ، وصار العنف لغة الحياة اليومية، والبلطجة أصبحت أمراً عادياً، والقتل لم يعد أمراً صعباً. أبناء يتخلصون من آبائهم، بلطجية يحملون الأسلحة في مواجهة المواطنين للسطو على سياراتهم، حتى لو كان الثمن هو القتل وإتاوات يدفعها الناس تحت التهديد". وتنوعت أسلحة القتل؛ فاستخدم الخارجون على القانون –ومن عرفوا بالبلطجية- الأسلحة البيضاء، مثل السنج والمطاوي والعصى الغليظة وقطع الحديد والحجارة، مما أثر سلباً على أمن المواطنين.

ولكن هل البلطجة قاصرة على العصر الحاضر؟

أولاً: صور من التاريخ للبلطجة

في خلافة معاوية –رضي الله عنه- جاء جماعة من خصومه السياسيين برجل سفيه (بلطجي)، وأغروه أن يعطوه بستاناً إن آذى معاوية في المسجد أمام الناس. فقام الرجل إلى معاوية في المسجد وهو ساجد لصلاته، وضربه على مؤخرته قائلاً "سبحان الله يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذه بعجيزة هند"، وهي أم معاوية من أبي سفيان؛ فلما أنهى معاوية صلاته التفت إلى الرجل وقال له "لا يا ابن أخي، إن أبا سفيان كان إلى ذلك منها أميل"، وأمر له بعطية أخذها وانصرف.

وساء الأمر خصوم معاوية، فأغرو الرجل السفيه أن يفعل ذلك مع زياد بن أمية، وكان والياً لبني أمية على العراق. فذهب إليه في المسجد وهو يخطب ويقول: "أيها الناس اسمعوا وأطيعوا"؛ فوقف الرجل صائحاً في زياد "لا والله لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تقول لنا من هو أبوك". نزل زياد من على المنبر وقال له: "إن كنت لا تعلم من هو أبي فهذا يُخبرك"، وضرب عنقه بالسيف. فلما بلغ ذلك معاوية قال: "والله ما قتله زياد أنا الذي قتلته، فلو أنني أدبته في الأولى لما أخطأ في الثانية"، ودفع ديته.

تاريخ العرب مليء بهذا الصنف من البلطجة ضد العلماء والخصوم السياسيين والفقهاء، حتى إن الإمام الشافعي كان يجيز للفقيه أن يصحب معه سفيهاً (بلطجياً)، يرد عنه سفاهة السفهاء. غير أن تاريخ البلطجة كتبه الصعاليك والعيارون والشُطار والفتيان والحرافيش، وأسماء أخرى كثيرة، كعادة العرب حين يحبون أمراً أو يكرهونه. وامتلأت السير الشعبية بحكايات هؤلاء النفر من السفهاء، وكرههم الناس أزماناً بسبب ما لاقوه منهم من ظلم ونهب وسلب. ومنذ أزمان بعيدة وهؤلاء النفر يلعبون أدواراً سياسية. إنهم قوة يستعين بها الحكام لمواجهة خصومهم، وتثبيت أركان حكمهم، وإخضاع المحكومين لسلطانهم. إنهم ظاهرة تنتشر حين تتراجع سلطة الدولة، وتتعطل القوانين، وينتشر الفساد، ويحتاج الحكام إلى شيء من الحماية ضد شعوبهم.

يرجع مصطلح البلطجية إلى الممارسات التركية؛ فاللفظ جاء فيما يبدو من مقطعين "بلطة" و"جي" أي حامل البلطة، ويبدو أن هذا الوصف كان يُطلق على إحدى الفرق العسكرية العثمانية "حاملة البلطة". وكانت هذه الفرق تُستخدم لغرض استقرار الحكم العثماني في مختلف الأمصار الخاضعة للدولة، حين تقوم الفتن والاضطرابات. وكانت هذه الفرق تعمد إلى الترويع والعنف للقضاء على كل مظاهر المقاومة، ضد استبداد الحكام. وإذا كان هذا التفسير التاريخي صحيحاً، فإن البلطجة بدأت كظاهرة حكومية، ثم جرى تعميمها، حين بدأ الأهالي يلجأون إليها كذلك.

وجاءت ظاهرة البلطجة الشعبية كنوع من إفساد مفهوم "الفتوة"، فكان كل حي من الأحياء يعرف عدداً من "الفتوات"، الذين يحمون الحي من أي اعتداء قد يقع من الأحياء الأخرى. ومثل كل الأشياء، بدأ الأمر لأغراض نبيلة، ولكنه لم يلبث مع مرور الزمن أن يتحول ليصبح "مركز للقوة"، لحماية المصالح الخاصة، بدلاً عن حماية الأخلاق والمصلحة العامة؛ فالفتوة بعد أن استقرت سلطته ونفوذه أصبح يستخدم هذه السلطة وذلك النفوذ لصالحه، أو يؤجرهما لمن يدفع له أكثر. وبذلك تحول "الفتوة" إلى "بلطجي" يروع سكان الحي ويفرض عليهم الإتاوات، أو يؤجر خدماته لأصحاب المصالح.

ومن العرض أعلاه، يمكن أن نقترب من تعريف البلطجة، وتحديد بعض من خصائصها:

1. البلطجة وسيلة لترويع الآمنين.

2. وسيلة يستخدمها الحكام لتثبيت أركان حكمهم.

3. تظهر البلطجة حين تضعف سلطة الدولة، أو تكاد تنهار.

4. البلطجة سلوك مدفوع الأجر، أي يمكن تأجيره.

5. تختلف صور البلطجة من عصر لآخر، ومن ثم فإن لها أنواعاً متعددة.

ثانياً: تعريف البلطجة

حتى يمكن وضع تعريف دقيق للبلطجة، نستعرض بعض المصطلحات، التي تُستخدم في وصفها، أو ذات العلاقة بها، ومن ذلك.

1. البلطجة والجريمة

يمكن تصنيف تعريفات الجريمة في ثلاث فئات، هي:

أ. الاتجاه القانوني: يُشير إلى أن الفعل الإجرامي هو انتهاك للقانون، سواء بالفعل أو الامتناع عن واجب يحدده القانون.

ب. الاتجاه الاجتماعي: السلوك الذي تحرمه الدولة لما يترتب عليه من ضرر للمجتمع، والذي تتدخل لمنعه بمعاقبة مرتكبيه.

ج. الاتجاه النفسي: نوع من السلوك الشاذ المرضي يحتاج إلى العلاج، كما تحتاج الأمراض العقلية للعلاج.

ولذا، يتضح أن من خصائص البلطجة أنها جريمة، إذ تتضمنت انتهاكاً واضحاً وصريحاً للقانون، كما أنها ضارة بالمجتمع، وتتدخل الدولة لمنعها؛ فضلاً عن أنها سلوك شاذ مرضي، يحتاج إلى العلاج.

2. البلطجة والعدوانية

للعدوانية تعريفات متعددة، ولكن من أشملها: "أي سلوك يصدره الفرد بهدف إلحاق الأذى أو الضرر بفرد آخر (أو مجموعة من الأفراد)، يحاول أن يتجنب هذا الإيذاء، سواء كان بدنياً أو لفظياً، وسواء تم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو أفصح عن نفسه في صورة الغضب أو العداوة، التي توجه إلى المعتدي".

ويشمل هذا التعريف الخصائص التالية للعدوان:

أ. يهدف إلى تعمد إيذاء طرف آخر، وليس إيذاء الذات.

ب. وجود رغبة لدى المجني عليه في تجنب هذا الإيذاء.

ج. قد يأخذ السلوك العدواني صورة بدنية (كالضرب أو الكسر)، أو لفظية (كالسب والتهكم).

د. قد يوجه السلوك العدواني إلى الطرف الآخر بصورة مباشرة (كالإيذاء البدني أو اللفظي)، أو غير مباشرة (كإطلاق الشائعات أو الأقاويل ضده).

هـ. يمثل الغضب المكوِن الانفعالي أو الوجداني للسلوك العدواني؛ فهو يشتمل على الاستثارة الفسيولوجية والاستعداد للعدوان.

و. تمثل العداوة الجانب المعرفي للسلوك العدواني، بما تشمله من مشاعر الظلم والجور والبُغض والحقد.

ويتضح من ثم أن العدوانية من خصائص البلطجة؛ لأنها تتضمن التعمد في إيذاء الآخرين، سواء بصورة بدنية أو لفظية، مباشرة أو غير مباشرة، وأن العداوة ركن أو مقوم أساسي في سلوك البلطجي.

3. البلطجة والعنف

يتضمن التعريف القاموسي للعنف، أنه تجاوز مطلق أو استعمال للقوة، بغير وجه حق، واعتداء أو إضرار للآخر، إنه عمل يتصف بالقوة البدنية الغاشمة غير المناسبة، أو غير اللائقة. ويُعرف العنف بأنه الاستخدام غير المشروع للقوة البدنية أو اللفظية، أو التهديد بهما بصورة مباشرة، عندما يعجز العقل عن الإقناع أو الاقتناع، بهدف السيطرة على الآخر وسلب إرادته، وينتج عنه أذى أو معاناة جسمية ونفسية. ويتصف العنف بمكونات، أو أن له مقومات ثلاثة:

أ. المقوم المعرفي: ينطوي هذا المقوم على انخفاض بصيرة الفرد وصعوبة التفكير بحكمة ووعي، وقد ينطوي على سوء تفسير أو تأويل، لموقف أو فكرة.

ب. المقوم الانفعالي: بناءً على الفهم الخاطئ وسوء التفسير للمواقف والأفكار والشخصيات، يتضمن العنف كراهية شديدة للآخر، أو الموقف، أو الفكرة، أو المؤسسة، مع ميل للانتقام والتحطيم.

ج. المقوم النزوعي: يظهر في الأداءات العملية والاستجابات السلوكية، التي تتسم بالإيذاء أو إلحاق الضرر بالآخرين.

ويتضح من ذلك أن من خصائص البلطجة العنف المبني على كراهية الآخرين، دون بصيرة أو حكمة، أو على تفسير خاطئ للمواقف والأفكار والمؤسسات. ويظهر العنف في إيذاء الآخر وإلحاق الضرر به.

4. تعريف البلطجة

من العرض السابق، يمكن تعريف البلطجة من المنظور النفسي بأنها: "سلوك إجرامي عدواني عنيف، واضح وصريح، ينحرف سلباً عن الاعتدال أو السوء، ويقوم على، أو يستخدم، طرقاً في التفكير والانفعال والأداء تتصف بالخروج عن القواعد والأطر الفكرية والدستورية والقانونية، التي يرتضيها المجتمع ويسلم بها. وتستهدف البلطجة تحقيق مكاسب شخصية لذات البلطجي، أو لأشخاص آخرين، عن طريق إلحاق الأذى بالغير أفراداً أو مؤسسات".

ويتصف البلطجي بما يتصف به المجرمون والعدوانيون ومستخدمو العنف من صفات، وقد بينت الدراسات أن البلطجي يميل إلى التسلط والسيطرة، حتى يستطيع توجيه وإخضاع زملائه، كما أنه يرفض المعايير القائمة أو السائدة؛ لأنها لا تحقق أهدافه أو طموحاته؛ ولذلك يشعر بالاغتراب عن المجتمع الذي يعيش فيه. ويشترك مع المتعصبين في سمات التصلب والجمود الفكري، وضعف التعاطف الوجداني، وضعف التبصر، والحقد على الآخر والشك فيه والأنانية. كما تدل صفحته النفسية على معاناته من الاضطرابات، التي تعوق استبصاره وتكيفه تكيفاً سوياً مع المجتمع والآخرين. إنه عاجز عن إدراك مصلحته الحقة، عاجز عن التعاطف مع الآخرين، عاجز عن إدراك معنى الواجب والمسؤولية، فاقد للشعور بالندم، وعاجز عن الإفادة من تجارب الآخرين.

ثالثاً: أنواع البلطجة

المتأمل للبلطجة في منظورها التاريخي القديم والمعاصر، يمكنه الوقوف على عدة صور لها، وهي صور لا توجد معزولة عن بعضها، بل يمكن أن تتداخل فيما بينها.

1. التنظيم

هي بلطجة منظمة في مقابل بلطجة غير منظمة. وتوصف البلطجة المنظمة بأن أعضاءها يكوَّنون جماعة على درجة من الديمومة، وأن لهذه الجماعة تنظيم معين، أي لها قائد ومعاونون وأعضاء، ولكل منهم أدوار خاصة به، ويحكم سلوك أعضائها معايير معينة، مثل جماعات التطرف الديني، أو المتمسحة في الدين، أو المدعية لعقيدة معينة.

وأعضاء البلطجة المنظمة في الغالب محترفون مدربون على أداء مهام معينة ذات أهداف خاصة، يقبضون ثمن ما يقومون بتنفيذه.

2. الاستمرارية

هي بلطجة عابرة أو موقفية، في مقابل بلطجة دائمة. تظهر البلطجة العابرة أثناء المرور بموقف معين، ولذلك لا يكون لأعضائها بنية ثابتة أو خاصة. وقد تكون فردية مدفوعة بالهبات والعطايا، تحقيقاً لأهداف خاصة. كما أنها مؤقتة تزول بزوال الموقف.

3. عدد الأفراد

هي فردية في مقابل جماعية، وتكون أهداف البلطجة الفردية خاصة بالفرد ذاته، أو يؤجر الفرد للقيام بمهام معينة، لصالح فرد أو جماعة أو مؤسسة. أما البلطجة الجماعية، فتتكون من عدد من الأفراد يسعون إلى تحقيق أهداف مشتركة خاصة بهم، مثل معاوني الفتوة في استتباب أمن الحي، أو المنطقة، أو جمع الإتاوات.

4. الاحترافية

هي احترافية في مقابلة بلطجة الهواة (من الهواية)، وتخضع البلطجة الاحترافية لتدريب خاص مستمر، ولفترة طويلة نسبياً، مثل تدريب عصابات أطفال الشوارع على القيام بمهام معينة. أما بلطجة الهواة فهي بلطجة قائمة على الإعجاب بسلوك البلطجي، والاتحاد معه وتقمص دوره وتقليده.

5. المجال

أ. سياسية، مثل محاولة طائفة أو جماعة فرض سيطرتها لإخضاع الآخرين، تحقيقاً لمصلحة خاصة بالطائفة.

ب. اقتصادية، مثل محاولة بعض الشركات الكبيرة ابتلاع الشركات الصغيرة مادياً، باستخدام المؤامرات.

ج. اجتماعية، مثل عصابات البلطجية المكونة من المراهقين، الذين يتسكعون في الحواري والأزقة.

6. التاريخ

قديمة في مقابل حديثة، أو إلكترونية معلوماتية. يمثل البلطجة القديمة الشطار والحرافيش والصعاليك والفتوات. أما الحديثة فهي البلطجة القائمة على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، في التشويش والتلفيق والتشويه وزرع البلبلة والفوضى.

إن هدف هذا النوع الحديث من البلطجة ليس الإيذاء البدني أو العنف المادي، بل الاغتيال والعنف المعنوي لجماعات أو أفراد أو مؤسسات أو طوائف معينة، وذلك بنشر الشائعات والأكاذيب والأباطيل والادعاءات.

وبلطجية الانترنت لا يتمتعون بشيء من خصائص البلطجية التقليديين؛ إنهم متعلمون قادرون على استخدام تكنولوجيا الاتصالات بمهارة، أي لا يستخدمون السنج أو السيوف، ولا يواجهون خصومهم في العلن؛ لأنهم مستترون يعملون وفق تعليمات محددة.

والبلطجة الحديثة هي عنف معلوماتي يُمارس من خلال القوى الناعمة Soft Powers، التي تختلف جوهرياً عن القوى التقليدية الصلدة Hard Powers. فهي تعمل بالجذب لا بالضغط، وبالترغيب لا بالترهيب، وتستخدم لغة تخاطب العقول والقلوب، من أجل اكتساب ألآراء لا كسب الأرض، ومن أجل انتزاع الإرادة الجماعية لا نزع السلاح والملكية، ومن أجل فرض المواقف وزرع الآراء، بدلاً من فرض الحصار وزراعة الألغام.

وتزداد ضراوة القوى اللينة كلما رُهفت واستترت، وخفت فيها نبرة القوة وفجاجتها. إن هذه الخاصية للقوى الرمزية اللينة، هي التي تزيد من قدرتها وتغلغل مفعولها لينفذ إلى طبقات اللاوعي الفردي والجمعي، حيث يفعل فعلته خفية بصورة لا إرادية أو شبه ذلك، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة ملاحقتها والتصدي لها، خاصة بعد أن ترسخ في جوف تنظيمات المؤسسات بهرميتها وتركيز سلطاتها، وتجد طريقها إلى قلب تشريعات المنظمات الدولية، متخذة منها دثاراً تستتر وراءه.

وثمة عدة مصطلحات شاعت في العصر الحاضر، كدليل على البلطجة الإلكترونية المعلوماتية الحديثة، مثل الاستغلال المعلوماتي، واحتلال الفضاء المعلوماتي، والتجويع المعرفي، والإمبريالية الرقمية، والقمع الأيديولوجي.

رابعاً: العوامل المسهمة في تفسير السلوك البلطجي

تعددت الدراسات التي حاولت الوقوف على العوامل المسهمة في إحداث سلوك البلطجة. وأدى هذا بإحدى الباحثات إلى تجميع وتصنيف العوامل التي وردت في عدد من الدراسات، في عدة فئات، هي:

1. العوامل الاجتماعية

تحولت العلاقات القائمة بين البشر، إلى علاقات قائمة على الماديات والمصالح الخاصة. كما سادت الصراعات الشخصية في محيط الأسرة والعمل. كما أن التهميش الاجتماعي (كالعشوائيات وسكان المقابر)، الذي يُفرض على بعض فئات المجتمع، يسهم في نمو مشاعر الإحباط والكراهية نحو المجتمع. أضف إلى ذلك، سرعة التغيرات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع، وما يتولد عنها من شعور بالعجز والفشل واليأس في ملاحقتها.

وتلعب العوامل الأسرية، كالتفكك الأسري، ونقص رعاية الأبناء وتوجيههم، واستخدام أساليب خاطئة للتنشئة الاجتماعية، دورها في اضطراب نمو الأبناء، ما يفرز شخصيات مضطربة غير ناضجة، وغير قادرة على التفاعل الاجتماعي السوي الناجح.

إن غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات والدخول والخدمات، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، يُعمق الشعور بالظلم ويؤكد الشعور بإهدار الحقوق؛ ما يجعل من الانتقام هدفاً. كما يقود –أيضاً- إلى الممارسات العنيفة. ويُضاف إلى ذلك أن الأمية لها تأثير في تكوين وإعداد شخصية الأبناء، وتزيد من احتمال عدم القدرة على التكيف مع البيئة. كما أن سوء معالجة المشاكل يهيئ لتحويل الخبرات السيئة للميل للانتقام، وظهور البلطجة وانتشارها.

2. العوامل الخاصة بالإعلام

يُعد الإعلام من وسائل التنشئة غير المقصودة، شأنه في ذلك شأن دور العبادة والأحزاب السياسية. وقد حدثت طفرة كبيرة في الإعلام، تمثلت في ظهور عدد كبير من الفضائيات المحلية والعالمية، التي تعرض اتجاهات مختلفة ومتباينة؛ ما يوقع الأفراد في حيرة من أمرهم، بخصوص ما يتبنونه أو يرفضونه من القيم والاتجاهات. وهذا من شأنه أن يولد صراعاً قيمياً ونفسياً، ويؤدي إلى خلل في تكوين هوية الأفراد وتشكيلها.

أضف إلى ذلك أن الإعلام بعرضه للمواد والصور، التي تجسد العنف؛ بل وتمجده أحياناً، يعطي شرعية لارتكاب الأفراد للسلوك العنيف في المجتمع. وتزداد هذه الشرعية حدة إذا وظف العنف ودعم لتحقيق مكاسب مادية أو اجتماعية، كما في حالة البلطجة.

3. عوامل نفسية

حاولت الدراسات النفسية الوقوف على بعض العوامل السيكولوجية المهمة في البلطجة. وتوصلت إلى الآتي:

أ. الاحباط والغضب: عند تعرض الفرد لمواقف محبطة عديدة تمنعه من بلوغ غاياته وإشباع حاجاته، يكون من بين ردود أفعاله العدوان على مصدر الاحباط أو المعوق، الذي يقف في طريق إشباع تلك الحاجات.

ب. الحرمان الناتج من عدم توافق توقعات الفرد مع قدراته: من أمثلة ذلك، أن رغبة الفرد في الحصول على التقبل الاجتماعي تمثل نوعاً من التوقع، إلا أن الهامشية التي يعيشها تجعله غير قادر على تحقيق هذا التقبل. فضلاً عن  طموحات الفرد المادية، التي تتزايد يوماً بعد يوم، ولكنه لا يستطيع تحقيقها لعجزه المادي وفقره الاقتصادي، فتمثل صوراً لعدم توافق توقعات الفرد مع قدراته وإمكاناته.

ج. عجز الفرد عن ملاحقة التغيرات الاجتماعية، التي تدور حوله وتمر به: إنها تزيد من شعور الفرد بالضياع وعدم الانتماء والاغتراب. يظهر ذلك في رغبة الفرد في عدم التمسك بالمعايير والقيم السائدة في المجتمع، وعدم القدرة على فهم الظروف والأحداث المحيطة به، وضعف القدرة على التكيف مع طبيعة التغير الاجتماعي الحادث، والشعور بالعزلة الاجتماعية، والشعور بفقدان القيمة وضعف الثقة في الذات، لعجز الفرد عن إثبات ذاته.

د. التطرف بصوره المختلفة: فكرياً ومظهرياً وسياسياً ودينياً ونفسياً، أي بوصفه خاصية نفسية ترتبط باستجابات الفرد ومشاعره، تجاه الأمور المختلفة. ويظهر التطرف في اتخاذ الفرد موقفاً يتسم بالقطعية، في استجاباته للمواقف التي تهمه والموجودة في بيئته التي يعيش فيها، هنا والآن. وقد يتحول التطرف إلى سلوك عدواني عنيف، كوسيلة لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها، أو إلى الإرهاب النفسي أو المادي، ضد كل من يقف عقبة في تحقيق المبادئ، التي ينادي بها المتطرف.

هـ. اختلال الهوية: وهو نوعان

(1) اختلال الهوية الاجتماعية، التي ينشد الفرد تحقيقها، أي محاولته تحقيق مكانة له في مجتمعه؛ إذ من خلال ما يتوقعه المجتمع من أدوار يقوم الفرد، فإنه يحقق عن طريقها ذاته ووجوده.

(2) أما الهوية الذاتية، فهي مجموعة من الخصائص الشخصية، التي تميز فرداً ما عن الآخرين، مثل كفاءته وإحساسه بذاته.

إن الهوية هي نتاج اجتماعي ينمو من خلال تحديد الفرد لمكانته داخل الجماعة، التي ينتمي إليها، وأنماط التفاعل مع الآخرين؛ إنها انعكاس لاستجابات الفرد في مواجهة مواقف الحياة، مقارنة بالآخرين.

4. عوامل اقتصادية

ترتبط البلطجة بعدم القدرة على الوفاء بالمتطلبات الاقتصادية، بسبب نقص الدخل وانخفاضه، وعدم كفاية المصادر. كما أن انتشار البطالة ونقص فرص العمل، يؤدي بالفرد إلى الشعور بعدم قيمته والعجز عن تحقيق ذاته في مجال عمله. كما يؤدي –بداهة- إلى نقص الدخل، ما يدفع بعض الأفراد إلى السرقة والسطو والبلطجة.

ويؤدي الفقر وانخفاض مستوى المعيشة إلى شيوع الحقد الاجتماعي والإحساس بالظلم، إضافة إلى الحرمان والإحباط. وهذا قد يدفع بعض الأفراد إلى الانتقام من المجتمع، في صورة العنف والعدوان والبلطجة، أو تدبير المكائد للأثرياء والقادرين على إشباع حاجاتهم الاقتصادية.

تلك كانت بعض العوامل التي بينتها الدراسات المختلفة، إلا أن ثمة بعض التعليقات عليها:

هذه العوامل تتفاعل مع بعضها لتؤدي إلى ظهور البلطجة وممارستها؛ ولكن ثمة عوامل أخرى ترجع إلى الدولة، تتفاعل مع العوامل السابق ذكرها. من هذه المجموعة من العوامل، ضعف هيبة الدولة ومؤسساتها الرسمية، وسيادة قيم عدم احترام القانون، أو تزايد مظاهر التفكك الداخلي، وتزايد الصراعات الداخلية السياسية والفكرية، وتزايد الصراع بين الإنسان "المواطن"، والإنسان "العولمي".

إن العلاقة بين البلطجة والعوامل السابقة ليست علاقة سببية مباشرة، ولكنها تتأثر بعدة متغيرات أو عوامل وسيطة، يوضحها المثال التالي:

بعض عوامل تكوين وإثارة البلطجة

عوامل وسيطة

بعض النتائج المترتبة على العوامل وتفاعلها

1. الهامشية

المدة

الشدة

التعود

حالة الكائن

إدراك الفرد وتفسيره

1. اللامبالاة والسلبية

2. العجز عن ملاحقة التغير

2. العدوان والعنف

3. تعلم سلوك مغاير لمعايير الجماعة السوية

3. العدائية

4. الاغتراب واختلال الهوية

4. تحدي القواعد والقيم السائدة

من المثال أعلاه، يتضح أن تأثير أي عامل ودوره في تكوين وإثارة وممارسة سلوك البلطجة، يتوقف على مدة تأثير ذلك العامل؛ فكلما طالت مدة التأثير، زادت البلطجة؛ ولكن حتى نقطة معينة أو لحظة معينة، عندها قد تتحول البلطجة، مثلاً، إلى اللامبالاة والسلبية والانسحاب.

كذلك يتوقف تأثير العامل ودوره على شدة تأثيره؛ فكلما زادت الشدة إلى حد معين، زادت البلطجة؛ وعندما تزداد الشدة قد تتحول البلطجة إلى سلوك آخر، مثل العدائية غير الواضحة، أو العدائية اللفظية، والكراهية المفرطة.

أما العامل الثالث، فهو التعود، إذ كلما اعتاد الفرد على التعامل مع العامل المسهم في تكوين وإثارة وممارسة البلطجة، سهلت البلطجة. والمثل الشعبي يوضح ذلك في قوله: "كثرة الحزن تعلم البكاء"؛ فالاعتياد على الحزن يؤدي إلى الاعتياد على البكاء.

ويشير العامل الرابع إلى حالة الكائن الحي، ويُقصد بها قدرة الفرد على تحمل العوامل المؤدية، أو المكونة للبلطجة، ووضع طريقة للتعامل معها؛ فكلما كان الفرد أكثر قدرة على تحمل العوامل، قلل ذلك من ظهور وتكوين وممارسة سلوك البلطجة.

وأخيراً، فإن إدراك الفرد وتفسيره لعوامل البلطجة يلعب دوراً في تكوينها وممارستها؛ فالتسليم بأن "الأمر لله" أولاً وأخراً يمثل نوعاً من التفسير الذي يقلل من البلطجة، وإدراك الفرد بأن "القدر" هو الذي أدى به إلى التعرض لهذه العوامل، يقلل من البلطجة. أما التفسير المناقض فيقوم على التحدي والحقد والكراهية، ما يزيد من معدل البلطجة.

تلك كانت محاولة لتقديم تفسير مقترح جديد للبلطجة، تفسيراً مشتقاً من النظريات النفسية، والدراسات في علم النفس الجنائي وتفسير الجريمة.